روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/25

بكر يتحدى سلطة رجال القرية

  الفصل الحادي عشر: بكر يتحدى سلطة رجال القرية




في أبي تيج..

كان الشيخ مأمون حمروش يلقي خطبته في مسجد القرية الذي جدده العمدة الجديد رضوان فأوقف عليه أوقافاً جمة، وأنشأ خلفه مخزناً، ودورة مياه يقول :

- عباد الله : حين قبض إبراهيم ابن نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام - حين وقع هذا الحدث الأسيف انكسفت الشمس، وقال الناس : لقد انكسفت الشمس لموت نجل رسول الله، وهناك صعد النبي منبراً كهذا المنبر، بل هو أشرف وأطهر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : "أيها الناس ! إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجریان بأمره مطیعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا انكسفا أو أحدهما صلّوا.."، ثم نزل من المنبر فصلى بالناس الكسوف، فهو لم يرضَ أن يتأيّد بالخرافة.

ومسح الرجل (حمروش) وجهه المتعرق ملياً من أثر جهده الخطابي، ثم أردف يقول في حماسة عاطفية جزلة :

- ما أشبه أسطورة الكسوف بخرافة شجرة النبق التي تبكي دماً على صاحبها ! وإنني أتساءل : هل إبراهيم ابن الحبيب المصطفى خير من الصبي بكر ابن الأبكم نوح في أعرافكم؟ (وهنا وصل لقمة انفعاله كالكريشندو يقول..) مالكم كيف تحكمون؟

وكان في المسجد المُحدَّث جمهرة من مثقفي أبي تيج الجدد، وقد ساءهم دفاع الشيخ المستميت عن العمدة المنبوذ فنهض منهم واحد يقول :

- أراك لا تقول بهذا إلا خدمة لسيدك رضوان.

ونهض الثاني الذي كان غير بعيد حتى لامست رأسه هذا العمود القائم يقول :

- لماذا تُوظِّف الدين في شؤون السياسة؟ وكفى بك أن تعلمنا ما ينفع لا أن تخوض فيما اختلف فيه المختلفون.

ونهض الثالث - فبدا الأمر كأنه اتفاق مُسْبَق بإفساد خطبته - وحدس حمروش بالأمر، ولقد كان - لتلاعبه ونفاقه - شديد الحساسية لمعرفة نوايا البشر ومقاصدهم حتى يخيل للرائي أنه لم يُخدع في حياته قط، ولم يترك له - أي للثالث -  فرصة الحديث الذي توقع أن يكون نسجاً على منوال الأولين، فقال في غضب محموم وقد أربد وجهه :

- من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، الدين - باعتباره منهجاً إلهياً -شامل لكل ما في الحياة، أم عساكم تريدونه مقصوراً على الدروشة؟

وكان الثالث قد وجد فرصة الحديث فقال :

- كم منحك سيدك لقاء هذا؟ هل تسرق أوقاف المسجد لصالحك؟

وعدَّ حمروش حديث الثالث خروجاً مذموماً عن الأدب لا يُقبل، وانتهى ما تبقى من تسامحه مع التمرد الذي احتواه صحن المسجد، فهتف بجماعته من التلامذة - الذين كانوا في الصفوف الأولى - في نبرة مصقولة من العاطفة القوية :

- هلموا، فاربطوا هذا الثالث المجاوز في هذيك العمود الرخامي عسى أن يرعوي البقية ويرتدعوا به، وليكن عبرة لكل سفيه سولت له نفسه التجرؤ على العارفين والعلماء..

وسرعان ما تكشف المثقفون ذوو الجلابب الكمونية كأنهم حبات رمل كثر، وكثر الوقوف الممانعون في وجه جماعة الشيخ من طلاب درسه، وأنبأت الأحوال بمعركة لا تليق بساحة عبادة، وأحس حمروش أن العاقبة لن تكون محسومة لصالحه أو هي أميل لمعارضيه، كان حمروش ملماً بألاعيب الجدل السوفسطائي ولكنه حدس بأن غاية المقاطعين له شيء هو أبعد غوراً من الحوار قدره هو - تقديراً راجحاً - برغبة في تمزيق حشمته، فأنهى الرجل الخطبة وأقام الصلاة في انفعال مكظوم، وعلم رضوان بالخبر في دواره فغضب الغضب كله، وعزم - يومذاك - وبعد أن فرغ صبره على بتر شجرة النبق وأمر نجله نصر الله بالاضطلاع بالأمر الذي كان يريده دائماً، فيما أبدى فهد اعتراضاً - جديداً قديماً - مبعثه الخوف من تشويه صورة العائلة ببتر الشجرة "المباركة" كما يراها الريفيون، وأجابه رضوان يقول :

- دهماء أبي تيج لا يستحقون أن نهتم لأمرهم قط، فضلاً عن أن نتقي فوراتهم العابثة، انظر كيف أفسد نفر منهم خطبة الإمام..

وجمعت العزائم على بتر الشجرة العتيقة في ليلة كئيبة وبمحضر جمهرة الريفيين، كان الأطفال يختبئون وراء أمهاتهم، وتململ الرجال، واغتاظ الشباب، وتوقع كل أولئك نقمة سماوية تنزل كصيحة مدوية هادرة، وكان عبد المجيد رفقة بكر يتابعان المشهد الحاشد من وراء حجاب، وقد بدأ نصر الله يجز هذا الجذع بفأس حاد وبساعد متين حتى لمعت ضربته الأولى فأضاءت سواد الليل، واتبعها بالثانية فالثالثة، وهلم جرا،.. قال عبد المجيد لصاحبه (بكر) وهما يتخفيان في ظل شجرة يقطين (كان رضوان قد استحدث زراعتها في محيط دواره لفوائدها للرجال)  :

- ما من لحظة تَظهر بها خير من هذه..

هناك دهش بكر وساوره خوف، قال :

- الآن أعود؟ ومن ذا يؤيدني؟

وحرك عبد المجيد طاقة من أوراق الشجرة كانت تمنع الرؤية الواضحة، أشار إلى أولاء الواقفين في أسى غائر، المتابعين في حزن مكلوم، يقول:

- يؤيدك كل هؤلاء، الحزن طاقة غضب كامنة.

واستلهم بكر من حديثه ما شد أزره، ورأى حورية وصفوت كملاكين محلقين في نوافذ الدوار البعيد يدعوانه أن آت، ويلقيان على سبيله المظلم إلهامات مجسدة هي من نور ومرمر، ورأى نفسه ريفياً خالصاً لأول مرة، لا ينازعه - في ذاك - حبه للمدينة أقل تنازع، أو يخلب شغفه بها لبه أقل الخِلاَب، فمضى يشق الحشود الواقفة، يشجع الأطفال، ويهدأ روع الشيوخ، ويشحذ همات الشباب، حتى انتهى إلى نصر الله الذي كان على وشك أن يضرب ضربته الأخيرة في هذا الجذع المتهالك !

 

في الولايات المتحدة..

كانت آمال - ابنة نعيم ومريم - قد أقامت في ماريلاند على حداثة عمرها - ثلاثة عشر عاماً - كيما تدرس هناك الرياضيات التي أبدت فيها نبوغاً جديراً بالرعاية في إحدى المدارس الكبيرة - أقول أقامت الفتاة في هاته الظروف حيناً من الدهر هناك، وظلت الفتاة المغتربة تصل الجسور عبر الرسائل إلى والديها اللذين بقيا مع أخيها عارف في مانارولا بإيطاليا حيث عمل الأب، وكان البيت الذي نزلت فيه الفتاة هناك مشتركاً بين البنين وبين الإناث، حاوياً لأبناء عدد من أصدقاء نعيم القدامى في كلية فيكتوريا، ومملوكاً لامرأة عجوز عربية (يناديها العرب بحواء والأجانب بـ (Eva كانت تبذل وسعها في استقبال المهاجرين وتهيأتهم للنجاح في المجتمع الأمريكي، وقد قضت ما تبقى من عمرها مُربِّية مخلصة بعد انتهاء عمرها المهني، وقالت لها آمال :

- فقدت كراس الرياضيات في الليلة الظلماء، ولا أدري كيف عساي أن أتصرف..

وأجابتها العجوز :

- لا بأس، سيبدي المدرس تفهماً، إن خليقاً به أن يفعل، لقد أخافك الوجه الغريب وحين لاح في الظلمة أفقدك رشدك..

- العجيب أنني وجدت فيه شبهاً بشخص مألوف لدي ولم أحدده بعد، وقد عشت حياة مشتتة بين مصر وإيطاليا وهنا حتى التبست عليَّ الوجوه لكثرتها، كان (أي الوجه الذي رأته في الظلمة) أسمر تزيده العتمة إظلاماً، ذا عينين نقيتين مع ذاك، وواحدتهما مغلقة أو هي متصاغرة من أثر جرح حديث تحتها، وقد بدا لي خائب الرجاء، منتكس الأمل، كأنما قد خرج لتوه من معمعة خاسرة، وإن له (أي للوجه) مع ذلك كله خصوصية فذة..

ومالت إليها المُربِّية تقول :

- ستجدين لنبوغك العقلي هويته، وهناك تتمصلين من شبحه في وجدانك..

- النُبَهَاءُ أضعف مقاومة تجاه الضغوط النفسانية ذلك أن مساراتهم العقلية تتطور في اتجاهات أخرى، أبي (أي نعيم) يذكرني في رسائله بقصة العبقري وليام جيمس سيديس الذي استقال من منصبه كبروفيسور بجامعة "رايس" بسبب الضغط النفساني الذي لم يحتمله..

كان جهاز البث يذيع فيلماً للأنمي ياباني حديث عهد بالإنتاج هو Castle in the sky  (قلعة في السماء)، وهذه الفتاة شيتا تطفو في السماء بقوة جوهرة الأثيروم رفقة الشاب بازو، وجاء من طلاب المسكن من قال لإيفا :

- "الكارتون للأطفال، إننا هنا جميعاً بالغون على نحو لا تستقر معه هاته الترهات في عقولنا..".

ونظرت آمال لإيفا التي كانت ماخوذة بأحداث الفيلم فقالت له :

- "السيدة إيفا تكبرك بعقود وهي تستمتع بالفيلم كما يجب، إنها تظهر زيف ما فُهت به..".

واستدار الشاب عنها يقول في شغب  :

- "حسناً أيتها الحمقاء، ولا تجربي القفز من السماء كشيتا لأنك ستموتين وأنتِ صغيرة..".

وانزعجت من قولته أول وهلة ولكنها ما لبثت أن انتقلت إلى حال آخر حين تردد أصداء قوله "ستموتين صغيرة" في وجدانها، واستعادت واقعة سقوطها في مسبح فيلا لوران يوم أنقذها شاب أسمر كانت لا تتزال تتذكر اسمه : منير، وقد قص عليها أبوها نعيم شيئاً من أثره وعرض عليها طرفاً من أحوال فترة تبنيه في تحفظ وبعد إلحاح منها، وهتفت في صوت أعلى مما يجب حتى جذبت جمهرة الطلاب :

- "لقد تذكرته..!".

والتفتت إلى المُربِّية العجوز تقول وهي تهم بحركة عجلى :

- "تعرفت إلى هوية الوجه الذي التبس عليَّ..".

ومضت الفتاة خارجة من هذا البيت وفي إثرها حديث المُربِّية الواجف القلق يقول :"فلتحذري ملياً، إننا في الولايات المتحدة ولسنا في مصر، والليل هنا مما يُخشى فيه السير.."، عادت آمال إذاً إلى الموقع الذي رأت فيه الوجه الأسمر على هدى عمود الإنارة، ساقها الإلهام إلى الوقوف وأغمضت عينيها تسترشد بهمسة في محيط ساكن، وأرهفت سمعها الواهن، فترامى إليها صوت أعلى مما يجب يقول :

- "سيدرك العالم آجلاً أم عاجلاً أن بمقدور جميع البرك الجينية أن تفرز النوابغ، سيكون هناك أينشتاين الأفريقي لو هيأت للقارة السمراء الأسباب الموجودة هنا..".

وكان صوت آخر أقل حماسة يجيب :

- "عزيزي مارتن، إنني أسمر مثلك، ولكن الإنصاف يقتضي أن أتساءل هنا : لماذا استأثر الرجل الأبيض بمعظم السجل المعروف للمخترعات إذاً؟".

ووجدت آمال نفسها في ضيعة وسط سعيها لما كان الصوت الثاني ضعيفاً كسمعها، لولا أن عاد الصوت الأول إلى حماسته :

- "لأنه استعمر البقية يا ذا الرأس المقلوب، واستخدم مواردهم في خدمة أهدافه..".

- "في زمن لم تسد فيه الأعراف الدولية : الأقوى يستعمر الأضعف، عليك أولاً أن تبرر الضعف الذي كانت عليه الأمم المحتلة..".

وكان صوت جهير قد بلغ أوجه يقول قولاً متزامناً مع اهتداء آمال إلى البيت ووقفتها إزاء نافذته :

- "إنما الأيام دول، وقد سادت أجناس كثر العالم في حقب مختلفة، يجب أن نذهب إلى الملهى الليلي عسى أن نوقظ البشر بما غاب عنهم من حقائق..".

- "فلتذهب وحدك فلا يزال في جسدي أثر شجار الأمس..".

كانت آمال تبصر مارتن في رؤيتها المتسللة إبصاراً كاملاً، فيما كانت لا ترى من منير إلا شعراً مفلفلاً ورأساً بلا وجه، والأخير قال لصاحبه :

- حسناً، سأرفقك إلى وكر الشيطان (يريد الملهى الليلي) إن أنتَ أخبرتني بمعنى هذه : "مان وادي وادي جاجا فارسون بانيدي،.. تار كومبا كاشا ناجرشا أراجيد ويي !".

وميزت الواقفة لهجته النوبية التي كانت تسمعها منه في صغرها على نحو أحال شكوكها حول حقيقته إلى يقين لا يبلغه الشك من سبيل، وتذكرت - على نحو مشوش - صوته يقول لها في شرح حديثه المبهم :

-"وتعني سيرتنا وحكايتنا الشائقة في دروب القرية الحلوة، إيقاعات الدفوف وأنغامها وحلقات الرقص،.. تري هل ذهب كل أولئك بلا عودة؟"، وهمست تقول : "إنه هو!"، وبرز صوتها الهامس على صفحة صامتة كالنجم الواضح ينير على صفحة معتمة، هناك هتف مارتن بصاحبه يقول :

- "إنه وراءك، ثمة شبح لص وراءك ! ".        

واستدار منير إلى حيث أشار صديقه مارتن فما رأى إنسياً، وخال بادئ الأمر أن أثر الثمول قد أضر بمخيلة صاحبه، ولكنه عاجل - حين أصر مارتن على صحة ما قد رآه - إلى الخروج عن المنزل ابتغاء اقتفاء الظل الذي بدا أنه يسير إلى هذا المبنى الكبير، مبنى المُربِّية حواء، ووفق (منير) في رؤية شيء من هذا الوجه المفزوع على نحو كفاه عناء المتابعة. 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول:   رأيت الطمع في عينيه

الفصل الثاني:  عسى أن يكون صدري منشرحاً

الفصل الثالث : صورة المُخلِّص

الفصل الرابع : إلى أين المسير؟

الفصل الخامس : الخواطر المستغرقة

الفصل السادس: نظرة أخيرة

 الفصل السابع: أسطورة شجرة النبق 

 الفصل الثامن: عودة فتاة فيلا لوران

الفصل التاسع: ألكسندرا في غابة بولونيا

الفصل العاشر: مصرع زهران بسبب مراهنات الكرة !

الفصل الثاني عشر: حوار في مطعم جيوفاني

الفصل الثالث عشر: سلكت سبيل الحب ! 

الفصل الرابع عشر: حفل عرس في حمام شهريار

الفصل الخامس عشر: خطبة مارتن في سكة حديد بالتيمور

الفصل السادس عشر: لقد صفحتُ عنكِ

الفصل السابع عشر: إفناء العمر في الشقاء

الفصل الثامن عشر: كأنك تحكمين عليَّ بالهلاك

الفصل التاسع عشر : انطفاء شمعة لا يعود لهبها

الفصل العشرون : نفسيتي تتحسن حين أروي قصة




هناك تعليق واحد: