روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/28

انطفاء شمعة لا يعود لهبها

  الفصل التاسع عشر: انطفاء شمعة لا يعود لهبها



1988م

في الكويت..

شرعت غادة رفقة زوجها ونجليها في العودة إلى الكويت في نكبة الحزن على أمها المتوفاة فيفيان، وقد طالت إقامتهم بالإسكندرية لأكثر مما تطلبه إجازة عمل لما كانت غادة قد أعجزها أن تترك المدينة التي فقدت فيها أمها فقداناً تراءى لها - كانطفاء شمعة لا يعود لهبها - في طول الأبد، ونصحها فؤاد بالنظر إلى إسحاق وعماد متى استحكمت عليها دوائر الأسى، فكأنما صبت نصيحته التي أثمرت على جراحها زيتاً وخمراً، وصحبهم عبد العزيز في حال أفضل لانقطاع نسبه بالمرأة المتوفاة التي ظل طوال رحلة سفره يسمع عن مكارمها ومناقبها، وبدا أن الأسف قد انبثق - عبر استرجاع سيرة المكارم والمناقب - فرسمت غادة علامة الصليب على صدرها تقول منفعلة جياشة الشعور :

- لعل الله أن يكلأها بعنايته في أمجاده السماوية.

ومكث إسحق يتطلع إلى أمه وهي تؤدي الإشارة المقدسة فتحرك يدها من اليمين إلى اليسار - كما بالكنائس الشرقية - في عجب، في حين همس فؤاد بالفاتحة وهو يلحظ انفعال نجله، وعادت غادة إلى بكائها فهتف بها يقول :

- عزيزتي،.. المحاولة هنا كالطرق في حديد بارد، إننا لم نسمع أن آدمياً قد أحيا عزيزاً له بالحزن، وأقسم أنكِ ستكونين أول من يفعل ذلك لو أنه ممكن !

كان من بين ركاب الطائرة - في رحلة من الإسكندرية وإلى الكويت - فتاة إيرانية اسمها آزاده (تبين لفؤاد عبر السؤال أن معناه الحرة أو العاقلة)، وقد تعرف إليها فؤاد - لما كان على شغف بالفارسية ثم لانقطاع زوجه غادة عن الحديث معه بسبب وجوم الفقدان الذي جعلها بين الصمت وبين النوم، وكانت آزاده - وللصدفة - تتحدث الفارسية والعربية في سلاسة وتبيان، وتناقش المسافران حول تاريخ الفرس حين دخولهم للإسكندرية وما قاموا به من نهب وقتل، وتطرق فؤاد بدوره إلى الحديث عن معركة الفرما (343 ق.م) التي ساقت المصريين بهزيمتهم فيها إلى هوة سحيقة شديدة الغور كالأَتْيَاه، بانتهاء الحكم المحلي وبداية عصور الحكم الأجنبي والاحتلال المتواتر، فكانت المرأة نزاعة إلى تبرئة ساحة بلادها وأجدادها وإن أقرت ببعض ما وقع في هذا الزمان البعيد إقرار الأمر الواقع المحفوف بالتهوين،.. وقال فؤاد أيضاً:

- إنني أخشى على الخليج من الحرب الدائرة لما صارت مصائري مرتبطة بالكويت..

وتطلعت إليه في عجب تقول :

- أي حرب تقصد؟ لقد انتهت الحرب..

وأضافت - حين ألفت منه العجب الممزوج بالبشرى - تقول إنها استمعت بنفسها إلى الخطاب العام الذي ألقاه الفقيه الإيراني (الخميني) إلى الشعب في تمُّوز من العام الجاري، تقول (آزاده) بين العربية وبين الفارسية :

- سمعته بأذني يقول : نوشیدن جام زه..

وحار فؤاد ملياً وإن أعجب بوقع ما سمع، تساءل :

- وماذا تعني هذه؟

- سيتجرع كأس السم، وسيقبل بإجراءات السلام التي أقرها مجلس الأمن في قراره رقم 589.

وهتف بفؤاد هاتف السرور حتى ود أن يشكر المرأة الغريبة التي بثت إليه النبأ دون أن يجد لرغبته هذه متنفساً إلى وجود، وأيقظ ابتهاجه زوجه النائمة (غادة) التي طفقت تستنطقه عن المبرر وراء سروره مع المرأة الإيرانية الغريبة، ولم تقنع بجوابه (انتهاء الحرب التي تقلقه) فجعلت تسأل إسحاق وعماداً عما خفي عليها في منامها، تستعين بنقاء سريرتهما على استجلاء الحقيقة مهملة ما قد خالت أنه الكذب والضلال ينطق به زوجها، واحتفظ فؤاد بالجملة الفارسية : نوشیدن جام زه التي تفرد بالعلم بمعناها من أبحر معاني اللغة التي جهلها وشغف بها، وقد بدا الرجل في تفاؤله المفرط في سذاجة من لم يتدبر في مستقبل أو يتفكر في احتمالات تداعيه، كأنما أنسته نشوة سروره بما سمعه من بوادر إبرام اتفاق السلام تحفظاته المنطقية على الرئيس العراقي صدام حسين،.. ولم تكن الأنباء السارة في انتظار ثلاثتهم حين عودتهم إلى الكويت، فقد انتهب حانوت الدمى حتى أُفرغ من جل محتوياته، وتحطم أكثر ما فيه، ولم يبقى من سليم فيه إلا كسارة البندق - لما كانت من الستانلس ستيل -  وكرسيين ومائدة، وقد كتب على أرضيته - ببخاج جرافيتي أحمر - كلمة واحدة :

- Ramzy !

وأصيب عبد العزيز بالجزع لما وقع حتى فقد صوابه، فجعل يقول لفؤاد مضطرب النفس :

- قلت لكَ : إن إرادتي دون احتمال هذه الأشياء،.. (ثم وقدماه تطآن  حرف الـZ من أحرف الاسم الغريب عنه) بحق السماء،.. من يكون رمزي؟

وأجابه فؤاد يقول :

- كان مالكاً للحانوت قبل أن أكشف لسلطة البلد عن نواياه وحديثه، لقد طردني عن هذا الحانوت وطردته عن هذا البلد،.. الأمر على هاته البساطة.

ومضى عبد العزيز يجول بعينيه في أثر ما اقترفه هذا "المطرود" من سوء الصنيع، فحدس باستطالة يده وقدرتها، يقول :

- لن أستمر في العمل بالحانوت المتنازع في أصل ملكيته.

وأعرب عبد العزيز عن فقدانه للمواءمة في مجتمع شديد الاستهلاكية، شديد الطبقية، شديد التباين كالمجتمع الكويتي (بوصفه) كمقدمة ثانية - لعلها تسبق الأولى أهمية - لقراره بترك البلد، وغضب فؤاد منه ملياً، يقول :

- فلتلحق بصاحبك (يريد فريد)، ولينتهِ بك المطاف كما انتهى به إذاً.

وقال عبد العزيز وقد أدبر عنه :

- أفضل الأفلام الهندية على الحياة في ظل تهديد كهذا.

وخلا الحانوت إذاً إلا من الزوجين، هناك جلس فؤاد على هذا الكرسي - وكان مما بقى من حقيقة المكان المدمر - فيما جلست امرأته على ذاك الثاني الذي إلى جواره، وإن أمامهما طاولة هي خزفية صغيرة بدا أن يد المُنتهِب قد نسيتها أو أهملتها (أو كأنما أشفق لاوعيه - رغم فظاعة ما قد اقترفه في حق غيرها - على إفسادها لجمال تكوينها!)، ومضت تقول (غادة) :

- لقد تولت عنَّا هذه الرعاية التي كانت تحفظنا بموت فيفيان.

ولم يجد فؤاد بنفسه طاقة ليجيبها بما في غوره المكلوم، فخفض ذقنه على هاته الطاولة الصغيرة الخزفية حتى صارت عيناه في مستوى كسارة البندق التي عليها، واكتفى يقول :

- فلتنسي خبرها، رحمة بها وبنا.

 

في الإسكندرية..

لقن مراد نجله رؤوف التصوف وأوكل إليه بإمامة مسجد رياض الجنة لما شق عليه أن يجمع بين الإمامة وبين إدارة ورشتيه، بث فيه مجاهدة النفس وحملها على غير هواها المذموم (بوصفه)، وعلمه دق الطبل واستخدام المدروف، وأوصاه بالدعاء إلى أخته إيمان، صغيرته التي لم يتركه - ولا يبدو أنه بتاركه - الجزع من وفاتها، وأهداه قفصاً من الببغاوات المدربة، وأبدى رؤوف استجابة حسنة لكل أولئك فنبذ الثمول والصعلكة، وهجر حانوت الريس جعة وقواريره المُسكِرة، وعصمه زواجه بصالحة من أسباب الفتن ومهاوي الانزلاق، وأنجب منها بنتاً سماها عائشة (تيمناً بعائشة الباعونية أشهر الإناث المتصوفات بالعصور الوسطى)، وأعجب بالإمامة على حداثته - حتى وجد بها نفسه بعد مدة من تخرجه في الألسن لم يعثر في خلالها على وظيفة مجزية وقد اعتاد مخاطبة الكثرة حتى ألفها وسكن منها خوفه من سبيل الممارسة -  فكان يتخير من نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب - ذي المثابة البالغة والمكانة الفائقة لدى الصوفية - ما يخطب به خطبه الغراء مقتبساً من رسائله وتفاسيره ومروياته ما يقوي به بيانه ويدعم به لسانه :

- "فاتّعظوا عباد اللّه بالعبر النّوافع، واعتبروا بالآي السّواطع، وازدجروا بالنّذر البوالغ، وانتفعوا بالذّكر و المواعظ..".

وفيما هو في استرساله هذا في خطبة من خطب الجمعة والمصلون من أمامه كثر لا يكاد يرى لهم آخر أو منتهى، وقد توزع نفر منهم خارج المسجد المتوسط فجلسوا هناك على الحصير حتى أتاه منادٍ يهتف :

- "أغيثوني، أغيثوني، إني أحتمي بمسجد الله وعباده من أخوتي..".

وما لبث أن تبين أن المنادي المذعور ليس إلا أدهم، أصغر أخوة تهاني، وجاء في أعقابه أخوته الثلاثة، وأغلقوا باب المسجد المزخرف بالرسوم النباتية والهندسية المحورة والمتشابكة (آرابيسك)، وكان رؤوف يسألهم من موقعه على هذا المنبر :

- عجباً إلى الأقدام العادية والمذعورة كيف سعت على اختلاف مآربها إلى بيت الله،.. بحق السماء من أنتم؟

وأجابه كبيرهم يقول :

- لقد سرق المأفون (أدهم) حظنا في ثروة زكريا بعد أن انتهبته أختنا حيناً من الدهر، كان أبوك (أي مراد) سمسار أذى، وقد قسم الثروة قسمة ضيزى، وأتم جريمته بالإجحاف علينا وفي ضوء عين هاته الثرية النحاسية المتأرجحة (يشير إلى ثرية المسجد الكبرى).

وحرك رؤوف عباءة الإمام ووقف على منبره فزاد استطالة، يقول :

- "ألا ترون أنكم تفسدون بعدوانكم خطبة المسلمين؟".

وسمعت صالحة بالأنباء المتواترة حين كانت تشتري البندورة من سوق باب عمر باشا، فتركت هذا السبت البلاستيكي الذي كانت تأخذ تتخير فيه الصالح الناضج من الثمار، هاته التي تموضعت على عربة البائع فيما يشبه الهرم الصغير، وأخذها فزع أمسك قيادها وساقها إلى بيت أبيها هزاع بالعامرية تاركة غرضها في ابتياع الحوائج، ودلفته - على جناح الاضطراب الذي لازمها - فألفته (البيت) على حال آخر غير الذي كانت قد تركته عليه، كان البيت البدوي قد استحال إلى حقيقة مدنية موفورة، ووثبت إليه التكنولوجيا في وثبات بدلته من ظهور التلفاز والراديو والأرائك الصناعية، وجاءها الأب رافلاً في التيل الفاخر، وفي صدار موشى بالذهب فاختلط عليها الأمر : أتفاتحه بمحنة زوجها بمسجد رياض الجنة؟ أم تراها تسأله عن السبب وراء هذه المنحة الجديدة الغريبة؟ والتبس عليها القرار بين المنحة والمحنة، وارتأت أن درء الضرر مقدم على غيره، تقول مبهورة النَّفْس والأنفاس :

- ثلاثة من السُفّال يحاصرون المسجد برؤوف والمصلين مؤزَّرين بسلاح أبيض..

وأبدى هزاع استهتاراً غريباً بابنته التي جاءت تستنصره يقول :

- لا غرو، هذا جزاء البدع التي تورط فيها صاحبك، هل يصح أن يكون المسجد ساحة للطبل والمدروف ومجالاً للببغاوات؟ أين قدسية المكان التي عصف بها الابن وأبوه من قبله؟ لقد حدثني الشيخ فوزي طويلاً حول ما بات يصدر عن هذا المقام المأسوف عليه من المناكير المستباحة، حتى خُيِّل إليَّ أن ديناً في عصر المحدثات والضلالات هو عبث.

وجالت نظرها في حقائق الوفرة التي حولها على دعامة حديثه الأخير، وقد حدست بأن وراءها (الوفرة) صداقة أبيها بالشيخ، وعجبت لحديثه (هزاع) أيما عجب فما كان أبوها يوماً متديناً ورعاً (فضلاً عن أن يكون معنياً مهموماً بالمنكر أو المستباح من الأمور)، تساءلت في ذهول يلوح فوق القلق :

- ألازلت تصل الجسور إليه (أي فوزي)؟

وأجابها يقول :

- لم أجد في حياتي رجلاً أبيض منه يداً، أو أوسع كرماً، لن أغمط ذا الفضل حقه ما دمت ذا فضل مثله.

وسألته وقد أسست سؤالها على حدس صائب لا علم مسبق :

- ألا تدري أنه يهبك ما يهب عن قصد إمالة رأسك لإقناعي بترك زوجي رؤوف؟

وأجابها يقول وهو يجلس فوق أريكة صناعية قرب مدفأة حطب فتذكرت عهداً قبل اليوم كان فيه الأب يستدفئ وهي بوابور الجاز أو بالفحم :

- إن هذا حق، لقد فاتحني في الأمر، وليتكِ طاوعته وطاوعتني.

وصاحت في وجهه تقول :

- ما صاحبك إلا مرتزق..

وكانت صالحة تشير إلى سيرة الشيخ فوزي الحافلة بالمتناقضات، وقد عرف الرجل قديماً مدرساً بمعهد الإسكندرية الأزهري، قبل إعارته إلى جدة، وعمله هناك مدرساً بكلية الشريعة، وبين الأمرين تبدلت صورته فبيّضت النعمة وجهه وملأت بدنه بعد هُزال، وحار الناس في تفسير حقيقة الأمر فقيل إن ثرياً خليجياً أعجب بطريقته الوعظية وأغدق عليه حتى نسبه الناسبون إلى "مشائخ البترودولار"، ولما عدم الوجدان الشعبي من بديل منطقي فقد استقرت الفرضية كحقيقة تملأ الفراغ،.. لقد استعادت صالحة كل أولئك في سرعة - كأنه وميض خاطف - وقال هزاع لها :

- سنحتاج إلى "المرتزق" كي نخلص رؤوفاً من مأزقه..

- ماذا تقصد؟

- أقصدي إليه واستسمحيه أن ينصرك، إن لكِ عنده دلالاً فوق ما لغيرك عنده.  

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول:   رأيت الطمع في عينيه

الفصل الثاني:  عسى أن يكون صدري منشرحاً

الفصل الثالث : صورة المُخلِّص

الفصل الرابع : إلى أين المسير؟

الفصل الخامس : الخواطر المستغرقة

الفصل السادس: نظرة أخيرة

 الفصل السابع: أسطورة شجرة النبق 

 الفصل الثامن: عودة فتاة فيلا لوران

الفصل التاسع: ألكسندرا في غابة بولونيا

الفصل العاشر: مصرع زهران بسبب مراهنات الكرة !

الفصل الحادي عشر: بكر يتحدى سلطة رجال القرية

الفصل الثاني عشر: حوار في مطعم جيوفاني

الفصل الثالث عشر: سلكت سبيل الحب ! 

الفصل الرابع عشر: حفل عرس في حمام شهريار

الفصل الخامس عشر: خطبة مارتن في سكة حديد بالتيمور

الفصل السادس عشر: لقد صفحتُ عنكِ

الفصل السابع عشر: إفناء العمر في الشقاء

الفصل الثامن عشر: كأنك تحكمين عليَّ بالهلاك

الفصل العشرون : نفسيتي تتحسن حين أروي قصة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق