استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/05

رسالة الأب متى الرقيطي إلى غالي

                              الفصل السادس: رسالة الأب متى الرقيطي إلى غالي





نادى خادم القصر على الأخوين غالي وفرنسيس فيما كانا لا يزالان يتعاتبان قرب البوابة المزخرفة، ويتناقشان عن مستقبل الطائفة القبطية، لابد أن الوالي يريدهما الساعة في شأن آخر، وسبق غالي أخاه هذه المرة وهو يقول:

- هذه المرة لا تتحدث إلا إذا طُلِب منك الحديث..

استقبل محمد علي غالي وأخاه وهو يقول:

- لقد نسيت إخباركما بمسألة أخرى مهمة،..ذلك أني أريد المال لتمويل حملتي القادمة، إنني أريد بها استئصال شأفة الوهَّابية من الجزيرة العربية، إن هذه الدعوة النجدية ليست إلا شيطانا يزعم زورا الانتصار لربنا والتحدث باسمه، يجدر بي تخليص العالم الإسلامي من شرورها الكثيرة.

يعرف الأَخَوَان أن هدف الوالي الحقيقي هو تثبيت حكم الحجاز للدولة العثمانية، إنه يستجيب لنجدة السلطان العثماني الذي يتخوف من امتداد نفوذ الحركة إلى بلاد العراق والشام،.. لم يُعْنَ غالي بمناقشة السبب حقا، يتخوف الرجل القبطي من المتشددين الوهابيين الذين سمع عنهم اقترافهم لبشاعات ومجازر طالت المسلمين أنفسهم، إنه يستسيغ فكرة الخلاص منهم على أي حال، تساءل:

- لماذا لا نصادر على الأوقاف،.. سيدي؟

- تقصد الأوقاف المخصصة للمساجد ووجوه البر؟ (ثم وهو يحدق إلى قبة القاعة المنقوشة) سيترتب على ذاك إِبْطَال بعض المساجد والشعائر، ربما يثور المشايخ بسبب هذا، ويثور الأهالي أيضا في أعقابهم..

وتدخل فرنسيس - دون إذن غالي - وهو يقول:

- ما عهدنا عن مولانا مثل هذا الحديث الذي يضع الاعتبار لثارات الدهماء قبل قطف ثمار المنفعة..

تحفز محمد علي لتنفيذ اقتراح غالي سريعا بعد حديث أخيه، يضرب فرنسيس على وتر يعرفه في نفسه المتضخمة، وما لبث أن تسبب الإجراء غير المدروس في غضب المشايخ الذين قصدوا إلى كتخدا بك، هذا الذي كان بدوره من كبراء البلاد وأحد أخصاء القصر، وقال كتخدا بك لهم:

- هذا شيء لا علاقة لي به، لقد أمر به أفندينا ومحمود بك والمعلم غالي وأخوه..

توجه المشايخ إذن إلى القلعة رأسا لمناقشة الوالي في هذا الإجراء الجديد، أوكل محمد علي إلى المعلم غالي بمناقشتهم نيابة عنه، إنه يريد وضع برميل البارود فوق شعلة النار ومراقبة الانفجار المدوي فوق كرسيه الوثير، ولعله يتسلى بالنقاش المحتدم ومنظر اللهائب والشرر التي لا تطال عرشه الممتاز، وامتنع المشايخ عن الحوار:

- إننا نرفض مناقشة القبطي في مسألة تخص شعائر المسلمين، ومن أراد اقتلاع رأس المشكلة استهدف الجذع ولم يقتلع الأغصان..

غضب محمد محمد علي من امتناعهم هذا وهو يقول:

- ستناقشون كبير المباشرين، ولا شأن لكم بمِلَّتِهِ.

أصر المشايخ على توجيه حديثهم إلى الوالي فقالوا:

- سيتسبب هذا الإجراء في الانحلال العمومي لأوقاف وأطيان الرزق والأواسي، ستغدو أرض كثيرة مهجورة بلا أصحاب، هذه الأوقاف كانت تُدِرُّ خيرا كثيرا.

وكانت الأوسية هي الأراضي التي يهجرها الفلاحون لعجزهم عن دفع الضرائب،.. تحرك المعلم غالي بضع خطى حتى فصل بين المشايخ وبين الوالي، قال:

- يا أسيادنا هذا أمر مفروغ منه بأمر أفندينا من عام أول، من قبل سفره، فلا تتعبوا خاطركم، وواجب عليكم مساعدته في خلاص الكعبة من يد الخوارج، سندخر جزءا من أموال المسلمين لدحض شوكة من يسيئون إلى الإسلام، مال المسلمين سيُصرف لأجل المسلمين، ومولاي يساعد به سلطان خلافتكم ويثبت به أقدامه، أما أتاكم خبر محمد بن سعود بن محمد آل مقرن، أمير الدرعية، الذي بدأ تسلله من نجد، إلى الحجاز وعسير وأطراف العراق واليمن، حتى وقعت في يده مكة والمدينة والطائف؟.. فماذا أنتم منتظرون لتدفعوا أذاه الممتد؟ أليس من طبائع الحكم النابه أن يستبق الأخطار قبل أن تدهم البلاد والعباد؟ ألم يبادر نبيكم إلى صد المعتدين أيضا؟ قاتلوا الوهابيين في الجزيرة، أقسم لكم أن هؤلاء يسيئون إلى الرب فوق من يكفرون به، ذلك أن حقيقة الرب المطلقة لا يعوزها جحود جاحد، ولا يزيدها إيمان مؤمن، ولكن يضر بها أكثر من يصمها بالإجرام المشين فيحرف الناس عن بهائها، كأنه يدفعهم عن قبلة جنائنها برياح عاتية، صدقوا نصيحة الرجل القبطي الذي هو أنا، ولتضعوها على الخط المستقيم بعد أن تنزهوها من سيء الشبهات وقبيح الغرض، فلقد ناجيت الرب في مغارة العذراء التي باسمها سميت سورة في قرآنكم،.. سادتي، إننا إخوة، والأقباط ظلوا يرزحون تحت نير طغيان مقيم مدة اثني عشر قرنا، وغني عن البيان أننا ناديناكم (أي المسلمين) يوما لتستنقذونا من ربقة الحكم اليوناني وتنكيل دولة رومة بنا..

أجاد غالي المحاججة في براعة، نظر المشايخ له ولم يحدثوه وانصرفوا، أمام القصر تذكروا حادثة قديمة أوردها ابن إياس في بدائع الزهور، كان السلطان قانصوه الغوري يكثر من المكوس على الخلق، ويضيق عليهم معيشتهم، وقد بنى من المكوس مسجدا كبيرا باسمه، فكان أهل مصر يسخرون منه (مسجد الغوري) ويطلقون عليه اسم "المسجد الحرام"، وقال المشايخ يومذاك:

- إنها "حملة محمد علي إلى الجزيرة العربية" الحرام.

 في القصر أثنى محمد علي على سلاسة وسلامة حديث غالي:

- كأني صَدَّقْتُك بُرهةً..

سُرَّ غالي بأن يحوز رضاء الوالي فابتسم، حتى فرنسيس يربت على كتفه مقتنعا بجدوى نصيحته له بإبداء الصمت، قال غالي:

- أزعم أنني كنت صادقا في الشطر الثاني من حديثي، مولاي، وحين أتحدث عن الرب وحقوقه فليس لي إلا وجه واحد أظهره..

- لا أظنك تعرف حقا صادقك من كاذبك، من كثرت أكاذيبه تعذر عليه أن يتلمس مواضع الصدق من نفسه، هذه ضريبة النفاق..

 مرة أخرى يباغته الوالي بعبارة جارحة تزري بالصورة التي يريد رسمها لنفسه، ولكنه اعتاد تقلبه حتى لم يعد يدهشه، قال غالي:

- ضريبة النفاق؟ إني أراها فكرة جيدة لضريبة جديدة..

ضحك الوالي حتى قهقه، عاد الباشا يعرض عليه كأس النعناع، قبله غالي قرير العين، حين استقر الكأس في يده اقتحم أحد رجال الباشا هناءة المشهد وقال:

- سيدي، لقد قُتل خمسة من القواصة بصخرة عند الجبل! رأينا من بين رجال الأهالي الذين كانوا يهربون بهيمة عجوزا وطفلا.

هناك هتف غالي في سره غاضبا:

- باسليوس! مرة أخرى!

حين عاد غالي إلى البيت لم يجد نجله باسليوس فيه، هذه زوجه كاترينا تنتظره وقد بدت عليها أمارات القلق والكدر، حدثها قليلا عن شأن النيل الذي شحت مياهه منذ أغسطس، وعن الوالي الذي أمر بإقامة صلاة الاستسقاء، ودعوته أحبار جميع الأديان والمذاهب إلى حضور الشعيرة الإسلامية، قائلا: "إنها تكون مصيبة كبرى إن لم يوجد بين جميع هذه الأديان دين جيد واحد!"، وعن رؤيته (غالي) التي تبلورت عن هشاشة إيمان - أو ربما عدم إيمان -  الوالي من هذا الموقف، ولم يجد منها الابتسامة التي توقعها جوابا عن هذه النادرة، ورأى منها تَجَهُّمًا يليق بما في "النادرة" من هرطقة ومُرُوق، وعجب كيف لم يفكر في أن تكره زوجه كاترينا القبطية المحافظة سماع مثل هذا الحديث، فكر الرجل في أنها أقامت صلاة درب الصليب بمعبد البيت الذي أقامه لأجلها، وقد خرجت من الرتبة الطقسية التي تأملت فيها يسوع في أربع عشرة مرحلة محزونة البال، وقال غالي لها:

- آه! كتورة، محبوبتي الرقيقة، الأزهار تتأذى حتى من النسمات الرقاق، لابد أن نفسك قد تألمت مثل نفسي، ولقد جربت صلاة درب الصليب يوم كنت في دير القديس إسطفانوس بصعيد مصر في أسبوع الآلام، وحين وصلت إلى المرحلة العاشرة، وفكرت في يسوع الذي عُرى من ثيابه وسُقي خلا ومرا لم أحتمل المزيد، ولتصدقيني إن قلت لكِ بأنني كنت كقدر الماء الممتلئ حينذاك، وقد أصروا على أن يسكبوا فيه زيادة، ولقد امتلأ وعاء نفسي بالأحزان الموجعة والأشجان العميقة،.. وأذكر أنني سألت الأب روفائيل بسكي عن جدوى التفكير في يسوع الواقع تحت الصليب مرات ثلاثة، في المرحلة الثالثة والسادسة والتاسعة من الصلاة، وقلت له: إنني لم أجد في هذا كله غير الألم والجهد الضائع، وقد قال لي: بالألم يتعلم الإنسان..

كان كل استنتاج غالي خاطئا، قالت كاترينا له :

- ما أقمت الصلاة لأنني وجدت في رسالة الأب متى الرقيطي ما شغلني عن نفسي..

دلف غالي إلى معبد البيت كي يقرأ الرسالة وحده، يعرف الرجل أنها ذات صلة بموضوع طلب الوالي له بخصوص نشر الكاثوليكية بالبلاد:

-      "لا أريد أن استهل رسالتي بمناداتكم بالقَيِّم القبطي غالي سيرجيوس، وإنني أُوثِر أن استخدم الاسم الذي تحبونه: صديقي إسحاق،.. لعله لا يخفى عليكم أنني كنت أسعد الناس بما حزتموه وأخوكم المعلم فرنسيس من مجد، إذ أن مجد أفراد الطائفة هو مجد الطائفة، ولقد كتبت في هذا المعنى رسالة إلى مجمع الإيمان قبل بضع سنين، ولا أدري إذا أنتم عرفتم بها، وفي التذكرة إفادة: "أيها الأمراء فائقو السموّ، أيها الكرادلة في مجمع نشر الإيمان، يجب عليَّ أن أخبر المجمع المقدس بأن الأمة القبطية الكاثوليكية قد حازت الآن المراكز الأولى، والمناصب والرتب الرفيعة لدى السلطة السياسية، وأن القَيِّم الأول ورئيس الكتاب هو كاثوليكي، وهو السيد غالي سيرجيوس، والثاني هو السيد فلتاووس يعقوب، إن الاثنين هما رجلان لا ينقصهما أي شيء، وهما غيوران على الإيمان الكاثوليكي، ففي أحد الأيام، زارني السيد غالي، رئيس الكتاب، وقال لي إنه هو والسيد فلتاووس يريدان أن يرسلا هدايا إلى قداسة البابا بيوس السابع، وإلى الكردينال الفائق السمو، رئيس مجمع نشر الإيمان، وإلى الكردينال الفائق السمو أنطونلي، وإلى كرادلة مجمع نشر الإيمان الفائق السمو، وإلى المونسنير الفائق الشهرة والاحترام، أمين سر مجمع نشر الإيمان، وطلبت إليه أن يعد الهدايا، فأُعدت وأصبحت جاهزة،.. وأرسلت هذه الهدايا يرافقها الأب روفائيل بسكي الذي لم يبطئ في الذهاب إلى رومة، وقد سبق للشخصيات القبطية أن نبهتني إلى أنه لابد من إرسال هذا الكاهن لقضايا الطائفة، مع معارضتي لترك الأب روفائيل بسكي يذهب إلى رومة، نظرا إلى فقر الكهنة، لكن أعيان الأمة القبطية دفعوا، لتغطية نفقات السفر إلى رومة، 700 أبو طاقة، لا بل أكثر من ذلك..

هذا ما كان عليَّ أن أُطْلِع فائقَ سُمُوِّكم عليه..

 وأختم بلثم أرجوانكم المقدس من المجمع المقدس..

عبدكم الحقير متى الرقيطي النائب الرسولي..".

وقد ألحقت رسالتي هذه بلائحة طويلة من الهدايا الممنوحة إلى البابا، وإلى أحبار المجمع، وإذا كنت أنسى فلا أنسى أن الأب روفائيل بسكي قد أرسلها فعلا إلى أصحابها، وكيف يستطيع أن لا يوافق؟ ومنذ تاريخ هذه الرسالة الموافق الرابع عشر من تشرين الثاني من العام 1806م، أستطيع أن أقول بأنه لم يَجْرِ تحت الجسور مياه كثيرة، وأعني بخصوص أحوال الأمة القبطية الكاثوليكية في مصر، هذا كله قبل حديث محمد علي باشا الأخير إليكم، وقد أبلغني بفحواه مشكورا أخوكم فرنسيس، على وجه العجلة، وقد أَسَرَّني حديث الوالي بقدر ما أقلقني، فمن جهة فوقوف الوالي إلى جانب الكنيسة الكاثوليكية ومجمع نشر الإيمان يرجح كفتنا، ومن جهة فإنه يفتح علينا أبواب الشقاء التي لا تُحصى.

 

وإذا أردت التفصيل في النقطة الأخيرة ولا ريب أنها تثير فضولكم قلت: إن الكنيسة الأرثوذكسية كانت هي رائدة الكنيسة المسيحية في المسكونة كلها، وتاريخ هذا، مثلما هو معروف لديكم، معزو إلى زيارة القديس مار مرقس الرسول إلى مصر بعد منتصف القرن الأول الميلادي، وهي محترمة في أعيننا وفي شخص عُلمائها وقدِّيسيها، وأخصَّهم: البابا أثناسيوس الرسولي، والبابا كيرلس الكبير، وغيرهما، ولابد أننا ومع خلافنا العميق معها ما زلنا لا نريد الحرب ولا نعرف غير المحبة،.. ومن أسف أنني لا أستطيع الزعم أن هذا الشعور هو متبادل حقا، خصوصا حين يتعلق الأمر بالمستوى الشعبي العادي، إن مجرد تعيين أسقف كاثوليكي يمثل اليوم في مصر مشكلة، ومرد ذلك أصالة إلى حقيقة أن البلاد لم تعرف على مدار قرون سوى كنيسة الإسكندرية القبطية الأرثوذكسية، والإنسان عدو ما يجهل، ولا يزال البابا السكندري يصف من انسَلَخَ عن الأرثوذكسية ودخل الكثلكة في مقالات المكتبة البابوية، المدونة بخط يده، والمعروفة بالمجادلات، بـ"القبطي التابع" أو بـ"القبطي الإفرنجي"! ويختزل ذرائغ المبدلين في البحث عن المجد الباطل، والرغبة في الفخفخة الجسدانية، والميل إلى محبة الفضة، وهو عند إخواننا الأرثوذكس الراعي الساهر!

 

ولعله لا تخفى عليكم تجربتي بعد أن وافق المجمع المقدس في أغسطس من العام 1807م على تنصيبي أسقفا للطائفة الكاثوليكية في مصر كلها، وكان حدث وجود أسقف في القاهرة والصعيد حدثا جديدا، وهذه هي الرتبة التي كنت زاهدا في تنسمها دائما، وقد اُخترت لا لشيء أكثر من مرونتي في التعامل، وتزكيتكم المحمودة لي في نص رسالتكم إلى المجمع المقدس في تشرين من العام الذي سبق الموافقة، وما زلت أجد كثيرا من الحرج في إيرادها لما انطوت عليه من الثناء الزائد على شخصي، وما اشتملت عليه من تطرية طويلة الذيول قُصد بها العبد المتواضع:

-      "أيها السادة الفائقو السمو والاحترام..

بعد لثم أرجوانكم المقدس، نحيطكم علما بأن المجمع المقدس كان قد أنعم علينا في الماضي بإقامة أسقف في القاهرة لأمتنا، مُنِحت هذه الرتبة للمرحوم السيد المحترم روقس النائب الرسولي، والمرحوم المحترم يوحنا الفرارجي، النائب الرسولي، وفي المرَّتين كان السبب مشقة السفر إلى جبل لبنان للحصول على الرسامة، ولكنهما وبسبب خطايانا، وقبل وصول الإذن في الرسامة، انتقلا إلى الحياة الآخرة، وهناك أسباب كثيرة تقتضي وجود أسقف، ويحتاج سردها واحدا واحدا إلى خطاب طويل، وهذه الحاجة أصبحت اليوم مرتين، وبما أن رجاءنا هو في سموكم الفائق، نجدد التماسنا هذه النعمة، ذلك بأن عندنا الآن شخصا جديرا بهذه الرتبة بفضل علمه وتقواه وأعماله الصالحة، جميع الناس يثنون عليه، وهو معروف عند سموكم الفائق: إنه نائبنا الرسولي متى الرقيطي، ولقد أبدى تَجَرُّدًا في هذا الأمر، ولا يريد دائما إلا إنجاز أوامر المجمع المقدس، ولذلك، فنحن جميعا، أي الأمة القبطية الكاثوليكية بأسرها، سواء أكانوا كهنة أم علمانيين خاضعين لهم وغير قادرين على القيام بعمل من دونهم، نقرع باب رحمة سموكم الفائق، لالتماس هذه النعمة التي تدفع إليها أسباب كثيرة، كما يعلم سموكم الفائق، ونرجو من الله أن يُجاب إلى ندائنا، لأن معرفة كل شيء وُهبت لكم،.. وفي الختام نشهد أمام الله أن الكاهن المسمى هو أحد الخُوريَّين، وهو متيقظ دائما ولا يعرف التعب في خدمة النفوس ورعايا طائفته، ونتمنى إلا يبطئ في عودته..".

 

هذا كان حديثك الذي زكيتني به، أخي إسحاق، ولعله لا يخفى عليك كذلك ما تلا ذلك من مداولات، وقعت فصولها في المجمع المقدس، واستأخرت نتائجها إتمام القرار حتى اليوم، لعدم نشأة أي خطر اضطهاد من ذلك، ولنا في هذا تجارب كثيرة، وعظات جمة نأخذها ممن سبقونا، وأولهم الأب أنطونيس فليفل، الذي تعرض بعد ترسيمه للوشاية من جانب الأقباط الأرثوذكس، وقُبض عليه، وألقي في السجن من جانب الأتراك، وعُذِّب ولم يفرج عنه إلا بعد أن دفع بعض الناس الرحماء أموالا كثيرة للإفراج عنه، وأيضا الأب روكس قدسي والأب يؤانس الفرارجي، واللَّذان توفيا في ظروف غامضة مؤسفة، بعد تنصيبهما وقبل ترسيمهما أساقفة بجبل كسروان في لبنان، وذهبت الظنون في تفسير ما جرى كل مذهب، فكان تفسيرك لوفاتهما المبكرة: "لأجل خطايانا" أهون التفسيرات التي سمعتها وأجملها،.. وغني عن البيان أن الأقباط الأرثوذكس يشغلون الوظائف الرئيسة لدى الحكام الأتراك، ومن ثَمَّ فإن لديهم القدرة على البطش أو الإحسان، "وحسبما يتراءى لهم"، واحتقارُ بعض رجالهم لنا قد يزيد سوءا عن معاملة كثير من الإخوة المسلمين -  من مثال الوالي نفسه - الذين يُقِرُّون بكثير من حقوقنا، من باب العدل مع الشنآن، والإنصاف مع البراء، وأما سؤالي الذي يلخص رسالتي بأسرها: فإذا كان هذا كله قد حدث لأجل تعيين أسقف لا يختلط كثيرا بالعالم فكيف بتغيير شامل يُراد بآثاره أن تمتد إلى عوام البلاد وأهليها في الطرقات العامة؟

 

عزيزي إسحاق، إنني أرى فيك رجلا عصاميا، أوتيتَ بُعْدَ النظر، وشِدَّة الحذر، وقوة الإرادة، وشعورا وطنيا شريفا، وما استوزرك الوالي إلا لأجل ذلك كله، ولأجل ذلك كله فسوف تتفهمني حين أقول: إننا اليوم - نحن الكاثوليك والأرثوذكس - نريد أن نَصُبَّ على جراحنا خَمرًا وزَيْتًا، فإن كان لابد من تنفيذ طلب الوالي فلْتَخُطُّ في السبيل بهداوة، وإلا وجدت نفسك وقد دخلت إلى مهاوي المجهول المقلق، وبدأت سلسال النزاع المؤسف، وحينئذٍ يغضب الرب ونكون قد زِغْنا عن مراده، وليس لنا من الأشياع إلا قليل، إن أحصيتهم أنافوا على ألفين، وهذا في أحسن ظن، وكهنتنا في القاهرة، وجرجا، وأخميم، ونقادة، وفرشوط، وطهطا، نخشى عليهم،.. هذا وإن وهبنا الرب الكريم العتاد الكثير، ومنحنا الدعم العظيم، بوقوف الوالي الغريب معنا، وقبل هذا بأن أعطانا الإيمان الثابت فصار كل رجل منَّا بألف رجل!".

 

**

منع المعلم غالي نجله الصغير باسليوس من التردد على الجبل بعد حادثة الصخرة، ظل أخوه دوس وَفِيًّا لعادته الصباحية في متابعة مَسيرات نسوة الغجر هناك، ما لبث أن طلب دوس من باسليوس أن يجيء معه لأن "الغجريات يعتقدنه مباركا"، ولأن "هؤلاء المتسولات لا يلفت أنظارهن شيء إلا هو"، فأبى الصغير متعللا بخوفه من عقاب أبيه، وتوسط دوس عند أبيه لأخذ الإذن منه فقال غالي:

- فإن كان لا محالة فليكن فرنسيس ثالثكم..

ذهب ثلاثتهم إلى الجبل الذي خلا من مُهَرِّبي الأنعام، وصار عدد من الجنود يُؤَمِّنون طريقه الضيق، وقف باسليوس أمام الرجلين قبل أن تناديه عجوز الجبل:

- ها قد عدتَ، أيها المبارك الصغير! 

ولم يجد باسليوس في عنقها عقد الأبرش الأخضر فاعتوره الأسف، هذا وإن سُرَّ لسماع صوتها الموسوم بالشيخوخة يناديه في نبرة مسرة، وقالت المرأة له:

- جاء جنود الوالي ليثأروا منَّا، هرب الرجال ولم أكن لأنجو من أيديهم إلا بمنحهم العقد النفيس، لا تبتئس ولا تحزن فلقد أنقذتْني هديتك منهم، وأما الجاموس فقد خبَّأناها في شِّعْب الجبل.

سار باسليوس مع العجوز إلى هذا الشِّعْب، وجد هناك نفرًا من رجال الأهالي المختبئين، سقت العجوز له من لبن الجاموس وحدثته عن الإسلام والنبي محمد، كان عينه الدفء الذي يُحِسُّ به حين تحدثه أمه كاترينا عن المسيحية والنبي عيسى، يتحدث الرجال عن محاصرة النبي محمد في شِّعْب أبي طالب ويشبهون جنود الوالي بالكفار هازئين، شرب باسليوس من قدح اللبن لأنه اليوم غير صائم، ترنم الصغير ببعض الترانيم التي يحفظها ولا يفهمها بعمق، واستحضر المزامير فطفق يفوه بها عجلا وطربا، قرأت عليه العجوز آي القرآن ولم تكن لتلحن قط فيه، أخبرته بأن عقد اللازود كان منحة أحد المماليك لها يوم كانت شابة بعد أن أُعجب بتلاوتها، وقالت وهي تسير بضع خطوات كأنها تتخفف من ثقل الحديث :

- أحبني هذا المملوك وعلمني القراءة، ومع القراءة تفتحت لي أبواب الحياة، نظمت الشعر وحفظته فعارضني من زعم أن الأدب من البنات غير مستحسن، لأن العائلة هي مجالهن الذي لا يجب أن يخرجن عنه، وأجبته: أكبر الشنار أن يتربى وليد في كَنَفِ امرأة جاهلة،.. لقد اختفى ذاك المملوك بغتة، مع من توارى من جماعته، وقيل لي بأنه مات، أو غيّبه الخوف من الباشا، وقلت: بل غيّبه ما هو أشد، وما أزال أعتقد بحياته..

أشار باسليوس إلى فؤادها وتحدث في حس خلاب وهو يأخذ يشق بخطواته القصار صفين من الرجال حتى انتهى إليها :

-      لا يموت من كان أثره هنا..

تمخض الأسى عن ابتسامة طٌبعت على وجه العجوز التي ما لبثت تجيب الرجال في لسان حكيم، ورُبَّ حائرٍ يستفتيها منهم في أمره فترده إلى عيون الرشاد، وشاكٍ إليها عسف الليالي فتحدوا به إلى واحة الصبر،.. شعر رجال الشِّعْب بأن المظالم هي الآفة الرئيسة في هذا الوجود، الآفة التي تلزمهم هذا الاختباء وتحجب عنهم ضياء الحياة الكريمة، وأما اختلافات العقائد في تحديد صورة المصير الأخروي فليست إلا نزاعا ثانويا ومفتعلا، ما أن يُقام معبد العدالة حتى تغدو الدنيا نعيما، هنالك يكون ملكوت الرب هو جنة المسلمين،.. وأما دوس فقال لفرنسيس:

- لقد اختفى باسليوس منذ ظهرت هذه العجوز،.. لا أمل لنا اليوم في الإيقاع بهؤلاء المتسكعات!

وسأل فرنسيس دوس:

- أهن جميلات؟

- أجل، فلهن قوام ممشوق، وبياض لافت، وعينان لوزيتان يرسمهما الكحل العربي الثقيل، ووشم يعلو الذقن، وشعر أصفر مسترسل تخالطه حُمرة خفيفة، وخلخال لا يفارق سيقانهن..

لاحت الغجريات فتوافقت صورتهن وحديث دوس عنهن، كانت أوصاف دوس كافية لإشعال الوهج في نفس فرنسيس الذي نظر في خبث قائلا:

- لعلي أستعمل سلطتي إذن،.. لمَ لا يُعجبن برجل له بالقصر صلة وهن المتسكعات؟

حذَّره دوس:

- لن تفلح ولو كنت نجل الوالي نفسه، إنهن لا يُقِمن الاعتبار لرجل هو خارج عن دائرة الغجر.

استهان فرنسيس بحديث دوس مدفوعا بالنزق الأهوج الذي يحركه حين يتعلق الأمر بالنساء، مضى عَجِلًا في مخططه، حين خرج باسليوس من شِّعْب الجبل رأى الغجريات وهن يضربن خاله فرنسيس بالقباقيب الخشبية، كان فرنسيس يحتمي منهن بيديه وهو يقول:

- سأشكو الوالي أمركن..

لم يُخلص فرنسيس من أيديهن إلا شفاعة باسليوس له عندهن، أدرك فرنسيس أهمية القداسة الدينية التي يتسربل بها الصغير منذ استأنس الذئب، قصد فرنسيس إلى غالي في معبد بيته، كان غالي ممسكا بسيف ذهبي وفي عنقه قلادة من الخشب، وقرأ على أخيه رسالة البابا بيوس السابع إليه:

- "علم من مجمع انتشار الإيمان بما يفعله من أعمال خيرية، ومن دفاع عن الكاثوليك ومساعدتهم، ولما كان عمله يرضي الله، فالبابا نائب المسيح على الأرض، يريد أن يعبر له بحرارة امتنانه، ويمنحه شهادة تثبت لطفه الأبوي والمخلص نحوه،.. وله الحق في أن يحمل القلادة الخشبية والسيف الذهبي، وأمر بتسليمكم الصليب الذي يجب أن تحملوه دلالة لهذه الرتبة..".

نظر غالي إلى عيني أخيه فرنسيس وقال:

- هذا خطاب قديم جديد،.. واليوم أتباع أحد المسؤولين الملتزمين كانوا يجمعون الجوالي (الضرائب)، فتطاولوا على قبطي، ثم قبضوا عليه، وأخذوا يتشددون في مطالبته بما كان عاجزا عن سداده، ثم اتضح لهم بعد هذا كله أن هذا الشخص هو كاهن، ورغم هذا استمروا في مُشادَّاتهم، وبينما كانوا في السجال بلغ الخبر مسامعي فأخذت على عاتقي دفع المبلغ المطلوب منه، منعًا من الأذى، إنني أحمل سيف البابا بيوس السابع متى أنجزت عملا جليلا كهذا العمل الذي حدثتك عنه، لأنني حينها أظن نفسي حقيقا بهذا الإطراء الكبير الذي كتبه عني، لاتحسبني أقف إلى جانب الأكليروس القبط دائما، فقد سمعت بعقاب جماعة المسيحيين الذين يمارسون الجبّ في أسيوط وجرجا، ويحولون الغلمان إلى خصيان، وسعدت بأن يسجنوا جزاء اقترافهم لهذه العملية الحقيرة الشائنة، وكنت لأكون أسعد لو أمرني الباشا بجلدهم بنفسي..

وقال فرنسيس لأخيه وقد ضج بهاته الانتصارات الوهمية التي يحدثه عنها:

- دع السيف الخشبي وخطابات عضّ عليها الزمن ولتبحث عن القداسة الدينية الحقيقية، لا أحد يحترم الأخوين ولدي المعلم سيرجيوس، حتى من صعاليك الجبل..

- ماذا تقصد؟ هل وقع ما أزعجك في زيارة الجبل؟

- ضربني الغجر بالقباقيب، غالي، ليس في خلاء الجبل رجال كُثر ولكنهم شمتوا بي جميعا،.. فلتسمع لي: يجب أن يمنحنا البابا الغفران، وأن نسلمه لرابع جيل، لا وجود لمطران أو أسقف كاثوليكي يمنح الغفران للكاثوليك، فَلِمَ لا نتولى نحن الأمر؟ يجب أن نحظى بالقداسة الدينية في المجتمع القبطي لأن هيبة الاقتراب من السلطان وحدها ما عادت تكفي، قد يخشى العوام رجالات السياسة ولكنهم يحترمون أهل الدين.

وقال غالي:

- إننا علمانيان ولا أظننا نحوز سلطات الكهنة، سبق أن أردت من البابا أن يمنحني الاعتراف الكامل في عيد القديسين إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ذاك العيد الذي نحتفي به في سبتمبر من كل عام، وأردت أن أختص به لأن اسمي إسحاق، ولكن البابا لم يجبني بعد إلى طلبي.

وقال فرنسيس نافذ الصبر:

- فإذا كنا نتحمل مخاطر نشر الكاثوليكية في هذه البلاد فيجب أن يجيبك..

وهكذا شاعت قصة ضرب فرنسيس بقباقيب الغجر، وتوهم الناس أنه أراد إدخالهن في الكاثوليكية فتمنعن عليه، ولكنهم عادوا يتساءلون: وهل للغجر دين حقا؟ إنهم ينتحلون الإسلام دينا دون أن يؤدوا فرضا من فروضه، هذا حتى حاول نجله أرمانيوس التحقق من السبب الذي وراء القصة، وكان يساوره الاعتقاد بزيف ما ذهبت إليه الظنون، وأن لنهم أبيه المعروف في النساء دوراً فيما وقع له، وسأل أرمانيوس دوس عن السر وراء الحادثة فلم يجبه، وهناك تعرض لباسليوس، وكان أسهل من يستقريه، يسأله:

- لماذا ضربت الغجريات أبي بالقباقيب؟

حاول باسليوس التهرب من أرمانيوس فركض، لحق به أرمانيوس ودفعه إلى حائط وأمسك بعنقه، وعاد يسأله فخر الصغير معترفا:

- ضَرَبْنَهُ لأنه أرادهن لنفسه، ثم هدَّدَهن بِصِلَتِهِ إلى الباشا بعد أن رفضن الاستجابة لشيطانه..

ارتخت قبضة أرمانيوس حول عنق الصغير بمجرد حصوله على السر الذي أراده، وجد الفرصة سانحة كي يخبر قطورة بفعلة زوجها، إنه يمقت زوج أبيه ويريد للزيجة أن تنتهي كسائر العائلة، أنجبه فرنسيس من واحدة من نسوة الكراخانات، إنه بلا هوية معروفة، وزواج أبيه بقطورة يضع على ماضيه غبار النسيان، قصد أرمانيوس إلى بيت قطورة ساعة الفجر، إنه يمر ببلاط المرمر، وحوض الماء الفوار، يعبر المقاعد الفروشة بالرخام الملون والفساقي وزجاج البلور، ولكن لا شيء على صفحة عقله سوى الغضب والصخب، ودق الباب ففتحت له المرأة وقالت:

- لا يزال أبوك فرنسيس لم يعد..

استقر وجه أرمانيوس إلى جانب زجاج البلور فبدا شعلة يقظة من الدهاء، ونظر لها مبتسما في مكر وهو يقول:

- لا يهم أن يعود أبي، المهم ألا تكوني آخر العالِمين بفضيحته في الجبل.

وانزعجت قطورة من حديثه حقا، وغضبت حتى احمر خداها، أرادت الانتصاف لنفسها وإن أرجأت مسألة التفكر في حقيقة ما سمعته حتى حين، قالت:

- بئس ما فُهْتَ به في حق أبيك! فإذا كنت بلا أصل معروف فلتحفظ لسانك، فلا يلقي من له بيت زجاج بيوت غيره بالحجارة.

طردت قطورة أرمانيوس الذي تعثر عند بلاط المرمر ومضى مبتعدا وهو لا يزال يقول:"فضيحة الجبل!"، آمنت قطورة بحديث أرمانيوس على شدة غضبها منه وبُغْضها لسيرته، جعلت تبكي مما بدر من زوجها بكاء الخنساء، هذه المرة أرادت المرأة الطلاق لنفسها، سرعان ما لبى فرنسيس طلبها، ألقى الرجل بقلبه تحت قدميه، ولكنه وجد مشقة في الطلاق كما وجد عنتًا في إقرار الزيجة من قبل، واحتدم الخلاف بينه وبين أسقفه الأنبا مكسيموس الذي كان يرتاب دائما من نوايا فرنسيس، ويشك في تزويره الخطابات التي يرسل بها إلى بابا رومية، مثلما يرتاب في إيمانه نفسه،.. حينها قصد المعلم غالي إلى القصر فلم يجد محمد علي فيه، أبلغه رجال القصر بمهمة أوكله بها الباشا نيابة عنه:

- حضرت الإرسالية الرابعة من مُزارعي السلطان العثماني، إنهم محملون بكتب من السلطان يريدون فيها أن تقطعهم الحكومة الخديوية أرضا يزرعونها في القطر المصري، ويستغلون منها ما يقوم بأودهم، سيقابلك زعيم الإرسالية ليبسط لك مطالبه..

وارتاب المعلم غالي من طبيعة الإرسالية، تفحص هيئة رجالها فوجد في أبدانهم الممشوقة ما يؤهلهم للجندية، عزم غالي على استقبال زعيم الإرسالية استقبالا مجردا من كل حفاوة، سأل غالي زعيم الإرسالية الذي كان يتحدث التركية التي يجيدها:

- "هلا أخبرتني بالجديد من فنون الزراعة الذي استحدثتموه في إسطنبول؟".

وارتبك زعيم الإرسالية حقا وتصبب من جبينه العرق، لم يذكر لغالي إلا ما يعرفه المرء العادي عن أساسيات الحراثة، وعلق غالي قائلا:

- "هذا مما يعرفه الفلاح في صعيد مصر قبل بلوغه..".

عظم على زعيم الإرسالية حديث غالي وخرج حاقدا متوعدا، واندفع هنا وهناك مستغيثا، وتظلم لدى محمد علي أول ما عاد من أسفاره، أخذت محمد علي الريبة في أعمال المعلم غالي وجاء به فسأله:

- لمَ أسأتَ استقبال مبعوث السلطان العثماني؟ لقد منعت عن رجال الإرسالية من المزارعين كل ما طلبوه.

وأجابه غالي وهو يضيق عينيه مستبصرا يقول:

- ليسوا مزارعين، هم فئات من الضباط والجنود في شاكلة المزارعين، سألتُه بالتركية عن فنون الزراعة فلم يجبني بما يؤهله لزعامة إرسالية بهذا الحجم، مُلك السلطان العثماني أوسع من مصر، وهو يريد أن يقلب بأمثال هؤلاء الفتن، ومطالبهم مكشوفة لكل ذي بصر.

- أجل يا غالي وقد لا يكون في تلك المطالب دليل حسن.

- وأي دليل يا مولاي والدولة التي لم تَقْوَ على مصر بجيوشها وأساطيلها، تريد أن تؤلف جيشا من تلك الوفود في بلادك، حتى إذا تقوَّى ساعِدُهم ثاروا عليك!

أمر محمد علي بتفتيش "المُزارعين العثمانيين" فوجد في جلابيبهم الأسلحة والبنادق، هناك قال الوالي مستحسنا ما ذهب إليه غالي من رأي، وما أبداه من حسن التبصرة:

- أصبت، لقد فقهت الدسيسة وعرفت العدو الكامن في ثوب الصديق، ولكن قبل كل عمل يجب أن نعيد كل تلك الوفود إلى أوطانهم، وسنجهز لهذا الشأن بارجة مصرية تنقلهم في باكر النهار.

خرج غالي يومئذٍ من القصر مبتهجا مسرورا ولكنه وجد قطورة الباكية تتبعه وهي تقول له:

- أيها القَيِّم القبطي، فلتخلصني من خيانة أخيك بحق الرب، خانني مع الغجريات والأنبا مكسيموس يرفض إقرار زواجنا، إنه أملي الذي من شأنه أن يضع على كاهل فرنسيس مسؤولية الالتزام! 


 اقرأ أيضاً : 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق