استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/05

باسيلوس يصيب عهد الفتيان

                               الفصل الثامن: باسليوس يصيب عهد الفتيان



أصاب باسليوس أول عهد الفتيان، وكان هذا العهد هو نفسه الذي يخرج فيه الناس عادة عن حدود العائلة، ثائرين على السائد الثقافي، رافضين كل شيء، وخَاطِينَ أولى الخطى على درب العمل والحب ومعاركة الحياة، وإذا كانت هذه هي "العادة" فإن سنتها لم تمس الفتى حقا، وما خرجت به عن مأنوس طباعه، في قليل أو كثير، بل لعله قد زاد في إبان ذاك العهد المضطرب من عمر الحياة - زاد من رجاحة العقل ورشاد التصرف وحسن البيان ما أهله للأمثولة بين أترابه، إنه لا يزال يتردد على الجبل كي يشارك الأهالي محنتهم في تهريب السلع، ويُعينهم على التواري عن ضباط الضريبة، يريد أن يدرك أن ثمة وجها آخر للحياة، وأن يطلع عليه عن كثب، وإذا لم تَعُدِ الغجريات بعدُ يَرَيْنَ فيه "طفل الرب المبارك" لمُروقه من عهد الطفولة فقد ظلت أسطورة الذئب تطارده، وتَحُفُّه بحاشية الإكبار في نظرهن، وكانت العجوز صالحة تقول بأنه "ظل الطفل الذي رأته أول مرة دائما.."، أنقذته غجرية شابة - واسمها كوثر - من ثعبان تسلل  يوما  إلى مضجعه حين كان نائما في شِعْب الجبل، وما لبث أن تكونت بينهما صداقة مشوبة بالعواطف، قالت كوثر:

- الغجر أبناء الريح، لا يتزوجون بالغرباء، ألا أتعس بأولئك المستمسكين بالعادة بلا مُسَوِّغ! لا يدرون أن الحياة الحقة تبدأ من استثناءات القواعد.

كان عقل باسليوس غائبا عن حديثها، ونبهته الغجرية بحركة يدها الملوحة أمام عينيه المُطْرِقتين، قال يفسر شروده بعد أن تنبه:

- أبي المعلم غالي؛ نقله الوالي قبل أيام إلى ميت غمر في زفتى ببلاد مديرية الشرقية، ولا أدري علة الأمر حقا! قيل بأن الدولة العثمانية العلية قد رغبت في تنظيم إدارة أعمالها أسوة بأعمال القطر المصري، وقد وشى بعض الحساد إلى محمد علي بأن والدي إنما يريد التوظف في الأستانة كي ينعم بالحياة الرغيدة مما لا يلاقي نظيره في بلادنا، وقد أغضب هذا الوالي حقا، لا يدري الباشا أن غالي يكفيه أن يعيش راضيا في معبد بيته، قنوعا بأن يقطف ثمار الحكمة من الكاهن بسخي، فوق التنعم بثمار الحدائق التركية المسورة في قصر طوب قابي،..ولكن هذا السبب وحده لا يكفي قط لتفسير هذه الغضبة العنيفة!

سألته كوثر:

- لِمَ يؤلمك، إلى هذا الحد، أمر الرجل الذي أحال حياة الأهالي إلى جحيم؟

غضب باسليوس من حديثها حتى نهض وهو ينفض عن ثيابه التراب، يقول كأنها تطعن في أمر بدهي عنده:

- لأنه أبي، كوثر، ولو كان شيطانا، فهو أبي.

حاولت الغجرية أن تلتمس سبيلا رقيقا في طرح السؤال التالي:

- أهو وحيد هناك (أي غالي)؟

أجابها باسليوس وهو يَهَبُ الأفق نظرة حزينة:

- لحق أخي طوبيا به هناك في الغربية، ونزلا في ديار مشتركة يجدان فيها السكن دون السكينة، إن بيتهما مبني من الآجر المربع المجفف في الشمس، وقد اعتادا على مباني الشمال القوية الوسيعة المُشادَة من الحجر، علاوة على أن إبراهيم باشا لا يتركهما وشأنهما.

وتَمَشَّيَا - باسليوس وكوثر - في غابة النباتات المتحجرة خلف المقطم، حدثها باسليوس عن خاله فرنسيس وسعيه في بسط الكاثوليكية في البلاد، قال في حدس مصيب:

-  لعل وراء رسائله إلى بابا رومية ما يصح أن يُفسر به هذا الانقلاب على أبي، (واستدرك قائلا..) ولعلها من بين جملة أسباب.. (ثم تابع في غير النبرة التي بدأ بها) يخيل إليَّ أن الدين، أي دين، هو ميراث ثقافي، تماما كعاداتكم أنتم الغجر، ولكنه مصبوغ بصبغة القداسة، ولأجل ذاك فرابطته هي أعمق وأشد، لا يجب أن تسعى الدولة لنشر الكاثوليكية !

- أمي كانت تقول لي بأن الترحال هو ديننا نحن الغجر،.. وبأي دين تلتزم الدولة إذن؟

قال باسليوس وهو يطأ نبتا متحجرا:

- لا يجب أن تلتزم الدولة بنشر أي دين.

وتمهل باسليوس في سيره قليلا وهو يأخذ يطلع على ما طوته الأقدام من المسير عن شِّعْب الجبل، قال:

- الأقباط من مثلنا يقدرون محمد علي ويصفونه بالبطل المقدام لأنه حقق لهم الحد الأدنى من شروط الحياة، إن هذا يُعرب عن سوء حالتنا في الواقع، إنه لا يرى فينا إلا مباشرين ومحاسبين ممتازين، وهيهات أن يدخلنا بصدق إلى الرتب العالية في الجيش النظامي، أو يعلمنا التعليم الحديث، حتى أن أولى البعثات التي أرسلها إلى فرنسا قد خلت منَّا.

- لماذا تشغل بالك بفقراء الأقباط؟ تستطيع أن ترى الوالي في لحظة، وقد حظيت بمباركته منذ كنت طفلا.

- أبي هو عميد الأقباط، إنها جزء من المسؤولية.

- ماذا عن خالك فرنسيس؟

- إنني لا أثق فيه، من لا إيمان له لا أمان له، أنسيتِ يوم ضربتموه بالقباقيب؟

- من أسف كيف سيخلف أباك في رئاسة الطائفة.

- أجل، إنها العادات التي تمقتينها.

قدرت له الغجرية حديثه حقا، توقف سيرهما قليلا فنظرت إليه بعمق وحب، هذا قبل أن يسمعا من يهتف:

- باسليوس، أين أنت؟ يجب أن تعود الآن إلى شِعْب الجبل، إن صالحة تحتضر فيه.

هرع باسليوس إلى الشِعْب عائدا، أمسك الفتى بيد العجوز التي طلبت منه أن يقرأ عليها آي سورة النحل، وقال رجال الشِّعْب:

- سنقرأها نحن..

أصرت صالحة على طلبها بصوتها المتهدج وهي تقول:

- بل سيقرأها عليَّ باسليوس القبطي.

قرأ باسليوس سورة النحل فيما كانت صالحة توصيه بألا يسير في جنازتها جندي من جنود الوالي، وسألها مبهوتا:

- ماذا عن أبي غالي؟

قالت المرأة في عزم حي كأنما برأت لحيظة من حال احتضارها:

- ولا أبوك!

وهكذا أسلمت صالحة الروح وغَشِيَت الجبلَ يومئذٍ سحابةٌ حمراء قانية، وقال الرجال بأن الحزن والابتئاس لا يليقان بالمؤمن الموقن، وأن الإيمان في أقدار الله عبادة،.. وفي زفتى كان إبراهيم باشا قد أيقظ المعلم غالي من مضجعه، وسارا بين الحقول بعد أن طلبه إلى النقاش، قال إبراهيم باشا في غضب:

- طلب أبي محمد علي منك تحصيل ضريبة "فردة النخيل" على أراضي الفلاحين بالدلتا، بواقع 20 بارة سنويا على كل نخلة، ولكنك ما زلت تماطل وتُصِرُّ على عدم السداد.

واضطرب غالي فدارى وجهه بين سنابل القمح:

- لا وجود للدفاتر والمُسَوَّدَات التي توضح مقدارها، سيدي.

اشتعلت جمرة الغضب على وجه إبراهيم باشا الذي قال:

- جئنا لك بأكثر من حاجتك من المُسَوَّدَات والدفاتر، اليوم نحن في مايو من العام الجديد (يريد 1822م)، ماذا تنتظر؟

قال المعلم غالي وبصرُه مشتت حائر:

- تحدثت مع الباشا في شأن ضريبة التمر، وقد خلصنا إلى تأجيل فرض أي ضرائب جديدة،.. فلتنظر إلى وجوه هاته الفلاحات المعدمات، سيدي، لا يجب أن نحملهن ما لا طاقة لهن به بتعدد المغارم التي يحصّلنها، ولقد سمعت منهن بالأمس من يقول بأن محمد علي يحسد القمل الذي يمص دم الفلاح فابتسمت في رثاء، وفي الناس من كان تاجرا ووقف حاله بسبب المغارم والفتن،.. وفي العام السابق حصّلنا فردة  المنازل، وصار على كبير الأسرة أن يدفعها، علاوة على دفع فردة العامل في مزرعته، وحين احتج الأهالي أمرنا بتحصيلها ضعفين من المعترضين، ولم يستثنَ من تحصيلها إلا بعض المنازل والطواحين الخيرية، ولم تسلم منها حتى مساكن القاهرة.

قال إبراهيم باشا في شكيمة القائد دون سعة نظر:

- فردة المنازل كانت على خمس درجات، متراوحة بين عشرة إلى خمسين قرشاً على المنزل الواحد، وهذا ثمن جد زهيد، والغرض منها إمداد القوات الرابضة في جزيرة كريت، وإذا كان لك باع بالحرب قليل أو كبير لتفهمت الدواعي وراء الأمر،.. إنني نجل الباشا، وآمرك بجمع هذه الضريبة الجديدة.

قال المعلم غالي وهو يبحث عن باب أخير لنجدة الفلاحين:

- لست أَأْتَمِر إلا بأمر سيدي الذي في القصر، هذا ما بقيت وما بقي فيَّ رمق من حياة، لقد صار الأهالي يدفعون ما يعادل جنيهين إسترلينيين، إن هذا يعادل ما يدفعه سكان بريطانيا العظمى، وضعف ما يدفعه الفرنسيون، وأربعة أضعاف ما يدفعه الشعب الإسباني، وأما الزيادة فهي الجور بعد الجور!

صرخ إبراهيم باشا صرخة مارقة من واحة العقل:

- حقا بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى ! هل أنت معهم أم معنا؟

دوت صرخة إبراهيم باشا الأخيرة في الأنحاء حتى استيقظ طوبيا من سباته، خرج من مبنى الطوب اللبن في اضطراب النوم ولم يلبس العباءة أو المركوب، اقتفى أوصاف الفلاحات حتى استرشد إلى غاية مسير الرجلين، وهناك وجد إبراهيم باشا يقول وحوله الفلاحون المحتشدون :

- أتظنون أن مولانا يريد بكم شرا؟

وصاح الفلاحون صيحات عابثة هي ابنة الغوغائية:

- كلا، يستحيل أن يقصد مولانا بنا شرا.

لم ينتظر إبراهيم باشا انتهاء جوابهم المتوقع، تساءل:

- هل تدرون أن مولانا لا يدري شيئا عن هذه الضريبة؟

وسادت حيرة معجونة بالعجب بين الفلاحين، كيف لا يدري محمد علي بأمر الضريبة وهو الآمر الناهي في القطر المصري؟ هل يصح أن يجهل بأمر كهذا هو يمس حياتهم؟ أليس في هذا كله ذنب يتحمله؟ ولكنها أسئلة خَجْلَى كصوت أرغن مكتوم، كان طوبيا يقترب أكثر فأكثر من تجمهر الفلاحين حتى أمكنه أن يميز طاقية أبيه من وراء أشباح ظهور الرجال، وقطع إبراهيم باشا حيرة الوقوف فصاح وهو يقول:

- من فرض هذه الضريبة هو هذا الكافر الخائن..

أطلق إبراهيم باشا على المعلم غالي الرصاص بالغدارة الخفيفة التي سحبها من حزامه وأًرْدَاه صريعا، تسمر طوبيا بين الذهول والحزن والمهانة، انهار معبد الوجود في عينيه، على طريق الشوك سار طوبيا حافيا حتى وصل، وليته ما وصل! هرب الفلاحون المتحمسون تباعا، لم يجترئ أحد على حمل جثة أبيه التي بقيت معلقة في الخلاء يومين، استنجد طوبيا بحاكم الشرقية رزق أغا لدفن جثة أبيه، وقال له غاضبا:

- لا نصير لي سِواك، لقد ساعدك أبي في حياته، وقَمينٌ بك أن ترد إليه بعض دَيْنِه بعد مماته،.. هل يُعقل أن تبقى جثة كبير المباشرين ووزير الوالي في الخلاء كالكلب؟

وأجابه رزق أغا يقول:

- هذا ما صنعه في نفسه، وعاقبة مداهنته للحاكم، باع آخرته بدنيا غيره..

وحضر باسليوس إلى رزق أغا وكان الفتى ذا شهرة في المحروسة فوق أخويه دوس وطوبيا، وحسن تأثير في الناس يكتسبه من صلاحه، وقد عُرف في أوساط البلاد بقصة القلنسوة التي اشتراها من محمد علي، وبما تكفل الوالي به من أمر تعليمه في طفولته وصباه، وقال (باسليوس) لرزق أغا:

- فلتسمع لي ولا تَهَبْني وجه جفاء لا أستحقه، إن مصيبتي كبيرة ووِزْري قليل، ولقد فقدت في الجبل صالحة، وفي زفتى فقدت أبي،.. مات أبي لأنه رفض الجور وتعدد الضرائب، أيها الحاكم قل: صنع لنفسه باب غفران، ولا تقل استحق الضيم بصنيعه، إن تضرعاته في معبد البيت كانت تزلزلني حين كنت أسمعها طفلا، وتخلع مهجتي حين غدت تتردد إليَّ يوم صرت صبيا، كان قلبي الخفاق ينتفض لسماعها مثلما لا ينتفض لسماع شيء آخر، واليوم هي بوابة عزاء لي حين أجْتَرُّها في خيالي، ودليل صبر حين أستحضرها في أساي، إنها لتكفي أشد الشياطين عُتُوًّا لأن يكون لها أمل في النعيم، وحق في انتظار العفو، ولتسأل عنها كاهن معبده الأب بسخي فقد كانت تبكيه مثلما تبكيني، وليتك استمعت لها فما جحدت بعد اليوم فضله، أو استحلَّت فاجعة مصيره، هذه خاتمته وهي تَجُبُّ ما قبلها، سيدي، إن جُثَّتَهُ المُلقاة اليوم في نهر طريق زفتى يتفاداها الأهالي في رَواحهم وغُدُوِّهم لهي آية شرفه الوحيد، وأمارة نعمته التي أداها إلى الشعب بتجرد..

أحسن باسليوس الضرب على أوتار المروءة، وعليه تشجع حاكم الشرقية على تلبية طلبه، استأذن رزق أغا أخيرا لدفن جثمان غالي فأجيب إلى طلبه بعد يومين من تركها، حمل باسليوس جثمان أبيه غالي وسار به مسافة طويلة حتى كنيسة أبي سيفين، الواقعة شمال حصن بابليون في مصر القديمة، كانت أشقَّ خطواته وأعذبَها، رأى الفلاحون شبحه المتضخم بخيال أبيه وهو يشق أراضيهم في صبر وجَلَد، وحامت فوق رأسه حمائم المغيب في حمرة عجائبية، وأقيمت الصلاة على المعلم غالي هناك، تأمل باسليوس طبيعة الحياة المتقلبة، "متاع الغرور" مثلما كانت تحدثه صالحة عنها في الشِّعْب، أين صالحة اليوم؟ وأين غالي؟ ابتعد باسليوس من نحيب أمه كاترينا وحُزن أخويه دوس وطوبيا، إنه يروم أن يجد نفسه، وهيهات أن يجد نفسه بين الناس، ولا شر من الحزن إلا حزن يأخذ طبيعة الاجتماع والمراسمية، لقد سار وحده وجعل يستكشف بناء الكنيسة، يرنو إلى خشب الأبنوس المُطَعَّم بصلبان ومربعات من العاج الرقيق المطلي، وتوقف قليلا لدى صحن الآمبل تزينه الفسيفساء المرتكزة على خمسة عشر عمودا، ثم مر بالمذبح الشمالي، المزين بالعاج والخشب للسيدة العذراء، المؤدي إلى درج من الممر الشمالي إلى مدفن أحد القديسين تحت الأرض، لقد ود أن يبقى هناك في "بيت الرب" وألا يخرج منه إلى قسوة العالم من جديد!

 

**

تحقق محمد علي متأخرا من أكذوبة الإشاعة التي تقول بأن غالي يروم التوظف في الأستانة كي ينعم برغد الحياة، وأرسل إلى نجله إبراهيم باشا مكاتبة يطلب منه فيها إعادته من زفتى والعفو عنه، ولكن إبراهيم باشا أجابه قائلا بأن السيف قد سبق العذل، شعر الوالي بالجرم الذي اقترفه في حق صديقه ومعاونه الأول، وعلى هذا النحو سَرَتْ الفاجعة وارتعد كَتَبَةُ الديوان من خبر الجريمة واضطربت أحوالهم، وما لبث أن خلف فرنسيس أخاه في رئاسة الطائفة الكاثوليكية، وحزن محمد علي لوفاة وزيره وكبير مُباشِرِيهِ واستدعى نجله إبراهيم باشا يعاتبه على رعونته، وقال له:

- يجب أن تطيب خواطر كَتَبة الديوان من الأقباط، على حين أتولى أنا الحديث مع أولاده.

وشق الأمر بداءة على إبراهيم باشا، ولكن الباشا هتف فيه:

- لقد راح غالي ضحية عنادك..

وتفجر لسان إبراهيم باشا بالألم لحديث أبيه فقال:

- أخبرتني بأن أحصّل منه ضريبة النخيل مهما كان الثمن!

- أكان يجب أن أذكر لكَ بأن القتل ليس من بين هذه الطرق؟ قتلته بالغدارة التي نصح هو بصناعتها في مصر، لقد جَنَّبَنَا غالي مغبة استيرادها من الخارج يوما برأيه السديد، هذه المصانع التي تصنع لجيشنا وجيشك السلاح إنما تعمل من ضريبة فرضها وقنَّنها غالي، (ثم وهو يشير إلى صحن الفواكه العامر الذي أمامه..) وهذه ثمار الأرض التي نَظَّم هو مساحتها بتأسيسه مصلحة المساحة،.. النزق آفتك يا إبراهيم، قد تكون عسكريا جيدا ولكنك تفتقر إلى الحكمة، ما يصلح لساحة الحرب لا يصلح لإدارة المسائل المدنية، هذا جرم لن تشفع لك فيه انتصاراتك في الجزيرة أو في غيرها،.. ماذا يقول عنَّا الخلائق؟ نقتل رجالنا لأجل فورة غضب؟ أم نترك جثثهم في قوارع الطرق كأنْ لا عهد أمان لهم بيننا؟ ماذا تركت لأوباش البدو وطغمة عسكر المماليك؟

خفض إبراهيم باشا رأسه مجللا، وعى الرجل فداحة ما أقدم عليه متأخرا، كان هذا تقريعا لم يعتده من أبيه، وقال:

- إني آسف..

- فلتوجه أسفك إلى كتبة القبط في الدواوين، أخبرهم بأن الغدر ليس من شيمنا، وبأن قتل النفوس جرم لن تشفع لك فيه مثابتك، أو قرابتك مني، إنهم يزعمون أن وراء الأمر تعصباً دينياً، وحَرِيٌّ بك أن تزكي نفسك من هذه الشكوك.

وقال إبراهيم باشا وقد  ازدهى وجهه الأسيف بانتباه عارض:

- إن إبراهيم باشا ليس أقل إنصافا للمسيحيين من أبيه.

دعا محمد علي دوس وطوبيا إلى القصر وعرض عليهما شغل منصب مفتشي أقاليم فقَبِلَا، وأنعم الوالي على الأخوين برتبة البكوية، وقال:

- أنتما أول من يحوز هذه الرتبة من الأقباط،.. وأين باسليوس؟

كان باسليوس في شِعْب الجبل وقد تفجر الغضب في نفسه من آل القصر، وقال لكوثر:

- كيف أقبل البكوية من قاتل أبي؟

ردَّتْ:

- اِقْبَلْها لأجلي، باسليوس، ستكون أول من يحوزها من القبط.

تولى عنها باسليوس وهو يرقب سحابة حمراء بلون الشفق كالجوهرة:

- تقصدين أول من يحوز بكوية مغموسة في الهوان والضِّعَة..

قالت تزين له القبول:

- لقد جعل الوالي من أخويك دوس وطوبيا مُفَتِّشَيْ أقاليم، ماذا يعد لكَ من أفانين الرئاسة التي لا يتصورها عقل؟

هش باسليوس الهاموش، قال:

- لا أريد من وجهه كسرة خبز، ولن أجيبه ولو منحني مال قارون، كان يتخفى دائما وراء أبي، الأهالي يلعنون غالي جامع الضريبة، في حياته وبعد مماته، النصراني الذي سرق القوت وكره المسلمين،.. هذا، في حين يرسم محمد علي هذه الصورة الكاذبة لنفسه، صورة الوالي الزاهد، المحب لشعبه، إنه يتخفى خلف رجاله، يغسل خطيئته بماء شرفهم، لقد سئمت ألاعيبه..

- لقد كان لكَ عنده دلال، قد يعينك وزيرا للمالية خلفا لأبيك، لا تركب رأسك، وليكن جوابك عليه مستخرجا من دفاتر خالك فرنسيس المدونة بحبر الإذعان والخضوع.

نظر باسليوس إلى عيني الغجرية الدعجاوتين وهو يقول:

- وأَنتهِي مثل أبي؟ جثة لا يجرؤ مخلوق على دفنها؟

وضعت الغجرية يدها على كتفه وقالت:

- سمعت صالحة تقول بأن النبي يوسف سأل الحاكم السلطة لنفسه، قال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ، لقد سُجِن ظُلْمًا ولكنه تخلى عن المرارة، وأنت كذلك يجب أن تتخلى عن هذه المرارة، فلتسمع لي: سيرحل الغجر اليوم أو غدا عن الجبل، ما عادوا يطيقون مطاردة جنود الوالي لهم هناك، وهذا موكبهم السائر دائما وقد ضاق بركوده هنا،..لن أستطيع إقناعك بالأمر بعد اليوم.

لَشَدَّ ما يشعر باسليوس بالضعف أمام سيرة صالحة، عجوز الجبل التي علمته أن للحياة وجها آخر، لقد رأى على يديها الخير في فقراء المسلمين مثلما رآه في أثرياء الأقباط، سيخفض الجناح إذن وينحني أمام العواصف الصوادم، واعتذر من أبيه في زيارته إلى مقابر أسرة سيرجيوس في مصر القديمة، بكى أمام شاهده طويلا، وشكى إليه قلة الحيلة، رأى خيال غالي يبتسم وذهب إلى القصر متأثرا، سأله الوالي:

- هل أنت حزين لموت أبيك؟

بدا سؤالا غَبِيًّا، سمع باسليوس أصداء حديث كوثر في مخياله المرهق:"اِقْبَلْها لأجلي، باسليوس، ستكون أول من يحوزها من القبط.."، أجاب باسليوس في هدوء:

- حاشا الله يا سيدي ولم يمت أبي ما دام مولاي الأمير حيًّا، فأنا لا أعرف لي أبًا غير أفندينا.

كتم باسليوس دمعة في نفسه، تخفف محمد علي من ثقل عتاب الضمير بمجرد سماعه للجواب، هتف يقول في مسرة:

- اِخْلَعُوا عليه واغمُرُوه بأنعماتنا وإحسناتنا، الرتبة الثانية (أي البكوية) من نصيبك،  ستكون مُحاسبجي (مدير حسابات) الحكومة المصرية!

ابتسم باسليوس متكلفا، خرج من بوابة القصر وهو يبكي، لقد أدرك أن حقيقته قد تلوثت، وإذا تلوثت حقيقة المرء فلن تعنيه الرتب أو المناصب، لن تضيف إليه إلا الضياع والخبال، عاد الفتى إلى شِعْب الجبل، بحث عن كوثر طويلا فلم يجدها، وقال له رجل شديد البأس:

- لقد رحل الغجر اليوم عن الجبل..

انقبض الوجود مجددا في عينيه السوداوَيْن، لقد رحلت كوثر بعد صالحة وغالي، ابتلعت السحب الحمراء المسيرة الصهباء للغجر، لم يعد باسليوس يتردد على الجبل منذ فقد أصدقاءه هناك، ما عاد الشِّعْب مَلاذه، الأوطان حيث نجد الأهل والأنس، صار نديم القصور المترفة، وسمير الأبهة والنعمة الجديدة، وعند رأس كل شهرين يقصد إلى الجبل كي يستفسر عن عودة الغجر فيُجاب بأنْ لا جديد،..ضمدت الأيام المتواترة جرحه الغائر، عوَّل محمد علي منذ يومئذٍ عليه في كثير من المسائل، رأى الوالي فيه خليفة لأبيه غالي، وحذا هو حذو أبيه، ويوما كان الباشا يجالس رجال حكومته فسألهم:

- أيوجد صنف من الزرع يعطي الفدان منه أربعين أو خمسين إِرْدَبّا؟

أجابوه:

- لا يوجد..

لَمْ يَحْظَ الوالي بالجواب الذي يريده فتململ، وقال:

- لدى نجل المعلم غالي جواب أفضل منكم.

ونادى على الخادم:

- فلتقصد إلى باسليوس، ولتأتني به على جناح العجلة!

أجابه الخادم:

- إنه الساعةَ في داره ، ولعله نائم، مولاي.

- أَحْضِرْه من داره ولو بسريره، ولا تكثر اللغو.

طرح الوالي السؤال عينه على باسليوس:"أيوجد صنف من الزرع يعطي الفدان منه أربعين أو خمسين إِرْدَبّا؟"، أجابه باسليوس:

- نعم يوجد ما يعطي أفضل من ذلك بكثير، وهو النخيل والبصل.

سُرَّ الباشا لجوابه ورضي عليه، وعجب الحضور من رجال الحكومة لعلم باسليوس القبطي بالمكيال الإسلامي (الإِرْدَبّ)، أمر الباشا رجال الحكومة والأمراء والقادة بمصافحته، صافح باسليوس الجميع ولكنه تجاهل إبراهيم باشا عمدا وانصرف، لم يبتلع إبراهيم باشا إهانة التجاهل بسهولة، ولكنه عمد إلى الكتمان في حضرة أبيه حتى حين، حين عاد باسليوس إلى بيته وجد خاله فرنسيس يقول:

- نجل أخي يكتب إلى مجمع انتشار الإيمان طلبا بعدم منح أي تفسيح كنسي لزواجي من قطورة؟

لم يضطرب باسليوس من سماع صوت خاله فرنسيس، ولعله حدس بوقوع مثل هذا اللقاء، قال:

- ليس نجلُ أخيك وحده من كتب إلى المجمع، ولكنْ: نجل أخيك ودوس وطوبيا وأرمانيوس..

تساءل فرنسيس هازئا:

- أراكم تعاونتم على البر؟

رأى باسليوس في استهزائه دون ما يستحق منه الجواب، لكنه رد على سؤاله بسؤال:

- كيف حصلت على موافقة مكسيموس جويد؟

- لقد قربت بين مكسيموس جويد وبين بعض الكهنة المعارضين له أمثال تاوضروس أبو كريم، أراد أن يكافئني على هذا الصنيع الذي أسديته، أرسل إلى مجمع انتشار الإيمان لطلب التفسيح الكاثوليكي، لقد راسلت مجمع الإيمان بنفسي أيضا، سرعان ما قبل البابا ليون الثاني عشر بمطلبي، ولكن النائب الرسولي يتأني مخافة معارضتكم، كان كل شيء يسير على خير ما يُرام، قبل أن تتدخلوا أنتم، عشيرة الندامة،.. حقا من شغلوا منصب أبيهم المغدور لن يُرتجَى منهم الخير، لقد قبضتم ثمن خيانة دم غالي.

غضب باسليوس، مس حديث فرنسيس كبرياءه، وجرحه لما فيه من صِدْق، لقد صَدَقَ فرنسيس في هذه الأخيرة وهو الكذوب، قال باسليوس:

- وكأنك لم تخلف غالي في رئاسة الطائفة الكاثوليكية تحت طاعة الوالي ونجله؟!

- كلانا بلا ضمير إذن، ولكنكم تزعمون الاستقامة.

- فلتصمت يا أفعى!

بدا فرنسيس ثملا ويائسا، قال:

- إن حبي لقطورة مدون في النجوم، لن أتحمل أن أحرم من تناول الأسرار المقدسة، وسأمضي إلى آخر العالم كي أحظى بالتفسيح الكنسي!

رمقه باسليوس بنظرة ازدراء، وقال:

- قطورة لن تتزوج بمزيف مثلك..

- مكانتي اليوم لا تسمح لي بالتراجع عن الزواج بابنة خالتي، لعلي أخسر كل شيء حُزْتُهُ في رمية!

- ملعون أنت ومكانتك، عدو الرب ومُحَرِّض الفتن..

قال فرنسيس في صوت محتقن بالأحقاد:

- الرب لا يكترث بنا،.. إنه لا يظهر أبدا، وثماره أيضا من الصعب رؤيتها، ستسمع من يقول بأنه عطوف ولكنك سترى آلاف العجائز في الطرقات، أصحاب الظهور المحدودبة الذين ينقبون في القمامة عن الفُتات، وأنه كريم جواد ولكنك سترى الفاقة، وأنه عادل منصف وسترى الظلامة، أحكام الجور التي ينطق بها قضاة الأرض دون أن يُخسف بهم، وهلم جرا..

- أغراك النبيذ بالتجاوز يا فرنسيس، بئس من يغرس نفسه في وحلة الشرور ثم يلوم الإله! هذه هي التجربة، الفقر حقيقة، الثراء حقيقة، والله حقيقة.

- لمَ تملك الكنيسة سلطانا على حياة الشعب؟ لماذا يتدخل الكهنة في تحديد زواجي بامرأة؟

- الكنيسة مؤسسة إلهية بشرية، الله يعمل في الكنيسة من خلال البشر.

- الله لم ينصب الإكليروس للنيابة عنه، لا كنيسة دون شعب.

- ولا كنيسة دون إكليروس.

حاول باسليوس طرد خاله الثَّمِل من بيته ولكنه بُوغِتَ برؤية هذا الجندي عند الباب، قال له:

- لن يخرج أحد منكما من البيت، اِلْزَمَا داركما ولا تخرجا منها. 


 اقرأ أيضاً : 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق