استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/05

المعلم غالي يواجه محمد علي باشا

                            الفصل الرابع: المعلم غالي يواجه محمد علي باشا


 

استيقظت البلاد على فاجعة مذبحة القلعة، قرأ المشايخ صحيح البخاري في صحن الأزهر، ترقب الأقباط مستقبلهم في الدور والكنائس وغابت الهواجس خلف الأجراس، تحدث الخلائق عن حقيقة الوالي الذي انفرد بمفاتح الأمور، تعبد غالي في معبده القائم في منزله وهو لا يزال يذكر حديث الأسقف المغدور له بمُفاتَحةِ الوالي في شؤون الضريبة، إنه يتلقن من الكاهن روفائيل بسكي قطائف وآيات ومزامير يسكن بها جأشه، حدثه الكاهن عن بعثته إلى الفاتيكان قبل بضع سنين، وعن الجليل الذي أضافته هذه الإقامة العارضة إلى تجربته الروحية الثرية، وكان الكاهن يتعمد تجاهل التعرض لما يدور من حوادث السياسة إذ هو يراها ضجيجا بلا طحين، وظَلَّا حِينًا على حالهما حتى أفصح له غالي عما في نفسه:

- اليوم يجب أن أفاتح الوالي، أن أعمل بنصيحة أسقف جبل الطير المغدور، لقد استحلَّ مولاي دماء أكابر المماليك، جمعهم في صُرَّة وألقى بهم في نهر الدماء والأشلاء، ما عساه أن يفعل بنا غدا؟

وأجابه الكاهن في هدوء:

- اليوم لا يجب أن تُفاتِحَه، فهو الساعة المستكبر بخُلُوِّ ساحته من الأنداد، إننا نعيش عهد الخوف والرعب ويجب أن يكون ثمة من يستطيعون أن يكرثوا نفوسهم للحياة الروحية فينشغلوا عن هذا الحادث بالجهد البنائي..

- فلتسمع لي، سيدي، فضلا، غالي الذي يتحنث في المعبد ليس غالي الذي يقف أمام الباشا، لقد ابتدعت ضريبة المكس حتى على النشوق، سأقُصُّ عليك شيئا من أثر هذه الشنيعة التي دبرتها: أرسلت إلى جميع القرى والبلدان القبلية والبحرية مُعَيَّنِين يأتون إلى هناك فيطلبون الأهالي، يمنحونهم وزنا معلوما، يقول أهل القرية: إننا لا نعرف النشوق وليس لنا به حاجة، يُقال لهم: إن لم تأخذوه فهاتوا ثمنه،.. هل رأيت فظاعة فوق هذه يقترفها إنسان، سيدي؟ وحين منَّ الرب علينا بزيادة في مياه الفيضان، وعلا على الأعالي، وتلف بزيادته المفرطة الدراوي والأقصاب، وغرقت مزارع الأرز والسمسم، وهلكت جنائن كثيرة بالبر الشرقي لانسداد الترعة الفرعونية هناك، حين وقع هذا كله، قبل زهاء عامين، طلبت من الباشا أن يبتكر أسلوبا جديدا في تحصيل مال الأطيان، طلبت منه أن يحتال ويتمحل، سألته تحصيل دفتر الأطيان على ضريبة واحدة، عن كل فدان خمسة ريالات، غير البَرّانيّ والخدم، وظفت عطية الرب في خدمة الحاكم، قتلت المنة بخنجر الجور، أرأيت مثلبة شَرًّا من هذه يقدم عليها مسيحي، سيدي؟ إنني آسَفُ إذ لوثت ثوبك الطهور بحديثي هذا، ومن الحديث ما يُسيء إلى سامعه، وقد حق لك أن يمتقع وجهك البشوش ويتلوى، سيدي، الكاهن روفائيل، ولكن.. كيف أفصح عن هذا دون أن يمتقع وجهك ويتلوى؟ أجل، إن بداخلي شيطانا، سيدي، ولا يغرنك هذا الخضوع الذي أبديه مرات في حضور الرب وكهنته، لأنه عينه الامتثال الذي أظهره لرجل من طينة محمد علي، رجل أكل الحسد والنهم قلبه، وإذا ساويت بين الرب والإنسان فلأنني شيطان أعمى.. وإذا الامتثال للرب فيه الخير والمحمدة، فللإنسان هو العار، انحناءة ظهر أمام فرمان حاكم جائر لن تغسلها دمعة تأثر بالمزامير، سيدي، روفائيل، سمعت من إخواننا المسلمين من يقول بأن حياة أي إنسان أولها نطفة مَذِرة، وآخرها جيفة قَذِرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العَذِرة، وخلت أن في حديثهم شيئا من الحكمة التي عكسها المسيح في حياته، وغابت عني في تعاملي مع الباشا..

وألقى روفائيل يده على كتف غالي يقول في بشاشة مضيئة:

- فإذا اعترفت بهذا كله فلأن بك نقطة بيضاء، تعلق الرائحة الطيبة بعيدان الريحان الجافة.

وتعزى غالي لحظاتٍ بحديث الكاهن ثم قال:

- بم تنفع نقطة بيضاء في بحر من الظلمات، سيدي، روفائيل؟ (ثم وهو ينهض..) يجب أن أطهر نفسي بالعمل..

واستوقفه الكاهن وقد فطن إلى ما وراء وقفته من رغبته في الحديث إلى الوالي ومصارحته:

- تريث وإلا كان في تصرفك الهلاك..

وأوشك غالي أن يفارق نطاق الكاهن وهو يقول:

- وليكن! عندئذٍ أطهر نفسي بهلاكها!

جمع غالي عزمه على الأمر الجلل مدفوعا بفورة العاطفة، جهز نفسه لوقفة البيدق المعترض أمام الملك، حين دلف إلى القصر سمع الوالي يقول مفاخرا بصوت يتردد صداه:

- اليوم هو قطيعة هذا القُطْر مع أذيال العصور الوسطى، استأصلنا شأفتهم من عند آخرهم وأتينا على بنيانهم من قواعده، أضيئوا الشموع واضربوا المدافع، وأوقدوا أعواد البخور عسى أن تداري رائحة الدم..

وكانت زوجه أمينة في ذهول من تصرفه، فقالت في نبرة خافتة ولكنها مسموعة:

- ما بدأ بالدم لن ينتهي إلى الحق، وإذا أخفى البخور رائحة خطيئة بهذا الحجم فالأرض لا تشرب الدماء..

- أيتها المرأة: كيف أرسل جيشي للخلاص من الوهابيين في الجزيرة العربية والمماليك يتربصون بي هنا؟ لست لقمة سائغة وقد فعلت الصواب.

- تعتقد أنك على الحق دائما.

- ذلك أنني على صراطه أسير.

وجاءه من همس في أذنه بأمر يخص أمين بك الناجي الوحيد من المذبحة:"قفز بحصانه من فوق السور، قُتِل جواده وسَلِمَ هو، وهو الساعةَ في طريقه إلى سوريا.."، فهتف الوالي:

- اتبعوه إلى حيث يذهب ولا تتركوه، لا أريد أن يُقال بأن مملوكا نجا من القلعة، وأن من رقيق  تركستان والقوقاز من استخف بمصيدة عزيز مصر.

وأعرضت عنه أمينة متأثرة، قالت وصوتها يلهج بالبكاء:

- إلهي! من أين لكَ بهذا كله إلا إذا عقدت حلفا مع الشيطان؟ لن تمسني بعد اليوم حتى أموت..

وأمر الباشا الحاجب بإيقافها عند الباب وقال لها كأنما يلقنها أمرا:

- فلتسمعي لي: متوحشو المدنية هم خير من مُتَمَدِّني الوحشية، إنني أقدم العنف وسيلة والتحضر غاية، وأولئك المماليك يقدمون التحضر وسيلة والعنف غاية، ستجدين لهم قصورا فارهة، وحديثا رطبا، ومجالس أنيسة، ولكن أمانة العمل تعوزهم، الخلاص منهم رأس الحكمة، وقد عانى هذا القُطْر من أحابيلهم قرونًا،.. فلِمَ أُرَبِّي الحَيَّات في رَبْعي؟

وقالت ووجهها يطفح بالغضب:

- تتحدث وكأنْ لا مهرب من العنف..

واستخف الوالي بحديثها كأنما نشط في خاطره أمر يعرفه سلفا:

- جعل الله في النساء ضعفا لا يقيم عوجا.

- قل هي الرحمة التي أودعها الله في الرجال والنساء، وهي دعامة الحكم الرشيد.

- بل العدل هو الأساس، ولو أتى من باب العنف..

- لا يهم أيهما أولى بأن يكون العماد إذْ أنت جافيت العدل والرحمة.

وانتظر الحاجب حتى انتهاء حديث الباشا وزوجه أمينة، ثم ترك زوجه تنصرف عن ساحة الجدال وكانت لا تزال تبكي، ودلف غالي إلى قصر الوالي عبر فتحة الباب التي انفرجت بخروج المرأة فقال:

- سيدي، هذا يوم عظيم، إن الأيام العظيمة يجب أن تحمل تحولات كبيرة، يجب أن يحصل في جباية الأموال تغير..

وابتسم محمد علي الذي يبدو أنه قرأ حديث غالي على غير مراده:

- آتني بما استحدثت من فنون الجباية، مناقشة "الميري" المتحصل تسعدني، فلقد عكرت المرأة صفو رأسي..

وارتبك غالي وزاد صمته فوق ما يجب، وتجنب مُفاتَحَة الوالي في أمر الضريبة أَوَّلًا كيلا يخذل تطلعه، قال:

- إنني ألحظ قدوم وفود تركية للاستيطان في مصر، لقد غدت تتملك الأراضي بنحو متواتر وأخشى أن يحل الأتراك محل المماليك..

حدجه محمد علي بنظرة غاضبة:

- وما شأنك والأتراك ووفودهم؟

- أحسب أن لكبير مباشري الباشا الحق في إبداء الرأي في مسائل استيطان الأراضي..

وأجابه الوالي في نبرة اكتسبت مزيدا من التعالي:

- فلتسمع لي: أنتم المباشرين؛ حفنةٌ من رجال تتحاسدون فيما بينكم، تستنضحون المال من الأهلين المرهقين والفلاحين المكدودين لكي تعيشوا في ترف وبذخ، في أبراج من العاج تسكنون وأمامكم صحراء مقفرة، تتفانون في إرشادي إلى الثروة التي في أيديكم، يغتاب الكلُّ الكلَّ، إني أعلم منكم بأنفسكم،.. أصحاب الحَوْل والطَّوْل، وأصحاب الرِّشَى والعطايا، هذه حقائق نفوسكم، لن تعلمني ما أفعل وما لا أفعل.

أضاءت الجسارة نفس المعلم غالي بضياء الإلهام، أمام اتهامات الوالي لجماعته ازداد عزمه على المجاهرة، شعر أنه يقفز إلى الحافة ولكنه حر، لن يعود ضميره يؤرقه كالطفل الغاضب، جامع المكوس لن يخجل من مناجاة الرب بعد اليوم، حامل المبخرة المطيع سَيَفُوهُ بكلمة العدل المزعجة، تنطوي ذاته المعذبة على عظمة غنية، إنه شيطان وملاك، إنه يناجي الوالي فوق بحيرة الدم حاملا عيدانا من الريحان والنرجس، يكاد يجتاز أعتاب المجهول فوق أَكُفِّ الإيمان الجزيل أول مرة، قال:

- سيدي، إني أرى جباية الضرائب وقد زادت عن الحد، أرجو أن يكون وراء نصر اليوم الحاسم بحبوحة يشعر بها المصريون.

- وهل أنت من يقرر الحد؟ تتحدث كجرجس الطويل وأخشى أن يؤول مصيرك إلى ما آل إليه،.. أهذه هلاوس جبل الطير؟ بهذا همس أسقف كنيسة العذراء والكاهن روفائيل في سِرِّك؟

وصمت غالي مندهشا من متابعة الوالي له، وقد استأنف محمد علي في زيادة:

- حدثني الدفتردار عن هذه الأحوال مما رويت له، وأزعجني أن يصدق أحد رجالي الأقربين في خرافات والية، فلتنصرف..

- لست أنصرف قبل أن أرى ثمرة قدومي إليكم.

رأى الوالي في اعتراضه المهذب ما يستحق الجزاء، إنه يضيق ذرعا بأهون نقاش وكان قبل اليوم لا يدخر وسعا في اختلاق أسباب العقاب، وأشار إلى الخدم الذين ساقوه إلى محبسه، خلع غالي بين الجدران طاقيته وخاتمه، تلقى الأمر في هدوء وصبر وجعل يهمس:"لقد عهدت بحياتي للرب، وأستطيع أن أعمل لأجله في السجن كما في الخارج.."، لقد آلَى على نفسه أن يطهرها ولو بالهلاك، فكان ما دون الهلاك مما يحتمل، كانت "النقطة المضيئة" التي تحدث عنها الكاهن روفائيل تتكاثف لتشكل فيضا من الضياء في باطنه، وإذا وجد المرء الشعلة في نفسه استهان بظلام الحياة، وهذه أعواد الريحان الجافة ذات الأريج الخافت توجد جنائنُ من اليقين مزهرةٌ.

 

**

بعد احتجاز المعلم غالي في سجن الوالي صار لنجله البكر دوس حق الرئاسة في الأسرة، نزعت زوجه كاترينا إلى لبس النقاب فعاد لا يُرى منها شيء، وتخفَّتْ فيه عن حضرة أقرب الناس إليها، ونصحت لأولادها بأن يلبسوا ثياب القبط السوداء أو الزرقاء أو الرمادية ذريعةً إلى التميز عن غيرهم، وصارت المرأة تلقنهم المبادئ الدينية بعون من الكاهن روفائيل الذي لم يتخلَّ عن الأسرة المنكوبة في دروس معبد البيت، وقد استبعدت كاترينا فكرة طلب المال من فرنسيس لما كان يتردد عن حقيقة تعلقه السريع بالنساء، فخَشِيَتْ أن يزينها الضعف في عينيه بما لا ينبغي أن تتزين به، وأوعزت إلى نجلها الأكبر دوس على حداثته بالبحث عن عمل يعوض به مورد الأسرة الذي انتهى، وحذرته كذلك من وظائف الإدارة والمساحة وجباية الأموال، وقد اعتبرت المرأة بمآل زوجها وغضب السلطان عليه فلم تشأ أن تورث نجلها معاناة أبيه، وكان دوس كثيرا ما يستخف بنصيحة أمه ويتعلل بالمعاذير وقلة الحرف المرموقة التي يشغلها القبط خارج هذه المسائل، وكيف أصبحوا لا يصلحون لشيء إلا كَتَبَةً في مصالح الحكومة، بعدما فقدوا مزية الإتقان في الحِرَف والصنايع اليدوية وتدهوروا في درجات الهبوط عن أسلافهم من المصريين القدماء، فتقول المرأة له:

- لا وظائف للقبط خارج الإدارة والجباية؟! أقباط منوف يصنعون حصر السمار، وفي الفيوم يستقطرون ماء الورد، وفي أسيوط ينسجون الكتان، فلتختر لنفسك من كل أولاء حرفة تفيد منها.

فيهز دوس رأسه متظاهرا بما ليس في نفسه من الامتثال، كان الغلام شغوفا بجنس الغجر ونسائهم حتى لقد كان كثيرا ما يتابعهن وَقْتَمَا يخترقن الأرياف والمدائن حاملاتٍ على أكتفاهن أخراجا من جلد الماعز أو الغزلان، وكانت هذه الأخراج محتوية على أصنافٍ من الأحجبة والتمائم والأدوية والثعابين جَمَّةٍ، وازداد شغفه بهذه العادة حتى صار يترقبهن وهن يهتفن في ندائهن المتكرر بما عندهن من الأسرار العجيبة والكنوز النافعة،.. ويوما دعا أخواه: طوبيا وباسليوس إلى أن يصحباه في مغامرته الصباحية التي كانت تجري عادة دون علم أمه كاترينا، فلبى طوبيا دعوته راضيا فيما كان باسليوس من حداثة العمر الذي يجعله يبدو بلا رأي، وساروا قليلا في هذا النهار البارد فلم يجدوا مرادهم، هناك هتف طوبيا ساخرا وهو يرقب خُلُوَّ الأفق من الآدميين:

- وأين ذهب الغجر؟

طَوَّحَ دوس بحجر بعيدا وهو يقول:

-لا أعرف لِمَ لَمْ يظهروا..

تدخل طوبيا:

- قل لمَ لم يظهرن..

عاد دوس يعاتب أخاه:

- وكأنني أحضر من أجل نساء الغجر لا لمراقبة ألاعيبهن؟

- خالُنا فرنسيس يصبح مع امرأة ويمسي مع أخرى، وأبونا كان له قبل دروشته الأخيرة ستون جارية، ولو سألته قبل أن يخلص إيمانه إلى الرب لقال بوجه يفضح ما في نفسه: إن المرأة لهي ألعوبة في ذاتها،.. لمَ لا تكون سليل العائلة في نزوعها المعروف؟!

وشعر دوس بحطة الرذيلة في حديث أخيه، فقال محتدا:

- كف لسانك، هذا توجيه من أخيك الأكبر.

ولا يزال طوبيا في استخفافه:

- توجيه من أخ أكبر بلا عمل؟!

وساء دوس حديث أخيه، قال في عزم كأنه يتجشم عناء الاعتراف بأمر لا مفر منه أو كأنه يرفع عن نفسه طائلة اتهام:

- لا عمل محترم للأقباط خارج الجباية..

ومكث طوبيا يقلد أمه هازئا حين تقول لأخيه:"أقباط منوف يصنعون حصر السمار، وفي الفيوم يستقطرون ماء الورد، وفي أسيوط ينسجون الكتان،.."، حتى دعاه دوس إلى الصمت يقول:

- فإذا تخلفت الغجريات عن الحضور اليوم،.. فلِمَ لا نقصد إلى الزايرجة عسى أن نقرأ الطالع؟

وأجابه طوبيا وهو يهب مداه نظرة مُستشرِفة :

- الزايرجة يستوطنون خلف الجبل، وخلف الجبل يربض هذا الذئب الذي يتحدث الأهلون عن فظائعه..

- يمكننا الهرب منه..

- ماذا عن باسليوس؟

ونظر دوس إلى أخيه الأصغر نظرة، ثم قال:

- لقد تلطخت جبهته بتراب مغارة جبل الطير، الكاهن روفائيل يقول مرارا بأنه مبارك، ولن يمسه سوء..

قال طوبيا:

- لاتكرر هذا الحديث لأنه يزعجني..

- صَهْ! هل تغار من طفل؟

- أبي يرى فيه وريثه الوحيد، وأمي تُدَلِّلُهُ كفتاة.

- إذن فلنقرأ طالعه، إذ طالِعُه مِن طالِعِنا..

وقنع طوبيا بوجاهة الاقتراح، قصد ثلاثتهم إلى ما وراء الجبل كخيالات مستطلعة تقتحم نطاقا خطرا، وتوارت نزعة الخوف خلف جسارة لا تعي العواقب، رمقهم قارئ البخت مستطلعا، ثم طرح سؤاله على دوس وطوبيا متجاهلا الصغير باسليوس:

- أيكما يريد قراءة طالعه؟

وعجبا أشارا إلى أصغرهما فقال له المتنبِّئُ وهو يطالعه من عل وقد استخف بمنظره:

-  اقرأ فاتحة الكتاب إن كنت تحفظها..

واعترض طوبيا في تهذيب يقول:

- إننا أقباط، سيدي، وليس لنا بكتابكم علم..

وكان دوس يحفظ الفاتحة من طول ما سمعها تتردد على ألسنة أصدقائه المسلمين فلقنها لأخيه الصغير الذي رددها، ثم قرأ المنجم على الصغير آية من سورة الأنعام:" وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ"، ووهَبَهُ ورقة كان قد دُوِّنَ عليها جدول من مئة خانة، وفي كل خانة حرف من حروف الأبجدية العربية، أغمض باسليوس عينيه ثم وضع إصبعه الصغير على حرف من الحروف، قرأ باسليوس الحرف الذي وقع عليه إصبعه ودَوَّنَهُ في ورقة فكان حرف الطاء، كرر الطفل هاته العملية على الحروف المرتبة في عمود رأسي واحد، ثم على العمود الخامس إلى يمين العمود الأول، ومثل جوهرة تشكلت عبارة من الفوضى فقرأها المتنبِّئ:

- طفل الجبل سيصير غدا في القصر..

تهلل باسليوس في براءة نقية جللها شعاع الشمس، براءة كبحها حياء لم يتلوث بعد بغبار الأيام، أوغرت النبوءة قلب طوبيا الذي كان يرى في نفسه الأحقية فوق أخيه، وحدج الأخ أخاه في ضغينة - كأنها ابنة خطيئة قابيل وهابيل الأولى - قبل أن يترامى إلى الأسماع عواء الذئب فيَنْفَضَّ كل امرئ منهم إلى شأنه، وهرعوا بعيدا واضطربت نفوسهم وأنفاسهم، ونسيَ الأخوان باسليوس الذي تعثر في الجبل، وأدرك دوس خطيئته في التقصير عن حماية أخيه فجعل يقول:

- فقدنا أخانا..

كان طوبيا يلهث، تساءل:

- ماذا عن نبوءة المُنَجِّم؟

- المُنَجِّم؟! إنه دجال ومُخَرِّف،.. لقد ركض أول سماعه لعواء الذئب في الجبل مثلما ركضنا، ليس في قلبه إيمان بشيء ولا معرفة بمستقبل، إنه يقطن الجبل كي يوهم من لا يعرف بكرامته في صداقة الذئب، ولكنه أمام أقل حضور له رِعديد فَرَّار، والطيور لا تبني أعشاشها في فم الأفعوان.

نظر دوس إلى الجبل وقال في أسى:

- يجب أن نعود إلى هناك كي نرى مصير أخينا.

أجابه طوبيا:

- إذا عدنا لن يكون لنا مصير.                              

تقدم دوس رغم تحذير أخيه إلى الجبل عائدا، رأى في خياله أمه كاترينا تبكي قرة عينها فينفجر منها الدمع، إنه (دوس) يتجهز ليرى شنيعة الذئب وفعلته في أخيه، احتواه ظل الجبل الممدود حتى لم يعد يره طوبيا من موقعه، تسمر دوس أمام المشهد المهيب الذي ابتسرت الظلال معالمه، لحق طوبيا بأخيه دوس يريد أن يقف على حقيقة ما يجري، ما هذا إلا باسليوس يمسح على فروة الذئب ويلاطفه دون أن يمسه سوء، إنه يستأنس الحيوان المفترس ويهيم في براءة آمنة راضية، هناك هتف دوس:

- صدقت أيها الكاهن روفائيل، وبوركتِ أيتها العذراء..

شحبت جبهة طوبيا من الجهامة والكدر، احترق بمرارة الغيرة التي منعت عنه ضياء الإلهام البديع، ركع متنبئ الزايرجة الذي عاد إلى الظهور بعد فورة الهرب قبالة الصغير باسليوس يقول:

- سامحني إن لم أقدرك حق قدرك، سيدي، أيها الصالح الصغير.

كانت الغجريات قد حضرن، وألقت النسوة بأخراجهن عجبا، قصدن إلى ما وراء الجبل فهتفن لرؤية الطفل وهو يلاطف الذئب:

- إنْ هذا إلا سحر،.. سحر روحاني كريم، وذاك الطفل المبارك سينضَمُّ إلينا الساعة وإلا استخدمه الضالون في أغراض النكرومانسية.

عرف دوس منهن أن السحر في عُرْفِهن ينقسم بين روحاني: وهو السحر المحمود الذي تُستخدم فيه وسائل غير منافية للدين، وآخر شيطاني يكون لغرض سَيِّئ وقصد خبيث، وأما النكرومانسية فهي سحر استحضار الموتى،.. انزعج دوس من أن يكون باسليوس موضوع حفاوة الغجريات الحسناوات، وبات الغلام شريك أخيه طوبيا في إضمار الضغينة عليه، رأى طوبيا كذلك في حديث الغجريات جزافا يرجم بالغيب، وكره ما فيه من خزعبلات منكرة، وألاعيب مخادعة، نزع دوس باسليوس من أيديهن متعللا بضرورة الرجوع إلى البيت، وعلى أجنحة ألسنة الغجريات اللائي كن كثيرات الترحال والتنقل شاعت قصة الطفل الذي استأنس الذئب خلف الجبل حتى وصلت أصداؤها إلى قصر الوالي، وقد قال الوالي :

- آتوني به..

هناك أوضح المعلم سمعان له نسب الطفل، وكان يجتهد في التوسط لصديقه غالي:

- إنه نجل المعلم غالي، ولا يليق أن نأتي بنجله إلا أن نعفو أَوَّلًا عن أبيه..

تساءل الوالي وهو يمرر ناظِرَيْهِ في نقش القصر حائرا كأنه يوازن بين غرضين متعارضين:

- وكم لبث غالي أبو طاقية في السجن؟

- لقد لبث فيه بما يكفي، سيدي.

تحرر غالي يومئذٍ من أصفاد محبسه، تخلصت أطرافه من زرد السلاسل، كان الرجل كثيرا ما يقول بأنه لم يشعر بضربات السوط على جسده لأن الرب كان حاضرا في فؤاده، وأن قروح جسده قد هانت أمام ما شعر به من سلام عميق، قصد غالي إلى قبر جرجس الجوهري الكائن إلى جوار كنيسة مارجرجس، اتخذ من الكاهن روفائيل رفيقا له في زيارته هذه، وقال له الكاهن حين وصلا إلى القبر:

- وكيف أحوالك؟

- لقد تطهرت، سيدي، روفائيل، الألم يأتي من داخل الجسد لا من خارجه، من النفس التي تعاني لا من حوادث الدهر العوارض (ثم وهو ينظر إلى مثوى خصمه القديم في رثاء وعطف) كان جرجس الطويل عظيم النفس، ويوم فعلت الصواب شبهني الناس به.

وأثنى الكاهن على حديثه مضيفا:

- صدقت! سَلَّمَ جرجس كل حجج ممتلكاته للبطريركية في سبيل أن تصرف منها على الكنائس والديورة قبل وفاته بأيام، إن زيارتك له حاملا أصص النبات تعني الكثير، ولكن لا تنغمس في الحزن فيشغلك عن ملكوت الرب.

وحامت الطيور فوق رأسي الرجلين تغشاها أضواء الصباح الوانية فأردف روفائيل:

- الوالي يطلب رؤية باسليوس..

وانتفض غالي فزعا:

- لماذا يصر المنكود على أن يلوث البقعة البيضاء في حياتي؟

وضع روفائيل أصيص الريحان حول شاهد القبر وهو يقول في هدوء:

- تَنَزُّلًا؛ لَبِّ مَطْلَبَهُ، لأجلي ولأجل الرب، لقد صرت منذ آب 1805م واحدا من أكثر الرجال نفوذا في البلد، ومن أهم الأراخنة متقدمي الشعب، ولا يجب أن تخسر هذا كله لأجل بطولة من ورق،.. إنك ما خرجت من محبسك إلا لأجل هذا، أطِعْهُ إذا طلب منك الجباية المعقولة، وأعطِ ما لقيصر لقيصر..

- خيرٌ لي أن أعود إلى الحبس إذن، كأنك تطلب ممن تعلم السير أن يتعثر من جديد، سيدي،.. ما كان محمد علي رجلا عادلا أبدا!

- هذا حق، ولكن ميزانه لا يظلم القبط، ولم تشب قط إرادته الفعالة عاطفة دينية أو تعصب مذهبي أو جنسي، إن هذا كله مما يُحمد له، غالي، إنني لا أبالغ إذ أقول بأن محمد علي حطم نيران التعصب المستطير في هذا القُطْر وأقام  محله هيكل التساهل، ثم ماذا كان قبله إلا مماليك هم أضل منه سعيا؟ وهؤلاء وجهاء القبط في هذا العصر الأغبر من إبراهيم الجوهري وملطي يوسف وواصف مصري وفلتيوس حنا وهم يسعون إلى تلطيف مُيولهم وتخفيف قبضتهم على الأهالي..

وقال غالي منفعلا وآسفا:

- ما أشبه اليوم بالبارحة!

وأصر روفائيل على موقفه:

- بل اليوم هو خير من البارحة، فلتسمع لي، غالي، ولا يَجُرَّنَّكَ الطمع إلى طلب المحال، وكل تغيير يتطلب الأطوار: لقد سُمح لرؤساء الطوائف المسيحية بإقامة القداس علنا، وأُذن لنا ببناء وتجديد الأديرة والكنائس ودق النواقيس، أُلغيت قيود الزي الغبية، ما عدنا مجبرين على الالتزام باللونين الأزرق والأسود، وصار بوسعنا لبس العمائم البيضاء وشيلان الكشمير الملونة والثمينة إن أردنا ذلك، لم نعد ملزمين بتعليق صليب في رقابنا، ومن علق الصليب في رقبته أمن في سيره، سُمح لنا بركوب البغال والخيول، ولم يكن مصرحا لنا قبل هذا بأكثر من ركوب الحمير، ولعلك لا تزال تذكر أصداء كل هذا،.. خلعنا الجلاجل النحاسية التى كانت تسبب ازرقاق عظام الترقوة، ألا تذكر يوما كنَّا نسمى فيه بـ"العظمة الزرقاء" لأجل هذا؟ ألم تترجل عن دابتك حين حدث وقابلت تُرْكِيًّا في الطريق فمررت به حاملا نعليك في يديك؟

- قدمت الأمة القبطية إلى محمد علي عند دخوله أرض مصر نحو مئتي ألف كيس من الذهب لتنظيم جيشه وتهيئة ملكه الكبير، لقد شاركتُ في جمع هذا بنفسي، إنه مَدين لنا.

وضع الكاهن يده على قلب غالي الذي كان ينبض في سرعة وفورة:

- صدقني، هذا حديثُ قلب منهك لا بيانُ عقل رشيد.

في عشية اليوم صحب غالي نجله باسليوس إلى قصر الوالي، واستقبله الباشا في نبرة متضخمة رخيمة كأنها تصدر من جوف صندوق:

- طفل الجبل العظيم الذي استأنس الذئب! ربَّاه! هو نفسه نجل الغشاش غالي! هذا لأن أولاد العميان يولدون مبصرين..

وكان هذا استقبالا أزرى بمثابة المعلم غالي في عين نجله حتى انطوى الرجل على تذمر مكتوم، إنه حيال الاعتراض عاجز، ضحك الوالي وحده ثم نزع طاقية باسليوس الزرقاء من رأسه وهو يقول:

- فإذا حدث وبعتها فمن ذا يشتريها؟ وبكم تقدّر؟!

أجاب باسليوس في عزم:

- أنا المشتري، أدفع ألف كيس ثمنا لها.

تطبع محمد علي بحس طفولي كي يجاري الصغير به، تساءل عجبا:

- أتقدّر قلنسوتك بكل هذا المبلغ؟!

وبادره باسليوس إلى القول، كأنه كان يدخره:

- إن القلنسوة التي يكون محمد علي باشا دَلَّالها (بائعها) تُقَدَّر بأكثر من ذلك.

أعجب محمد علي بحديث باسليوس وأكبر فيه فطنته، قال وهو يعود إلى جلسته:

- ما عفوت عن أبيك إلا بسببك، حقا إن الولد سر أبيه، (ثم كأنه يتذكر شيئا..) سيكون تعليم الطفل على نفقتي الخاصة، هل تعرف أنني حين توليت زمام الأمور لم يكن في هذا القُطر مِئتان يجيدون القراءة والكتابة؟!

وهذه مبالغة أخرى من مبالغات الحاكم، هكذا تحققت نبوءة قارئ الزايرجة، سينبت باسليوس في حوض القصر المنعم،.. فما عسى ينتظره في مستقبل أيامه؟ 

 


 اقرأ أيضاً : 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق