استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/05

باسليوس ينتظم في مدارس السادة


   الفصل الخامس: باسليوس ينتظم في مدارس السادة



 

انتظم باسليوس منذ يومئذٍ في مدارس السادة والبكوات، امتاز بهذا عن أخَوَيْه دوس وطوبيا اللَّذَيْنِ غرر الحقد بنفسيهما، سعد قلب أمه كاترينا التي كانت من القليلات المُجيدات للقراءة والكتابة في الطائفة القبطية، أورثها هذا حب العلم وتقدير أصحابه وإن لم تخرج الدروس التي تعلمتها عن مزامير داوود (الزبور) والأناجيل ورسائل الرسل، بدا الطفل غريبا وسط أترابه بقلنسوته الزرقاء وهيئته المصرية الأصيلة، ما أن يدرك الأطفال حقيقة نسبه إلى غالي حتى يبدأون في الهمهمة، بعضهم يقول سرا:"ضرب الوالي أباه بالكرباج.."، والآخر يرى في اسمه ذريعة للسخرية:"غالي أبو طاقية ابن سيرجيوس ابن فلتأوس.." (يردد باسليوس كثيرا أن اسم أبيه الأصلي هو إسحاق سيرجيوس، وليس غالي أبا طاقية إلا اسما اشتُهِر به والده دون أن يجد من أترابه استجابة)، وفريق ثالث يشفقون عليه ويدعمونه، يعرض باسليوس عن الجميع في براءة نقية، إنه يستطلع همساتهم وراء حاجز كالبلور، بدأ الوالي نظام التعليم بنظرية الهرم المقلوب لطموحه الإمبراطوري، شرع في تجهيز الدراسة العسكرية قبل الدراسة العليا التي سبقت كذلك الدراسة التجهيزية والأولية، وفي الإمبراطوريات القوية والقديمة فالجندي أسبق مكانة وأوفى مثابة من المشتغل بالكيمياء، ولكن أولاد السادة يتلقنون العلوم الطبيعية والرياضيات بعد عهد الكتاتيب، وبعد الفجر حين يقصد باسليوس إلى مدرسته تراه يترقب الأهالي خلف الجبل وهم يحاولون تهريب كبش أو جاموس، إنه يتلكأ في مسيره إذ هو لم يندمج وجدانيا في حياة مدرسته يوما، إن شغفه لا يزال متصلا إلى عالمه القديم وإن انهارت علاقته بأخَوَيْهِ، بين عذابات الأهالي ورغد حياته يتأذى شعوره، يدرك باسليوس العلاقة بين وظيفة أبيه وبين محنة الأهالي، يهابه الخلائق بسبب معرفة الوالي به ويسألونه التوسط لهم عنده، يساعدهم الطفل مرات بصَدِّ أذى الذئب عنهم، إنه يخترق الأنحاء في بهجة مُغامِرة ساحرة، بخطواته القصار المتتابعة التي تتفادى الزهور ولا تخطئ القصد، نور القمر الخريفي يفرش البساط تحت قدميه، وتحت قدميه يشع دعاء الحب،.. إنه يحفظ من المزمور السادس عشر مقطعا ويردده:

 

 جعلتُ الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع..

لذلك فرح قلبي، وابتهجت روحي، جسدي أيضا يسكن مطمئنا..

لأنك لن تترك نفسي في الهاوية، لن تدع تقيك يرى فسادا..

تعرفني سبيل الحياة، أمامك شبع سرور، في يمينك نعم إلى الأبد..

 

وذاك اليوم رأى من الأهالي طائفة وهي تسلخ هذه الشاه حول النار، ودَعَوْهُ إلى الطعام فأجابهم في بسمة رائعة:

- إنني صائم، إنه الصوم الكبير وفيه لا نطعم اللحم أو اللبن أو البيض أو الجبن وحتى الزبدة..

كان السراب قد هيمن على الأفق وساد في الأرجاء، تبدو الأشياء البعيدة جُزُرًا في وسط بحيرة عظيمة يفصلها عن الرائي متسع من الماء، وهذا الماء الخيالي يعكس صورة المرئيات الواقعة في أفقه كما تعكسها البحيرة الحقيقية، كلما اقترب باسليوس من الأهالي يضيق الماء شيئا فشيئا، وبلغ من الضيق قُصاراه فتلاشى بالمرة، سأله رجل منهم في مسحة سخرية:

- علام تعيشون إذن؟

وأجابهم باسليوس بجواب كان قد تلقنه من أمه كاترينا وحفظه من سبيل التكرار:

- نقتصر في القوت على النباتات والبقول، ونحتفل بـ"قبل المجيء" وهي الأربعة آحاد السابقة على عيد الميلاد، هناك أيضا صوم يونان مُدَّتُهُ ثلاثة أيام، وصيامه تذكار لصوم نينوى الذي سببه نبوءة النبي يونس.

وقالت امرأة عجوز، لها وجه جدة، وتحمل عِقْدًا من اللازورد:

- يجب أن تأكل معنا، إنه لحم حنيذ، أيها الصغير، رائحته تغري شهية الذئب الذي لا يخشى غيرك!

وأجابهم باسليوس في مسحة تواضع وإقرار:

- إنني أَصْدُقُكم القول إذ أقول: إن الذئب يخشى الرب ولا يخشاني..

وتحدث رجل آخر من متحلقي الشاه المسلوخ:

- صدقت، جنود الوالي أشد خطرا من الذئب وشَرٌ سريرةً، ذلك أنهم لا يخشون ربنا، وقد ملكوا العقل مع إصرارهم على إتيان الجريمة، وأما الذئب فمنقاد بالغريزة وحدها،.. أيها الصغير: فلتحدث أباك في أن يرحمنا من الضريبة، وأن يَكفيَنا عناء التخفي وراء الجبل.

وأطرق باسليوس طويلا، لَشَدَّ ما جرح الحديث الأخير براءته الهشة النقية، ابتسم لهم أَسَفًا، كأنه يجتهد في أن يعدهم بصمته الخجول بما ليس في وسعه الوفاء به، لم تنقضِ إلا هنيهة حتى اضطرب الوقوف لسماع أصوات الجند، لاح جامعو الضرائب من القواصة وأخذوا يصادرون الشاه المسلوخ، وسرى نداء يحفظه من في الجبل كما يردده من في القرى يقول:

- لا تعطوا الظَّلَمة شيئا من المظالم التي يطلبونها منكم.

 هناك وقف باسليوس إزاءهم وهو يقول نابِهَ الحس:

- دعوهم وشأنهم، لا تنغصوا حياتهم في ظل الجبل بجباية متعسفة.

وكاد يقصيه الجندي البدين في استهانة قبل أن يصرخ فيه جندي آخر وقد تعرف إليه وهو يقول:

- رويدك! إنه مدلل الوالي الصغير، نجل المعلم غالي،.. يزعمون أنه مبارك.

كان في الجندي البدين نَزَقٌ وطيش، اقترب من باسليوس منطويا على الشر يريد أن يزيحه عن قصده، تدخلت العجوز فألقت على الجندي حفنة من التراب فدفعها، هوت العجوز على العشب وانحل من عنقها حبات عِقْد اللازورد، أغمض الأهالي عيونهم وتسمر الجنود، دوت في الأفق صرخة هائلة خلف السراب، فزع لها الصقر الشاهيني فوق رأس الجبل، واضطربت لها أحجار الأرض، وقال أحد الأهالي:

- رباَّه! إن هذه إلا صرخة امرئ بالغ،.. صرخة جندي..

تساءلت المرأة العجوز في لهفة حية وهي لم تبارح الأرض بعد:

- هل نجا الصغير؟

كان السراب قد حجب وقائع المشهد عن الأنظار، وحين اقترب الجنود من صاحبهم البدين وجدوه يصرخ، ها قد عض الذئب قدمه التي أدميت، وأما باسليوس فقد توارى منسحبا،.. هتف الجنود:

- لقد هرب الطفل..

وشرع الجنود في اقتفاء أثره لولا أن قال قائل منهم:

- اتركوه، سنشكوا أمره الهين إلى الوالي،.. اليوم يجب أن نجهز على ذئب الجبل!

تخفى باسليوس في الضباب وبين الغجريات السائرات اللاتي استقبلنه دون علم منهن بما حدث في الجبل، تعلم منهن أسماء عصافير الشوك:  العصفور الأصهب الصادح، والحسون والفينيجيل وأعجب بالعصفور ذي الطوق الأشقر المعروف باسم بيفاسيسي، وما يزال يسير مبتعدا حتى عاد إلى بيته، كان أبوه المعلم غالي جالسا إزاء أحد الكُبراء وهو إسماعيل أفندي، وكان الأخير ذا مظلمة فجعل يعرضها عليه وهو يقول:

- سيدي، المعلم غالي: استولى الوالي على داري عَنَتًا وعنوة، استشرت صحبتي فاقترحوا عليَّ أن أكتب عَرْضحالا، وأن أقصد إلى بيتكم لما كنتم من أخصَّاء الباشا، لعل شفاعتكم تجد عنده قبولا.

أراد باسليوس أن يفاتح أباه في أمر الجنود الذين سمعهم وهم يتناوشون عاقدين العزم على قتل ذئب الجبل، ولكن غالي وجد في تلبية مطلب إسماعيل أفندي أولوية على حديث نجله، قصد غالي إلى قصر الوالي صحبة إسماعيل أفندي لتقديمه والاستشفاع له، إلاَّ أن الباشا حالما رآهما أدرك أنَّ المعلِّم غالي جاء راغبا في الاستشفاع للآخر، وقال لغالي:

- لن ألبي لك اليوم مطلبا، لقد تسبب نجلك المشاكس في أذى الجندي، أكل ذئبه النهم قدم الجندي المسكين، ولن تغيب الشمس قبل أن يُقتل ذئب الجبل..

وهكذا رفض الوالي حتى الاطِّلاع على العَرْضحال، وردَّ الرجلين على أعقابهما في الساعة نفسها، انزعج غالي من مثابته التي تزعزعت بسبب باسليوس، سعد دوس وطوبيا بالخبر، حين سألهما غالي عن أخيهما أجابه طوبيا:

- باسليوس مشاغب مثل خاله فرنسيس، ستجده عنده..

 بحث غالي عن نجله في محيط بيته وحين لم يجده هناك؛ اتجه إلى بيت أخيه فرنسيس عسى أن يجد الصغير عند خاله، لم يجد في البيت إلا قطورة الباكية التي طفح وجهها بما في نفسها، واستأخرت هيئتها ما في نفسه من سؤال:"هل حضر باسليوس عندكم؟"، وتركها تتحدث أوَّلًا فقالت:

- فرنسيس عاد يخونني مع الطلاينيات الحسناوات،.. جعلني أتساءل في كل يوم: هل أنا قبيحة دميمة؟ لقد تعطرت بأفضل عطور العرب، وتزينت بخير ثيابهن دون أن يسد هذا شيئا من شبق الجوع الذي في نفسه!

دَلَّتْهُ قطورة على الكراخانة التي يتردد عليها أخوه، استرشد غالي بتوجيهها وكانت المرأة لا تزال تبكي، وقال غالي لها حين بلغ أول محيط الكراخانة:

- ابقَيْ هنا ولا تزيدي فيحسبك الجاهل غانية..

كانت قطورة قد أومأت بالامتثال في لحظة نأت بها قليلا عن حزن دفين، فما لبث أن دفعت غالي خطاه إلى الكراخانة، منقادا بالطهرانية ولج مباءة الخطيئة، جذب الأخ أخاه آخذا بلحيته حتى عاد به إلى معبد بيته ولم يزل بعض جسده عاريا، حتى إذا خلا الأخ إلى أخيه تهيأ لغالي أن يعاتبه ويزيد في عتابه حتى استفاق فرنسيس من ذهوله إلى التذمر، وذاك وجهه يحاشي النظر إلى أخيه فيقول :

- فلتسمع لي، إن كان لكَ أذنان للسمع، إذْ إني سأظهرك على رأس البلاء، ما ولجت بحيرة الخطيئة إلا بسبب يأسي من ثمرة الاستقامة: إن مجمع انتشار الإيمان لن يمنحني قط إشهار الموافقة على الزواج بابنة خالتي قطورة، وقف رجال الرب للحيلولة بين عصفورين، غَضُّوا الطرف عن المظالم الشنيعة التي يحفل بها هذا الوجود، ومنعوا صيرورة مياه النهر وحركته بعد أن وضعوا فيه جذعا فاسدا، لقد فطنت إلى هذا من رسائلي الكثيرة إليهم خلال السنوات التي خلت، لقد طلبت تفسيحا لهذا الزواج فأخفقت، كذبا قلت بأن آل قطورة سيُحرقونها حية لو لم يفعلوا، وعبثا طلبت مظلة الرب واعتراف رجاله، عائلتنا ترفض الإقرار بالزيجة وتضع العصا في العجلة، إنهم يراسلون أرباب الشأن كي يمنعوا عني مظلة الرب، حتى نجلي الوحيد أرمانيوس يكره زواجنا! لقد بت أبغض هؤلاء الكهنة الذين يعطلون كل شيء بدعوى امتلاكهم للحقيقة وحراستهم لبوابة الرب، كم أتمنى أن أطعنهم بالحربة في صدورهم كما طعنوني بعنادهم..

قال غالي:

- إن فشلك في إيجاد التفسيح لا يصح أن يُتخذ ذريعة للخيانة.

وتساءل فرنسيس وقد أمكنه النظر إلى أخيه أخيرا:

-  لماذا أراعي حرمة زيجة لا يعترف بها أحد؟

وضع غالي يديه على كتفي أخيه كأنه يوقظ فيه روح النخوة:

-  إن قصتك وقطورة لهي رواية حب رائعة حقيق بها أن تكتمل.

دفع الغضب بصمت فرنسيس فقال هازئا:

- رواية حب رائعة لا تجد اعترافا لها في الأرض أو في السماءات!

وقال غالي لأخيه في حرارة إيمانية صادقة:

- فلأصحبنك إلى معبد البيت إذن، وفيه نقيم القداديس التي تطهر روحك، وتزكي فيك باعث الحور بعد الكور..

- القداديس التي لا يحضرها إلا أنت ونفر تحصيه أصابع اليد؟ هذه التي تجر علينا الشكاوي وخلافات المسلمين والأراتقة؟ أيها القَيِّم القبطي: إذا أردتني معك فلتفعل ذلك عنوة كما طردتني من الكراخانة عنوة..

وكان غالي يدري من طبيعة أخيه فرنسيس أنه يناديه بالقَيِّم القبطي إذا شعر نحوه بجفاء، وبإسحاق سيرجيوس - اسمه الأصيل - إذا كانت حبال الود بينهما موصولة، قال غالي:

- بالشدة ندفع العصاة عن أوكار الخطيئة، وباللين نحبب إليهم طريق الخيور.

اعتبر فرنسيس بحديث أخيه أخيرا وانغمس الشاب معه في الطقوس، أقيمت الرتبة الإلهية في معبد المنزل، وتوارت نفس فرنسيس عن نفسه وراء المراسم القيمة، متلألئ وجهه الشاحب وراء القناديل المضيئة، تخطو قدماه فوق حصير السمار وتتبدل نظراته بين صور القديسين، وهذه هي المحبة تزلزل أسوار يأسه عابرا حاجزا من الخشب كي يصلي، كي يناجي الرب دون وسطاء، كي يناجي من له سلطان على المستحيل،.. عند الليل حضر باسليوس أخيرا، بدا الطفل متأثرا بأمر ما واحتمى بخاله فرنسيس عن شدة أبيه، وَبَّخَهُ غالي بسبب واقعة قدم الجندي وسأله:

- أين كنت طوال اليوم؟

أجاب باسليوس في خجل:

- عند الجبل، (ثم وهو ينفجر في البكاء..) ولقد رأيت جنود الوالي وهم يقتلون الذئب..

**

استدعى محمد علي بعد عودته من أسفاره القصيرة؛ غالي وأخاه فرنسيس في القصر على وجه العجلة، ظن المعلم غالي أن الوالي سيناقشه في مسألة مسح الأراضي الزراعية التي حدثت هذا العام، وفي شؤون مصلحة المساحة التي أنشأها لهذا الغرض، وكذا إيرادات الحكومة، ترتيبات حساب المصالح والأقاليم، ضريبة الأعتاب والرؤوس، وضريبة النخيل، وحسابات الجهادية.. إلخ، جهز الرجل جوابا على كل اعتراض مُتَصَوَّر وحَفَلَتْ نفسُه بهواجسَ قلقةٍ، على أن الوالي استقبله وأخاه في رضا فوصف فرنسيس بـ"حضرة الباشا معلم فرنسيس الحائز رغبتَنا"، ووصف غالي بـ"صاحب الصداقة رئيس المعلمين القبط"، كأنه بالثناء يمهد للغرض، بدا في مزاج رائق، يشغله خاطر وحيد، خاطر بعيد من كل تحضيرات غالي، قال:

- أشعر بأني مغمور بجزيل معروف الفرنسيين، التنظيمات الجديدة التي صارت، وتلك التي ستصير، كانت جميعا بواسطة رجال فرنسيين، لرجالهم في عنقي جميل غير مردود، القنصل النمساوي رجل لطيف كَيِّسٌ كذلك، يحدثني عن الرعايا المذهبية التي تشرف عليها بلاده (النمسا) في بلادنا، وكذا ما تفعله من حماية الإرساليات الفرنسيسكية والأقباط الكاثوليك في صعيد مصر، وإنني أبحث عن حل مشكلاته، ولقد أوصيت بحماية رهبانه النمساويين، رهبان دير فرشوط ورهبان توسكانا، أثناء توجههم إلى صعيد مصر، وتقديم المساعدات اللازمة إليهم، وأفكر في السماح لهم بالسير والتفرج والسياحة..

وبادر فرنسيس الوالي إلى القول كأنه فطن إلى مرامه فأراد أن يسارع له فيه:

- ما أجمل رد المعروف بمثله، سيدي الباشا!

- أجل، هذا حق، فلتَتَّسِعْ مَسامعكما لحديثي ولْتَهَبَاني عقلًا متفتحا: نصحني أحد قُوَّاد الجيش بِضَمِّ أقباط مصر إلى بابوية رومة، وما أسرع ما وجدت في نصحه الوجاهة! سيرى الإفرنج في تصرفي فعلا حميدا يوزاي معروفهم ويزيد، لعلي إن حققت هذا شعرت بالسلام، وقد جئت بكما لتساعداني على تمهيد هذا السبيل الوعر.

ما لبث أن دخل الأخوان: غالي وفرنسيس في حيص وميص، تبادلا نظرات غنية بالدلالات، تدخل المعلم غالي في حزم وهو يبدي قلة الحيلة التي ترفع عنه عناء التكليف:

- معذرة، سيدي، مسألة الإيمان لا يصح أن يعبث بها رجلان فقيران مثلنا، إن تأثيرنا لمحدود وأما أشياعنا فقليلون، هم في مصر وأخميم يعدون على أصابع اليدين، وخَيْرٌ لِدِينِ الناس أن يُترَك للناس.

خرج محمد علي عن هدوئه وقد أحبطه جواب غالي حقا وهو يقول:

- لستما فقيرين أبدا، وإذا أعنتكما فلن يكون تأثيركما موضع شك، ألفا قبطي غيروا مذهبهم إلى الكاثوليكية في عام 1741م، بعد اعتناق أسقف القدس إثناسويس للمذهب الكاثوليكي، وإذا نجح هذا فالمزيد منه قد ينجح.

وقال فرنسيس وكان دون أخيه معارضة للأمر:

- إننا نقصد الفقر إلى الرب، مولاي،.. إن مسألة استمالة الطائفة جميعا إلى مذهب كنيسة روما لن تنتهي دون قلاقل وسفك دماء كثيرة، إن اسم فرنسا الذي يُحترم في أوروبا كلها والشرق وفي الدولة العثمانية محتقر من قبل أهالي الصعيد، الأقباط الأرثوذكس يمقتون البعثات الكاثوليكية، ويصفون أعضاءها بالكلاب.

صب الخدم لثلاثتهم أكوابا من النعناع الدافئ في كؤوس فضية، وتساءل الوالي وقد غاب وجهه لحظةً وراء لمعة الكأس:

- لا تسيئا فهمي إذ إنني أحب القبط ولست أريد بهم الشر بهذا، إعجابي بكما انعكس أثره عليهم، ولقد قربت منهم جماعة كبيرة، وأخلصت لهم فأخلصوا لي في خدمتي وخدمة البلاد، سلمت إليهم مقاليد الدواوين فأحسنوا العمل وأحكموا التدبير،.. ماذا عن اتحاد الكنيستين؟

وأجاب المعلم غالي متحفزا:

- لقد فشلت فكرة الاتحاد بين الكنيستين: القبطية الأرثوذكسية والكاثوليكية إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر.

- وما العمل إذا؟

وأجابه فرنسيس:

- يجب أن يكون الأمر بسياسة وتدرب.

وعاد غالي إلى الحزم وهو يقول منفعل الخاطر حتى دَوَتْ صيحته في الأرجاء:

- بل يجب أن لا يكون الأمر أبدا، إن محاولات من هذا النوع باءت وستبوء بالفشل، ما زلت أذكر ما سمعته عن البعثة البابوية الأولى والثانية إلى الشرق، وكذا بعثة الأب سيكار، وآخرها كان أيام البابا يؤانس الثامن عشر،.. إن أعظم وأمهر وأحذق المبشرين الكاثوليك كانوا يشتغلون في بلادنا سنين طوال، بلا فائدة ولا نتيجة تُذكر.

وأوصى محمد علي المعلم غالي بالصمت في تحذير مبطن وهو يقول:

- دع لأخيك فرصة الحديث فهو أفطن منك،.. ماذا تقصد بالسياسة والتدرب؟

عاد فرنسيس إلى القول:

- سنطلب من الأقباط الأرثوذكس الانضواء تحت اللواء البابوي دون أن يُكرهوا على تغيير عاداتهم وعوايدهم الشرقية، سيكونون بابَوِيِّين في الظاهر، وسيظلون على عهدهم الأول في الباطن، هكذا يجب أن نميل أبناء الطائفة رويدا رويدا، ولنا أن ننطلق في هذه المساعي المبرورة من مدينة طهطا.

هتف محمد علي قائلا:

- قبلت هذا الرأي، سأبلغ الإفرنج وأحسبهم يشكرون فعلتي ويفرحون بها، (ثم وهو يحدث غاليا..) سيكون أخوك فرنسيس عميدا للطائفة بعدك.

عند بوابة القصر عاتب المعلم غالي أخاه وهو يقول:

- لماذا سارعت له في هواه؟ إنه لأمر جلل وهذه خيانة جسيمة لوحدة القبط، إذا سامحنا الرب في مسألة الجباية فكيف نمرر خطيئة التلاعب بالمذاهب في محكمته؟ كان الصمت أشرف لكَ من الحديث، ولو أدى هذا إلى جَلدنا ألف جلدة..

ونظر فرنسيس إلى أخيه، قال في عزم:

- سيسعد المجمع الكاثوليكي بالخبر، لعل عزمهم على الرفض ينثني فيعترفون بزواجي بقطورة، وسأفعل ما أرى فيه الصالح.

- بالأمس خنت قطورة واليوم تخون الرب، حقا أعماك اليأس يا فرنسيس.

- وهل الرب أرثوذكسي؟

واحتدَّ غالي على أخيه فقال:

- كف عن الهرطقة، أيها العاصي الصفيق، وقد أسأت إلى التأدب، إن أبناء المذاهب إخوة، ولا يزيد الرب إنشا أن يصير الكاثوليكي أرثوذكسيا، أو العكس،.. أوقعتنا في حفرة لا منجاة منها، طريق بلا عودة خطونا فيه.

- لقد كنا كاثوليكيين دائما، واليوم لا نزال،.. فماذا جَدَّ؟

- ألا تدري ماذا جد؟ خرجنا من واحة الانكفاء إلى معترك الطلب، من معبد القداديس إلى سبيل التبشير،.. زرعنا بذرة أخرى للكراهية في حوض المذاهب، خرجنا عن صيغة المحبة بين الكنائس: البحث معا عن الحقيقة..

واستهتر فرنسيس بحديث أخيه فقال:

- لا تبالغ في تقدير العواقب فيستبدَّ بك الأسى لما لن يكون، من سيدخل في الكاثوليكية سيظل يُعَمِّد أبناءَه عند كهنة الأرثوذكس، مدفوعا بالعادة، والبطء دأب الأمور هنا، لقد راسل أبونا سيرجيوس نفسه الفاتيكان من قبل وتحول مذهبه، وتحول مذهبنا في إثره..

وفي موضع آخر وعند الفجر قصد الصغير باسليوس إلى عجوز الجبل ومعه عقد من حجر الأبرش المصري الأخضر النادر، وكان من الأهالي من يهربون جاموسا هناك فيتحسبون الخطى ويحسبون الأنفاس ويَتَخَفَّوْنَ في ظلال الجبل وبالسراب، إنهم يتهربون من القواصة وضباط الجباية، وكان قدوم باسليوس قد أربك الوقوف حين سار بينهم حتى انتهى إلى العجوز وهو يقول:

- هاك عِقْدًا جديدا، سيدتي، إنه عوض عن عقد اللازورد الذي فسد بانفكاك حباته يوم أمس..

ازدهت العجوز بزينة العِقْد الجديد وسُرَّت به، تساءلت المرأة عن تكوينه، فأجاب باسليوس:

- الأبرش أجمل أحجار الأرض طرا، سيدتي، إنه أشبه إلى قطع مستديرة من الجرانيت والرخام وصخر أخضر اللون، يجيء أبي به من ذاك الوادي بين الصعيد وبين البحر الأحمر، إنه نادر، قيم، عزيز المثال..

 وتحدث من الأهالي واحد فقال:

- لا تقبليه، من أتى به من وادي الصعيد هو غالي الذي نتخفى بسبب جنود جبايته هنا.

وقالت العجوز في لطف تخفف به وطأة الحديث السابق:

- سأقبله لأن الطفل من أتى به،.. ألا أَجْمِلْ به من عِقْدٍ بديع فتان! إن البصر متى اعتراه التعب وجد الراحة في النظر إليه.

تحدث الوقوف قليلا عن أراضي الجفالك: وهي الأراضي المعفاة من الضريبة التي ضمها محمد علي إلى نفسه وأفراد أسرته وأقربائه ضمن الأراضي التي جرى مسحها بواسطة مصلحة المساحة، وقالت العجوز في صوت يتهدج:

- هذا شاهد صدق على كيله بمكيالين، انظروا كيف نتخفى في الجبل كالمطاريد كي نهرب جاموسا، خوفا من الضريبة التي لا تطال أراضيه.

وقال رجل من الوقوف:

- هذا حال بلادنا منذ الأزل، من ركب على السلطنة سُمح له أن يقترف أي شيء بلا حسيب.

 وعادت العجوز تقول:

- لابأس، فالعاقبة للمتقين.

وعبثا حاولالرجل دفع الجاموس قائلا:

- هذا إن كانت لنا عاقبة.

تعثرت الجاموس في عبورها بطريق الجبل فأخذ الأهالي يدفعونها سَوِيًّا، أرخت الدابة أطرافها الأربعة كأنها ترفض مسايرة رغباتهم، صعدت خيوط الشمس وانحسر الظلام والحال على ما هو عليه، عما قليل يحضر جنود الوالي ليُكتَشَف أمر الجميع، نظر باسليوس إلى نقطة يغشاها السراب، هناك قتل الجنود الذئب بالأمس، رفع ناظريه إلى رأس الجبل وقال وهو يشير إلى صخرة عظيمة:

- يجب أن يحمل الرجال هذه الصخرة وأن يمسكوا بها هناك، حتى إذا أتى الجنود ألقوها عليهم، سأتجول هناك وأندس في مسيرة الغجر لأرصد مجيئهم قبل الأوان، وأبلغكم بالأمر أنى حصل..

يعرف باسليوس أن جنود الجباية يتسللون إلى الأهالي عبر الوادي الرملي خلف جبل المقطم، إن مساحته هي زهاء فرسخ مربع، يسير الغجر إلى هناك ليقوموا بالألاعيب التي تستجلب الانتباه في متسع من النظر، لقد مجتهم الأمصار وضاقت بهم الأرض، يمر الجنود بالوادي الرملي قبل قدومهم إلى الجبل لأن به بِئْرَ ماء، تحمل باسليوس غجرية شابة فتتدلى قدماه الصغيرتان حول عنقها،.. لا تزال المرأة تعتقد بكونه مباركا كسائر الغجريات، يستشرف الصغير الأفق من موقعه الجديد ليتحقق من خُلُوِّهِ من الجنود، بلغ الغجر محيط الوادي الذي حوى على نباتات متحجرة منها ما يبلغ الثمانين مترا طولا، وحين سأل باسليوس المرأة التي تحمله عن شأنها قالت:

- قيل إن أصلها غابة تحجرت في هذا المكان، وإنها احترقت في الأزمان الأولى..

علق باسليوس وهو يستكشف محيطه في فضول:

- يبدو أن الأشجار الغالبة هنا كانت النخيل والجميز والغاب الهندي..

وصل الغجر إلى مقصدهم فهبط باسليوس إلى الأرض، سكتت أهازيج الزير سالم ووضع القوم أثقالهم، أخذ باسليوس يرقب الأخراج وهي تكشف عما فيها من ألاعيب كامنة، إنه يتطلع إلى هذه الغجرية التي تلاعب الثعبان في الوادي الرملي، يتداخل الفحيح مع عزف المزمار، يدور الثعبان حول ساق الغجرية، تقشعر الأبدان وترتعش الفرائص وتُحبس الأنفاس، ينتهي العرض فتعلو التصفيقات وتخفض الغجريات رؤوسهن تجاوبا ومعها شعورهن الصهباء،.. ورأى باسليوس أخيرا شبح الجنود وهم يمرون بالاستعراض، وهم يأتون من الجبخانة (مخزن السلاح) فهمس:"ها هم القواصة من جهلاء الترك ومردة الأرناؤوط يحضرون.."، تحصل باسليوس على مراده فنادى على الغجرية وهو يقول:

- أعيديني، سيدتي، إلى ظل الجبل، فما عدت أطيق هذه الحرارة!

أعادته الغجرية بعد إلحاح منه إلى الجبل، كانت الجاموس لا تزال تأبى الحركة في الطريق الضيق، وها هم الرجال على حالهم يتناوشون بين السراب، وعند قمة الجبل رجال يمسكون بصخرة، هتف باسليوس في العجوز:

- رجال القواصة! إنهم قادمون!

ولاحت ظلال الجند فأكلتها الصخرة الهاوية.. 


 اقرأ أيضاً : 

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق