روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/19

نقاش في ستوديو التصوير

   الفصل العشرون : نقاش في ستوديو التصوير





 اضطرت نور بعد انقطاع مهلة إلى استكمال الفيلم الذي بدأته نزولاً لدى طلب المصور وطاقم الفيلم، ومكثت في خضم موقفها الحذر من مظهر تعد الساع ريثما تحضر كلمة النهاية التي تستريح معها من عذاباتها وتوجسها من الرجل، وجعل مظهر يقول مناقشاً وراصداً الصحوة الدينية التي لفت البلاد :

- وبعض المتحمسين من دعاة بعث التراث يحسبون أن لديهم مفاتيح الإرشاد للكون بأسره، على حين أن أحدث كتاب قد اطلعوا عليه يعزى تاريخ تأليفه إلى ستمائة سنة أو يزيد.

وقاطعه المصور يقول :

- أنتَ أيضاً، سيدي، ترى في قيم التنوير ثوابت كونية ! إنها أصولية من نوع آخر، وكل يُؤخذ منه ويرد، والمشكل هو الاستيراد الغربي دون مراعاة الفوارق الثقافية، الأمر أشبه بأن تطبق النظام الرياضي لبطل رفع الأثقال على هاوٍ يتلمس طريقه بصالة الرياضة في أول أيامه، تحتاج إلى أن تطبق الديمقراطية حقاً بأن تستمع إلى آراء غيرك.

وقاطعه مظهر يقول :

- عزيزي، لولا أنني غير ديمقراطي لما سمحت لكَ بأن تلوث أفكاري الألمعية بترهاتك، وسأفصح لكَ عما في نفسي بلا مواربة : الديمقراطية خير الأنظمة طراً، وكل ما عداها شرير وفاسد.

وقال المنتج، وكان لأهميته في عملية الصناعة السينمائية محط انصات الجميع :

- لماذا لا تنتج المجتمعات أنظمتها السياسية التي تناسبها؟ إن من صك الفكر الديمقراطي لم يضع في الحسبان أن يكون جزء من الشعب - كالحال في المجتمعات العربية - نزاع إلى التدمير والخبل، كيف ترتضي نظاماً يقبل بوصول المخبولين إلى السلطة ويشرعن لهم؟ وبعض الساسة مكانهم الوحيد عنبر الخطرين.

وقال مظهر في حدة وانفعال :

- حتى الخبل يمكن استيعابه بالديمقراطية، وحين تدور عجلة السياسية ويقع دوران النخبة تلفظ المجتمعات ما يضرها وتستبقي ما ينفعها !

وقال السينارست :

- ماذا لو أننا في قصة الجميع فيها فاسدون؟ دوارن النخبة هنا هو دوران العناصر غير الصالحة على جثة البلاد ! ولابد من مستوى للناخب لا يهبط عنه كيما يستطع معه اصطفاء الأفضل له وللجماعة، ومن جهل القراءة والكتابة لا يستطيع حتماً المفاضلة بين برامج ناخبين أو تقرير مصير أمم، والعبرة لا يجب أن تكون بحجم المشاركة الانتخابية ولكن بسلامة الاختيار ذاته التي هي - في الحق - شرعيته الحقيقية.

وتدخل مصمم الديكور فيعود يحدث المنتج :

- عنبر الخطرين؟! لشد ما أنت تبالغ حين تصف المتحمسين بوصف كهذا، فما دام ثمة صيحات هنا وهناك فهذا أفضل من الكساد السياسي،.. لازلت أذكر الفترة الليبرالية (يريد الفترة من 1924م : 1952م)، والليبرالية تعني ببساطة أنك حر ما لم تضر، ولا أفهم لمَ يماري امرؤ في حقيقة ترسخ حرية الأفراد كهذا المفهوم؟ وقد شوهت هاته الفترة حتى شاهت في النفوس، إن كتابة التاريخ ليست إلا سياقاً من الحوادث يجتبيها المنتصر.

وقال المنتج وكان به نزاعة يجتهد في أن يخفيها إلى الرأسمالية والمجتمع المستقر المحكوم بسطلة مركزية (أقرب إلى اليمين السياسي) :

- أحياناً يجهل المنادون بالليبرالية حقيقة أن حدود التأثير قد تتعدى الضرر المباشر، فحين تسرف في تناول الطعام مثلاً - وهذا مما يقع في حدود حريتك الشخصية ولا يضر بأحد ضرراً مباشراً - فأنت تستهلك جزءاً من طاقة الدولة في التأمين الصحي لأنك تصير عرضة لأمراض زيادة الوزن، وحين تسرف في تعاطي الكحول تضر المجتمع أيضاً لأنك تغدو شخصاً غير منتج، وبلا عمل، وهذا كله مما يضرب كيان الأسرة العضوية لاحقاً، والمجتمع بالتبعية،.. وأما الفترة الليبرالية المزعومة فقول حق يراد به باطل إذ أنتَ أعلم مني بما شابها من عيوب الإقطاع، وبما ضرب ربوع البلاد وأجساد العباد فيها من الأوباء والفاقة، وحقيقة مجتمع النصف مئة أشهر من أذكرك به،.. إنني لم أتعلق منها إلا بـ«الطربوش» كغطاء رأس أنيق قد ينزلق إلى الخلف مثل «عبد الرحمن باشا عزام»، أو يتدلى إلى الأمام ليخفى نصف الجبهة مثل «محمد محمود باشا»، وأتخيل أنني لو كنت عشت لكنت واحداً من باشوات ذلك العصر أيضاً.

وابتسم مصمم الديكور الذي وعى تناقضاً دعاه إلى السؤال :

- لماذا ترفض الإقطاع إذا أنت تروم البشوية؟

- لا أحب أن أعيش في وفرة ونعمة وحولي جمهرة من الأشقياء.

- لا يمكن أن تكون سيداً في مجتمع كله من السادة.

وأجابه جواباً أخلاقياً بعيداً عن الجدل السياسي :

- لا أروم السيادة ولكنني أهدف إلى التفوق، ولا أطمح إلى إقامة  سعادتي على ترسيخ معاناة غيري.

- إنه لغز، وحله : البطيخة !

وتشجع المصور بحوار الرجلين - المنتج والسينارست - فعاد يقول :

- إنني ميال إلى فكرة المستبد المستنير التي نادى بها السيد جمال الدين الأفغاني ذات يوم.

قال مظهر الذي بدا أنه يترصد فرصة حديثه (المصور) ليقاطعه ويستخف بما عنده، حتى أنه يحدث أن يناديه في مرات بعبد الحليم نصر - وهو من أشهر مديري التصوير في تاريخ السينما المصرية - تندراً وهزواً :

- أسوأ العقول لا تستطيع التوفيق بين متناقضين على هذا المنوال الذي أتيت به، والاستبداد عينه مما يضر بالاستنارة، لأن الأخيرة لا تقوم ولا تدوم إلا في مناخ حر.

وعاد المنتج يقول :

- نخلص إلى أننا بحاجة إلى نسخة معينة من الديمقراطية.

وقال مظهر كأن هذا أرضاه :

- لا يهم لون القط عندي.. (ثم وهو يتلفت إلى نور..)، وما رأي الهانم؟

كانت نور جالسة في ركن منفرد رفقة طفلها ذي الأعوام الأربعة نبيل، وطفقت تشرب القهوة التي أراد الصغير أن يجربها، وأتاحت له الأم فرصة أن يرشف منها رشفة، فما أن تم له ما أراد حتى جعل الطفل يكح ولفظ معظم ما قد شرب، وذكر شيئاً عن شاريو التصوير (Track Dolly) يحسبه قضبان القطار، وراحت - بعد أن كف - تقرأ طالعه فيما بقى على زجاج الكوب من أثر المشروب، تقول :

- حياة متحفة، ولتنظر إلى ذاك، إنه مكتب، وستجلس عليه لتدير العمل المهم !

وصمتت تتأمله (نبيل) وهناك وعت انقطاع الحديث الدائر، قالت :

- هل ثمة خطب ما؟

وأثار سؤالها الضحكات لانفصاليته عن فصول الجدال الذي علا وطيسه، وذهب إلى قدح ونقد المذاهب السياسية، دون أن يمس من سلامها النفساني رفقة الطفل، قال مظهر الذي بدا أنه لم يضحك خلافاً للبقية :

- اليوم نصور المشهد الأخير، هلم !

ولكنها اعترضت تقول :

- سأصوره دون القبلة..

- سيخسر الفيلم درته الأخيرة..

وأثار جوابه الريبة في نفسها، فقالت متأثرة بتجربتها السابقة معه :

- حقاً، ولماذا أنت حريص عليها؟

وأحس الرجل حرجاً وسط الرجال، قال : 

- إنها عادة الأفلام القديمة، هل شاهدت الأبيض والأسود في حياتك؟

وقالت في ابتسام كأنها تخلص الأمر المتنازع عليه بأيسر السبل :

- عادة الأفلام القديمة لا ضرورة لها اليوم.

 

في موقع آخر..

عرضت لمراد فكرة التعجيل بتزويج نجله رؤوف منذ وفاة ابنته إيمان في مهدها على نحو لم يزايله، ظل الرجل دائم الشعور بمسؤوليته فيما وقع للصغيرة، إنه يأخذ يحمل وزر الأمر على نفسه تارة، وطوراً على زوجه، ثم على الأقدار جملة، وأفصح له رؤوف عن صالحة : الفتاة الأعرابية التي تلمحَّها في العامرية غير مرة، وارتأى فيها صلاحية الزواج، فهش مراد للأمر وبش دون أن يسأل عن حقيقة المرأة، وأزاد في حسن ظنه بسير الأمور يقول له :

- سنسمي مولدتك الأولى بإيمان إحياءً لذكرى من ماتت في المهد.

وكان رؤوف يجيبه :

- فلنجتبِ لها اسماً آخر.

- ولمَ؟

- لا أريد لها موتة السابقة.

وأزعجه قول الابن حقاً حد الغضب لاستهانته بشعوره، ولكنه لما عاد يفكر في الأمر ارتأى في رؤية رؤوف السلامة والصواب، فكم سيزعجه أن يرى إيمان أخرى في حياته تحيي في وجدانه آلاماً وكلوماً سأل الله طويلاً أن تلتئم في خاطره، وآثر الأدب مع الغضب فطفق يقول :

- فلتسمها بما شئت إذاً، ولتعجل بعرسك..

ومكث مراد يتخيل المزيد فيقول :

- سنجيء بالراقصات ذوات الشمعدانات، وأولاء سيحرصن على ألا تنطفئ منهن الشموع في سيرهن وتبخترهن، وسيكرم الجميع وحتى الأقزام من أبناء الحي !

 قصد رؤوف هذه المرة إلى بيت هزاع بقصد مفاتحته بالخِطبة، ولكنه بوغت برجل آخر يفتح له فسأله : 

- وأين هزاع؟

- لقد رحل، وسكنت في مقامه.

- هل تعرف أين هو الساعة؟

- فلتسأل عنه الشيخ فوزي، إنه عليم بتنقلات أهل الحي، علاوة على أنه صديق هزاع.

مكث رؤوف يتخبط في أوصاف الخلائق حتى وصل إلى الشيخ الذي كان يجلس في مقهى فرعون وسط جمهرة من صحبته، وكان رافلاص في عباءة سوداء فوق جلبابه البني، وله طاقية خضراء، وهو الممسك بعصا ذات مقبض فضي، يقول فيلوح بها :

- لقد بنى الأقباط كنيسة، وسبقتُهم إلى بناء جامع صغير أشبه بالزاوية في محيط قريب منها.

وصمت حتى امتلأ جوفه بدخان الشيشة فجعل من حوله يسألونه على علمهم المسبق بالجواب :

- ولمَ؟

- لأنني أبيتُ أن يكون للأقباط جرس يدق في العامرية فسبقتهم إلى هذا، ولا تفهموا من حديثي أني أقصد الجور عليهم، إذ أن الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان..

وانزعج رؤوف من حديث الرجل فجعل يقول متناسياً الغرض الذي جاء من أجله فتدخل يقول :

- وماذا يحملك على المفاخرة بما ذكرت؟

ونظر فوزي إلى المتطفل فسأله :

- ومن أنتَ كي تقتحم حديث الرجال؟ إن لي المقام هنا..

وهدأ رؤوف من روعه حين تذكر غرضه من الرجل، فقال :

- إنها (أي دور العبادة) بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، لا ساحات للمفاخرة والتشاكس..

وأجابه فوزي يقول :

- الاختلاف جوهر العقائد ! 

- الاتفاق هو الجوهر.

- كيف؟! صدق من قال : كلٌّ يُغَنِّي عَلَى لَيْلَاه،.. وأين أنتَ من الأسانيد؟

- هل تتعبد في محراب الأسانيد؟

وكان للشيخ السلفي حظوة كبيرة بين جماعته وجعل يقول حاضضاً إياهم على نصرته :

- أين أنتم منه؟ هل أخوض صراع الحق وحدي؟ حقاً أزهد الناس في عالم هم أهله وجيرانه.

وعليه تقدم منهم من شاء الاشتباك مع رؤوف على أصداء قول الرجل الذي لم يكف :"ما بالكم تثاقلون إلى الأرض؟ أليس فيكم من أوتي بسطة من القوة فيردع المجاوز ويقيم السلام؟"، وتكاثر الخلائق على الفتى الوحيد الذي بدا معتصماً بالحق الذي في نفسه، وتوارت نزعته إلى الجبن على نحو عجيب حين رأى نفسه حاملاً لقضية عادلة، وكاد يقع الاشتباك لولا أن أتت امرأة متلفعة بالخمار فجعلت تقول للشيخ الذي لم ينهض بعد عن كرسيه  :

- فلتسامح تطاوله..

وأجابها الشيخ يقول كالطامع فيما لا ينكشف منه شيء، وقد كان دائم القول بأن أكثر الأجساد غواية هي أكثرها حشمة :

- لأجل عين تُكرم ألف عين..

ومضى رؤوف والمرأة مسافة أبعدتهما من النطاق الخطر، وكانت أكثر الأمكنة بالعامرية مهجورة الأرجل، ثابتة الصورة، كأن لها وجهاً لا يتغير في الأصابح والأمسيات، واستأنست المرأة بخلوة السبيل فخلعت ما غطا رأسها، وبهر رؤوف وعجب يقول :

- إنك صالحة بنت هزاع !

وقالت :

- حسبتُكَ قد لحظتْ..

وقال وهو يتوارى في موضع الظل مخافة أن تؤذي الشمس حبوب وجهه :

- الخمار يخفي المعالم.

- بل يسترها.

وقال :

- في عبارتِك إقرار مبطن بقدرة الغواية على قياد العقل.

- العقل يقر بالغواية.

وابتسمت ابتسامة انفرجت لها شفتيها الغليظتين على نحو وثق قولتها في نفسه، قال متشبثاً بمعنى آخر فيما يستأنف الحركة في السبيل الخاوي :

- وددت لو تركتني دون تدخل، كنت لأهشم رأسه دون ترخص، ثم أقتلع لحيته الشَعْثاءَ..

ورمقت تكوينه النحيل بنظرة، فألفته فارساً بسيف خشبي، ثم قالت وهي تقف بغتة :

- لقد أنقذتك من الهلاك الذي كنت على شفيره.. 

 اقرأ أيضاً : 

           الفصل الأول:  لقد أعماها الحب

الفصل الثاني: المعنى الغائب

الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره

الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم

الفصل السادس: لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً

 الفصل السابع: نقاش حول غوته

الفصل الثامن: عواقب عملية رمضان

الفصل التاسع: حول الهيمنة الأمريكية

الفصل العاشر: صراع في كنف الغروب

الفصل الحادي عشر: أوهام في معبد الرأس السوداء

الفصل الثاني عشر: يوم انفجر الأمل

            الفصل الثالث عشر: سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ

الفصل الرابع عشر: قلوب حائرة

الفصل الخامس عشر: أمل الحياة

الفصل السادس عشر: الفردوس في السماء لا في الأرض

الفصل السابع عشر: اعتذار

الفصل الثامن عشر: وجه آخر للحياة

الفصل التاسع عشر : أيام عصيبة في الجنوب

الفصل الواحد والعشرون : أيتها السماء.. فلتتركي السعداء وشأنهم

الفصل الثاني والعشرون : رجاء الحق

الفصل الثالث والعشرون : خطاب من فيفيان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق