استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/18

أيام عصيبة في الجنوب

  الفصل التاسع عشر : أيام عصيبة في الجنوب




 

في أبي تيج..

مضت أيام عصيبة في الجنوب منذ اقتحم عسكر الأمن عرس عبد المجيد إلى بدور، وكانت قد فتشت يومذاك جماعة منهم أنحاء الدار باحثة عن الشيخ حمروش فألفته في محبسه بحجرة مهملة في فناء البيت الكبير قرب صخرة الحوش، مكتَّف الأيدي وراء كومة من القش، وسيق حمروش إلى الحوش الذي كان لا يزال بدوره في استعداد الزفاف، وسُئِل (حمروش) عن الموزور، المتسبب فيما وقع له، فأجاب وهو يرمق تسنيم بنظرة مستهدفة :

- ثمة عقربة واحدة في أبي تيج..

اقتاد الأمن تسينم إذاً إلى محبسها بغية التحقيق معها، كانت تمضي رفقة نفر من الأمن فهتفت والجميع لها منصت صاغٍ :

- فليعلُ نقر الدرابك، ولتُملَأ المزامير بطاقة الأفواه، ولا تدعوا ساعة الحزن تعكر يوم السرور، هلم !

وعلى هذا النحو استأنفت المعازف صخبها وهتفت ثغور العذراوات حول العروس (بدور) المأخوذ بفقدان الأم في مشهد متناقض كل التناقض، عجيب كل العجب، ومرت تسنيم بزوجها إبراهيم فوهبته نظرة كظيمة وكان الآخر يتقي النظر لها كأنما جلله العار، وقد دل إبراهيم الأمن على الشيخ الأسير في حجرة الحوش، وتنصل من أمانة الزوجية إزاء مقابل مادي سخي تحصَّل عليه من رضوان، آلت العمودية إذاً إلى عبد المجيد على حداثته، وقد بدأ الصغير عهده بطرد إبراهيم من البيت الكبير، وبتحطيم صخرة الحوش فجمع لها نفراً من أقوياء القرية بزعامته، وتواتروا جميعاً على سحقها بمعاولهم حتى جعلوها كثيباً مهيلاً، وأقام حياته مع بدور على أسس الود والوئام، وقالت له بدور ذات يوم :

- لازلت أذكر أمي ناهضة بمسؤوليات هذا البيت الكبير وحدها، وخيالها النشط مما لا يفارق وجدان شعوري، كانت كفراشة تحوم الأزاهير، لقد  نفض الدهر عن جناحها ذر النضار،.. هل من جديد في أمرها؟

وقال :

- إنني أبذل وسعي، ولكن موقفها بالقضية ضعيف حقاً..

- من عجب أن حمروش لم يتهمك بشيء.

- إنه رعديد لا يعتاش إلا في ظل سلطة مكينة، أطاع رضوان طمعاً في سلطة المال الذي لديه، وظن الخائب بأن الغلبة تكون له على حزب تسنيم، واليوم يتقيني خوفاً من عمودية أتقلد موقعها، ويختبئ في مجاهل القرية كيلا تطاله يداي، إنه ديدن كثير من الأزهريين : أن يبقوا كجناح للسلطة القائمة دون أن ينافسوا صاحبها لخوف في نفوسهم من المواجهة الصريحة، أن ينغمسوا في تفصيل شرح صفات عرش الرحمن "المحمول على الماء" دون أقل الحديث عن عرش السلطان الذي يكتنفون ظله.

وقالت :

- لدي خبر سار لي ولابد أنه سار لكَ أيضاً، سيعود بكر من الإسكندرية، لقد أرسل إليَّ بالأمر في رسالة مطولة.

وتجهم وجهه كصفحة مكفهرة أو أرض بالية جدباء، وأدار وجهه عنها إلى غيرها من معالم الحجرة، وهناك سألته :

- حسبتكَ تسعد بمجيء من يظهرك على خصومك، ويعينك عليهم.

وعاود وجهه النظر نحوها فقال متسائلاً :

- بأي صفة يجني الفتى الثمار بعد نزهته في المدينة؟

- إنه نجل تسنيم الأكبر، وأخي الوحيد.

- هل تُسقط القرابة تقصيره في دفع الضرر عنكم؟ بربكم.. من ذا الذي يقف في وجه المدفع، اليوم والأمس، بصدر مفتوح واستعداد غير مشروط للتضحية؟

ولم تجد ما تقوله لما كان السائل يقصد نفسه بالاستفهام الأخير، فقد حدست بأن السؤال ينطوي على مناجاة باطنية للمتحدث تفرغ شعوره بإجحاف أو غياب معدلة لا رغبة في سماع جواب، وتساءلت في انفعال من يذكر بدهياً في نفسه لا يقر به محدثه :

- ولماذا لا تتخذه خليلاً ومؤزراً؟

وأجابها في قلق من يخشى المنافس :

- أخشى أن يطمع فيما هو أكثر لما كان أقرب إليكم مني نسباً وأصلاً..

ولم يكد يتم قولته حتى سمع هرج ومرج لدى بوابة البيت، وخرجت بدور كيما تستشرف ما يدور هنالك فأجابها الحارس وهو ينادي مصحوباً بحركة نحوها فيما تهتز بندقيته المعلقة على جناح كتفه :

- لقد عاد سيدي بكر ! لقد عاد ومعه عروسه، امرأة من المدينة، لقد تغير كثيراً.

وعادت بدور إلى عبد المجيد تبثه حديث الحارس، وتحثه على استقبال العائد وزوجه، فأجابها الرجل مصعراً خده :

- فلتستقبليه كيفما شئت، ولتتركيني فيما أنا فيه.

استقبلته بدور وزوجه في حفاوة حقة ثرية بالود في المندرة، وأعادت عليه ملاحظة الحارس :

- لقد تغيرتْ كثيراً..

ونظر بكر للحوش نظرة عبر الباب، قال متأثراً باختفاء صخرته :

- وأنتم كذلك..

 وحين رأت فردوس قالت في إقرار وتواضع لا ينشأ عادة بين امرأتين :

- يا زين من اصطفيت.. (وهنا وهبتها فردوس ابتسامة سارة مقرة بالودية المماثلة من طرفها، فاستأنفت المتحدثة تقول بين سؤال وتقرير) وماذا وجدت في المدينة؟ هل رأيت فيها الخواجات السافرات؟ أعلم أن البحر مما لا يقارن بالترعة لصخبه وعنف أمواجه، وهل يشيع فيها الفساد والتهتك لقرابتها من أوروبا؟

وأجابها وقد كانت أسئلتها قد أشفت على سذاجة من يجهل ويتكلم في غير فنه حد السقوط عن الاعتبار :

- مضى وقت طويل منذ هجر الأجانب الإسكندرية، والمدينة محمية بسور حفيظ يطوق ساحلها فتبلغه الأمواج أو طاقة الرذاذ المجاوز منها ولا تتعداه إلا لماماً، وأهلها على مجملهم قوم طيبون.

وسأل بكر أخته :

- وأين أمي تسنيم؟ وإبراهيم؟

واستوحشت الأخت أن تقص عليه فصول الحقيقة فجالت بناظريها على قلق ووجل، ثم نطقت بما كان، متخذة أهون السبل في سرد خجول، لم يحتمل بكر الأمر قط، وقصد إلى حجرة عبد المجيد فقال :

- أيا حضرة العمدة : ألا فلتطعني في مرامي، ولتصحبني إلى بيت رضوان، أو فلتلحق بي طاقة من خفرائك، ما حمروش إلا دميته الطيعة، أجل، قالت لي بدور هذا، ولو أننا عقدنا هدنة بيننا وبين رضوان تخلى الشيخ عن قضيته وأخرجنا أمي (تسنيم) من محبسها..

ونظر عبد المجيد له في تذمر كأنما وافق حديثه ما كان لديه من حدس باختلاق المتاعب المقرون بعودة الشاب، وأجابه يقول :

- فلتذهب إلى بيت المأثوم وحدك.

 


في الإسكندرية..

أرسل فؤاد إلى زوجه بالكويت رسالة كتب فيها :"إن من الحَسن أن أسرد إليك تجربتي الأخيرة التي انتهى وقعها دون أن يذهب عني روعها، لقد فقدت نجلي عماداً في وكالة مونفراتو ليوم أو بعض يوم، وكدت أغرق في العطب والهلاك، واستعانت بفيفيان التي انجلى معدنها في محنة التجربة، وقد وهبتني المال الذي حررت به الولد وهي تذكرني بوصية المسيح في نبذ التعلق بالمال :

-                                                       لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً.. ( متى 6: 21)

 وأعلم كم خيبت رجاءك بتأخري عن العودة، ويبدو أن عودتي ستقترن بأول شهر رمضان، وقد فوت الموائد القريشية التي كان من الممكن أن أحضرها مع صديقتيك جميلة وآسيل، وأقمت ليلة لأهل الحي بالإسكندرية في كرموز بمناسبة عودة الولد بعد أن ابتعت حاجتها من مشويات جيمي، والأخير حانوت جديد يربو عمره على أعوام ستة (تأسس في العام 1976م مثلما أخبرني البائع وهو يجيب فضولي حين سألته عن الأمر في أثناء انتظار استواء الكُفْتَة) وقد بدا أني نسيت موقع الكثير من المناطق أو أنني بالأحرى أتعرف على مدينة جديدة لانقطاعي الطويل عنها، وقد تلمست طريقي متكبداً عناء السؤال حتى وجدته (أي حانوت المشويات) على الرصيف بين محطتي ترام سيدي جابر الشيخ وكليوباترا حمامات لطول غيبتي عن حقيقة الأمكنة، وعلى نحو أثار دهشتي من انتقائية الذاكرة البشرية في طمس غير المستخدم وغير المهم من المعلومات.

 

لقد كان قلبي يقول : لا يمكن أن أفقد صغيري في الإسكندرية، وقد طفت من المدينة أحياءها الفقيرة، لم يتخالجني الريب أن الطبائع الكريمة فيها هي فوق الخَسَائِسُ اليتيمة، لقد رأيت الخاطف يركض بحقيبة النقود وسط القذارة مفزوعاً كأنه الجرذ بالمساكن الصينية، وقد علق هذا المشهد طويلاً في رأسي، وأستطيع القول بأن مبعث الشر في هذا الوجود هو الجهل والحاجة، وأن النفوس في كثرتها الكاثرة أقرب إلى الخيرية، لقد كان السارق خائفاً مذعوراً وهو يذرع نطاقاً كريهاً، ومع أن الفرصة لم تتح لي كيما أبصر صورة وجهه، وخصوصاً أنني كنت على بعد منه مسافة خمسين خطوة، وقد كان رأسه مخفياً في "زنط" معطفه، ولكنني أخال أن عينيه كانتا منطفئتين، إن في العينين وليس في موضع غيرهما أمارة الصوابية، لمعة البريق، ودليل النزاهة، ويقظة الحس، ورجاء الأمنية، وأنفة السُؤْدُد، إن فيهما كذلك : خسوف المهانة، خفوت الضمير، وعتمة الضياع، وهوان الطاعة،.. وكفى بامرئ أن تلوح منه عينان فيُتفرس فيهما كل الأغوار، وتُستجلى منهما كل الكوامن،.. وأحسب أنني قد صفحت عنه - أي عن الخاطف - على ما أورثني من صنوف الجزع والرعب، وأرجو أن يخلو العالم من الجهل والحاجة كي يبارك الإله عالم الخير المنزه الذي بشر به أفلاطون ورسمه فرا كارنيفل في لوحة المدينة الفاضلة، ولن يتأتى ذلك إلا بسقوط هذا الحاجز بين المثالية وبين الحقيقة، وإن مقاربة هذا الغرض هو مناط سعي كل آدمي وكل حركة وكل كيان منظم، منذ ترك الإنسان الأول كهفه كي يتحدى الطبيعة الحيوانية المقصورة في البقاء إلى رغبته المتطلعة في الارتقاء بمعاشه، ولقد سعى في هذا إلى مقاربة صورة الإله على محدوديته فبزغت فيه جذوة نورانية مباركة كوميض الأسحار، لقد كنت كثير التفكير في كل أولئك حين انتهت ليلة الاحتفال الشعبي بعودة عماد.

 

إن في الإسكندرية أحياءً هي على هامش حركة العمران، ناضحة بالفشل الذي يلازم العشوائية، وتقديري أنها تشكل نحو الربع من الحجم الكلي لبناء المدينة، وأذكر أنني جلت معظمها في صباي على عهد صداقتي بحمَّال جبل نعسة، كالمساكن الصينية (وقد حدثتك عنها)، ومساكن كوم الملح (وتاريخها معزو إلى العصر البطلمي)، ومساكن مأوى الصيادين (وأهلوها يسكنون الصفيح!)، ومساكن الأمريكان، إن نظرة إلى حياة هؤلاء تضرب غرور المستبشر في الصميم، وتقوض تطلعه في استشراف الأمل، وتحمله على الأسف، إنها - بحق - لتحز في كل قلب، وتغمز على كل كبد،.. إن هذه لحقيقة أغور فوق الصورة القشرية لمدينة ساحلية مترفة، تغنى بها الشعراء والمنشدون دون أن يعرفوها، إن نظرة في المفارقة بين قول شوقي عن الإسكندرية:

- غرسوا رباك على خمائل بابل، وبنو قصورك في سنا الحمراء

واستحدثوا طرقاً منورة الهدى، كسبيل عِيسى في فجاج الماء

فخذي كأمس من الثقافة زينة، وتجملي بشباك النجباء

وبين واقع هاته الأمكنة السابق ذكرها لهو مما يثير الأسى في النفس.

 

وغالب الظن وراجحه عندي أن يكون المخاض قد جاءك في غيبتي، وأنك الساعة في حيرة التسمية بعد نقاهة الولادة، إنني لا أرى خيراً من الاسم إسحاق نهبه للمولد الجديد، وقد تقولين بأن الاسم مهجور، أو هو نادر التسمية، أو لعلك تزعمين أن به نزعة جادة ليست مما تتصف به التسميات في هذا العصر السهل الرشيق، ولكن الاسم العبري المذكَّر وخلافاً لظاهره المتجهم يعني الضاحك، وهو مقدس في الديانات الإبراهيمية الثلاث، وأراه لائقاً لزوجين أحداهما مسلم والآخر قبطي.

 

إنني أتعزى بالكلمة على محو أذيال شعوري بالذعر، وأستعين بالحديث الرصين أبثه على الصفحات على جعجعة أصواتي، وقلاقلي الغوائر، وقد أفصحت عن جانب مما بنفسي إليكِ عن هذا القصد، وكما يقول روشفكول : «كلنا أولو قدرة كافية على حمل مصائب سوانا..»، وأرجو ألا أكون قد أفزعتك برسالتي..".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق