روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/20

رأيت الطمع في عينيه

       الفصل الأول: رأيت الطمع في عينيه




كان رؤوف قد مضى رفقة صالحة يتمشيان في نطاق العامرية وقد وجد الحديث هوى في نفسيهما حتى هبط الليل، وكانا في حركتهما محط انتباه العرب والصعايدة هناك على السواء، ومثار انجذاب النفوس المحافظة التي كانت تنشق رائحة التجاوز وتبحث عن المخالف من مألوف القواعد ناسجة على ما ترى بعضاً مما في نفسها، وقد بدت حركة شابين - وإن كان رؤوف على صورة من الأدب والانطوائية (كأنه تجسيد ظاهري يسير على قدمين للمفردة الإنجليزية nerd) فيما تلفعت الثانية في الخمار - حدثاً غريباً استدعى الظنون، وقد بدا أن للفتاة اهتماماً فوق الاهتمامات البدوية التقليدية حتى قالت له :

- النزاع بيننا (أي العرب) وبين الصعايدة سيفضي إلى كارثة وشيكة، إن بنا نزعة إلى الغرور مقيتة فصرنا نطلق على كل من ليس منا فلاحاً، لغرض الإزراء به، كما كان عرب الجزيرة يعدون كل من ليس من بطونهم أعجمياً، والأقباط يبدون أيتاماً على موائد اللئام.

وقال وهو يرى نفسه في بحيرة ماء تغير لونها لوَسِخَ أصابها :

- المصريون الحقيقيون هم ذوو الصورة الفرعونية مثلي، الحقيقة الجينية لابد أن تنضح في الوجه، وأما الوافدون من عرب الجزيرة فليسوا كذلك، إنهم مثيرو قلاقل متى حلوا أو ارتحلوا..

وقالت وقد شارف مسيرهما على العودة إلى مقهى فرعون :

- ليس الأمر على هذه الصورة، إني أكره التعميم..

وقال :

- أفضل الارتكاز على تعميمات تصيب أو تخطئ من أن أتخبط في تيه الشكوك الأبدية..

وابتسمت تقول :

- إني لست مصرية إذاً.

- كلا، سأعدك استنثاءً للقاعدة.

- لا تسمي رأياً ترميه على عواهنه بقاعدة.

- إنها قاعدتي إذاً.

وكان الشيخ فوزي لا يزال جالساً وسط صحبته على المقهى، هذه المرة لفه شيء من برد الليل وقد بدا أن طاقته قد انكفأت إلى حد الصمت والخفوت، وإن ظلت شيعته على حالها من تقبيل يده، والتمسح به، والاستئناس برأيه، وطلب مشورته، ثم المبادرة بطرح بعض الأسئلة الفقهية التي تغمض عليهم، هاته التي يجيب بدوره عن بعضها ثم يعكف عن بعضها الآخر متذرعاً بالإجهاد أو عدم الرغبة، أو حتى عدم الإحاطة بالحكم (في قليل منذور جداً من الحالات)، فإذا أجهده كل ذاك، وعلته السآمة، وأشفت دواخله على الامتعاض، طالبهم أن يقدموا بين أيديهم صدقة لقاء سؤاله، هناك يتولى عنه الفريق الأكبر فينعم بالسكون والخلوة، وعلى هذا النحو اتخذها الرجل حيلة لراحة البال وتصفية التافه أو غير الملح من الاستفسارات،.. وقال لها رؤوف :

- رأيت الطمع في عينيه (أي الشيخ فوزي) حين رآك وقت اشتعلت بيننا حمى الخصومة، لقد تلمحت عينيه اللتين بدتا كأنما يودان لو يقفزان من محجريهما، شعرت بريبة الأمر وغرابته..

وابتسمت من وراء الخمار تقول :

- أعجب بعقول الرجال ! ولماذا لا تسبقه إلى غرضه؟

وثمل بنشوة سرور، وعد قولها جواز سفر للتعجيل بطلب يدها، وشملته نعومة مسحورة كالخيالات العجائبية فاستدار عنها وقصد إلى حانوت جعة وقد اكتفى بهذا دون رغبة في حضور محاضرات الألسن، لقد كانت بواطنه رائقة مزهرة حتى لم يشأ أن يعتريها ما يبدد هذه الحالة التي أراد لها الاحتفاظ، كبلبل لزم دوحه مترنماً بالأغاريد،.. وبلغ مبلغ الحانوت وابتاع جعته وجعل يشرب متمادياً في التماهي مع سيل الأمنيات، ولكنه سمع الرجل البصير يقول بصوت جهير:

- مسكين ابن آدم، مسكين حقاً..

وعد رؤوف ما سمعه هذياناً من الرجل الذي كان ينسب جل تصرفه إلى الحمق والخبل، فلم يعره الاهتمام الكافي وعاد يجتهد في استحضار حالته السابقة المنزهة، حتى ود أن يكون للآدمين قدرة على غلق الأذنين كطاقتها على غلق العينين، ولكن الرجل باغته يقول عطفاً على حديثه الأول المبهم :

- يخال (أي ابن آدم) أن الدنيا كلها ستواتيه قبل أن تنكشف له الخديعة..

وأدرك الحالم أن الوئام لن يواتيه في حضرة هذا الحديث السخيف، فزلف إلى من عكر صفوه يسأله :

- فلتتحدث بما لديك..

- صالحة،.. يطمع فيما الجميع، وهي إلى الشيخ فوزي أقرب لصداقته القوية بأبيها هزاع.

وابتسم في ثقة كأنما لم يجد فيما سمع ما يدعوه حقاً إلى القلق، قال :

- مسكين أنتَ فوق الجميع، لقد حضتني المرأة على طلب يديها اليوم..

وأجابه في نبرة تبدي المسكنة وتنطوي على الخبث :

- وما طاقة المرأة إزاء أبيها المهيمن على شؤونها؟ إنها حياله لا شيء،.. سيلبسه الشيخ الثري التيل الفاخر، وسيجيء له بصدار موشى بالذهب، سيغدق عليه من صنوف النعم حتى يعميه عمن سواه، لقد تعلم في أم القرى (يريد مكة) ولديه من الممولين الأسْخِيَاء ما يكفي لأجل ذاك وأكثر.

وأغضبه ما سمع، فعاجله يقول :

- فلتصمت يا ذا العينين المنطفئتين.

- سامحك الله..

وعاد رؤوف يسأله :

- وكيف علمت بما بيننا؟

- سلبت مني الأقدار نعمة النظر وعوضتني بالحس القوي، والأطفال ينادونني بأبي العينين لأجل ذاك.

- فلتكف عن داء المراوغة، ولتخبرني بالحقيقة التي عندك.. كيف علمت بما بيننا؟

والتفت جعة إليه كأنما أبصره يقول :

- لقد تنزهتما بطول الحي، والخبر متى شاع بقرية الناصرية انتقل صداه إلى قرية البصرة فالعزة وما بعدها.

 

في مسجد عباد الرحمن ببولكلي..

واظب منير على حضور الدرس الديني بمسجد عباد الرحمن وسط نفر قليل من الحضور في صبائح أيام الجمعة، كان صديقه بلال من ينهض بالشرح ويتصدر للدرس، وقد سره هذا لما كان يرى فيه فسحة في النظر، وبحبوبة في الرأي، خلافاً لما قد وجده في إمام مسجد عمر بن الخطاب الذي لم ينسَ له كيف وصف أمه الروحية الراحلة تفيدة بـ"العاصية" - أقول خلافاً لما وجده فيه من التشدد والجفاء، وانتهى الدرس فكان منير على حال الافتراش الذي ظل يلازمه من التشهد الأخير لصلاته إذ هو ناصب قدمه اليمنى مقيمها على أطراف الأصابع، مفترش يسراه وجالس عليها، وزلف إليه الشاب الأمرد (بلال) يقول :

- التوّرك هو ما قد ورد في صفة صلاة النبي، ولا صلاة لمنفرد خلف الصف.. ولماذا لا تعفي اللحية؟

ونظر إليه منير يقول :

- ولماذا لا تعفها أنت؟

- إنني أمرد، وأما أنت فبلا عذر..

وأجابه يقول :

- الحديث النبوي يقول : إن الله يحب معالي الامور، وأشرافها، ويكره سفسافها.

وجعل يتندر في صحن المسجد فيعلو صوته بالقول :

- فواعجباً ! لقد بت تجادل الإمام بالمرويات والأحاديث !

وعاد بلال إلى الجلوس إلى جواره وقد اصطفى لنفسه جلسة الافتراش المماثلة لصاحبه يقول :

- لا بأس، الافتراش أيضاً من السنة.

ولكنه لم يجد ما توقعه من منير فعاد يتساءل :

- هل ثمة ما يزعجك؟

وأجابه بصوت مثقل بالهموم :

- أبي بين الحياة وبين الموت ونفسي لا تطاوعني على زيارته.

وتساءل بلال :

- أكان على حال من الفجور والعصيان؟

- أسوأ من هذا، لقد ألقى بي في بيت غرباء، كالمرأة الآثمة تتخلص من وليدها أمام المسجد.

وانفعل بلال يقول :

- لعنة الله على الظالمين !

وتنهد منير كأنما استوعب انفعال صاحبه بعضاً مما يؤسفه، قال :

- ضميري يؤرقني، إنه من السذاجة (أي ضميره) حد أنه يحضني على التعامل الأخلاقي مع من لا يلتزم بالأخلاقية، أروم الانحلال من سلطان الندم الذي بت أعاني الارتباق في قيده.

- فلتزن الأمور بميزان الفقه ولتتصرف.

وأومأ منير برأسه ثم صمت ملياً، فجعل الآخر يقول له :

- سنضطر إلى تغيير موقعنا كي نتحرر من عصا الأمن.

وأجابه منير في أسى موصول :

- فلتظهرني على الأمر إن جد جديد.

قصد منير يومذاك إلى أبيه المحتجز في المستشفى الأميري فكان السيف قد سبق العذل، وكان ذهب قد أصيب بمشكلات في باطنه كانت قد نتجت عن اصطدامه القديم بتمثال فيلا لوران، وقد عاش الرجل معها زمناً حتى أجهزت عليه، ومكث منير مدة على حال من لوم الذات شديدة مضنية لما كانت مماطلته في الاستجابة لرسالة الأب سبباً أحال بينه وبين اللقاء الأخير، وقد كان يتمنى لو قدر له أن يسأل أباه عن كثير من الأمور، وبكاه في عجب وحسرة، لقد كانت وفاة ذهب حدثاً صادماً أعاد رؤيته إلى نفسه والعالم، وكانت مكافئاً للضربة الأولى من جهة ما : وفاة تفيدة، ولقد مر بما يسمى في علم النفس الاجتماعي بنظرية الافتراضات المحطمة، ورأى الحياة تمضي على جسر يعبر من التلاشي إلى التلاشي،.. وقد أعقبت صدمته قي أبيه ذكرى ميلاد تفيدة الستين فقصد إلى قبرها وأقام لها حفلاً مربكاً في قرافة العمود، وجعل يتحدث إلى رجال القرافة ممن ينتظرون الصدقات عن مناقب المرأة التي تركته وقد استعصى عليه أن يذكرها بضمير الغائب، فلما مضى دون أن يهبهم شيئاً أنكروا عليه تصرفه ونسبوه إلى الخبل، وحين أفصح لبلال عما يمر به من ويلات الأكدار أجابه صاحبه يقول :

- لقد رويت لي من سيرة أبيك ما يشيب له الولدان، لقد هلك مفسد في الأرض، وفي القرآن : لا تأسَ على القوم المفسدين.

وأفصح له عن نواياه المستقبلية وقد جعل ارتباطه به يأخذ منحى الانفراج والتحلحل :

- سأهاجر إلى الولايات المتحدة..

- هل تترك الأرض قبل الحصاد؟ والقادم سنوات الانتشار والرواج.

وذكر له بلال شيئاً عن نية الدعوة بانشاء معهد الفرقان لإعداد الدعاة، فأجابه يقول :

- سأرجو لكم الخير إن كنتم من أهله.

وأذهلته العبارة فأجاب :

- وهل ترتاب في كوننا من أهله؟

- من لا يرتاب في غيره اكتوى بخداعهم، إنني غريب عنكم، وعن الجميع هنا.

- ليس في هذا مبرر كافٍ لقصود ديار الكفر.

- إنه مبرر كافٍ في نظري..

- فلتسمع درسي الأخير، سأجعل من حالتك موضوعه إذاً، ولتهاجر بعده أينما تشاء.

وأجابه منير في هزو يقول :

- إنك حتى لا تجد له مسجداً.

- أعلم، إننا بخير والعالم ليس كذلك.

- إنه الافتراض السيكولوجي لمن أصيب بالنرجسية.

- لسنا نرجسيون، إننا طلاب خير.

- لن يعترف النرجسي بما فيه لأنه لا يرى العيب إلا في محيط عالمه، الانغلاق والنرجسية قرينان وبينهما جسر من الانفصالية.

- بت كثير الهجاء لنا.

- فلتعده نقداً يتوخى الإصلاح..

- النقد لا يصح من حديث علم..

- دراسة حياة السلف ليست علماً قط، الإنسانيات لأنثروبولوجي) قلقة بطبعها لما كان الإنسان موضوعها، ثم هي ملأى بالزُيوف. 

 اقرأ أيضاً : 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق