روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/22

صورة المُخلِّص

          الفصل الثالث: صورة المُخلِّص



1984م..

في أبي تيج..

رزق بكر من زوجه فردوس بولد سماه بصفوت، ومر بالرجل عام على كرسي العمودية مدعوماً برضوان وابنيه والشيخ حمروش، وقد أقام كل هؤلاء معه في دواره العظيم، وانصاع له الجميع فتَرَفَّلَ عَلَيْهِم ما خلا عبد المجيد، وعمل الرجل بدوره على تجديد الريف الذي تولى أمره مستحضراً بعضاً مما رآه في بيئة الإسكندرية من أمور، فاستحدث المكتبات والصالون الثقافي (وفيه شوهد ريفيون متأنقون بجلاليب كمونية يناقشون كتاب رأس المال لكارل ماركس، ويفندون استنتاجات الفيلسوف واللاهوتي فريدريك شليرماخر!).. وقالت له فردوس في نبرة تتغيا الواجب :

- لازلت لم تزر عبد المجيد وزوجه..

وقال :

- أنى لي أن أزوره وهو الذي لم يعترف بي قط؟ إنه أحمق هنجعي ونافخ كير..

وقالت وهي تنظر إلى عباءته الصوف التي صار بكر يلبسها بعد عبد المجيد، ويبدو جسده فيها كالتائه لضآلته :

- فلتدفع بالتي هي أحسن..

- لن أزوره ولو أجزلتِ الإلحاح عليَّ..

وقالت فتبدو امرأة ريفية كأنما لم تعهد الحياة زمناً قط في المدينة :

- الأخبار التي يتداولها الناس صحيحة إذاً.

- أي أخبار؟

- لقد سلمت رأسك لنجلي رضوان، ونبذت زوج أختكِ بدور.

وقال :

- بدور على العين والرأس، وأما عبد المجيد فكتب على نفسه ما كتب..

واقترحت اقتراحاً اكتسب في ذهنه بريق الوجاهة :

- فلتزر أخته إذاً، ولتصبر على أذاه.

ودق الباب فحضر خادم رضوان بطبق فخاري وسيع احتوى على الأرز باللبن، وقال الخادم له :

- سيدي، يريد منك أن تجرب غذاءه المفضل..

وانتظر بكر حتى انصراف الخادم عنه فجعل يقول لزوجه :

- أرأيتِ؟ لقد نشأتُ في الريف وإني أعلم منكِ بأحواله.

وقالت :

- العدل أساس الملك، قاعدة الريف والمدينة. 

- العدالة لا تستقيم مع الجميع.

واقتربت منه فردوس حتى انتزعت منه صحن الفخار تقول :

- بل هي كذلك،.. ولا تأكل من طعام يقدمه إليكَ رضوان قبل أن تجربه على الحارس..

وقال في عجب :

- لا زلت لا تثقين في الرجل ونجليه رغم كل هاته البوادر الطيبة !

ونظرت إليه ملياً، فحجبت عين الشمس المنكشفة من النافذة، وكانت تصدر عن قناعات متساوقة متناسقة تزيدها عزماً، تقول :

- من احتاط ملياً أمن الزلل..

نادت فردوس على الحارس فطفقت تسأله :

- هل تحب الأرز باللبن؟

واشتهى الحارس الطعام الدسم ملياً أمام ابتسامة بكر، فقالت المرأة :

- فلتأخذ منه كفايتك، إذ أن الوعاء من الضخامة حتى أنه يكفيك وغيرك.

وعادت تقول تحذره :

- إننا نخشى من شر مدسوس فيه فلا تأكله إلا برضى منك.. 

ونظر بكر إلى حارسه يقول :

- فلتأكله ولا تخف..

وبدأ الحارس في طعامه دون أن تلوح عليه علامة سوء، فقال بكر لزوجه كأنما يعجب لسوء ظنها بالناس :

- أرأيتِ؟ لم يكن به أهون شر..

وقالت :

- فلتنظر مدة حتى نتيقن، إن من الأعراض ما يكون عجول الظهور ومنها ما يستغرق الوقت..

 ومضى بكر عنها يقول في استخفاف :

- سأزور بدور إذاً قبل أن تظهر الأعراض الطويلة..

وقالت غير واعية باستهزائه بها :

- ألا نعم التصرف ! وسألحق بكَ قبيل المغيب..

أغلق بكر طرفي عباءته الوسيعة ومضى هابطاً من دواره الكبير إلى بيوت الريفيين الذين كانوا يستقبلونه في فتور وكأن إصلاحاته لم تحملهم على إبداء التقدير له، ولم ترفعه إلى مستوى الإكبار الذي تبديه الرعية لراعيها إذا هو أحسن القياد، وحتى أن بعضهم استدار عنه في جلسته فأدار كرسيه الخشبي عند ناصية بيته متولياً عنه، وأبصر عجوزاً شمطاء ترمقه باستخذاء أزادها شوهاً، ووصل بكر - الذي أُخذ حقاً بما رأى على نحو أورثه الحزن كغصن ذاوٍ - إلى بيت عبد المجيد والأخير استقبله في جفاء يقول وهو يحجب عنه الدخول، وقد أزعجه أن يلبس زائره عباءته القديمة فنظر إليه في شزر واضح :

- الدار على حال من الفوضى،..  فلترجع..

وقال بكر له وقد أخذ بتصرفه على توقعه إياه أو مثله :

- جئت لأزور أختي بدور، ولأبارك لها حملها، فلتفسح لي..

واستخف عبد المجيد برغبة زائره يقول :

- سحقاً،.. أيا سارق العباءة ! أما رأيت أن الحمل قد أخفق؟

وحضرت بدور فطلبت من زوجها الانصراف عن استقبال الضيف تقول :

- كنت أروم مباركة وليدك الجديد صفوت وقد سبقتني إلى الزيارة وصلة الأرحام..

وأجلسته في ترحاب ثم سألته :

- ألا تزال تسنيم على حال الغضب من عبد المجيد؟

وأجابها يقول :

- أجل، إنها تحبك محبة الأمومة وتريد لكِ السكنى في قرب منها، بيد أنها تزعم أن عبد المجيد ليس أهلاً للثقة بعدما تخلى عن قضيتها.

وقالت بدور لأخيها في لحظة نادرة تبدى فيها سخطها على اضطراب الموازيين :

- وكأن حمروش ورضوان كذلك..

وصمتا ملياً، ثم جعل يقول فيما تهب الرياح فتبعثر تكوين العباءة الصوفية دون أن ينشغل حقاً بضبطها :

- إني آسف بخصوص الحمل..

وقالت :

- سقط الوليد في شهره السادس، ولكنني لم أأسف عليه والريف على حاله هذا، فولادته هنا ظلم له..

وقال :

- أما ترين أني أبلي بلاءً حسناً؟ لقد اقتبست بعضاً مما رأيت في الإسكندرية..

وقالت :

- إصلاحات نخبوية لم تمس جوهر الحياة قط، الإسكندرية بناء ثقافي واجتماعي مختلف عن حقيقة الصعيد، أحسب أنكَ لم تنتبه إلى هذا، كنت شغوفاً بها حتى إذا أعجزتك حياتها جئت بها إلينا..

وحمله حديثها الذي توافق والاستقبال الفاتر له في سعيه من الدوار إلى بيتها على الأسف، وصمت منطوياً على شيء كأنه في حومة معركة باطنية، ولم يمس صمته شيء - وقد تخيرت بدور الصمت حين حدست بما سببته من إثارة مناجاته الداخلية وقد ارتأت في صمتها الخير - حتى حضر ريفي منفعل كأن به مساً من الجان مضى في البيت دون أذن، وجاز عبد المجيد الذي كان لا يزال يقف لدى الباب، وطفق يهتف بالجالسين يقول :

- سيدي العمدة ! إن حارسك يتألم ويصرخ صراخاً كقعقعات الرعود.

ومضى بكر رفقة الريفي حتى دواره واستتر وراء شجرة من النبق  فألفى فهد ونصر الله وهما يرميان بجثة الحارس، ثم يرميان ببصرهما ذات اليمين وذات الشمال، هناك استعصم المختبئان بشجرة النبق، حتى إذا اطمأنا (فهد ونصر الله) إلى خلاء المحيط شرعا في إيصاد الباب الذي علا صريره، وحدس بكر وعلى نحو لم يعد يبلغه الارتياب من سبيل بأن انقلاباً ما جرى في دواره، لقد كانت آنية الفخار بما اشتملت عليه من السم أداة الخلاص منه وأحبولة الانقلاب عليه، وعاد إلى عبد المجيد يقول :

- سأحتاج عونك..

وتولى عنه من أراده أن يستنصره يردد بيت عنترة بن شداد :

- ينادونني في السلم يا ابن زبيبة،.. وعند صدام الخيل يا ابن الأطايب.. إني محايد..

وقالت بدور لزوجها تضرب على وتر في نفسه تعرفه :

- فلتنصره بحق الطفل الذي مات في سادس شهوره.

وقال عبد المجيد في شيء من الكبر الذي لا يلائم المقام الصعب :

- ليس قبل أن يعتذر من إدخاله الحيَّات دوار الرجال الصالحين، إن اعتذراً له صبغة شفهية وطبيعة لسانية يذهب كالهباء - أقول إن اعتذراً على هاته الصورة ما عاد مقبولاً لدي.

وبادره بكر إلى السؤال :

- وما اعتذاري إذاً؟

- اعتذارك أن تخلع عن بدنك الناحل عباءة الصوف الوسيعة..

وأوحت العبارة بمكنونها الدفين، فتساءل بكر مردداً أصداء ما استقبلته الأَفْهَام في بعض غموض :

- تريدني أن أتخلى عن العمودية؟

- أجل، لقد حزتها من شر السبل، محمولاً على أكتاف رضوان، ولم تكن أهلاً لها من وجه، وكل مُسير لما خلق له.

جعلت بدور تحض أخاها على الاستجابة لطلب زوجها، تذكره بحقيقة الدوار المختطف بمن فيه : صفوت وفردوس وتسنيم، فاستجاب لها بعد مقاومة فما أن تملص منها حتى تحرر من سطوة بالية كأنه المقرر المنفذ عن طيب نفس، كان هرج الأنباء الجديدة قد غمر الدور الريفية، وخرجت بدور تستشرف ما يدور فأخبرتها جارتها بأن رضوان قد نصب نفسه عمدة للريف على مرأى من جمهرة مؤيديه، وقد بارك حمروش تنصيبه فيما يشبه التظاهرة وبعد خطبة عصماء ألقاها، بدا أنه ما يلبث يجترها كي يشايع بها كل من غلب، وعادت المرأة إلى أخيها تبثه ما عرفت وتقول :

- عليك أن تصبر وتدبّر أمرَك ثم تنقضّ كالحِدَأة.

وجلس بكر في قلة حيلة وعجز يقول :

- تركت المدينة مخافة لعنة العجوز التي تطاردني لألقى مصيراً كهذا، ما من نصير لي، لم أصنع كثيراً من الحلفاء..

وهتفت المرأة في زوجها عبد المجيد بأن يتصرَّف فأجاب الرجل في صوت هادئ :

- لقد اكتسب أخوك بعض النُصَرَاءُ..

- من تقصد؟

- رواد المكتبات والصالونات الثقافية.

وتدخلت بدور تقول كأنما تزري بظن زوجها في الاستنصار من هؤلاء:

- وهل تُبتغى من هؤلاء نصرة؟ وهؤلاء محاطون بكبرياء العلم، بعيدون لأجل ذاك من تواضع التصرف.

قصد عبد المجيد إلى إحدى الصالونات الثقافية التي كانت تقام في أبي تيج فيما يشبه صوان الفرح كيما يختبر فرضيته، كان ريفي يقول :

- لشلايرماخر ذهنية نابهة، لمّاحة، ومقالات تستسيغها أكثر إن قرأت لكانت..

وكان ريفي آخر ينهض يقول وهو يضبط بذلته، وكانت البذلة حدثاً جديد الانتشار في الريف :

- ولكنه بالغ التطهريّة والنقاء والتفاؤل..

- هل تعيب على الرجل تفاؤله؟

- أجل، فارق بين الفلسفة الأدبية والنثر الأدبي، والأولى تتحرى الرصانة والثانية تلتمس الإلهام،.. فلتنظر لريفنا الذي انتكس بعودة رضوان، وأتحداك أن تحتفظ باستشبار في صدرك بعد ما حدث اليوم..

- للسلطة رغبة في النفوس فوق الشهوتين، القوة هي ما كان يفتقده بكر، وتواضعه ليس مما يلائم الرئاسة.

ووجد عبد المجيد الفرصة مناسبة كي يتحدث فنهض يقول :

- كان بكر يرى القوة في مثقفي قريته، ولكن آفة المثقفين أنهم لا يعرفون سوى الثرثرة.

ونظروا إليه جميعاً كعنصر غريب عن رفقة متجانسة، حتى سأله صاحب البذلة :

- ماذا تريد منا؟

- ألا تبلعوا ألسنتكم، لا أريد منكم نصرته، أريدكم أن تحرضوا البسطاء على التملص من سلطة رضوان والخروج عليه، إنكم طبقة جديدة ناشئة..

وألقى الرجل عليهم عباءة الصوف يقول :

- هذه عباءة العمدة، عباءتي وعباءة بكر، ومن قبله نوح وبهاء الدين، ليس لواحد أن يستأثر بسطوتها، بل لكل من حملها منكم جزء من ثقل مسؤوليتها.

وعلى هذا النحو مضى مثقفو أبي تيج يبثون في الأسماع كراهية العمدة الجديدة، وجعلت بدور تجمع الريفيات حولها تقول :

- لقد نزفت شجرة النبق حزناً على صاحبها بكر، هاته القابعة أمام الدوار المسطو عليه، اذهبوا وتفقدوها بأم أعينكم، إنها لتفرز مادة غريبة هي إلى قوام الدم أشبه..

وعلى هذا النحو حرصت المرأة على ترويج أسطورة شجرة النبق الوفية حتى شاعت وراجت في عقول الريفيين البسيطة غير الممحصة، فصار لها طقوس شعبية - كالتمسح بها والدعاء في قرب منها - لشد ما أزعجت رضوان الذي أمر بعقاب كل من يؤديها أمام "دواره الجديد"، وهيأت المرأة بهذا النفوس لعودة بكر الذي اختفى عن مشهد الحوادث - أقول هيأت المرأة عودته في صورة المُخلِّص ! 

 اقرأ أيضاً : 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق