روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/01

لقد أرسلني إليكِ يوسف..

           الفصل الخامس: لقد أرسلني إليكِ يوسف..


في العوايد..

أقامت ألكسندرا في حي العوايد بالإسكندرية وقد شق عليها وجودها بالمدينة : كانت امرأة فرنسية وحيدة (ما خلا زيارات حماها يوسف الشهرية لها)، لا تجيد لغة البلد (اضطرت إلى الاستغناء عن المترجمة لتوفير النفقات)، ثم أن ساعة وليدها قد أزفت وما يعينيها على مخاضها - إذا جاءها اليوم، أو غداً - إلا جارها العجوز (وكان طبيب نساء وتوليد متقاعد)، وإنها لمحبة للاستماع إلى المطربة داليدا - لما كانت مصرية فرنسية - التي كان انتحارها بالعام الفائت (1987م) بوابتها إلى التعرف إلى أغنيتها "حلوة يا بلدي"، وكانت تصف بليغ حمدي - ملحن الأغنية - بالموهوب الوحيد الذي صادفته في بلاد العرب،.. وسمعت بابها يطرق في خجل فنهضت في وهن كيما تجيب طارقه، وكان عقلها لا يزال يصور لها خيال زوجها زهير العائد المنيب التارك لهوسه في رفض الحداثة والتكنولوجياً إلى أحضان الزوجية، وطفقت تمني نفسها أن يكون هو كأنما ألبست الواقع ثوب الخيال، كان الطرق خجولاً على نحو أوحى لها بأن فيه حساً اعتذارياً لائقاً بالرجل الذي وجد في حملها غير المتفق عليه إثماً بثقل الأرض، ثم خاض في مخاضة التنكر والجحود والشطط، لقد وثق الطرق الخجول إذاً افتراضها في عودته المنيبة المعتذرة، وتوقفت المرأة قرب مرآة منكسرة فاطمأنت إلى سلامة صورتها وقد مرت بها أيام لم تفكر فيها في مظهرها، وكانت بطنها منداحة تماماً على نحو دل على اكتمال نمو وليدها كأنه الثمرة تثقل غصناً ميَّاداً، وإن في وجهها صفرة التفكر الطويل، وإعياء البحث المرهق عن المنافذ والحلول،.. وفتحت في وهن فألفت فتاة صغيرة ذات شعر خشن، يلفها البؤس من وجوه وإن كان في مقلتيها أثر الخير والود، وإنها لتقبض في يدها على ورقة، وساورها الدهش والارتياب، وسألتها تقول بلهجة عربية ضعيفة :

- من أنتِ؟

وأجابت الأخرى وهي تمد يدها إلى ألكسندرا بورقة العنوان الذي كتبه يوسف، وقد بدا أنها قد أرهقت ملياً حتى وصلت إلى مبتغاها بعد استقصاء طويل :

- إني سميحة، لقد أرسلني إليكِ يوسف..

فهمت ألكسندرا الجواب على ضعف إحاطتها بالعربية وقد هبط بتطلعها، وقد كانت - قبل جوابها - لا تزال تمني النفس أن يكون ثمة صلة بين الفتاة وبين زوجها، وأرخت كتفيها ورأسها كأنما "آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه"، وجلست ألكسندرا وهي تغمغم في فرنسية فتصف الخيبة التي في نفسها، وعجبت حين سمعت سميحة تقول هي الأخرى في فرنسية متوسطة :

-"معذرة، سيدتي، سيعود زهير إليكِ لأن أصله كريم كأبيه يوسف..".

وارتفع حاجبي ألكسندرا عجباً، تساءلت :

- "هل تجيدين الفرنسية؟!".

أجابت سميحة وهي تحك رأسها الخشن :

- "تعلمناها في الملجأ..".

سرت ألكسندرا ملياً بسميحة التي رأت أن بوسعها أن تقوم بمقام المترجمة المجانية لها، ثم هي خير من جارها العجوز - لما كانت أنثى مثلها - في النهوض بخدمتها متى هتف بها هاتف المخاض والولادة، ومضت تسألها عن بعض المعاني العربية فتجيب الفتاة بعضها وتغفل عن الأخرى، وذكرت شيئاً عن حقيقة أنها لم تتم عامها الأخير في الملجأ بعد أن هربت من جفاء المعلمة إلى تحنان يوسف ورعايته - أقول ذكرت شيئاً عن هذا في تفسير عدم إحاطتها بنظائر بعض المفرادات الفرنسية، وبثت المرأتان فصول ما قد تعرضتا له من إجحاف، قالت سميحة :

- "طردتني زوج الرجل الذي أنزلني في بيته منزلاً طيباً، لأنها ارتابت في شبهة الغرام بيني وبينه، بحق السماء، غرام بين فتاة مراهقة وشيخ عجوز؟".

وقالت ألكسندرا :

- "بات زوجي عدواً للتكنولوجيا، كأنه فرد في جماعة الأميش، وقد استجدت في طباعه نزعة نرجسية حتى أنه بات يرى في فكره المعصومية، لا مشكل لدي في أن ينطق المرء بأكثر الفكر غباءً ما دام هو يتيح لغيره الحق في تفنيدها..".

واضطرت ألكسندرا أن تشرح لسميحة حقيقة ما تعرفه عن جماعة الأميش Amish) أو Amisch من حيث هي طائفة مسيحيَّة تجديديَّة العماد تتّبَع للكنيسة المنيونيَّة.. إلى آخره - على نحو نأى بالحديث عن غرضه،..) مضت سميحة بدورها ترتب حوائج البيت الذي كان بدوره على حال من الفوضى، وقد بثت فيه بحضورها المتواضع روحاً حية توارى - لأجلها - ما كان قد اختمر فيه من شجون الأحزان، ومتاهات السؤال، وهواجس المصائر،.. وبدا أن سميحة كانت على علم بجغرافيا الحي (العوايد) وحقائقه الديموغرافية فوق علم المرأة التي هبطت فيه فجعلت تقول :

- "كانت العوايد أرضاً زراعية، وكانت بها عِزَب محسن والمباني والقلعة،  وأما كوبري العوائد فُأنشأ متأخراً في السبعينيات،.. هكذا سمعت من شيوخ المدينة..".

وأخلصت سميحة في خدمة البيت وترتيبه، حتى حدث وقفزت فوق سطح خزانة حجرة النوم كي تبدل الستائر القطيفية، ثم هي تهبط تحت أرجل الصالون المذهب ذي الزان الأحمر متى تراءى لها وسخ، وأخذت تقول:

- "سنتخلص من المرآة المنكسرة،.. إنها تشوه صورة الجميع..".

 وكانت ألكسندرا تهمس تتابعها تقول :

- "خادمة، ومترجمة، ومرشدة، وصديقة، لولا أنني معزولة في مدينة نامية لقلت بأنني محظوظة..".

هناك ألم بالمرأة الفرنسية ألم طارئ شديد، فجلست على كرسي الصالون المذهب وطفقت تقول :

- "سميحة،.. فلتأتِ،.. إنني ألد !".

 



في الولايات المتحدة..

كانت أسرة آمال قد جاءتها في زيارتها الشهرية بولاية ماريلاند حيث تقيم، وحين ظهرت الأسرة هابطة من القطار في سكة حديد بالتيمور بادرت الفتاة - على عادتها - إلى استقبال العائدين، وكان نعيم يهبط ببذلة مقلمة من طراز (Armani)، وبخطى رشيقة كدأبه متى وجد درجاً أو هو هبط من مرتفع، فيما كانت مريم ترفل في معطف من الفرو وقد أخذت ملياً برؤية آمال التي تنتظرها، وبدا عارف ثالث العائدين متأخراً في ظهوره الخجول حتى أن بعضاً من مستقلي القطار ممن هبطوا بعده قد سبقوه إلى ملامسة الطوار، وكان يلبس بلوفراً كلاسيكياً بنياً وسروالاً من الجينز، ومكث نعيم يقول له كأنما يوبخه :

- "حسبتك تكمل مسيرتي، في طب الأسنان، فإذا لم يكن فأن تضيف جديداً إلى حقل من العلوم..".

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص

وجعل الآخر يجيبه يقول :

- "سأفصح لك عن أمر : ما من شيء هو أكثر سوءًا من أن تحدث شاباً في العشرين عن الواجبات والمستقبل، إنه يمضي حاملاً خمسين أو ستين عاماً فوق رأسه،.. بمقدوري أن أعمل صياداً بسيطاً في مانارولا متى انسدت في وجهي كل السبل..".

 طالبت مريم من زوجها الكف عن الخوض في مثل هذا الحديث، فكان لها من إشارة العين ما جعل الرجل يصمت، ومضت الأسرة في مسار من الأشجار الزاهية المورقة، هناك طفقت آمال تحدث أخاها فيما استجد من حالها ومنير غير واعية بما بينهما من دواعي الفتور، قالت :

- "بت أراه كثيراً، وقد سُرت به المُربِّية حواء حين رأته، إنه يحب عدنان ولينا، ويعرف شيئاً عن موهبة مخرج الأنمي الياباني Hayao Miyazaki..".

استمع عارف إلى حديثها ملياً وقد كان بنفسه لايزال أسف وغبن من أُثر حديث أبيه، حتى صار يرى الأشياء - لسببه - بعين فاترة، وتوقف قرب جذع شجرة مبتورة بغتة يقول وقد أبدى حرجاً من حديثها :

- "بربك،.. إنكِ تزعمين أن وداً شبيهاً بالحب قد نشأ بينك وبين أخيك؟".

وأزاد الواقف يستخدم الفعل الإنجليزي  cringeفي توصيف شعوره، وأبدت الفتاة عجباً، قالت :

- "ما هو بأخي، لقد كنتَ (أي عارف نفسه) أول من أفصح له بالحقيقة..".

- "لقد كان كذلك (أي كان أخاً لها، ولو من جهة شكلية) طوال مدة، والأمر مريب..".

وعادت تستأنف السير، تسأله :

-"هل تغار منه؟! سأسدي إليكَ بنصيحة : لا شيء يواري الغيرة سوى الصمت..".

هناك أبدى عارف استخفافاً بحديث أخته، قال :

- "لا داعٍ لأغار من مجهول نسب، لدي حدس في الأشخاص نافذ، سأثبت لكِ صحة شعوري..".

كان منير قد جعل يحتفل مع صديقه مارتن وقد أصاب كل منهما توفيقاً في مسألة مختلفة، بات منير صديقاً لآمال، وأما مارتن فخطيب يسمع له العابرون ولا ينفضون عنه، وقد ملأ الرجل (مارتن) استمارة التوقيع للحزب الأمريكي الديمقراطي (Democratic Party)، وتجهز في أحلامه المستقبلية للمزيد مما كان أشبه إلى "معانقة النجوم قبل الإقلاع"، وقد قرأ شيئاً من مذكرات الرئيس الديمقراطي فرانكلين روزفلت متوقفاً لدى إدارته لملف الحرب العالمية الثانية : جعل بلاده "ترسانة أسلحة الديمقراطية"، كعرض من أعراض اهتمامه (مارتن) السياسي والحزبي،.. وقال لصاحبه :

- "الاحتفال، عزيزي، البشر يخلصون في أداء أعمالهم وينسونه..".

نصح مارتن صديقه بأن يلعب في شراكته لعبة جسر العقد (البريدج) في ليلية احتفالية، وكان الأول على علم بشغف صاحبه بلعبة رجل اليخت الأمريكي هارولد ستيرلينغ فاندربلت، على عهد إقامته (منير) بالإسكندرية في لوران، وقال منير معترضاً :

- "إنني ألعبها حينما لا أجد ما أخسره، واليوم شعوري مختلف كلياً عما كان عليه بالأمس، الحفلات ليست ساحتي..".

- "بحق الإله باخوس، ستلعبها لليلة واحدة، لا شيء ذو أهمية من الممكن أن تخسره في ليلة..".

حضر منير هاته الليلة الاحتفالية إذاً نزولاً لدى إلحاح صاحبه، وعجب لوجوده في البيئة الفاسدة ذات الروح الواطئة التي ألفى نفسه فيها، وجال ناظريه في الحضور فكان ثمة فتاتان : إحداهما سمراء والأخرى قوقازية، وتمثالان لفيلين صغيرين يحملان شمعتان ينيران، وفي هاته البودرة البيضاء على طرف طاولة اللعب التي عرف عبر السؤال من صاحبه أنها ليست إلا كوكايين، وقال مرتن له :

- "أشد المنشطات الطبيعية، لا أنصحك به، ولكنه من أجل السمراء (يناديها مارتن بسوزي)..".

 وتابع منير تواجده في مباءة السوء في غير قناعة حقة، وكانت الليلة التي وعى فيها أن رؤية الأمريكيين للسعادة ميالة إلى الجموح والإثارة والتهيج،.. وجعل الموزع (مارتن) ينشر على الجالسين ورقة مقلوبة، واستكمل التوزيع كامل المجموعة فصار لكل لاعب ثلاث عشر ورقة،.. وجعل اللاعبون يرتبون الأوراق ما خلا منير الذي كان لم يزل شارداً، مأخوذاً، وقد ناء ضميره بذنب عظيم، لقد كان يرى في نجاحه بوابة للتسامي لا الانزلاق، وعاودته ذكرى الغلايين والعجائز الذين كان يلاعبهم في لوران في تجلي مقبض، ورأى أباه المائت ذهباً في صورة الفتاة السمراء الثملة (سوزي)، قبل أن يمسح عينيه، وهفا في أعماقه المنقبضة إلى طهر مفقود،.. قال مارتن لصاحبه وقد استشعر شيئاً مما بنفسه :

- "عزيزي، بعض الأمور حري بها أن تظل سراً أبدياً، لن يعرف البشر أبداً هوية قاتل جون كينيدي، ولن تجد حلاً ناجعاً لكل مشكلة في رأسك..".

شرب منير كأساً متشجعاً بعبارة صاحبه وقد بدا في شرابه - قياساً لما كانت تجري عليه الأمور حوله - زاهداً حقاً، ولكنه عاد يقول لصاحبه :

- "مارتن، إننا نسيء إلى أنفسنا حقاً..".

وكان رأس مارتن قد مال، فجعل يهرف يقول :

- "لا يمكن للمرئ أن يحتفل دون أن يسيء إلى نفسه !".

هناك ضحكت الحسناء القوقازية التي عرف منير من صاحبه أن اسمها جينفر،.. وفي هاته الأثناء كان عارف قد مضى يتسلل إلى البيت الذي علت منه قهقة الفتاتين، وقد أحسن التستر فخلع بلوفره الكلاسيكي وتركه قرب تمثال في حديقة البيت كان الماء يهبط من فمه كالنافورة، ومضى بقميص رمادي تماهي به في بيئة الليل كالحرباء التي تبدل لونها في صحراء، تطلع الرجل إلى بعض من وقائع الجلسة العربيدية عبر نافذة نصف مفتوحة - رأى فيها مارتن وهو يضع الفائض من الكوكايين في درج كومودينو خشبي ذي طوابق أربعة - وقد أحس (عارف) نشوة عجيبة، لقد صدق حدسه وانطلق عائداً إلى حيث خلع البلوفر الكلاسيكي البني قرب تمثال النافورة الذي تضرر بالبلل من هذا الماء المتسرب من لدن قاعدته، فعاد (عارف) يلبسه عجلاً، ومكث يتمتم في سعيه ظافراً كأنما تراءى له شبح أخته آمال :

-"..I Told You So" (لقد أخبرتك مسبقاً).

ونهض منير بغتة عن "مجلس السوء" كأنما استمع لشيء من أثر الحركة المنطلقة لعارف، فجعل يقول :

- "ثمة آدمي كان يرقبنا..".

ولكن مارتن أجلسه ناصحاً له بمماهاة أحوال ليلة الاحتفال، يقول :

- "إنها أضغاث الثمول..". 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة