الحب أبقى على الزمان من البرونز

         الفصل العشرون: الحب أبقى على الزمان من البرونز

1979م..

وجد الخصام موطئ قدم في فيلا لوران بين عبد القدوس وبين زوجه المخلصة تفيدة، اشتعل عقب السيجار الذي ألقاه ذهب ثم جرى لاهث الأنفاس فبدأ في التهام محصول الوئام القديم، لم تعد المرأة تشاركه الأماسي فعزلت نفسها عنه مخافة أن يلحق بها مثيل ما قد لحق بالخادمة الفيتنامية من محاولة الإرغام، عاد عبد القدوس إلى سابق نزواته في الإتيان بنسوة غريبات - يعمل ذهب على تسهيل حضورهن دون علم الرجل - وقد أزرى هذا بجهد تفيدة الدائم في تنظيم وتنظيف كل شيء، من النمنمات الصغيرة ولوحات الفسيفساء المعلقة (التي قبل عبد القدوس بوجودها لخلوها من ذوات الأرواح) مروراً بتنظيف المدخنة من رمادها وإطعام القطط التي كانت تنام في سرير صغير من الخوص (قبل عبد القدوس بوجودها على مضض لاعتقاده بطهارتها الدينية خلافاً للكلاب) وحتى واجهة الفيلا التي تحرص على أن تكون بيضاء متحفة رائعة المنظر، وأخذ منها سلوكه مأخذ المهانة، ورغم شعورها هذا فقد ظلت مستمسكة بواجبها - كالنحلة النشطة - عساها أن تجبره من سبيل الحرج على أن يعدل عما هو فيه من الغي، واصطنعت غض الطرف طويلاً، حتى كانت تنظف رأس التمساح المحنط فخرجت عن سور الفيلا إلى السبيل وهناك سمعت من يقول في تندر أسيف مصطنع :

- امرأة مخلصة في بيت عربيد لاهٍ..

وتركت ما هي فيه فالتفتت إلى صاحب الصوت، وأدركت أنه ذهب فجعلت تقول :

- فلتنصرف يا غراب الخراب !

وتوجهت نحوه وفي يدها زعافة الريش التي رامت أن تضربه بها بينما تزيد تقول : أيهذا الصعلوك، وقال يصدها :

- بل إني أملك فلسفة حياة..

ورمقته بنظرة ازدراء وهي تهبط بالزعافة التي في يدها، فعد الرجل صمتها فرصة للتفصيل يقول :

- إن فلسفتي واضحة، وهي عين ما نطق به أحد شعراء الرومان في عهد أغسطس قيصر يوماً :

 ما أسعد من يعيش بعيداً عن قلق الأعمال ومتاعبها !

كما كانت تعيش أقدم شعوب العالم..

يفلح بثيرانه الأرض التي ورثها عن أبيه..

وليس عليه دين..

ما أحلى النوم تحت شجرة السنديان القديمة !

 والنهر يجري بين جسريه العاليين..

 وطيور الأيك تغرد..

 والماء يتدفق من العيون..

 يدعو الإنسان للنوم العميق..

وقالت تستهجن ما سمعته من أمر هو النقيض لبرنامجها اليومي النشط:

- إنها فلسفة صعلوك بحق..

وقال :

- فلترميني بما شئتِ ولكنني ما كنت لأخون امرأة على مثالك من الإخلاص النادر..

وقالت :

- الحب أبقى على الزمان من البرونز..

- تحبين رجلاً بلا منقبة واحدة؟!

- فلتنصرف عن هنا ولتزرع الشقاق في بيت آخر..

ولاح عبد القدوس بسيارته ذات الطراز الكلاسيكي "سيمكا" فتوارى ذهب راكضاً محاذاة سور من أسياخ الحديد، بينما تبتسم المرأة ثم تستأنف نشاطها في تنظيف الباب المغبر، ومضى عبد القدوس بعد أن هبط من عربته دون أن يلتفت إليها حتى دلف إلى الداخل المخضر، والعُشبٌ الأغنُّ، وقد حدست المرأة أمراً فلحقت به، وقال لها قرب أرجوحة خشبية بلا راكب بعد أن يزم على شفتيه :

- إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان..

- ماذا تقصد؟

- إن ضميري يشق عليَّ، تستحقين زوجاً هو خير مني.

وهبها الرجل حقيبة قطيفية ذات قفل أوصاها بألا تفتحها إلا حين يموت هو، وتولت عنه باكية فاحتواها الغضب والألم.

وفي موقع آخر، في قرية مانارولا الجميلة كانت أسرة نعيم قد بدأت تألف إقامتها الجديدة، كانت آمال، صغرى أفراد العائلة، تعاني مشكلة في السمع اضطرت معها إلى جراحة زراعة القوقعة (Cochlear implant)، ولما كان اكتشاف الأمر - ضعف السمع - متأخراً (في العام الثاني) فقد تأخر لأجل ذاك عمرها اللغوي، كان نعيم قد أشار إلى منير وعارف أن يكثرا على أسماع الطفلة الحديث المتنوع بالمفردات كيما يحصل أن يثريا حصيلتها اللغوية التي تخلفت، وقد كان منير يعرج إلى التحدث باللهجة النوبية فراحت تتناهى إلى أسماعها إلى جانب العربية والإيطالية، وقد غضب عارف من تصرف أخيه كل الغضب يقول :

- لشد ما أنتِ مستهتِر زنيم ! ستصيبها بمزيد من الارتباك في الفهم حين تستخدم لغتك المنقرضة.

هذه المرة وعى منير المفردة زنيم (بلا نسب معروف) وعياً آخر، لقد كان قبل سنوات من اليوم يمرر حديث أخيه دون أن يأخذه مأخذ الاعتبار، واليوم هو ابن الثامنة عشرة الذي يعي دلالة اللفظ الشائنة، وعبثت به الظنون، فعاد ينظر في المرآة إلى بشرته السمراء في تيه وغضب، إن ذكريات تأتيه مشوهة في عقله المحموم عن نهر يجري، وبيوت ملونة، وبشر سمر، وأب هو غير نعيم،.. ثم عرج إلى الأخير يطلعه على ما في نفسه :

- ماذا يقصد عارف؟

وأجابه نعيم :

- لماذا تأخذ مسبة أخيك مأخذ التصديق؟

- إنه يذكر الأمر في تواتر عامد منذ طفولتي..

وحاول نعيم أن يستهلك انتباهه في موضوع آخر يقول :

- لقد اخطأت على أي حال حين استخدمت اللهجة النوبية تردها على أسماع أختكِ التي نخشى عليها الصم..

وسأله منير كأنما يفشل سعيه إلى تشتيت انتباهه :

- أهي أختي على الحق واليقين؟

وطاشت محاولات منير في تفسير أصله وهجاء أخيه في الفضاء، لم يشأ نعيم أن يظهره على الخفي من سيرة أبيه نزولاً لدى رغبة زوجه مريم التي كانت تلح عليه بأن يبقي الأمر سراً أبدياً لا حاجة لأن يطلع عليه صاحبه، إنه أمر - بزعمها - إن بدا له ساءه بلا ثمرة والأحرى أن يعتزله،.. ونصح له الأب بأن يعود يستمتع بشراب هو من الأناناس والسكر متجولاً بين التلال وكروم العنب، متناسياً الأمر برمته، وقال له أيضاً :

- فلتلزم الحذر عند المنحدرات..

 كان نعيم - مقتبساً الدور الإرشادي الذي كان يلعبه أبوه طه في حياته - يحدث أن يأخذ يجمع منيراً وعارف فيعلمهما أصول الحياة ومبادئ السلوك، وحتى - في عمر أسبق من اليوم - قراءة الساعة وأصول الحساب وأداء الفروض الإيمانية، ويعرض لهما مبادئ الفلسفة، ويوماً قال لهما :

- إنني لا أعرف ما إذا كان حب الخير صفةً فطرية أم مكتسبة. وأود أن أسمع منكما جواباً، أعرف أن خواطر عن الكون هي مما يثور في عقل المراهقين..

وصمت الاثنان ثم تحدثا في عين الأثناء - كأنما أورثهما خلافهما عدم التوافق في فهم بعضهما لبعض - حتى نطق عارف يقول :

- لابد للأخلاق من مصدر فوقي، ولابد من عالم آخر يُجازى فيه المخطئ.

وعارضه منير - لما كان محملاً نحوه بشعور من النقمة - يقول :

- الضمير الإنساني فوق المصادر..

- إذا كانت حياتنا مقتصرة على هذه الدنيا فهي بائدة بغير معنى ولو طالت، وكل ما فيها إلى زوال حتمي.. أنى لكَ بالضمير إذا فقدت المعنى؟

وقال منير :

- وكأنك تحتاج إلى من ينصحك بألا تقتل أو تسرق؟ إن أخلاق المجتمع هي ابنة ثقافته، وفي الموروث ما هو معيوب وما هو محمود، وإذا استمسكت به دون فحص أو تفنيد تكون إلى مثال المرأة التي كانت قد درجت على أن تقطع ذيل السمكة وراثة عن أمها دون أن تعي أن المبرر وراء صنيع الأم هو صغر الوعاء الذي كانت تعد فيه الأسماك - أقول إلى مثالها أشبه.

- إن حياة بلا آخرة أشبه بقلعة يبنيها المرء قبل أن تصدمها موجة فتأتي على بنيانها.

- تشبه صرح الحضارة والمعرفة بقلعة رمال؟

- الصرح العظيم والقلعة الرملية صائران في أنموذجك إلى لا شيء.

وبدا نعيم سعيداً بالنقاش بين الاثنين غير واعٍ لما يحمله الأخوان حقيقة إزاء بعضهما من كراهية تأخذ صورة النقاش والجدال، وحتى لقد ندت عن شفتيه ابتسامة على وجه وضي، ولكن عارفاً أردف يقول :

- إنك تصيغ الفكرة التي تتيح لكَ أكبر قدر من الحرية بلا ضابط.. فلتأتِ لي بأنموذج أخلاقي بلا مصدر فوقي..

وذكر منير شيئاً عن داروين الذي لم يأخذ قط أكثر من بيضةٍ واحدة من عُشِّ كلِّ طائر، الرجل نفسه الذي تبرم بكلية اللاهوت وتركها، فأجابه الآخر بأن صلاح الرجل معزو في جملته إلى إرشاد أخواته المسيحيين ومثالهن، ثم خاتمته الربوبية، وأتبع منير يقول :

- ثمة الأخلاق الوثنية أيضاً : من تعاليم أمينيموبي وحتى أخلاق نيقوماخس وشرح سمبلكيوس لأبكتيتوس،.. هل أتاك حديثهم؟ وكما يقول أرسطو في مقدمة كتاب  «الأخلاق النيقوماخية» عن الخير : في الطب مثلًا هو الصحة، وفي فن الحركات العسكرية هو الظفر، وهو البيت في فن العمارة، وهو غرض آخر في فن آخر، لكن في كل فعل، وفي كل تصميم أدبي، الخير هو الغاية نفسها التي تبتغى،.. وأما دافعي نحو الأخلاق فيجب أن يكون محبتي للبشرية، اعترافي بالدَين تجاه المجتمع، إرادتي لفعل الخير لأجل ذاته، ثم رغبتي في صالحي الخاص في هاته الحياة وفي صالح الأجيال القادمة،.. وأزيد أقول بأنني - على حريتي المفتقدة للضوابط - لم أسب إنساناً بأنه بلا نسب..

- سببتك بما هو حق دون تجني، إنه لتوصيف لا مسبة..

وهنالك تدخل نعيم والعيون من حوله جامدات يقول :

- فلتلتزما الهدوء إذ إن أحداً لا يمكن أن ينطق بحق وهو في سكرة من الغضب الطائش، ولتتجنبا الشخصي من الأمور، فمناقشة الفكرة المجردة فوق الجدال حول الحدث العارض الذي هو بدوره فوق الخوض في الشخوص، وتلك المنازل الثلاث يعيها الحكيم ويغيب عن فهمها السوقي..

وانفضت الجلسة بناءً على نصيحة مريم التي زعمت أن علاقة الأخوين أهم من مناقشة فلسفة الخير، وانفرد منير بنفسه في حجرة موصدة النوافذ، مرة أخرى يبث عارف في أسماعه نذير الهواجس التي لا تنتهي، وسيقصد إليه كيما يتعرف عما لديه ولو كان أكثر من يكرهه من البشر، وسيعود رائق الخاطر أصفى من جني النخيل، ودق على بابه فاستقبله عارف بوجه جهوم ثم تولى عنه، وسأله الآخر :

- ماذا تقصد بأنني بلا نسب؟ فلتخبرني بما لديك..

ومكث عارف متولياً عن السائل يقول :

- لن أخبرك بما يغضب مني والديَّ..

وقال منير في شيء من اليأس كأنما أوصد في وجهه باب المخرج الأخير لمتاهة :

- لقد نصحاك بأن تحجب عني الحقيقة.. نعم النصح ما أسداه إليك !

وساد صمت ذابت بعده بعض النقمة، كجبل يذوب ثلجه ويجري ماؤه، لقد مس عارف يأس محاوره وفطن إليه، وقال متأثراً بما سبق :

- سأخبرك إذا عاهدتني على ألا تذكرني أبداً مصدراً لما عرفت..

وقال محدثه في لهفة :

- أقسم أنني لن أجيء لكَ على ذكر..

وتنهد عارف كأنما يحدس بأنه سيتورط لتوه على ما قد يآخذ عليه ولكن بلا مزيد طاقة لديه نحو الكتمان :

- إلهي ! إن هذا لأشق من وقفة على وتد، ولكنني سأحاول : إنك نجل رجل نوبي له سمرة فاحمة كسمرتك، وقد تخلى عنك لما كان بلا مسؤولية، واسمه فيما أذكر ذهب..

حاز عارف السر النفيس كمن أصاب تمرة الغراب، وترك الحجرة في غضب محموم فأخذت مريم تناديه أن انتظر كيما تهبه شراب الأناناس، ولكنه مضى عنها ولم يعد إلا حين لاح وجه الفجر، لقد أحال عارف جنته في مانارولا جحيماً، وقالت له الأم تستقبله كظيمة الشعور :

- بتنا شر ليلة تبيتها أسرة، جزعنا عليكَ، وخشينا من أن يكون قد عرض لكَ عارض سوء، وما منعك أن تخبرنا برغبتك في التنزه الطويل؟

وكاد منير يقول :"تلومونني على ليلة وقد عشت في كنفكم عمراً في خداع؟"، لولا أن لاح عارف - كأنما يذكره بما كان بينهما من العهد - فخشى أن يفضح ما كان قد أقسم على كتمانه والحفاظ عليه، وقال وهو يدلف حجرته كأنه صوت أرغن مكتوم :

-  إني لمعتذر..

 اقرأ أيضاً : 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له

الفصل الثالث : ليس في حياتي ما خفيه

الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 

الفصل الخامس : ما لا نبوح به

الفصل السادس : فراق بيني وبينكم

 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة

الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك

الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت

الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى

الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك

                    الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة السيدة العذراء

الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية

الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس

الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب

الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم

الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق

الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : الحب أقوى على الزمان من البرونز

الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول

الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر

الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا 

الفصل الرابع والعشرون: لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..