روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/27

خطبة مارتن في سكة حديد بالتيمور

    الفصل الخامس عشر: خطبة مارتن في سكة حديد بالتيمور


في الولايات المتحدة..

كانت آمال في مقامها ببيت السيدة حواء (إيفا) تتابع مسلسل الأنمي الياباني جزيرة الكنز، وكان الطلاب غير مهتمين حقاً بالمعروض بل إن منهم من كان يستنكره لسخفه، فلا يمنعه من تغيير قناته سوى إرادة المُربِّية الحازمة في الإبقاء على هذا العرض إرضاءً لأنبغ طالبات المكان (آمال)، كانت الأمور على هذا النحو إذاً حين ترامى من الخارج البارد صوت اصطدام سيارة، ونهضت آمال فزعة لما كانت الوحيدة من طلاب المقام المالكة لسيارة تذهب بها وتجيء، ولكن المُربِّية نصحتها بالنكول عن الأمر فراحت تقول في عاطفة رصينة تتحرى سلامتها :

- "عزيزتي، الليل دامس، والبرد قارس، فلتبقِ الساعة ولنرَ الأمر غداً في ضوء النهار.".

ولاحظت حواء تردد الفتاة فقالت كأنما تروم أن تطمئنها :

- "لدي سيارة أيضاً، ويحتمل أن الضرر قد أصابها بمثل ما يحتمل أن يكون قد أصاب سيارتك.".

وتدخل من القعود واحد يقول :

- "كلا، ، لا جرم أن سيارة آمال قد أصيبت جزاءً عدلاً لتعذيبنا بهذا السخف الطفولي في أوقات تسلياتنا الليلية المحدودة..".

ونصحته المُربِّية - التي كان لها وجه حازم على تفاعلها الطفولي - بالكف عن إزعاج الفتاة، ثم جعلت تعيد النظر إلى التلفاز تقول في حماسة منفلتة لا تليق بامرأة متقاعدة :

- "سيصل جيم حتماً إلى كنز القبطان فلينت الأسطوري !".

لم تنم آمال جيداً في هذا الليل البارد وأطاحت الكوابيس بأوقات استغراقها العارضة، وكان حدسها - المدعوم بالشواهد والبينات - يدلها على أن سيارتها - لا سيارة المُربِّية - قد مسها الضر لما كانت حواء محبة لركن سيارتها ذات الطراز Acura Integra)) قرب البيت فيما صدر الصوت - وقت صدوره - عن الحديقة الملحقة بالبيت حيث تحرص هي على ركن سيارتها ذات الطراز ((Audi 5000 / CS Turbo، وجعلت تفكر في صورة السيارة المحطمة وكم سيؤذي الأمر أبويها نعيماً ومريم من جهة معنوية، هذان اللذان حرصا ويحرصان بدورهما على توفير المستحيل لها، ثم تهيئة سبل التفوق والنبوغ لعقلها الفطن، وقد أوشكت زيارتهما الشهرية.. ومع أول خيوط النهار قصدت (آمال) إلى موضع السيارة فألفتها على حال جيد كأن لم يمسسها سوء ما خلا هاته المصابيح التي تضررت وتحطمت، غير أنها - ولما دققت النظر - ألفت ورقة في قلب هذا المصباح الأمامي المحطم، ودلها غرامها بقصص البوليسية على المبادرة بفتح الورقة، وهناك ألفت كتابة ركيكة بالأحرف النوبية، وعادت الفتاة بالورقة الغامضة إلى المُربِّية وقالت وهي تشير إلى هذا المنزل الخشبي في نهاية السبيل المحفوف بالعشب :

- "إنها كتابة نوبية على ورقة صغيرة، وقد دسها شاب أعرف منزله في المصباح المحطم لسيارتي..".

وتفحصت حواء الورقة ملياً، ثم سألتها :

- "وماذا تعني؟".

-"لا أعرف، لعله أراد تعويضي عما لحق بالسيارة من ضرر بسيط، سأقصد إلى المنزل الخشبي كي أعرف..".

-"هل تريدين أن أصحبك إليه؟".

وقالت آمال وهي تبدأ حركتها لدى الباب فيتوزع جسدها بين حجرتين:

-"لا حاجة إلى القلق، أعرف عنه (أي عن منير) أنه قد أنقذني في طفولتي من الغرق في مدينة أبي، وأمي حدثتني عنه حديثاً طيباً..".

وذكرت المُربِّية شيئاً عن ضرورة التماس الحذر الواجب خصوصاً وأن الشاب قد قام لتوه بواحدة من أشهر الافتتاحيات الخاصة بطرق التجنيد التقليدية للجواسيس،.. دقت الفتاة على الباب الخشبي في حذر إذاً، وفتح مارتن للفتاة الطارقة وكان لا يستر جسده الأسمر سوى سروال قصير، وقد فرغ لتوه من خطبة حماسية عن الاقتصاد الأمريكي وتأثير تحولاته على الأقليات العرقية ما جعله يشهق ويزفر، يقول كأنما يتدرب للحديث أمام رواد أحد الحانات :

- "وقد ترتب على هذه السياسة ارتفاع مستمر في سعر صرف الدولار خلال خمس سنوات ابتداءً من 1981م، كما أن انتخاب "ريغن" قد خلق لدى المستثمرين استباقات جيدة عن الدولار.".

وأوحى له خروجه بصورته شبه العارية بتورطه في حماقة دعته إلى غلق الباب، فعاد يرتدي سترة رسمت عليها أيقونة جيفارا المجردة من دقائق التفاصيل المعبرة - إلى ذاك - عن هوية المناضل الكوبي باللون الأسود، واستقبلها (آمال) وهو يعيد فتح الباب يقول :

- "عذراً، سيدتي، أي خدمة؟".

ولم يترك لها فرصة الجواب فطفق يزيد :

- "هل بمقدوري أن أطمع في تبرعك لمؤسستنا الحقوقية (وهنا اختلق الرجل مجموعة من الأحرف المقطعة التي ترمز زيفاً إلى اختصار لمؤسسته الوهمية)؟ إننا نقبل التبرع بالفرانك الفرنسي، أو المارك الألماني، أو حتى الين الياباني..".

وابتسمت آمال لحماسة الرجل حتى لاحت سنتاها الأماميتان البارزتان، وأخرجت من جيبها ورقة الكتابة النوبية، وهناك فهم الرجل المرام - وكان منير قد عرض عليه فكرته - التي اقتبسها بدوره من كتاب يورد الأساليب المخابراتية - في اختلاق قصة تكون سبباً إلى التعرف بالفتاة فاستحسنها - يقول بعد أن حدق إلى الرموز التي لم يفهم بدوره منها شيئاً، في صوت بطيء الفهم يتحرى السداد في القول، كأنما يدَّعي استيعاب شيئاً مما قد اطلع عليه من الأبجدية الغامضة :

- "لقد أراد منير تعويضك، أجل، إنه شاب نبيل حتى أن استعداداً لديه لأن يبحث عن المتاعب بنفسه مادامت في سبيل الأخلاقية التي يوليها شطره، فلتنتظري ها هناك حالما يعود..".

وجلست الفتاة على كرسي فيما استأنف الرجل خطبته (هذه المرة وهو رافل في سترته) يقول :

- "وهكذا استطاعت بلادنا عبر التحكم في سعر الفائدة والدولار أن تفعل اقتصادها القومي، وتؤثر في عملات الدول الأخرى، ثم تعرقل التنمية في الدول المنافسة،.. سادتي، رواد الحانة، أو مهما تكن هوياتكم، لقد تمكنَّا من ضرب عصافير ثلاثة بحجر واحد يتيم ! وفي عالم تُحاك فيه المؤامرات ويحتال الكل على الكل سأنحاز إلى بلادي، ولكن الوفرة الاقتصادية تحتاج إلى عدالة تصل بها إلى كل يد، وإلى كل فم، لا فارق في بلاد المهاجرين (أي الولايات المتحدة) بين أسمر وبين أبيض، أو بين هندوسي وبين مسلم..".

وعاد منير إلى بيته فجعل يقول لصاحبه دون أن ينتبه إلى وجود الفتاة التي كانت خجلى في جلستها بالبيت الغريب :

- "إن صوتك من العلو حتى أنه يُسمع من لدن ناصية السبيل، وقد أزعج جارتنا الخَرْقاء حتى أشتكت لي عجزها عن النوم..".

وأجابه الرجل وقد مالت ذقنه إلى أيقونة جيفارا على سترته :

- "إن هذا عين المطلوب، أن يستمع كل آدمي في ماريلاند إلى خطابي وأن تصله رسالتي،.. الطريق مظلم وحالك، فإن لم نحترق أنت وأنا، فمن سينير الطريق؟ كما يقول الشهيد المرسوم على هاته السترة (يريد جيفارا)،.. ها قد حضرت الفتاة التي أفسدت سيارتها برؤيتك الليلية الطائشة كرؤية البقر..".

هناك ذهل منير من رؤية الفتاة التي يعرفها في زاوية الحجرة، وقد حمله قول صاحبه على الحرج حتى التبس عليه التصرف، وقصد إلى درج الخزانة - كأول ما بدر إلى مخياله - ففتحه كاشفاً عن حزمة من الأوراق الخضراء، ووهبها ما يوزاي ثمن المصباحين، وسألته :

- "ولماذا كتبت رسالتك بالنوبية؟".

وأجابها بالجواب الذي أعده لمثل هذا الموقف وكان يجتهد في جعل الأمور تبدو منطقية وطبيعية يقول :

-"اشتبهت في هويتك، ولا شك أنك قد اشتبهت في هويتي، وقد رأينا بعضنا مرة أو مرتين، كنتِ فيها على حال من الفزع، وكنتُ على يأس وعجب، وقلت لو أنها هي لأدركت الرابط بيني وبين لغتي النوبية، ثم جاءتني، وقد صدق ظني.. (ثم وهو يبتسم) وأما إذا لم تكن كذلك فإنها لا تستحق التعويض..!".

ونهضت بغتة تقول وهي تنظر إلى ساعتها الكلاسيكية :

-"سأقصد إلى محطة القطار، سيزورني أبواي اليوم، وأروم استقبالهما هناك..".

وتدخل مارتن يقول :

- "يجب أن نصحبِك إلى هناك، السير في وقت الفجر في ماريلاند غير مأمون، إن سكة حديد بالتيمور من القرب الذي لا تحتاج معه إلا إلى بضع دقائق من التمشية المتأنية..".

وحمد منير تدخل صاحبه مؤكداً على سلامة رأيه، وأضاف شيئاً عن شوقه إلى رؤية نعيم ومريم، أبويه القديمين المصطنعين، وهناك قالت الفتاة :

- "إنهما (أي أبويها) يتحدثان عن فيلا لوران في شوق كبير..".

وأجابها منير وهو يتذكر أحواله في الفترة التي سبقت هجرته من مصر :

- "من أسف أنني قد بعتها وقد آثرت الهجرة..".

 وبلغ ثلاثتهم المحطة - في أجواء يشيع فيها الثلج الأبيض وتبدو فيها الأشجار كجذوع وأغصان بلا خضرة كأنها أعجاز خاوية - فكان وصولهم أسبق من وصول القطار، كان ثمة عازف للهارمونيكا يسلي المنتظرين بعزفه فوقف الجمهور حوله يشجعونه ويشنفون آذانهم بلحن آلته ذات الريش البرونزي، ثم يضعون في قبعته سنتاً، وتقدم رجل له قبعة بيضاء ومخايل نعمة فوضع دولاراً، ووضعت آمال دولارين، وكاد يبدي منير عجبه من تصرفها متخذاً العجب مدخلاً للحديث إليها بعد حرجه الذي لازمه طوال فترة التمشية، إلا أن عازف الهارمونيكا قد مضى قاصداً إلى ملاذ آخر وإلى وجوه جدد تغدق عليه، ومكثت آمال تتبعه بناظريها في أسف فحار منير ملياً بين إقبال وإدبار، وأمسك عن الإخبار بما في نفسه، ولكنه - بعد الإمساك - اعتزم الحديث، أي حديث، لقد شعر (منير) آنئذٍ بأنه سينفجر إذا هو لزم الصمت، وجعل مارتن يصيح في الواقفين كأنما أغراه حشدهم وأشفق على تفرقهم :

- "أعزائي،.. إن لحركة كالحقوق المدنية تاريخ متجذر في ذاكرة هذا البلد، مع بزوغِ جذورها في عصر إعادة الإعمار أواخرَ القرن التاسع عشر، أدّت الحركة إلى أكبر الآثار التشريعية بعد الإجراءات المباشرة والاحتجاجات الشعبية التي نُظّمت من منتصف الخمسينيات حتى عام 1968م، واليوم موصول بالأمس كأنوار الفجيرة غب عتمات الليل،.. وبالعود إلى الوراء قليلاً، فلقد قامت السكك الحديدية بدور هام في الحرب الأهلية التي حمى وطيسها لأسباب عنصرية، و كان لهذا الخط على الخصوص (يريد سكة حديد بلتيمور وأوهايو) مكانته الممتازة بين سائر الخطوط الحديدية بسبب توسط موقعه...".

ومكث مارتن يهتف برواد المحطة الذين راحو ينفضون عنه، كان لحماسته كثير التعثر في تكوين الجمل، وسرعان ما استحال حديثه إلى ما يشبه المصطلحات العمومية الرنانة التي لا يجمع بينها قوام متامسك، وانهار بناء منطقه وخرج من الباب الذي دخل منه الانفعال، لقد هَرَج في حَديثه إذاً، ومع الانفضاض التدريجي ظل الرجل يزيد في فورته، حتى صار حديثه أشبه إلى صخب يصدر من اللاوعي، كأنه صوت بطة، وعبر رذاذ فمه المتناثر محيط الهواء البارد الذي كان يخرج منه،.. ولم يبقِ له من جمهور عازف الهارمونيكا إلا بعض الرجال ذوي البشرات السمراء ممن لم يئن موعد سفرهم أو استقبالهم لذويهم،.. وإنه (مارتن) لكذلك حتى جاء القطار بالأبوين : نعيم ومريم، ووقف منير ينتظر هبوطهما ملياً وقد طافت في عقله بعض الصور اللطيفة التي جمعته بالاثنين في مانارولا وفي لوران، وبوغت بظهور الابن عارف أولاً - نظراً لخفة حركته قياساً إلى الأبوين - خلافاً لتوقعه، فاستحالت أماراته من فورها من الانبساط إلى الانقباض، وقد كان بين الاثنين ود مفقود، وتقاطعت عينا منير بعيني الآخر الذي لم ينس (منير) كيف أفصح له (عارف) عن حقيقته ذات يوم، فبرق شرر الضغائن، وانعقدت سحائب الأحقاد، وغضب منير وامتلأ بحنق أشعل بواطنه في مناخ الثلج الأبيض فانصرف عن استقبال الأبوين، وخفق قلبه في شدة واضطراب، كان آخر الرجال المستمعين إلى حديث مارتن، المنتظرين في محطة القطار - أقول كان آخر الرجال هناك لتوه قد انصرف، وقال منير لصديقه في غضب بادٍ :

-"فلتتوقف ! مارتن ! بحق ذاك الثلج الهابط، وباسم هاته الأعجاز التي يحييها الربيع ويميتها الخريف في كل عام.. ماذا دهاك؟ لقد أفسدت فرصتي في الحديث إلى الفتاة..".

هناك التفت مارتن إلى حقيقة أنه إنما يحدث نفسه، وقد آلمه أن يسقط في بئر الوهم الغائرة السحيقة، وسبق منير صاحبه إلى العودة فلحق به الآخر، ومضيا في سبيل الأوبة المحفوف بالأشجار والثلوج البيضاء صامتين واجمين، فلما وصل مارتن إلى البيت الخشبي خلع "سترته الجيفارية" ومكث يتأمل نتوءات الحائط.

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول:   رأيت الطمع في عينيه

الفصل الثاني:  عسى أن يكون صدري منشرحاً

الفصل الثالث : صورة المُخلِّص

الفصل الرابع : إلى أين المسير؟

الفصل الخامس : الخواطر المستغرقة

الفصل السادس: نظرة أخيرة

 الفصل السابع: أسطورة شجرة النبق 

 الفصل الثامن: عودة فتاة فيلا لوران

الفصل التاسع: ألكسندرا في غابة بولونيا

الفصل العاشر: مصرع زهران بسبب مراهنات الكرة !

الفصل الحادي عشر: بكر يتحدى سلطة رجال القرية

الفصل الثاني عشر: حوار في مطعم جيوفاني

الفصل الثالث عشر: سلكت سبيل الحب ! 

الفصل الرابع عشر: حفل عرس في حمام شهريار

الفصل السادس عشر: لقد صفحتُ عنكِ

الفصل السابع عشر: إفناء العمر في الشقاء

الفصل الثامن عشر: كأنك تحكمين عليَّ بالهلاك

الفصل التاسع عشر : انطفاء شمعة لا يعود لهبها

الفصل العشرون : نفسيتي تتحسن حين أروي قصة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق