روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/21

عسى أن يكون صدري منشرحاً

        الفصل الثاني: عسى أن يكون صدري منشرحاً



في بيت يوسف..

قطع زهران على نفسه عهداً أمام ابنته بنبذ القبيح من عاداته، كان زهران - وكشأن بعض الآباء - كثير الخشية من غضبها وقافاً عند حدوده، يتقي فوراتها، ويتحسب ثوراتها، فإذا كان عهد الرجل مع سائر الخلق التلاعب والاحتيال فإن به ضعفاً إزاءها حتى إذا رآها على حال النقمة عليه كشف عن وجه طيع، يتحرى لغاية استرضائها، ويتوخى مأرب استمالتها،.. كأنه الفأر المناور متى انتهى في مصيدة انكمشت صورته واستسلم لأقداره،.. إنه يعود معترفاً بأغلاطه مكفراً عنها ما وسعته القدرة، هناك تسخو عليه ابنته بابتسامة الصفح والرضوان، وحتى لقد عكف عن تشجيع الزمالك وتخير الاتحاد السكندري الذي كان يمر بفترة من التدهور وتراجع الشعبية وسط الوافدين الجدد للمدينة، وقال في هذا : "اخترت نادياً يمر بفترة سيئة لئلا تطاوعني نفسي على المراهنة على نتائجه.."، وحضر إلى بيت يوسف ومعه حقيبة النقود، وقال :

- عرفنا كرة القدم (يريد أهل الإسكندرية) مع الاحتلال البريطاني 1882م، كانت لعبة الأجانب، ومنذ أسس حسن رسمي الاتحاد السكندري الذي توخى إجلاء البريطانيين عن مصر مع الاحتفاظ بتبعيتها للدولة العثمانية، وجدنا الممثل الرياضي الشرعي لنا..

وكان يوسف يرى في فكرة إجلاء البريطانيين والاحتفاظ بتبعية أكثر سوءًا للدولة العثمانية حماقة كاملة، فسأله :

- وماذا عن الأوليمبي، أعلم أنه أسبق من الاتحاد تأسيساً؟

- أسسه الباجوري (يريد مخلص الباجوي) باسم نادي النجمة الحمراء ليضم موظفي مصلحة الجمارك، والأجانب، وميوله تجاه الإنجليز تجعلني أنأى بنفسي عن أن أشجعه..

وكان يوسف يقول له :

- أنتَ تبالغ كثيراً في تقدير أهمية الكرة وربطها بالسياسة..

- كيف أبالغ؟ إنها بمثابة ميدان للنضال الرمزي، إن هدفاً يسجله اللاعب في آخر اللحظات هو بمثابة استيلاء الثوار على قصر الحكم.

وابتسم يوسف يقول :
- هذه مبالغة أكبر من الأولى..

وأجابه زهران في صوت منفلت منفعل :
- المبالغات هي ما يضفي على الحياة رونقها، ولو التزمنا بالعقلانية لهلكنا بحدودها الفاترة..

وأوغل الرجل (زهران) في حديثه عن الكرة العالمية حتى وصف فوز المنتخب الإيطالي بكأس العالم الفائت (1982م) بأسلوبه الدفاعي السقيم (بتعبيره) وبعد إقصائه للمنتخب البرازيلي الهجومي بالكارثة الكاملة التي أفسدت إمتاع الرياضة، باركت ابتهال هذا التحول في سلوك أبيها وجعلت تشير إلى زوجها الذي كان يقف لدى باب حجرته أن تقدم، فلما استنكف عن تلبية طلبها نهضت إليه، كانت الإضاءة خافتة وقد صنعت للرجل أكثر من ظل، وساقته كأنها رسول يتحرى إصلاح ذات البين ممسكة يده إلى أبيها الذي وقف بدوره ومعه حقيبة المال يقول :

- فلتعذر سوء قصدي، وإن النفس لأمارة بالسوء !

وتلقف منه حسين حقيبته في شيء من التأفف، وقال :

- آمل أن تكون الأخيرة..

وجلس الرجل متهللاً، يقول لابنته :

- لقد سامحني الأفندي، فلتغفري لي إذاً..

وقالت :

- لقد غفرت لكَ غفراناً مشروطاً بما ذكره حسين..

وقعد الرجل محزوناً كطفل نُزعت منه دميته يقول :

- ليس غفراناً كاملاً إذاً..

ولشد ما عجب يوسف من تغيب زوجه عفاف هذا الاجتماع العائلي مع تشديده لها بأهمية الحضور، كان تحول كامل قد طرأ على سلوك المرأة منذ عودتها إلى الإسكندرية، فاتحته برغبتها في إقامة دار للأيتام أو حضانة للأطفال لقاء جزء مما جمعته من رحلة الشهرة بباريس، واقترحت أن تحيل مقهى الفنانين الذي كان يمر بضائقة من جهة الزوار والعائد إلى مسجد تسميه برياض الجنة، وقد استجاب لها يوسف بالقبول لما كان عمره المتقدم يزري بأدائه للفقرات الضاحكة فيه، فلا عاد يليق به ترخص الماضي في الافتعال أو الحركة، وقد تذكر خواتيم سير إسماعيل ياسين وشكوكو وثريا حلمي بعينين آسفتين، وكره أن يؤول إلى مآلهم.. وكان أكبر ما أصابه بالدهشة (يوسف) حين كشف لها (عفاف) عن صورة العارضة الفرنسية أليس برين Alice Ernestine Prin  - التي كانت ترى فيها عفاف أنموذجاً تتحراه على عهد صعودها العالمي - بعد أن استخرجها من خزانة الأكواب المرمرية فما كان منها إلا أن قالت :

- فلترمِ بالصورة ولتتخلص منها..

وقد صارت على حال من الانفعال والعدوانية والانسحاب الاجتماعي، وعادت إلى البيت فابتهج قلب الرجل الذي كان منشغلاً بها، وقال يستقبلها :

- لقد وقع الصلح بين المتخاصمين، لن تصدقي ما ستري في صالة البيت..

ووهبت الصالة نظرة آسفة فكان زهران لا يزال يحتضن حسيناً مشدداً عليه ألا يزيد عليه لكراهيته أن تنزع منه مساحته الشخصية، وأردف يقول بينما تخف ذراعي الواقف :

- سأقبل بهذا لو كان الحاضن امرأة جميلة..

وسرت عدوى الضحك حتى وصلت إلى شفتي يوسف، واستدار إلى العائدة يبحث عن صدى السرور الذي في نفسه فلم يجدها، ودلف إلى حجرتها يسأله عما هنالك، وقد كان لطول عشرته بها عليماً بتحولات نفسها، فدعاه تصرفها إلى حدة من يرصد غريباً في عزيز له فيحزم أمره على أن يستكشف كنهه، منهياً ما يعتريه من أسباب الحيرة التي لا تهدأ معها كوامن نفسه، وأجابته المرأة باكية وقد أخذت تندفع نحوه تقول :

- الطبيب يقول أني أعاني أعراض داء النسيان (ألزهايمر)..

هناك احتضنها يوسف في صمت كظيم.

 

في الكويت والإٍسكندرية..

عزم فؤاد أمره على زيارة حماته فيفيان في حي فلمنج بالإسكندرية لما علم بمرضها من رسالتها إليه، وقد تخير الإبقاء على نجليه عماد وإسحاق بالكويت في معية جارته آسيل التي قبلت طلبه بصدر رحب، وحين بلغ العائد غايته ارتأت زوجه المبادرة بزيارة أمها فيفيان قبل القصود إلى أمه هدى، وقالت في تبرير هذا :

- أخشى إذا تأخرنا عنها أن تحضرها الوفاة (أي فيفيان)..

وقال :

- سأصلي إذاً، عسى أن يكون صدري منشرحاً لاستقبال ابتلاءات السماء.

صلى فؤاد إذاً في مسجد القباني، أقدم مساجد الحي، ومكثت زوجه القبطية تتابع حركته وأداءه للشعيرة، وكان قلبها ينبض بحس إيماني قوي فهمست في نجواها بآي من النجيل في قلب دور العبادة الإسلامية، ومضت تقلب النظر في وجوه العامة تفكر فيما سيكون تصرفهم لو أنهم علموا بما في خاطرها، واستشعرت خطر الغوغائية التي طفحت على حياة الجميع وأزرت بمعاشهم، وخرجت من المسجد حين تفرسها من الجلوس واحد ففزعت من نظرته نحوها، وإنها دون حجاب الرأس باهتة الزينة مع ذاك.. كان وصف فيفيان لمقامها غير دقيق تماماً، فقد كان بيتها واقعاً في حي باكوس (الذي يتداخل مع فلمنج غرباً)، وقد كانت أكثر شي قرباً من مدرسة راهبات نوتردام دى سيون (وقد سُلمت المدرسة العتيقة إلى رهابات قلب يسوع)، واستزرعت فيفيان أمام عقارها شجرة خروب لم تصل بعد إلى نمائها المطلوب، وعدتها المرأة دليلاً منظوراً أوردته على هامش رسالتها للاسترشاد بسكناها الذي وصفته بأنه مغناج، ذو أبهة !

 

وفي هاته الأثناء كان عبد العزيز قد قصد إلى بيت آسيل، وسألته الفتاة الكويتية حين فتحت له :

- هل من خدمة أؤديها لكَ؟

واختلق الرجل سبباً للزيارة غير السبب الحقيقي : رغبته في التعرف إلى الفتاة فجعل يقول :

- أوصاني سيدي (أي فؤاد) أن اطمأن على سلامة طفليه وعلى سير الأمور هنا.

وأذنت له الفتاة الكويتية بالدخول في خجل، ولكنها سرعان ما توارت وحضر أخوها الذي طفق يقول في شيء من سأم كأنما قد أجاب الجواب عينه من قبل لسائل آخر :

- عماد يروم أن يتفقد كل شيء بيديه هنا، وأما إسحاق فكثير النوم كدأب الأطفال الصغار،.. من أين أنتَ؟

وتساءل عبد العزيز الذي تحرج أن يجيب السائل بالجواب الذي يعرفه : غيط العنب، وكان لبدانته الزائدة كثير الشك في نفسه وفي صورته :

- هلا أمكنني أن أتحدث إلى أختكم في شؤون رعاية الطفلين؟

وانسحب الرجل وحضرته أخته آسيل مجدداً وقالت في ريبة :

- معذرة، إن من الغريب جداً حضوركم، الساعة..

وتملك الرجل استخذاء شديد فود لو ابتلعته الأرض، أو أنه خصف على جسده الذي أحسه عارياً بورق من التوت، فها قد انكشف أمره، ولكن المرأة أردفت تقول عطفاً على ما استدعى شعورها بالغرابة:

- لأن شاباً ملثماً قد جاءني يسأل عن الطفلين هذا النهار.

واشتعلت في عقل عبد العزيز حيرة باطنية حملته على قلق من نوع آخر، ليس هو قلق الحرج أو الخشية من انكشاف الأمر، ولكنه قلق تضارب المعلومات وحدسه بالأخطار التي هو في فلكها، وأردفت الفتاة تقول في تحليل خاطئ :

- لعل فؤاداً كان كثير القلق على نجليه فأوصى الأول بتفقد الأحوال ثم أتبعه بالثاني،.. لا بأس.

وسألها عبد العزيز الذي اكتسب شيئاً من الثقة لشعوره بامتلاك  معطيات فوق ما لدى غيره وإن اختلطت في نفسه مغازيها، وكان عليماً بخطأ الاستنتاج الذي أتت به الفتاة لما كان غير موصى بالزيارة من طرف فؤاد :

- هل أخبرك زائر النهار عن اسمه؟

- كلا..

وأزاد في ارتباكه حتى فاق القلق طاقته وسألها :

- أكان في وجه الملثم حسنة لدى خده الأيسر؟ أعني لدى منتهى شِّدْقه على الدقة.

وابتسمت آسيل ابتسامة وافية تقول :

- وما بالي ووجنته؟ ثم كيف عساي أن أرصد تضاريس وجهه وقد غطاه بما حجبه عن قدرة البصر، لقد ذكر بأنه سيعود ساعة العصاري حين لاحظ ارتيابي منه..

ولم تكد الفتاة تتمها حتى دق الباب ذو المسامير المقببة، وتطوع عبد العزيز بأن يفتح بديلاً عن صاحبة الدار، وألفى زائر النهار الملثم فسارع إلى فضح وجهه، هناك مضى الرجل في هرب حتى اختفت صورته من مساحة الباب، وخبرت آسيل بوجهه الدميم وتلمحت حسنته وهناك مضت تصرخ حتى حضر أخيها الذي هتف بعبد العزيز يقول وهو يرى أخته على الأرض في حال كالقرفصاء ممسكة برأسها المطأطئ أمام باب نصف مفتوح :

- الويل لكَ،.. هل آذيتها، أيهذا البدين؟

- ....

وفي موضع آخر، كان فؤاد وزوجه قد عثرا على دار فيفيان بعد شقاء السؤال، وفتحت المرأة للزوجين القلقين فجعلت تقول لهما في صحة جيدة:

- وأين إسحاق؟

وذهل فؤاد من صورتها وبادلها السؤال بسؤال :

- سيدتي، هل تحسنت حالتكِ على هذا النحو المذهل؟

ولكن المرأة أعادت تسأل عن الصغير ثم جعلت تفتش عنه محركة هذه الحقائب، حتى بادرتها غادة تقول :

- خشينا أن يصيبه شيء مما أصاب عماداً من ضيعة المدينة، فتركناه في بلد بتنا نأمنه فوق بلادنا.. (ثم وهي ترنو إلى وجه أمها المتورد) لقد افتعلتِ المرض كي نحضر إذاً.

وجلست فيفيان تقول فيما يشبه التأوه :"عونك يا إلهي.."، ثم أردفت بحديث موصول بما قد سبق في بيئة البيت الجديد التي بدت محتوية على عناصر بيتها القديم من القوارير الفخارية والثريات والأيقونات :

- فعلت هذا كي تحضرا وابنكما إسحاق، أردت أن ألقنه (أي إسحاق) شيئاً من محبة الرب، وقد أعجبت باسمه إعجاباً جماً، رب الولد في طريقه فمتى شاخ أيضاً لا يحيد عنه أبداً، إن بيني وبين الطفل الذي لم أره لواعج شوق ووداداً حقيقياً (ثم وهي تطلع إلى ابنتها في تكدير..) وقد كنتي لتتجاهلي رسالتي إذا أنا أفصحت لكِ عما بنفسي.. !

 اقرأ أيضاً : 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق