رواية قلوب حائرة
في أبي تيج..
اختلف تلامذة حمروش في جوابهم على عبد المجيد، وظلت قلوبهم حائرة، لقد رأوا جسد معلمهم من أمامهم يخر بلا حول ولا طول بعد ضربة صاحبهم له، وقد طلب عبد المجيد منهم مساعدته على حمل جسد معلمهم إلى بيت تسنيم لما ألفى صعوبة في رفعه وحده، وكان الشيخ بدين التكوين وقد بدا كأن كتلته قد زادت وثقلت بغفلته عن الوعي، بقى الجسد الطريح إذاً على الأرض أمام التلامذة، وقال قائل منهم :
- تريدنا أن نطاوعك في إثمك العظيم،.. ألا بئس الطلب والطالب !
وكان الشاب على تخطيط مسبق لموقف مشابه فأخرج من جيب قفطانه سرتين من الفضة يقول :
- إن أجرتكم هذه (أي سرة من الفضة) إذا أنتم حملتموه إلى حيث سعف النخيل وفروع الغار (أي إلى بيت تسنيم)، وليتقدم منكم جسور أو جسورين، أتخافون ممن أذاقكم بعصاه شر النكال - تخافونه نائماً كالطفل؟ يا ويلي من شوارب خطت على الوجوه بلا شكيمة لأصحابها أو عزم !
واشتهت طائفة من الجلوس أن تجيب الطالب إلى طلبه، وللمال في النفوس سحر لا يُجحد، وتقدم نحوه منهم اثنان هم من أبدوا الاستعداد لمساعدته، ولكن أولهم جعل يقول كأنما يضع شرطاً غريباً يرضي به ضميره :
- أنت تدعي أنك طالب حق، وطالب الحق ينبغي له أن يكون ملماً بأساسيات جلسات العلم، فلتخبرنا بأسماء الطواسين من السور، فإذا أجبتنا صدقت، وعاوناك على مرادك..
أجاب عبد المجيد بالجواب الصحيح الذي يعرفه :
- الشعراء والنمل والقصص..
واقترب التلميذ الأول من جسد حمروش يقول :
- عذراً سيدي، ما باليد حيلة..
وصاح بهما عبد المجيد يقول :
- احملا المأفون بلا عذر أو اعتذار..
ومضى جسد حمروش يتقلب فوق الأيادي بين السراب، تحمله ستة أكف وتنظر إليه عيون جمة محايدة،.. كان العوام من أهل القرية ينظرون إليه في ذهول يتساءلون : "هل مات؟ أهو في علة؟ وأين عمامته؟"، وكثير غيره من مثل هذا، وطلب عبد المجيد من صاحبيه التمهل في سيرهم ليدرك الخبر مسامع الجميع، ولتُبَث في النفوس شيء من الرهبة التي لا تسوس - بزعمه - قلة كثرة إلا بها، وليعلموا أن عهد التحريض قد انتهى. أوفى عبد المجيد بوعده إلى التلميذين فوهبهما سرتين من الفضة وانصرفا عنه، وملأ السرور أعطاف تسنيم حين وصل عبد المجيد بمطلبها غانماً، أمرت المرأة بحبس حمروش في حجرة مهملة قرب صخرة الحوش كانت تضع فيها الفائض من الحبوب والأنعام، وقالت لعبد المجيد في بشر :
- كان هذا مهر زواج..
ذهل الشاب فجعل يتساءل :
- أي زواج، سيدتي؟!
لاحت بدور من حجرة الفرن فمضت على أرض هذا الفناء المذهب، استوى جسدها في فستان أبيض في لون الثلج، وحمل شعرها منديلاً منمنماً بترتر، قالت الأم وهي تملي النظر في صورتها - كالمعجبة - مدة :
- لن تجد خيراً منها، إنها لأطوع من صلصال..
قال عبد المجيد في واقعية كأنما هبط إلى الأرض بعد تحليق :
- إني فتى بلا سكنى أو مورد..
وقالت :
- آليت على نفسي أن أهب الدار بفدادينها للمخلصين..
ابتسم عبد المجيد يرقب حركة عروسه الحيية على الرمل حتى بلغت مبلغ السعف وفروع الغار، وقف إبراهيم يتابعها أيضاً من نافذة البيت وقد كره الحقيقة بشطريها وأضمر التصرف واحتوى على شيء، لن يقبل بأسير كحمروش في بيته، ولن يرتضي من ينازعه سلطة التصرف في الفدانين كعبد المجيد، وقالت تسنيم في عناد وثقة اكتسبتهما من تحييد ألد المحرضين ضدها، وخلو ساحة الرئاسة لها :
- سنقيم العرس رغماً عن إبراهيم..
وكانت بدور تسألها :
- وإرادته؟
- تباً لإرادته..
وقالت البنت في براءة وخيرية :
- أريد أن يكون عرسي يوم فرح للجميع..
- سيكون كذلك لولا قلة من المكابرين..
- هل أبي من المكابرين؟
- ويحكِ ! جعلت من إبراهيم أباً لكَ؟ إن أباكِ أبكم وقد مات، وسيرته التي هي في الغابرين حية فوق السير، وحبة رمل يمشي عليها هي فوق إبراهيم بما جمع مثابة عندي..
وصمتت الأم ثم عادت تقول :
- سأرسل إلى بكر في طلب حضوره !
وقالت بدور :
- لن يحضر ولو أرسلت إليه..
وتراهنت الأم وابنتها حول حضور الغائب بالإسكندرية، يوفي الخاسر منهما بدين بسيط هو طاقة من ثمار الجميز،.. وأقيم العرس في الفناء نفسه الذي احتوى في أحد حجراته على الشيخ الأسير، تلاشت استغاثات الرجل تحت درداب الطبول، لم يحضر بكر (بطبائع الأحوال لما كان مختطفاً)، وإن حضر إبراهيم حضوراً متأخراً، ومعه اثنان من رجال الأمن حتى إذا اقترب من الباب تفرقا عنه أو تفرق هو عنهما، ووصل رجل الأمن الأول إلى قلب الحوش الكبير ينادي وفي أعقابه يسير صاحبه :
- من يكون مالك هاته الديار؟
هناك توقفت الطبول وعم الصمت المقيم.
في العامرية..
استأنف رؤوف تردده إلى حانوت الريس جعة بالعامرية، واختلف إليه متناسياً خلافه القديم معه، وطلب مراده من النبيذ الأبيض فأجابه الرجل (جعة) يقول :
- النبيذ الأحمر هو خير الصنوف جملة، والامتناع عنها خير إن كنت تعلم..
وتلقف منه الشاب زجاجته التي طلبها من ذاك الصنف الأبيض، يقول:
- بربك.. لمَ تساومني في أمرها إذا أنتَ تبيعها؟
وقال جعة وكانت له ابتسامة تزين وجهه ذا العينين المظلمتين كأنه يرى في المنام رؤيا طيبة :
- لستَ من الفئة التي أحب أن أبيع لها، إذ أنتَ شاب وفي مقتبل العمر، والخمر مما يُفسد العقل، وقد رأيت من تأثير البوظة وشرها ما أحال أبناء الذوات وأصحاب الورث إلى شحاذين..
وتركه رؤوف وحده يثرثر دون أن يعي الرجل حركته، وجعل الشاب يشرب ما في يده ثم يلقي بين رفعة الزجاجة وأخرى نظرة إلى الحقيقة الوادعة الهادئة لذاك السبيل، حتى سمعه يناديه :
- رؤوف ! رؤوف ! أين ذهبت أيهذا الشقي؟
وجاءه المنادى عليه في مضض فجعل جعة يتحسس محيطه، يقول :
- أنظرني حتى آتيك بالأمانة..
وتحرك جعة نصف خطوة ثم امتدت يده إلى سطح طاولة صغيرة إلى الجوار منه، مكث يتحسس مساحتها حتى أدرك كراساً، فقبض عليه قبضاً قلقاً، ثم عاد به إلى المُنتظِر (رؤوف) يقول :
- جاءتني بها فتاة حسناء ترتدي الخمار الذي بسببه أظلمت جل معالمها واسمها فيما خبرت صالحة، وقالت إنها ابنة هزاع، الرجل الذي خلصني من يدك في شجارنا الأخير..
وتلقف رؤوف كراس الألسن الذي كان قد نسيه في بيت هزاع بعينين راضيتين، ثم عاد - لما استجمع ما قد سمع من محدثه - يقول في عجب وهو يضعه على كرسي صغير :
- وأنى لكَ أن تعي أنها حسناء إذا أظلمت عيناك من العمى، وأظلم جسدها في الخمار؟
وأجابه الرجل فيعود يتمثل صورة من يرى في المنام شيئاً يسعده، فيما تلوح هاته المرة أسنانه المصفرة لفرط الابتسامة التي تصاحب حديثه :
- كان لها صوت أرق من النسيم حين حدثتني به، وصِبية العامرية شاكسوها في الرائحة والغادية، وعبثوا بخمارها، لولا أنني صددتهم عن هزلهم وبغيهم، فما كان منهم إلا أن استخفوا بي.. هل بينكما شيء؟
واضطرب رؤوف وعد سؤال الرجل البصير تدخلاً في الخصوصية غير مسموح به، فأجابه وقد بدا أن الشزر منه قد بلغ أوجّه فيتطاير من أماراته المنزعجة :
- وما شأنك؟ أنت متطفل، والخير أنك لم تُوهب عينين..
وأجابه الأعمى يقول :
- لاجرم أنه الخير كي أتفادى النظر إلى سحنتك..
قبض رؤوف على كراسه إذاً ومضى يكظم انفعاله، وقد عزم على زيارة هزاع كيما يشكره وابنته على معروفه بعد أن ألقى نظرة على ساعته الجلدية فألفى متسعاً من الوقت يخدم تطلعه، وعرج إلى البيت الذي يعرفه بالجزء الغربي من المدينة في ساعة العصاري، وأجابه هزاع الذي بدا أنه قد توقع مقدمه فلم يعجب لرؤياه يقول :
- كنت عليماً بأنك آت..
وأجابه رؤوف في شيء من الخجل :
- وددت أن أشكرك من أجل هذه.. (يشير إلى كراسه)
- فلتشكر ابنتي..
وشعر رؤوف بسلامة عبارة هزاع البدهية، فكأنما انتقل من حرج إلى حرج :
- أتمنى هذا بحق..
تركه هزاع إذاً فدق على حجرة ابنته، وعاد إليه يقول :
- أمهلها بضع دقائق حتى تكون في استعداد لاستقبال الضيوف..
أجلسه هزاع على الأرض ذات الحصير البدوي، ووهبه ونفسه شراباً من الدوم المجروش، وطفق يروي له طرفاً عن أحوال العامرية أو الكارة بمسماها القديم كما ينطقها بلهجته، ويريد بها القارة أي الأرض القاحلة الجدباء، وعرج إلى الحديث عن بحيرة مريوط التي كانت ولاتزال مورداً مائياً لأهل المكان يقول :
- وأقليم مريوط كان يوماً كوصف سبأ، قيل عنه : بلدة طيبة ولها رب غفور، بحيرة من ماء غير آسن، عذبة المنهل، بها جنان من العنب، ويُزرع بها القمح والشعير، وهذه (أي زراعة القمح والشعير) حرفتي التي توارثتها.
ثم احتد الرجل في ملامحه، وكان لاندماجه في الوصف غير مدرك لانعزالية رؤوف عنه وعما يقوله :
- انظر إلى بحيرة مريوط اليوم بعد أن صار الملح مورداً من مواردها، لقد أطلق الإنجليز عليها لساناً من ماء البحر فأفسدوها، ولا ألوم الإنجليز لأنهم رحلوا عن ديارنا قبل زهاء عقود ثلاثة، ولأن المنطق يقضي بأن يعمل كل طرف لخدمة مصالحه،.. ولكنني ألوم تقاعصنا وقصور همتنا نحن، فماذا صنعنا إزاء فعلتهم النكراء؟
وشرب هزاع من الدوم مزيداً فعجب رؤوف من استساغته للمشروب المر، واستأنف الرجل يقول :
- هم أرادوها (أي الإنجليز) تدبيراً عسكرياً لهم ونحن تركنا الأمور على ما هي عليه.
لم تكن في نفس رؤوف طاقة للحديث وحتى شراب الدوم لم يعجب به كثيراً، ومكث في صمت يلعب في هذا الحصير يميله ويرده ثم يتأمل في هاته المشغولات البدوية ذوات الألوان والزخارف، ويتصنع الاستجابة الجادة للحديث بين آن وآن، وإنه لكذلك حتى لاحت صالحة في ثوبها البدوي وخمارها المعتاد، ومضت تمشي الهوينى من بابها إلى مجلس الرجلين فيما كان أبوها يشجعها يقول :
- ما صاحبنا بغريب.. هلم.
وتدانت إلى الرجلين - وإن لم يتأثر سيرها كثيراً بتشجيع الأب لها - فمدت يدها حين بلغت النطاق الذي أهلها للأمر أو قبل ذاك بقليل، كان رؤوف قد نهض يروم شكرها، ولكنه صمت طويلاً حين تلاقت عيناه المكدودتان بعينيها الجعداوتين، صمتاً انتقل بانعزاليته في البيت الغريب إلى استغراق.
- أغراك النبيذ بالتجاوز يا فرنسيس، بئس من يغرس نفسه في وحلة الشرور ثم يلوم الإله! هذه هي التجربة، الفقر حقيقة، الثراء حقيقة، والله حقيقة.
- لمَ تملك الكنيسة سلطانا على حياة الشعب؟ لماذا يتدخل الكهنة في تحديد زواجي بامرأة؟
- الكنيسة مؤسسة إلهية بشرية، الله يعمل في الكنيسة من خلال البشر.
- الله لم ينصب الإكليروس للنيابة عنه، لا كنيسة دون شعب.
- ولا كنيسة دون إكليروس.
حاول باسليوس طرد خاله الثَّمِل من بيته ولكنه بُوغِتَ برؤية هذا الجندي عند الباب، قال له:
- لن يخرج أحد منكما من البيت، اِلْزَمَا داركما ولا تخرجا منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق