روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/19

أيتها السماء.. فلتتركي السعداء وشأنهم

    الفصل الواحد والعشرون: أيتها السماء.. فلتتركي السعداء وشأنهم




حضر منير درس يوم الخميس بمسجد عمر بن الخطاب في الإبراهيمية نزولاً لدى طلب صديقه الجديد بلال، وقد ألفى منير بلالاً لدى أول الصفوف قرب محراب الإمام وكان وحده دون البقية في هذا الصف الذي بلا لحية، لا تقصيراً منه ولكن لكونه أمرد، وابتدأ الشيخ جلسته في عد فضائل شهر رمضان الذي تصفد فيه الشياطين، وتضاعف فيه الحسنات، ثم عرج - حين أحس رتابة الحديث المألوف في مثل هاته المناسبات فقصد إلى المعاصر من القضايا - يقول :

- كانت السبعينيات الفترة الذهبية للعمل الطلابي ولا ريب، واليوم نمر بضائقة تسبب عسر الحركة، إن فارقاً هو كالبون العظيم بين منهجنا وبين مناهج الآخرين، فتركيزنا مركز حول المجتمع نفسه، لا نروم سلطة ولا نطمع في جاه !

وتدخل أحد الجلوس المتحمسين فنهض يقول :

- لماذا نتعامى عن الحقيقة الجلية؟ ومصر منذ عهد محمد علي تحكم بقانون فرنسي علماني..

عاد الشيخ إلى حديثه الأول حول فضائل شهر رمضان، وقد ارتأى في منير ما أثار ريبته وحفظيته، وظنه عنصراً مدسوساً يترقب ذلة منه فيشي بها إلى الأمن، وخشى في محضره أن يجرفه الاسترسال إلى ما هو حري بالإحاطة والكتمان، كان بلال قد تلمح منيراً في جلسته الخلفية من قبيل الصدفة حين جالت عيناه في فضاء المسجد فسر به قلبه وانشرح انشراحاً عظيماً، وحين انتهى الدرس حض بلال منيراً على الحديث إلى الإمام، فجعل يقول له :

- هلم ! فلتبثه ما في نفسك، فوالله ما من لسان يجلي الكروب مثل لسانه..

ونهض منير في حرج فتقدم الصفوف الخلفية رفقة صاحبه إلى أن بلغ مبلغ الإمام، وحين أظهره بلال على حقيقته ابتسم ابتسامة الانشراح والتندر وجعل يقول :"لقد أسأت الظن به وحملني هذا على الحذر.."، ومكث يرفق به فيضع يده على كتفه ثم على خده كأنما استأنس به بعد خشية، وجمع مراد عزمه فروى له -  متأثراً بما بدر منه من لطف سابغ - ما كان من أمر تفيدة ووفاتها التي أدمت قلبه، وظل يصف له يقول:

- لقد هوت من فوق سلم الفيلا ذي الدرجات الكثر كسلم هذا المنبر،.. أما رأيت نهاية أفظع من هاته؟

وأجابه الرجل جواباً أربكه وقد كان يتوقع منه المواساة عطفاً على تصرفه الأول :

- أما ترى أن المرأة كانت عاصية فأراد الله أن يفكر بعض إثمها؟ أو لعلك كنت على ذنب عظيم فجعل - جل شأنه - موتها على مرأى عينيك عبرة لكَ.

وأحس منير برودة الوضوء ولفحت وجهه نسمة أرعشت بدنه، وجعل يحمد للإمام جوابه على غير قناعة ثم يمضي، ولاحظ بلال منه ما حمله على السؤال قرب باب المسجد :

- ألم يعجبك جوابه؟

- إن به نزعة إلى الغلظة والجفاء، كيف يمكن أن تكون تفيدة عاصية؟ لقد كانت رحمها الله والواجب شيئاً واحداً.

- لا تسمها الجفاء بل هي القوة التي يحتاجها من وقع في دائرة سوء كيما تستنفر عزيمته، فينفض عن جسده غبار الحزن، سأراك في الدرس القادم،.. أليس كذلك؟

- فلتنتظرني بالمجمع، إن هذا خير لي.

وصحيح أن منيراً لم يعجب كثيراً بشخصية الواعظ في مسجد عمر بن الخطاب ولكنه أعاد تفكيره في نمط حياته القديم بفيلا لوران، كان النوبيون من أهليه يأتونه طالبين تسهيلات السفر إلى الولايات المتحدة وجعل يفكر :"إنهم ما طلبوا السفر إلا لغرض في نفس يعقوب، وتلك بلاد يسهل فيها اتخاذ الخدن.."، وكان من أثر ذاك أن امتنع عن الأمر امتناعاً تاماً، وغلظ في استقبال ذويه حتى حبب إليهم البعد من التماس العون منه، وفي عصر يوم من الأيام التي أعقبت تغيره الأخير دق بابه ففتح، وهناك ألفى جماعة من النوبيين يسألونه الدخول، وأذن لهم، وقال أولهم يعاتبه :

- ماذا جرى لكَ؟

وقال :

- لم أعد أقبل بتسهيلات السفر إلى بلاد الذنوب، لست سمسار أذى. 

- وماذا عن أبيك منير؟

- ليس لي أب قط.

- إنه مريض، وقد أرسل إليك رسالة.

وأخذ الفتى بما سمع فجعل يتلقف رسالة منير على نحو تضعضع معه كبرياؤه :" عزيزي منير..

لقد قضيت عمراً متأثراُ بقول شوبنهور الذي يقول : إن الحياة كالبندول تتراوح بين المعاناة وبين السأم، وأما السعادة فوهم ما أن بلغناه حتى ألم بنا الضجر، وقد رددته قناعة مني في أحيان، وزيادة مني في طلب الحزن - لما كنت أرى في الحزن حكمة ورفعة عن طلب لما يزول اليوم أو غداً - في أحوال، ولكنني الساعة قريب من النهاية قرابة البنصر بالوسطى، وأستطيع القول بأن شوبنهور كان مخطئاً مثلي، لا أقول كليبنتز فيلسوف التفاؤل بأننا "نحيا أفضل حياة ممكنة"، لأن أفضل حياة ممكنة لا يمكن أن تحفل بما تحفل به حيوات البشر من معاناة الفقد، وغصة الألم، وضياع البوصلة، وحتى هجران الولد، ولكنني أقول بأننا نحيا "الحياة الوحيدة الممكنة"..

 

إنني أنتظرك على فراش المرض، لا يحتاج المريض إلى دواء في أحوال كثر، إنه يحتاج إلى ابتسامة عطف كبلسم مسحور ترد إلى نفسه الأمل وتحيي فيه الرجاء..". 

 

في بيت زهران..

استيقظ حسين في إِبْكار هذا اليوم ملتمساً البحث عن حقيبة النقود التي فقدها في عشية الأمس، وكان الشاب نائماً دون ثيابه التي بُللت ما خلا ما يستر الوسط بين زهران الذي كان غطيطه المسموع، آية على إزعاج لم يخفف وطأته إلا اصطخاب موج البحر واصطفاقه، وبين زوجه ابتهال التي تلفعت في قماشة كبيرة من الكتان وإن ظلت ترتعش طوال الليل، وتصك أسنانها، فلم يحالفها النوم إلا لماماً، ولم يأنس جفناها السوداوان إلى النعاس إلا قليلاً، فيما اتخذ داوود لنفسه مضجعاً هو إلى جوار أبيه،.. ألهبت الرمال الحارة جسد حسين العاري إذاً فطفق ينهض عن مضطجه، ومر بثيابه وثياب داوود وزهران المنشرة على حبل أقيم بين وتدين، ثم خَاضَ أَمْوَاجَ البَحْرِ بحثاً عن الحقيبة، فلما أتم بضع أمتار من السعي فارقت قدماه اتصالها إلى الرمال وعبر الزَبَد، وحمل الماء جسده وهناك سمع من يهتف به يقول متصنعاً الأسف :

- فلتكف عن محاولة لن تسمن ! ولتستعوض الله على ما قد ضاع من المال، والخير أننا لم نهلك مع القارب..

وكان صوت زهران فعاد إليه حسين متخذاً السباحة ثم السير في الماء وسيلة إليه، يسأله عما هنالك وقد أخذ منه الذهول مأخذاً، وأجابه :

- اقتفينا أثرها طوال الليل وسط ظلمتين (يريد ظلمة الليل وظلمة البحر)، أنا وداوود، لقد أرهقنا البحث من أمرنا عسراً، إنه بحَرٌ طَمُوحُ المَوْج ونخشى أن يبتلعك بفوراته الرَعْناءُ مثلما أهلك أبهى قواربي.

ولكن حسيناً لم يمنح قول صاحبه المثابة اللازمة - لمَّا كان ساقط الاعتبار في تقييمه - فعاد يبحث عن الحقيبة، ومر من طاقة الزمن ساعة حتى جعل زهران يعيد الهتاف يقول لابنته :

- فلتحدثيه بما رأيتِ إذ إن لكِ عنده مثابة فوق ما لي عنده، ألم تري شابين أحدهما أبيض أمهق كأنما قد أصابه برص، والثاني كالآدم الأسمر، يسبقاننا إليها ثم يختفيان كلمح البصر؟

ونظر حسين إلى عينيها ملياً فكانت تقف إلى جوار أبيها، وأومأت في ضعف، كانت عيناها تبدو كَحْلاَءُ، وما هي بالكحلاء، وقد بدد الأرق والهم ألقهما، وسألها وهو يقترب منها :

- وأين ذهبا (أي الأمهق والأسمر)؟

ولزمت الصمت فجعل الشاب الغضوب يمسك بكتفيها في شدة ويعيد عليها السؤال : "أين ذهبا؟"، حتى تملصت من ذراعيه الشديدتين وعادت إلى حجرة البيت باكية، هناك توجه غضبه إلى أبيها فجعل يصيح فيه :

- ما أنتَ إلا كذاب أشر..

وقال زهران :

- فليسامحكَ الله، كدت تخلع كتفي زوجكَ بانفعالك الأرعن، فلتذهب إليها ولتعتذر منها فإن في النساء وهناً يزري بمن يقابله بالخشونة ويحط بطبائعه، ولتجمع مرجان البحر كطاقة من الزهور !

وقال حسين في سخط حتى كان أشبه بموج البحر المصخطب وراءه :

- لا اعتذار لها عندي، إذا المرأة ارتضت مشاركتكم الاحتيال عليَّ فعلى الباغي تدور الدوائر.

وسأله داوود وهو يقترب منه وكان دون أبيه نزعة إلى التلون، فيخرج الحديث من فيه مصبوغاً بشيء من البساطة :

- ولماذا لا تصدق في الأمهق والأسمر؟ إنهما حقيقتان ورب الكعبة.

ومر حسين به ثم بزهران يقول :

- كان يجب أن تؤلفا قصة خيراً من هذه..

وانصرف عن الأسرة التي أصابته بالخذلان دون أن يودع امرأته،  أرسل زهران داوود في سبيل تعقبه، كان الشاب الغضوب (حسين) في بحري قرب الباب الرابع عشر للميناء وحين بلغ ساحة المرسي أبي العباس نشق رائحة الكبدة البلدي هناك فجعل يلتمس القصود إلى حانوت وهبة، عاد داوود بالأمر الذي رآه إلى زهران، والأخير جعل يلوم ابنته التي لم يتركها الحزن :

- إنك تبكين الرجل الذي لم يحفظ لحزنك أدنى اعتبار، لقد ملأ الرجل بطنه ونسيك !

وأجابته في نبرة يشيع فيها أثر النحيب :

- ماذا تنتظر ممن خدعناه؟ (ثم وهي تمسك بالحقيبة المختبئة خلف خزانة الأبنوس الكبيرة المزخرفة الشبيهة بخزانة الأوديسة القديمة..) لقد اصطعنت القصة، تلمحتك وداوود في أثناء اضطراب نومي، لقد استخلصتَ الحقيبة من البحر لنفسك بعد أن أغرقتَ قاربك، واختلقتَ قصة الأمهق والأسمر العرجاء وأردتَ أن أعينك على زوجي.

وألقت في وجهه الحقيبة وانصرفت عنه مغضبة فجعل الرجل الذي افتضح أمره من الجميع يقول :

- وليت أنكِ أجدت التمثيل..

 وفي عين هاته الأثناء كانت عفاف قد مضت أوائل أيامها في الإسكندرية رفقة زهير وألكسندرا بعد عودتها من باريس، وقد نزلوا جميعاً في بيت يوسف فاستقبلهم الرجل في ترحاب عائلي طبيعي، وتشارك العائدون طاولة امتلأت بكؤوس نبيذ موتون روتشيلد الثمين في ليلة احتفالية، كان حسين أيضاً من جملة الحضور لما ترك شقته في قصر الصفا زيادة في إعلان غضبه مما تعرض له، وقد أسرف في شرابه في خضم شعوره بالضرر، وجعل الأب (يوسف) يقول غير منتبه لما في يده من النبيذ :

- إننا جميعاً هنا، وفي الإسكندرية، مجدداً، وليبارك الإله وحدتنا بعد الشتات ! أيتها السماء ! فلتتركي السعداء وشأنهم، ولتمهلي أقدارك العجالى، ولتلقنيها التأني بعد الحزم.

وكانت عفاف قد جمعت من رحلتها في باريس - التي ربت على عقدين - صندوقاً من المجلات الفنية التي كانت تتصدر الواجهة فيه، وأفرغتها من هذا الصندوق فملأت بها خزانة كاملة زينتها بأكواب من المرمر استزرعت فيها الورد البلدي، وكانت المرأة تحفظ هاته الذكريات في شغف بلا ضرورة كجامعي الطوابع أو حافظي خطط الشطرنج، وإن عرض لذاكرتها النسيان في أمور أخرى على نحو أوحى لها بممارسة المزيد من تمرينات التأمل البوذية، وأخذ يوسف يصف جمالها الذي تدهور يقول :"إنها كالنبيذ الجيد الذي يكتسب جودته من قدمه، وليست كاللبن سريع الفساد.."، متأثراً بالمعنى الذي يقول بأن النساء تحب أن يقع الثناء على مظهرهن دائماً، حتى أمسى حديثه إطراءً بلا أي أساس منظور يدعمه فعكف عنه، وسألها يوسف يوماً :

- هلا أمكنك أن تتركي التأمل، إنه يجعلك كالشاردة في مكان آخر.

وابتسمت له تقول حتى علت التجاعيد وجهها الذي تَغَضَّنَ :

- بل يجعلني هنا، إنني أمر بتأمل في البراهما فيهاراس، أي في الحب واللطف والرحمة..

وسألته عن الأولاد فأجاب :

- زهير سعيد مع ألكسندرا التي أحبت مدينة تحمل اسمها، وقد جربت الفول عند محمد أحمد فعجبت لتكوينه المحتوي على البروتين وزهد ثمنه، وأما حسين ففي أسى الخديعة من زهران، وغضبة الخذلان من ابنته.

وقالت :

- آمل أن تستقر مراكبهم القلقة فسعادتي موصولة بسعادتهم..

وعادت منشغلة في واجهات المجلات تذكر هاته المناسبات وأحوالها ساعة التصوير، وكان يحدث حين تنزع مجلة من المجلات أن تهتز أكواب المرمر والورود بالتبعية، وسكنت المرأة بعض سكون ثم طفقت تسأل يوسف عن الأولاد معيدة عين الاستفهام الذي طرحته، وهناك أجاب يوسف سؤالها بسؤال في قلق :

- هل ثمة خطب ما؟

 اقرأ أيضاً : 

           الفصل الأول:  لقد أعماها الحب

الفصل الثاني: المعنى الغائب

الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره

الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم

الفصل السادس: لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً

 الفصل السابع: نقاش حول غوته

الفصل الثامن: عواقب عملية رمضان

الفصل التاسع: حول الهيمنة الأمريكية

الفصل العاشر: صراع في كنف الغروب

الفصل الحادي عشر: أوهام في معبد الرأس السوداء

الفصل الثاني عشر: يوم انفجر الأمل

            الفصل الثالث عشر: سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ

الفصل الرابع عشر: قلوب حائرة

الفصل الخامس عشر: أمل الحياة

الفصل السادس عشر: الفردوس في السماء لا في الأرض

الفصل السابع عشر: اعتذار

الفصل الثامن عشر: وجه آخر للحياة

الفصل التاسع عشر : أيام عصيبة في الجنوب

الفصل العشرون : نقاش في ستوديو التصوير

الفصل الثاني والعشرون : رجاء الحق

الفصل الثالث والعشرون : خطاب من فيفيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق