روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/22

نظرة أخيرة

             الفصل السادس: نظرة أخيرة



1985م..

قضت ألكسندرا أياماً حافلة في الإسكندرية رفقة زهير تستكشف عوالم غريبة عن بيئتها الفرنسية، وتتفقد وجدانات الشعبيين في سوق الميدان للأسماك ببحري في حس رقيق، وفي سوق الساعة للأقشمة بكرموز (وهناك عجبت للملابس الداخلية المعلقة فطفقت تلتقط لها صوراً بكاميرتها الحديثة ذات الطراز ((Minolta Maxxum 7000 قبل أن يدعوها أحد أصحاب الحوانيت هناك إلى الكف عن التقاط هذه الصور بعد خطبة ناضحة بغيرة وطنية ألقاها على أسماعها)، ولكنها ما فتئت أن أصيبت بالإعياء لتلوث المدينة في ضواحيها البعيدة من البحر (ظلت تسعل أمام عبورها في كرموز بمصنع النهضة : أقدم مصنع لإنتاج حلوى المولد النبوى المؤسس في العام 1925م، فلم يسكن جأشها إلا حين ابتاع لها زهير حصان المولد واستساغت ذائقتها طبيعته الحلوة)، ولقد لفها السأم مما كانت تتعرض له من مشاكسات حتى اقترح عليها زهير الذي كان بدوره كثيراً ما يشتبك مع المجترئين حتى أرهقه التعرض لهم من أمره عسراً - أقول اقترح صاحبها عليها ارتداء الحجاب دون أن تستجيب الفتاة له قط، ثم هي لم توفق في تعلم العربية أو شيئاً منها، وقالت لصاحبها (زهير) وهما في محطة الرمل التي كانت ترى فيها شبهاً لم تدمره عوامل التعرية الزمانية ببعض المناطق الأوروبية :

- "لقد حزمت أمري، سأعود إلى باريس..".

وذهل زهير من اقتراحها يقول :

-  "أنسلم أنفسنا إلى عدالة البلد الذي هربنا منه؟".

- "لعلهم نسوا أمرنا بعد مدة قد طالت..".

-"إحدى عشر صورة كاملة لكِ تركناها في كوخ بولونيا، إنها شواهد تكفي ضريراً كيما يسترشد إلى هويتك فهويتي، ومثل هاته المخالفات لن تسقط بالتقادم..".

وتطلعت إلى محيطها تقول :

- "فلتنظر إلى هؤلاء، إنهم يتحدثون لغة مستغلقة عليَّ تصيبني بالغضب والإحباط، لا أكاد أصدق أنهم يفهمون بعضهم بعضاً..".

وقال :

-"بالعالم الغربي لغات أصعب نحوياً من العربية كالروسية والألمانية وحتى الإسبانية..".

وتنهدت كأنما استوعبت شيئاً أرضاها، ثم تطرقت إلى نقطة أخرى تزعجها بنحو أشد في المدينة الجديدة :

-"والمشاكسون؟ لا أشعر بالأمان في شوارع المدينة التي تردد كثيراً أنها تحمل اسمي..".

وأعاد زهير عليها فكرة ارتداء غطاء الرأس (الحجاب) فقالت في غضب:

- "ولماذا لا يحجبون رغائبهم؟ لماذا لا يملكون ناصية أنفسهم؟".

وأردفت في صوت أهدأ تقول :

- "الحشمة مفهوم مجتمعي نسبي، إن هيئتي هذه معتدلة قياساً إلى البيئة الباريسية والأوروبية.." .

- "ولكننا في البيئة المصرية المحافظة..".

وعادت إلى انفعالها تقول :

- "بحق السماء.. بيننا وبين البيئة الأوروبية بحر واحد، هذه واحدة من أقدم بلدان العالم، لكنها آلت إلى جماعة من مفتقدي ضبط النفس، كيف عساي أن أنسى ما ألقاه هنا دون أن يكون لي ذاكرة السمك؟!".

ومضى زهير يقول لها وقد أخذ بحديثها الأخير :

- "بعض العقول هنا تسارع إلى اختزال الأخلاقية في الاستعفاف الجنسي، إن مفهوم الأخلاقية أشمل من هذا بكثير، ومن الجلي فشل هذه النخبة في بث رسالتها على إلحاحها المستمر، والغرائز - من حيث هي أولية متعذر السبيل إلى تجاهلها - أولى بها أن تُشبع في سياق سليم، لا أن تُكبح تحت ستار من التسامي الزائف، وقد بتنا نعيش فيما يشبه يوتوبيا الكاذبين..".

ووجدت الفتاة نفسها في حال من الضغط النفساني حتى جعلت تصور محيط البحر بالكاميرا ذات الطراز (Minolta Maxxum 7000)، كان التصوير هوايتها التي تستطيع بها التنفيس عما يعتريها من شعور العزلة والأسف، وظفرت بصورة لموجة بارتفاع أربع أمتار في جو شديد العصف حملتها على السرور، وقالت في سعادة خجولة :

- "بيئة المكان هنا خير من البشر فيه..".

وقال :

- "ستعتادين على البشر أيضاً..".

قصدت ألكسندرا إلى حانوت لبيع الأزياء النسائية، وتخيرت فيه الفتاة لنفسها إيشارباً زاهياً، وكان في رغبة البائع أن يزيد في ثمنه - كدأب بعض الباعة الذي يزيدون في أثمان ما لديهم متى بصروا بأجنبي - لولا تدخل زهير، أمسكت الفتاة بقطعة القماش تقول :

- "إذا كانت هذه ستجعلهم يعاملونني بشكل أفضل، فسألبسها..".

وبارك لها زهير توافقها المجتمعي الذي كان يرى فيه توطئة لاستمرارها معه في مدينته، ومضت بقطعتها الجديدة في غير قناعة فظل المشاكسون على حالهم وإن قلت محاولاتهم ملياً، هناك غضبت كل الغضب حتى خلعت الإيشارب الزاهي فعادت إلى صورتها الأولى، ومضى زهير وراءها - كالديدبان - وقد سبقته في فورة الغضب، وكانت تجيب المجاوز بقدح فرنسي سليط لا يفهمه : كقولها لأحدهم : Tu as le IQ d'une huitre أي لديك معدل ذكاء المحار، وغير ذاك مما هو أقذع وأشد وقعاً،.. حتى وصلت أولاً إلى بيت يوسف، وهناك تنهد صاحبها ملياً شاعراً بارتياح اقترن بسقوط واجبه في صد المتعرضين لها، ثم طفق - لما آلت الأمور إلى حال أهدأ - يرسم لها صورة في حجاب الرأس الزاهي، ومضت الفتاة إلى الخزانة ذات الأكواب المرمية فجعلت تكشف عما بها من مجلات فرنسية تقول :

- "أخيراً، وجدت شيئاً أفهمه هنا..".

ولاحظت ما ينتاب الشاب من أسف فسألته عما هنالك، وأجاب :

-"إنها (أي أمه) مريضة بداء عضال..".

وأخذت ألكسندرا بمعرفة السبب وغاص فيها حزن نزيه الغرض، ونامت رفقة زهير في بيئة غير مرتبة من المجلات القديمة، فلما استيقظ زهير ألفى نفسه وحيداً، وفتح عينيه على أكواب المرمر التي خالها في لحظة فزع غير مبررة تسقط عليه، وسأل أمه وهو يغالب أثر نومته على الأرض في المحيط الفوضوي فيتعكز على قائمة لوحة "ألكسندرا ذات الحجاب" كما أسماها - أقول سألها وهو على هذا الحال عن صاحبته التي لم يرها قط منذ يقظ، فقالت عفاف في تأثر يكاد يشفي على البكاء :

- لقد منحتني صديقتك هاتين قبل أن تنصرف عائدة إلى بلادها (تشير إلى صورة الموجة ذات الأمتار الأربعة والكاميرا) وقالت : الصورة ذكرى لا تموت ولا تُنسى، فلتلتقطي الصور لما تريدين له الأبدية.

وخفض رأسه في تأثر عميق يناهز الحزن ولا يجاوز الأسى.

 


في الكويت..

كانت أسراب الجراد قد جعلت تجتاح سماء الكويت في موسم عبورها بالبلد الخليجي، ودلف عبد العزيز إلى حانوت الدمى في سبيل إتقائها، واحمرت وجنتاه على تكوينه البدين الذي ترهقه الحركة والجهد البسيط، وتحين مدة حتى فتح الرجل الباب متنهداً بعد أن اطمأن - عبر الزجاج - إلى خلو السبيل من الحشرة الصحراوية المزعجة، وانصرافها إلى الإفساد في مواضع أُخَر، وخرج يستشرف معالم الحياة، هناك ألفى فؤاداً رفقة زوجه في عودتهما من سفر الإسكندرية، واقترب منه الأول (فؤاد) يقول له كالشاكي :

- افتعلت حماتي فيفيان قصة المرض كيما تعجل بزيارتنا ومعنا إسحاق الذي أرادت أن تلقنه على حداثته تعاليم الرب ! ألا تباً للجهد الضائع ! وسحقاً لهذا لجراد !

وقال عبد العزيز :

- لعل تغير اتجاه الرياح في قادم الأيام من شأنه أن يجرف الجراد عن البلد.

وتطوعت غادة بالسؤال عن الطفلين :

- هل هما بخير؟

كان الجراد - لم يزل - في سعيه النشط فوق المباني المغبرة وجوانب الطرقات الفسيحات، واستأخر عبد العزيز الجواب حتى يتم لثلاثتهم دلوف الحانوت، وقد ارتأى في أهمية السؤال ما يستحق التفصيل الذي لا يناسب السير، وأجاب يقول :

- جاء إلى أسيل ملثم أراد اختطاف الطفلين..

جفلت غادة من الجواب وبدت يَئُوسُاً قَنُوطاً، احتمت بكهف الأمل من نصال السوء، تعلق مصير وليديها بشفتي الرجل المربوع، وأردف عبد العزيز يقول عطفاً على قوله الذي استدعى القلق البالغ :

- كان الملثم أشبه إلى رسول رمزي الذي جاءنا مهدداً حتى أنني تيقنت باسترجاع الصور أنه هو، وقد كشفت مخططه عبر صدفة كاملة في زيارتي لأسيل وصددته عما حضر من أجله..

وروى لها تفاصيل ما وقع فانفعل فؤاد يقول :

- المأثوم (أي رمزي) لم يتخلَ عن نية الانتقام على مغادرته للبلد..

وبدت على عبد العزيز أمارات الوجل والقلق، وطلب الرجل الانفرد بفؤاد فتركته زوجه غادة التي اعتزمت زيارة أسيل وقد حملها ما سمعته على التعجيل باسترجاع الولدين، قال عبد العزيز وكان وجهه قد أربدُ :

- سيدي، سأصارحك بأمر هو في نفسي أعرفه، إنني امرؤ جبان، وحين تلوح لي أسراب الدبى (الجَرَاد) هنا ولو من مبعدة فإنني أتقيها لائذاً بحانوت الدمى، ثم أغلق الباب في إحكام استوثق منه ملياً وكأن في طاقة حشرات مستقيمات أجنحة أن تدفع الباب الثقيل، وكم أَضْرَعَ إلى الرياح أن تجيء فتخلصني منها ! وحين يسألني الناس هنا عن منشأي بالإسكندرية فإنني أتورع عن أن أسرد لهم حقيقتي المتواضعة في غيط العنب لخوف من الرفض والسخرية، إنني رعديد إذاً،.. وقد ظهر لي الملثم في مرتين اثنتين، وليس هذا مما تنصفني به موازين القدر، وإن بي قلقاً إزاء أحقيتنا في امتلاك هذا الحانوت، وأعلم أن بين الأمرين : بين ظهوره المتواتر وبين الشكوك في أحقية الملكية - أقول بينهما صلة، ولو أن المأثوم قد لاح لي لَوْحاً ثالثاً فلا أدري أتسعفني طاقتي في مجابهته أم أنني سأنهار انهيار الضعف والخَوِرَ، وإن بي عزماً، يقف إزاء جهلي بإمكانات إرادتي، على العودة إلى دياري، ولكن شيئاً واحداً يستأخر قراري هذا، ويلجمني عنه.

وتأثر فؤاد بحديث موظفه السكندري ملياً، وسأله في نبرة وانية تتحرى الجواب :

- وماذا يكون رادعك؟

- أسيل، إنني أروم زواجاً بها.

- وماذا يمنعك؟

- أخشى الرفض، قلت لكَ إن بي نزعة خوف..

- لا تردد هذا كثيراً فتكسبه بتكرارك وجاهة ليست له، لستَ رعديداً،.. وإلا أنى لكَ أن تكشف عن وجه الملثم وتنقذ الولدين؟

وأمكن لعبد العزيز أن يفصح عن رغبته هذه إلى صاحبة الشأن عبر غادة التي كانت وسيطاً إلى الفتاة الكويتية وصديقة لها، وقد ألفى منها (أسيل) قبولاً شجعه على الإقدام على خطوة تالية رسمية، وتوجه فؤاد رفقة عبد العزيز إلى بيت أسيل ومعه هدية متوسطة الثمن من الشيكولاتة، وانتظر الزائران مدة أمام التلفاز الذي كان يذيع أهم الأنباء في حجرة خاوية إلا منهما :

- "وأعرب رئيس مجلس الأمة عن أمله في أن يلعب هذا المؤتمر دوراً مهماً في إعادة التضامن العربي لمواجهة التحديات التي تواجه الأمة العربية،.. وأضاف أن التصعيد الإيراني الأخير ضد الأراضي العراقية يشكل منعطفاً خطيراً يهدد منطقة الخليج ويهدد العالم العربي كله.".

 وحضر أخ أسيل - الذي كان ضابط بحرية في الجيش الكويتي واسمه أكرم - أخيراً عن قصد أن يناقش الرجلين في مسائل الزيجة، وقد اعتذر من تأخره عن استقبالهما بما يليق، ولكن تأخره مع الاعتذار قد أضفى شيئاً غير مغفور- أو هو صعب التدارك - من الشعور بعدم الاحترام، وجعل الأخ يتساءل بعد دقائق من الاستماع  لطرحهما :

- وكيف تكون غيط العنب؟

وأجاب فؤاد نيابة عن صاحبه يقول :

- إنها نطاق شعبي بالإسكندرية..

وكان الاسم "غيط العنب" قد أوحى لأكرم بما ليس فيه من أشجار غناء، وعناقيد الأَعْنَاب تتدلى كحبات لؤلؤ،.. إلخ، فأصابه جواب فؤاد بخيبة أمل كبيرة حملته على القول :

- معذرة، لا يمكن لأختي الحياة هناك، لا أريد لها المعاناة في محيط فقير.

وتساءل فؤاد في وطنية زائدة، وقد مس القول الأخير شعوره فأصابه بما يشبه الامتهان :

- هل تطورت الحياة الخليجية حتى هبطت مصر في أعينكم؟

- الأمر ليس على هذه الصورة، لن تتزوج الخليجية إلا بخليجي.

كان عبد العزيز يجول البصر في الحجرة العامرة بأوسمة الشجاعة، وشهادات التقدير، وصورة لاصطفاف أول جيش كويتي (قوة الحدود ضمن دائرة الأمن العام 1948م) بالأبيض والأسود، وحضرت أسيل تقول وقد أضناها أن يُهمل رأيها في شأن لها :

- لازلنا نذكر فضل هذا البلد، لقد علمنا المصري بكراسه وقلمه حين كنا لا نزال صيادين لؤلؤ.

وانفعل الأخ يقول :

- لسنا في مقام المباهاة الوطنية واجترار أنباء المعروف، إنني أؤثر حاضراً بلا تاريخ على تاريخ بلا حاضر، أرسلنا إلى مصر لواء اليرموك في نكسة حزيران، وتواجدنا في أكتوبر بقوة الجهراء (ثم وهو يلتفت إلى أخته في غضب كظيم..) وماذا حضر بكِ بين اجتماع الرجال؟

ونهض الأخ مؤذناً بانتهاء اللقاء القصير المحموم، فنهض زائريه بالتبعية مجللين بالخجل، ومضيا إلى الباب، وهناك جعل الأول ينادي عليهما :

- لقد نسيتما الشيكولاتة..

عاد عبد العزيز إذاً كيما يسترد هديته فما أضجره بالأخ الذي أفسد سبل الود ! ما أتعسه على حال الخسران كأنه عجوز كهل ! ونظر نظرة أخيرة قانطة إلى وجه أسيل الذي كان مرآة وجهه. 

 اقرأ أيضاً : 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق