استمتع بأفضل روايات الرعب والرومانسية والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/17

الفردوس في السماء لا في الأرض

الفردوس في السماء لا في الأرض




في لوران..

دانت لمنير أسباب من رفاهية المعاش لا تتوفر عادة لشاب لم يتم العشرين، وأفاضت عليه حياته بفيض نعمها الجزيل حتى أشبعته، وكانت تفيدة - كدأبها - تمسح البلاط لدى بسطة هذا السلم، حين قالت له :

- من الخير أن النعمة لم تفسدك كما أفسدت عبد القدوس..

وقال لها يحدثها لدى أسفل السلم التي تعلوه هي :

- أتمنى أن تمضي حياتي على ما هي عليه، لا أروم زيادة، إنني أتضرع إلى الآلهة بهذا، إنني قنوع بما لدي وأعده فردوساً تعوزه الأبدية..

وابتسمت له وكانت بسمة راضية يشيع فيها ألق مسحور، وقالت :
- الفردوس في السماء لا في الأرض..

ولم تنتبه المرأة - في خضم ذاك - إلى قدمها التي زلت، وسرعان ما تدهور تكوينها البدين دون أن تعالجه أو ترده فجعلت تدحرج كما تدحرج الكرة بطول ذاك السلم الهابط أمام خيبة الشاب وعجزه وذهوله، وهرع إليها يندب سوء حظه يقول : "أيتها الآلهة ! أيتها الآلهة ! تباً لأقداركِ.."، رحلت المرأة إذاً عن هاته الحياة فكأنما قتلها دأبها على العمل ونشاطها عزيز المثال، زلزلت المباغتة قلب الشاب الأسمر وصيرته إلى نقمة فعزلة وحزن، ومضى أول الأمر يلعب البريدج (جسر العقد Contract bridge) فيجيء بالعجائز وكبار السن في فيلته يشاركونه لعبة الورق، يغلبهم ويغلبونه، ويدخنون السجائر والغلايين، حتى كانت ليلة ألفى من بين الحضور أباه ذهب الذي تخفى بينهم في هيئة مستعارة لعجوز، وقال آنئذٍ :

- جئتك لاعباً، لاحت لي إزيس في معبد الرأس السوداء ونصحتني بأن أغفر لكَ، سأعوضك عن تحنان تفيدة، ما أنا بمجنون..

 غضب منير يومئذٍ وركبه العناد، طرد أباه شر طردة وانتقل غضبه إلى اللاعبين جميعاً فألحقهم بأبيه، وما لبث حين خلا إلى نفسه أن احتوته عبثية عميقة فانطوى على ذاته، ورق قلبه لحديث التدين والآخرة والنعمة التي تزول، وانتهت محاضرته في كلية التجارة التي كان قليل التردد عليها، فألفى شاباً يقول له وهو القريب من باب الخروج :

- ما بالك تمضي كالذاهن؟

ولم يجبه منير ولكنه مضى بحقيبته عنه، ولحق به الآخر يقول :

- هل سمعت عن المدرسة السلفية وأشياخها؟ صدقني إن في الدين جلاء كل حزن، وإن في وجهك لباقة ودماثة..

وتوقف منير ثم مضى عازماً على أن يغير مساره كيما يتملص من محدثه الذي أخذ يقول له كأنما لم يفقد الرجاء في استمالته :

- الدرس يوم الخميس بمسجد عمر بن الخطاب بالإبراهيمية، سنتعرض  لمتن «العقيدة الطحاوية»، وكذا «تحفة الأطفال»، وكلفنى شيخي بتدريس كتاب «مدارج السالكين»، أحب أن أراك في المسجد.

- تراني في حرم الجامعة..

خرج منير من باب الحقوق لمجمع الكليات بجامعة الإسكندرية في مناورة، وسلك هذا السبيل الذي يفضي إلى البحر دون أن يهب متعقبه أيما إيماء، وأحس أنه أهدأ حين فارق نطاق الطلبة الذين كانوا في تجمهر فتفرق، وقد أخذ منهم شعورهم بانفراجة إحدى المحاضرات مأخذ الفوضى والتشتت، ولكنه ما أن بلغ مبلغ البحر المصطخب حتى تداعت في رأسه الفكر وتشاجنت، كان يفكر في مدينة الإسكندرية قلعة السلفية الجديدة، وهذه المعارك بين طلاب الإخوان والسلفية التي تثور حول الاستئثار بكعكة الطلاب، ثم تفيدة التي أدمت برحيلها فؤاده الذي كف عن التطلع، وأحس يداً تربت على كتفه تقول :

- فإذا لم تكن بكَ طاقة لحضور الدرس الديني، فثمة ندوة موضوعها قضية التوحيد وقضايا الإيمان بالجامعة نعقدها ساعة المغيب..

ووهبه المتحدث منشوراً عنها ثم مضى في ابتسامة تحمل إصراراً عجيباً ومثابرة تنطوي على انفصالية وجدانية، وأخذ يمسك بيده وقد أطال السلام كثيراً حتى وعده الآخر بالتفكر في طلبه،.. عزم منير أمره على حضور  هاته الندوة إذاً، فما ما أن دلف إلى بابها حتى وجد صداماً بين فرقتين من الطلاب، وسأل عما هنالك فأجيب بأنها صدامات الإخوان والسلفية المعتادة، وجلس في عجب انتابه من خصومة أصحاب الفكر المتشابه التي أشفت على عداوة لا تحدث عادة بين المتقاربين، ولكنه ما لبث أن تذكر الحقيقة التي تقول بأن المعاصرة أصل المنافرة، وعدو المرء من يمتهن صنعته،.. أقيمت الندوة بعد تأخير إذاً وبدأ مدير الجلسة في التمهيد لشرح قضية التوحيد والإيمان، ورفع منير يده فأذن له مدير الجلسة - الذي كان نفسه الطالب الذي تعقبه - يقول كأنما يعرف به غيره من الجلوس :

- أيها الأخوة الأحبة والأبناء الأعزة : إن منيراً لهو طالب مستجد بيننا، وقد تلمحت فيه ما يجعله أهلاً للالتزام، وخليق بنا ألا نحصر جهدنا في  مناقشة قضايا بعينها كقضية الاقتصار على الصحيحين فى الاستدلال، ومثل قضية إخراج القيمة فى زكاة الفطر، ومثل قضية إنكار المهدى، بل أن نطوق الشباب بترحاب يهديهم ولا يثير في نفوسهم حرجاً أو بلبالاً، أو يزرع بينهم الشنآن والبغضاء والتدابر !

 ووقف الفتى (منير) يسأله يقول :

- أخبرني كيف يصمد إيمانك حين ترى الموت يضرب امرأة عجوز تكاد لم تقترف إثماً ولا وزراً؟

- الابتلاءات اختبارات إلهية يجازى عليها من صبر في الدارين..

- لقد فقدت الأمل والمعنى..

- المعنى في الآخرة..

- لماذا نعيش إذاً؟

ورمق المتحدث ساعته ثم جعل يقول :

- فلتحدثني بعد هاته الندوة، وتيار النقاش يجرفنا بطاقته عن موضوعنا الرئيس، وأمامنا شغل طويل..

وعاود منير قعوده دون أن يسكن جأش ما في نفسه من دوامات الأكدار، وغوامض الأسئلة، وآثار الفواجع، فيما جعل الرجل يقول : "إن صديقنا أسمر ومن مكارم الدين أنه لم يفرق بين الناس على أساس اللون، أجل، وآية ذاك أن مؤذن النبي كان حبشياً، واسمه، كما تعرفون، بلال، كاسمي !"، هناك ابتسم الجلوس في عدوى، فجعل الرجل يرقب أمارات الوجوه التي أمامه كأنه يستعين بها على مراده، ثم طفق يجمع عزمه على البدء فيستعيذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان، ومن غبارات الفهم وموجبات الوهم ! 


في غابة بولونيا، باريس..

دَغَمَ البَرْدُ وغشى الأحياء والأنحاء في غابة بولونيا، وكان قد كثر تردد ألكسندرا على زهير في كوخه المخبوء بين أحراش الشجر، وكان يخبأ وجوده هناك من أعين رجال الأمن، رسم زهير إحدى عشر لوحة لألكسندرا، ولَفَقْت الفتاة ثوبها وهي تطلع على واحدة منها جديدة، تقول في ظلمة غاشية :

- "حبتكَ المشيئة عن كل مكروه، لماذا لا تخرج بما لديك إلى الضياء؟".

وقال وكان على غير إعجاب مماثل بلوحته حتى لقد عد إطراءها مجاملة محضة :

-"الضياء هنا، بعيداً من التكنولوجيا والاستغلال..".

وقالت في إشفاق من ضياع موهبته الإلهية :

- "ما هذه إلا فكرة انقضى زمانها وغبرت عليها القرون، ولتنصرف إلى سواها الذي يكون أعود منها بالفائدة..".

وسمعا وقع أقدام تقترب فقفل الشاب مصباح السقف فتماهى الكوخ بين ظلمات سود، ودعا ألكسندرا بدوره إلى الحركة الحثيثة، ولم يلبث إلا يسيراً حتى انكشف له متسلل يدفع باب داره، وكان ضابطاً فرنسياً يتقدم جماعة منذورة من أشباهه، كانت إذاً داهية ما لها من واهية هذه المرة، وتجهمت له الحياة أو ما تبقى من متاعها الذي يجده وسط الطبيعة في لحظة من وجل، وصدع له الضابط بما كان عليه من مخالفات قانونية أهمها تكدير الآمنين حول بحيرة بولونيا، ثم إشادة كوخ بلا رخصة، وترهيب المجتمع، وكان وجه زهير ينطق صامتاً بما دلالته : "أتعيرني بالمشيب وهو وقار؟"، وتفحص الضابط الثاني لوحاته يقول :

- "أنتَ كاره لنمط الحياة المعاصرة..".

وأزاد وجه زهير في تعبيره كأنما يقول :"وتلكَ شَكاةٌ ظاهرٌ عنكَ عارُها.."، ولم يفكر في إنكار الأمر لقناعته به، وقال الضابط لزميل له:

- "فلتكتّفه، إن له وجهاً هو من البذاء والصفاقة..".

كانت ألكسندرا التي سبقت مقدم الرجلين لم تنصرف عن محيط الكوخ بعد، ووقفت في خفاء الليل تسترق السمع إلى ما يدور فيه، فلما وقع أن كُتفت يدا زهير في كلابشات حديدية هجمت الفتاة على هامة الضابط الذي لدى الباب بأنبوب حديدي، ووقع الهرج المنشود في جوف الظلام حتى أخذ الضباط بصاحبهم وتركوا زهيراً، وخرجوا فألفوا صاحبهم على العشب منطرحاً، متأثراً بما قد سلب منه وعيه، فلما آبوا إلى الكوخ ألفوا زهيراً وقد فر من نافذته، وتفرقت بهم سبل البحث عن الفارين في الظلمات دون دليل، كانت غابة بولونيا كبيرة المساحة مما أزاد شقاء الضابط إذ هي من الحجم الذي يساوي ضعفي ونصف مساحة حديقة سنترال بارك في نيويورك، وهي فوق هايد بارك في لندن بما يزيد عن الأمثال الثلاثة،.. حدس زهير بأن الفتاة ستلقاه لدى بحيرة بولونيا، وهرع إلى هناك فصادق حدسه توفيقاً، وقال محوصلاً وموجزاً ما يدور في نفسه من إحساسات يختلط فيها الأمل بالخوف :

- "إني ما حسبتكِ تقدمين على الأمر الذي أنجاني من بين أيديهم..".

ونصحته بالعجلة، فالبحيرة الشمالية مكان معروف للضباط مثلما هو معروف لهم، وحقيقتها الهادئة الوادعة المنكشفة تجعلها أسوأ الأمكنة طراً للاختباء أو للمطاردة، ومضيا معاً حتى بلغا ضاحية «بولونيا - بيلانكور» وهناك تعرف زهير على رجل فك يديه مستخدماً دبوس بوبي (Bobby pin)، وجعل زهير يحدث ألكسندرا يقول وقد شعر بيديه الحرتين :

- "سيهتدي ضباط الكوخ إلى هويتي وهويتك من طريق اللوحات التي تُركت في الكوخ، إحدى عشر لوحة كاملة تصورك من كل الزوايا، لشد ما أنا بليد أحمق !".

وسألته :

- "وما العمل إذاً؟".

ولاذ بالصمت في أسى عميم، قال :

-"أملك المال، وسأعود من هنا إلى باريس، ومن هناك نقضي أمرنا..".

 وعاد إلى باريس رفقتها مستقلاً الطائرة التي أوصلته في فترة هي زائدة عن ساعة ونصف الساعة، واعتزم أمره على ترك البلاد، فقال لأمه حين عاد يلتقي بها هناك :

- سأنفّذ نصيحتك أخيراً، أريد السفر إلى مدينة أبي..

وقالت الأم التي اختلط عليها الأمر فيما يشبه السؤال :

- لم تعرفني بصديقتك..

- ألكسندرا، ستسافر معي، الوقت وقت جد لا هزل.

وأجابته وهي تسقي دوار الشمس وزهر الأُقْحُوَانُ بحديقة البيت في تؤدة ومهل :

- ولمَ؟ ولماذا أنت عجول هكذا؟ 

ولم يشأ أن يفصح لها عما وقع له وصاحبته في الغابة الفرنسية مخافة العواقب، فاكتفى يقول :

- فلتسمعي لي فضلاً : إنني كهذه (أي كدوار الشمس) أولي وجهي لما يمنحني الحياة، وحياتي في باريس أمست بائسة نكراء،.. لماذا تجادلين في أمنيتك التي أردتها لي؟

جمعت الأم حقائبها حين تلمحت هذه الجدية في نفسه، وسلمت على ألكسندرا التي كانت في خجل اللقاء الأول واضطراب لم يتركها منذ سمعت وقع أقدام الضباط في كوخ الغابة، انتظرت عفاف ريثما تكمل جلسة التأمل التي بدأتها كواجب تؤديه قبيل السفر، وكانت تنمي قدرتها به على التركيز والإلهام لما كانت تخشى من داء الخرف الذي كان شائعاً في عائلتها، لم تفهم الفتاة حقيقة ما دار بين الاثنين لما كان الحوار بينهما عربياً، وسألته في لهفة :

- "هل أقنعتها بما لديك؟".

وقال وهو يبصر جلوس عفاف المستغرق وسط طبيعة الحديقة في رثاء :

- "زعمتْ أنها ستسافر إلى مدينة أبي بعد أن تكمل تأملها الذي تستقيه من البوذية، قالت بأنها أنهت تأملات في السوء : أسوبا بافانا، ويتبقى لها أن تؤدي أناباناساتي أي تأملات النفس..".

- "لماذا لم تخبرها بما قد وقع عساها أن تقدر الأمر وعجلته؟".

- "إني أخشى عليها الصدمة،.. ما عساها أن تفعل حين تدرك أن قرة عينها أمسى وصاحبته طريدي العدالة؟".

- "بربك.. ألا تكون صدمتها أشد إذا هم أتوا وقبضوا علينا؟!".

ونظر إلى أمه نظرة انتهى معها حرصه يقول :

- "الحق معكِ، إن هذا أسدُّ رأياً..".

وما كاد يخطو نحو مجلس الأم حتى انتهت من تأملها، وجاءت إلى المتحدثين تقول في استباق تنقلب معه الأدوار :

- "هلما، أيها المتكاسلان..".

 ثم وهي تمضي رفقة الشابين، في لكنة عربية هامسة ثقيلة تضررت بعدم الممارسة :

- ..ووداعاً مدينة الجن والملائكة !


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق