الفصل الرابع: متشاجري الورود
في أبي تيج..
استتبت الأمور لعبد المجيد بعد أن عاد يشغل العمودية على منوال يطيب لكل صاحب رئاسة، وانسحبت أذرع الفساد الأخطبوطية فعم السلام وانبسط وأُقِر ناموسه، واحتفظ - مما احتفظ به - في سلطانه الجيد بفأسه الحاد وقد استخدمه الرجل قبل العمودية في التحطيب وتقطيع الأغصان والحراثة، وإن له (الفأس) يداً هي من خشب الزيتون المتين، صفح الرجل بدوره عن فهد - نجل رضوان الأصغر - لما كان مبادراً إلى الاستسلام المسالم بعد الحصار، فيما أصر على معاقبة رضوان ونصر الله بالطرد والنفي، وصارت سيرة رضوان - ومن قبله غانم وجعفر - أقرب إلى الفلكلور الساخر منها إلى العداوة اللدَّاءُ، وانتهت بفصولها المحفوظة عبرةً والية لا خطراً محدقاً،.. وأما الشيخ حمروش فاتقى الظهور مدة، ولاذ بالاختفاء حولاً، ولكن نجله الوحيد تشفع له لدى عبد المجيد، كان نجل حمروش - واسمه رفاعة - أزهري النشأة - كأبيه - ولكنه سافر إلى فرنسا وقضى هناك أربعة أعوام متعلماً ومحصلاً، وعاد - كواحد من قلائل المتنورين في الريف البسيط - حتى أنه كان يقتحم الصالونات الثقافية بآراء جزلة قوية في حقول الثقافة والأدب والفلسفة، فكان - كشأن رجال الدين المسلمين القدامى من طراز محمد بن إدريس الشافعي، وأبي حامد الغزالي، وفخر الدين الرازي، والأحدث منهما نسبياً كالطهطاوي (الذي كان يتحرى الاحتذاء بسيرته كرائد للحداثة).. أقول كان كهؤلاء جميعاً موسوعياً، محيطاً، لا يكتفي بدراسة ما نشأ عليه من أحكام الدين الذي ورثه وإنما هو يقفز بالاهتمام إلى غيره من المسائل، فلا يشرب من بئر واحدة، وتجلت فيه العقيدة الإسلامية - مع ذاك - سمحاء منزهة من حيث نأى بها عن الشكلانية والطقوسيات والمظهرية، وقد قربه عبد المجيد ووثق به، فيصف اعتداله يقول :
- "ما هو بمهيج الثارات، وما هو بماسح الكوخ..".
وكان إذا صعد رفاعة إلى المنبر تحدث في موضوعات الفلسفة، حتى حدث ذات يوم وفند الرجل آراء الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه فبادره واحد من تلامذة أبيه حمروش يقول :
- أميتوا الباطل بهجره،.. لقد أسأت إلى منبر رسول الله بأن جعلت لآراء الملاحدة النفاة وزناً عليه، وفي تراجم الفضلاء والأنباه في تاريخ الإسلام، وفي غيرها، من يتتبع عبارة "يرى رأي الفلاسفة.." أو "يذهب مذهبهم" لا يمكنه إلا يستشعر التنافر العميق بين التفلسف وبين التدين، ورب الكعبة إنهما كقضبي القطار المتوازيين لا يتقاطعان، ألا بئس ما تعرضه من تشغيبات وتلبيسات وتهاويش مبتدعة !..
وأجلسه رفاعة في هدوء رزين، وذكر له شيئاً عن اختلاف الأعصار، وعن حقيقة الفلسلفة كأم للعلوم وأحد عمد الصحة العقلية في المجتمعات الراشدة، وعن هذا الميزان المعطوب الذي رُمي بسببه أبي بكر الرازي بالردة لاعتقاده بخلود النفس، وابن رشد لنصرته أزلية العالم، وكذا ابن سينا لشكه في الميعاد،.. وعاد يسأله الجالس :
- وما مذهبك إذاً؟ وكأنك من إخوان الصفاء وخِلَّان الوفاء؟
- أحب أن أكون كالنووي (يريد الإمام النووي) مكرم الجانب محمود الذكر من المذاهب الأربعة، وما كان المسلمون شيعاً في حياة النبي، واليوم هم على فرق خمس غير متآلفة، كل منهم لا يرى الخلاص إلا لنفسه : سنية، إباضية، أمامية، زيدية، إسماعيلية،.. ولا ينبغي لهم أن يكونوا كذلك بعد وفاته.
وكاد الجالس يقول شيئاً فأسكته رفاعة بالقول :
- كما يقول الإمام الشافعي : لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف..
وإن هي إلا آفة واحدة في رفاعة : نسبه إلى حمروش بالبنوة، ومصاهرته لنصير رضوان القديم باللسان،.. وقال رفاعة لعبد المجيد ذات يوم قولاً هو في هذا الصدد :
- لقد استخدم العمد أبي، وأزاغوه مراراً عن الحق، وأشهد أنه كان إزاء سلطانهم ضعيف المقاومة، واهن الصدع بما يعرف، أجل، والله أمرنا بأن نكون شهداء بالحق ولو على أنفسنا،.. ومن العار اليوم أن تعاملوه "معاملة خيل الحكومة" إذ تلطقون عليه رصاصة الرحمة حين يتقدم به العمر، وينتفي الانتفاع منه !
وقبل عبد المجيد - بعد تفكر قصير في شفاعة رفاعة وتوسطه - بالعفو عن حمروش شريطة ألا يمارس الوعظ، وألا يصعد إلى منبر، وأن يكتفي بحلقات درسه، قانعاً بالمظلة السياسية الجديدة،.. وأما بكر فقد غدا - وفي واقع ما استجد من أحوال - كالحاضر الغائب، لقد بصر بابنته حورية في سلة الخيزران في يدي الشيخ الذي كان على أتم استعداد لقتلها كيما يخلص بها رقبته، ومنذ ذاك عاودته الحيرة، وساوره الخوف والأمل، واختلط عليه الانتماء،.. وصحيح أنه لم يرضَ بقرار العفو عن حمروش على كثرة ما قد أحيط به (القرار) من شرائط وقيود، ولكنه لم يصارح عبد المجيد برفضه لما كان منفصلاً وجدانياً عن وجوده بالريف منذ اللحظة التي كان الخطر المحتدم منوطاً بابنته فيها، حتى هجر الرجل (بكر) دوار العمودية وعاش فوق حد الكفاف بقليل في بيت متوسط هو من الطوب اللبن مع حورية وصفوت وفردوس، وكان لا يزور مبنى الدوار العظيم إلا كيما يصل أحبال الود إلى أمه تسنيم فيقبل يدها ثم يدعو لها بالصحة فيما بقى لها من عمر، ثم يهمس لها بما لديه من أمور يريد لها فيها المشورة، فتجيبه وتذكر له شيئاً عن حسن الختام الذي ترجوه، وتأسى لزهده في منصب أبيه، قبل أن تعود ترضى بسعادته،.. وغاب الرجل (بكر) وأسرته عن الظهور أياماً ثلاث فجعلت بدور تنكر على زوجها سلبيته وتسر إليه بما يتردد على الألسنة تقول :
- لقد أزعجته بتسامحك مع من أراد قتل بنيته (أي تسامحه مع حمروش)، حتى انكفأ على نفسه فغاب ولا عتب، لاريب أنه يرى نفسه الساعة وقد اُستخدم كمخلب قط، وما كنت لتعود إلى العمودية لولا أن ألبسك عباءة الصوف وأعانك على الظالمين بنسبه وطاقته..
تنزل عبد المجيد عن مسؤولياته إذاً تجاوباً مع نصحية زوجه، وقصد إلى زيارة صاحبه القديم في بيته المتوسط، وكان ينتوي أن يقيم له ليلة شواء ينصبه فيها نائباً له، وأن يطلق الخفراء في شرف تنصيبه هذا إحدى عشر طلقة،.. ولكنه بوغت برؤية البيت المتوسط ذي الطوب اللبن وقد أوصد بابه بلوحين خشبيين متعاكسين كعلامة X، وقد جرى دقهمها بالمسامير في إحكام مريب، كُسرت الألواح واقتحم رجال عبد المجيد البيت الذي ألفوه فارغاً،.. وصاح العمدة في رجاله :
- فتشوا الحجرات شبراً شبراً..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
حتى إذا عادوا بخفي حنين غضب غضباً شديداً، وانطلق يخلع عباءته الصوف يفتش بنفسه فيخلص إلى ما خلص إليه الرجال من قبله، وهناك احتواه أسى حل محل الغضب، وجلس يقول :
- لم يبقِ من أثر الأسرة الطيبة إلا سلة الخيزران،.. سلة حورية،.. بحق السماء،.. أين ذهب؟
عاد عبد المجيد في حيرة وألم إلى دواره يسأل من فيه : بدور، وتسنيم، عن لغز الاختفاء المريب لأسرة بكر، ووجد الجواب لدى الأم تسنيم التي رفضت الإفصاح بدورها عن موقع نجلها وفاءً لطلبه، وإن جعلت تكرر :
- لقد أخبرني بقصوده إلى المكان الوحيد الذي لا يشعر فيه بغربة الريف ولا تداهمه فيه شرور المدينة !
وظل جواب المرأة أحجية بلا حل، حتى تناساه الناس وانشغلوا بغيره عنه،.. وظل عبد المجيد وفياً لصاحبه يشتبه في عودته متى سمع لداجن أو عنزة ضلت السبيل، أو إذا حدث وأتاه وقع أقدام لآدمي هو كوقع أقدام بكر القصيرة العجلى، إنه يتساءل :"وإذا هو في مقام غير المدينة والريف،.. فأين عساه أن يكون؟"، وحتى لقد كان يضع كرسياً فارغاً إلى جوار كرسيه الرئيس في مكتب العمدة، يقول حين يُسأل في أمره :
- إنه كرسي النائب، ابن الريف والمدينة، هذا الذي تركني وحدي في هموم المسؤولية..
في السيوف..
أنجبت صالحة صغيرتها أروى - بعد عائشة - وانتقلت بمعاشهم إلى منطقة السيوف شماعة، هاته التي كانت تمتلكها عائلة شماعة اليهودية ذات يوم بعد عائلة سيف،.. وأقامت هناك في أرض نوفل حيناً من الدهر تستوعب صدمتها في معرفة جذور زوجها، وتمر بأرض الجيش فترى الشباب وهم يلعبون الكرة ويطيرون الطائرات ويصطادون العصافير، وساقها شيطان نفسها في خضم كل أولئك إلى الارتياب حول حقيقة زوجها كابن لمراد، وقد كانت لأصلها البدوي كثيرة الحساسية تجاه مسألة العرض والنسب، وكان رؤوف قد جعل يغلظ عليها بحديثه - لما كانت في بيته وقبل تمردها الكامل - يقول :
- ما اختزال الأنثى في صفات تشريحية إلا واحداً من معالم السلوك الهمجي، البدو مهووسون بالعذرية حتى أن منهم من تورط قديماً في جرم الوأد والزواج بالأطفال، والمرأة ليست إلا آدمي له حقوقه..
وكانت تقول له :
- فلتدافع عن وزر والدتك دون أن تسيء إلى جماعة..
ويجيبها يقول :
- هبي أنها أعصى العاصيات،.. فما وزري أنا؟
- إن سمعة الشخص من سمعة العائلة..
- إن هذه إلا شريعة القبيلة، الفردانية قانون الحداثة..
هناك تساءلت في غيظ هو أشبه إلى انقطاع شعرة معاوية :
- لماذا تزوجت بي إن كنت تزدري شريعتنا؟
وانتهز الشيخ فوزي فرصة الخلاف الذي رتب له فقفز على أجنحة الاستغلالية، وحدث أن الرجل أرسل إلى سكنى المرأة بأرض نوفل عربة كاملة محملة بالورود في خطب ودادها الذي غدا بلا مستحوز، وطرق بابها فجاءها من تلامذته واحد يدعوها إلى رؤية "عطية أستاذه التي أبهجت السبيل بأريجها" بوصفه، فما كان منها إلا أن هبطت في إثر التلميذ الذي كان يقول لها عن قصد أن يقنعها بما لُقن به :"إن فوزي أستاذي، إنه أستاذ الأساتيذ، وإنه يحبك، وإن هذي إلا نعمة تقدرها المرأة الحصيفة.."، وهبطت إلى السبيل بعد أن ألقت على رأسها بخمار صفيق كثيف فمضت بمنأى عن التلميذ وأستاذه، ثم طفقت تصيح بالعابرين حين بصرت بهدية "الأستاذ" السخية :
- الورد كله لكم، ألا فليغب كل مريد بما أراد منه.
وتواتر العامة من سكان السيوف على العربة يحوزون الأصص والباقات، وغضب الشيخ من تصرفها ملياً لما كان فيه من إهدار واستهانة، فقالت ترد ما في نفسه من تطلع وطلب :
- ما ينبغي لامرأة وحيدة أن تقبل بهدية من غريب..
- ما أنا بغريب..
- ما وراء الهدية إلا طمع طامع..
وأكمل الشيخ من حيث انتهت :
- بل هو طلب شريف لا يُصد بهذا الجفاء..
ونظرت حولها دهشة كأنما اجتمعت في وعيها حقيقتان متناقضتان، تساءلت :
- أي شرف في أن تطلب المتزوجة بعربة زهور؟
- بحق هذا النهم الذي أراه في عيون من حولي الآن : أين هو زوجك الذي تقيمين له الاعتبار وتحرصين لأجله على صد الرجال؟
لم يكتسب سؤاله الوجاهة في نفسها ولكنه بدا مقدمة لحديث، وارتأت المرأة في حضور الشيخ فرصة السؤال عما يعتصرها من الهواجس، لقد خبر فوزي بسيرة نرمين وأعاد النبش في أثرها المنتهي، وإنه لعليم ببواطن ما انغمر من شؤونها، وتحرت سؤاله عن الهاجس الذي هو في نفسها في اقتضاب، وقد خشت أن تزيد فيحسبها قد لانت له :
- أرؤوف نجل مراد؟!
وأجابها فوزي فيما يدفعه الطامعون من طلاب الورد المجاني فيغضب لتصرفهم، ويسبهم، ثم يطوقه تلامذته فيحمونه منهم :
- إنه ابن حرام (أي رؤوف)، أجل، أنه كذلك، ولو أن والدته هي خضرة الشريفة عينها لأنه نازعني في طلبك وظفر بكِ.
وسألته في هدوء فيما تبصر من يسرع السير بإصيص فخاري بين أيادي أخرى طامعة فيسقط منه وينكسر :
- إني أروم حقيقة نسبه لا انطباعك عنه، بحق المشيخة والأستاذية التي ينسبها إليك تلامذتك : فلتجبني بالصدق الذي تعرفه، ولقد أكبره منك (أي الصدق) إن أنتَ نطقت به ولو أنه أضر بكَ فوق إكباري لك بالورود والزهور..
ومد فوزي بصراً حائراً، إن الصدق - كالكذب - مر في حلقه، كانت عربة الورود قد فرغت وما بقى إلا شجارات الطامعين حولها فيما اعتقده كل واحد "حقاً له"، قال في صدق عزيز غريب :
- إن المأفون (رؤوف) نجل مراد ونجل نرمين التي ماتت في ولادة أخته فردوس، وقد حسن مسلك الأم واستقامت سيرتها بزواجها من الأب الذي نأى بها عن مباءة الفحشاء..