روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/27

إفناء العمر في الشقاء

      الفصل السابع عشر: إفناء العمر في الشقاء






في دار الأيتام..

كان يوسف يتفقد أحوال الأطفال في دار الأيتام التي شيدتها زوجه، يقول :

- إنني أحمد لأستاذتكم الجادة إتاحتها لي فرصة الحديث، ولست نزاعاً إلى حضكم على العمل، أو دعوتكم إلى إفناء أعماركم في الشقاء، على نحو ما يشيع للمتحدث أن يأتي به في مثل تلكم المواقف، بل أنني أردد أصداء ما قاله سقراط يوماً من أن العمل المضني والحرف المؤذية تفسد الروح وتقف حائلاً دون الفضيلة، وما من امرئ كثير الراحة في في حياته إلا واقترب من صورة الآلهة، «بيرتراند راسل» كذلك يزيد يقول في هذا الصدد بأن الحضارة ابنة الفراغ، وقد مدح البريطاني في فضيلة الكسل التي تهيأ للانغماس في الأنشطة المحببة،.. أجل، لا أريد لكم القبول بالمهن التي تُمتهن فيها كرامتكم، وتذكروا شعاع الشمس الذي يخترق الكهف المغلق بخيطه الوضاء فيصل إلى أبعد النقاط من الحياة، وكذا طاقة المياه التي تفجر في الجبل مساراً يعبر باطنه ويصنع النهر من تحته، وهاته الأفاجيج والأخاديد وديان الحياة الصغيرة في الظروف العسيرة، فلا حاجة لامرئ إذاً أن يتكالب على وظيفة يفني بها عمره مادام لديه من الخير ما يكفيه ويقيم أوده، وثراء النفس هو فوق ثروة ما خارجها..

ولم تكن المعلمة الجادة - القاسية في أحوال - لتحفل بخطبته قط، وقد كانت كثيرة الإيعاز لطَلَبَتها بالمضاد من حديث الرجل، ولكنها حيال منعه أو طرده عاجزة، وذكرت شيئاً عن النبي داوود، صاحب المزامير، في الأثر المروي عنه، حيث كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه : "أيكم يكفيني بيعها؟"، ثم يأكل قرص الشعير بثمنها، لموازنة ما أفسده زائرها الثرثار،.. وفيما هو كذلك ألفى طفلاً وقد زرر أزرار قميصه على نحو خاطئ، وتوقف لدنه يقول :

- ما هكذا نورد الإبل..

ومكث برهة يضبط الأزرار بعد أن فكها هابطاً على ركبتيه - وقد سره أن يجد من هو أقصر منه - ولاطفه ومسح على رأسه، وعاد يصعد فألفى إلى جواره صبية كبيرة العمر نسبياً، وسأل المعملة عن شأنها حين خرج من محيط الصغار يقول :

- اليتم ينتهي بالبلوغ وينقطع به، أحسبها قد تملصت منه (أي من اليتم) من رؤيتي لحقيقة تكوينها الأكبر من سواها من الأتراب، إنها بين رفقتها غريبة.

وأجابته المعلمة وهي تهب الفتاة المقصودة نظرة من موقعها لدى الباب :

- سميحة في عامها الأخير هنا.

وأعاد يوسف النظر إلى الفتاة التي بدا أنها قد استشعرت كونها موضوع الحديث بين الاثنين - بتكرار نظرة المعلمة ثم نظرة يوسف إليها - فخفضت عينيها حيية، آسفة، ثم هي مأخوذة اللب مرتبكة الخاطر، وقال (يوسف) :

- زوجي (أي عفاف) طالبتني باستقدام من يصلح لخدمتها وخدمتي، أهي (أي سميحة) طيعة نزيهة؟

وأجابته المعلمة تقول وكانت تستحقره لهيئته المتصاغرة وتطفله على عملها ثم نصائحه غير السديدة في نظرها :

- إنها كذلك،.. ولكن، معذرة، إنني لا أريد لها أن تصير خادمة ولو كانت في بيت مالك هذه الدار..

- لن تكون خادمة، ولن نتبناها كلية ! ستكون بين الخدمة وبين التبني راضية فوق لو أنها تُركت لمرارة الحياة وحدها.

- لا أريد لها هذا أيضاً..

وأجابها يوسف يقول وقد استشعر أن إصراره على الأمر سيخدش نزاهته :

- لها أن تُنهي عامها الأخير هنا إذاً، ثم تقرر بنفسها ما تشاء..

ترك يوسف دار الأيتام وعرج - قبل عودته إلى بيته - إلى فطاطري ذهب بمحرم بك، هذا الذي يقبع لدى شريط الترام بما له من فطائر السُجُق وفواكه البحر، وقد كانت بيئة بيته - بعد إصابة زوجه بمرضها المعروف (ألزهايمر) - كئيبة خانقة، وقد تأبى يوسف - رغم الشواهد التي كانت تدله على الانزلاق الحتمي - الاعتراف بسلطان الداء، ثم إنه كثير الثقة في شفاء زوجه، وعلى نحو ساذج، متطهر، ومستشبر، لقد اعتقد الرجل بأن الأمور لا يجب أن تمضي على نحو مقلق أبداً، ولكنه كان في أغواره قلقاً خائفاً، لقد خدع الرجل نفسه بنفسه إذاً، وقد ارتأى أن أيما مصالحة للذات ستكون تكلفتها مصادمة حقيقة ستحمله حتماً على الذعر، ووقوفه وجهاً لوجه أمام أشد مخاوفه، مما لا يحتمله بناء نفسه الهش، كانت تقيته باطنية، وقد ظن أن لها بواعث نبيلة تنطلق من المفهوم الذي يؤشِّر إلى رعاية كونية خفية تحيط بالأحياء بجملتهم، وأن الأنام في ظل هذه الرعاية ما كان لهم أن يواجهوا حقائق على مثل هذه القسوة، ورغم أنه لم يفكر طويلاً في إثبات وجود هذه الرعاية أو ينقطع للبحث عنها واستقصاء أثرها من جهة منطقية، ولكنه كان يعيش في ظلها ولو من زاوية شعورية بحتة، واليوم ما عاد يجد السلام، وقد انعكس كل أولئك على نفسيته - وبنحو لم يميزه هو تماماً كأنما هي طبقات القشرة الأرضية لا يشعر بها المراقب العادي إلا حين تستحيل بعد انزلاقها زلزالاً مدمراً - حتى صار قلقه لا ينطفئ إلا بإسرافه في تناول غذائه المفضل الجديد : فواكه البحر من الحانوت الجديد ذي الاسم الذي استساغه : ذهب.. وغاص الرجل - في ظل كل أولئك من أوصاف الشعور المتداخل - في طعامه حتى امتلأ تماماً، وما كفاه الشبع عناء الطلب، فعاد يروم المزيد من البيتزا والفطائر الشرقية، كان كأنما قد انخفض تقديره الذاتي - نظراً لتجاهله الاعتراف بالمحنة الواقعة وإصراره على التشبث بهذا الاستبشار الزائف بنحو جعله يرى نفسه دون قدرة الاحتمال الطبيعية - على منوال جعله يستسيغ أسباب السعادة الزهيدة، ويتقي التفكر في القيم المتسامي من المعاني والمنالات لما بات مشككاً في وجودهما بمعزل عن الوعي البشري الذي بات يراه ودون تصريح كثير منه على حال من الوهن وشيء من الانقياد الحتمي والارتهان الطبيعي،.. ومهما يكن من أمر ففيما هو منتظر لفطائره هناك، وعلى هذا الحال، ألفى فتاة دار الأيتام (سميحة) تتبعه، وتقول في لهفة :

- سيدي، المعلمة شديدة القسوة والجفاء معنا، لن أنهي عامي هناك (أي في دار الأيتام)، وقد قبلت بعرضك وبالخدمة في دارك !

 

في أبي تيج..

طالت الأيام في أسيوط دون أن تأتي بالخبر اليقين، كان الريفيون الذين عسكروا حول دوار العمدة رضوان قد سئموا حالة اللاحسم، وقد تضررت مصالحهم في خضم انقطاعهم عن أعمالهم وأراضيهم، حتى قال قائل منهم :

- إن بكراً يخشى على سلامة أهليه الأسرى فوق خشيته على مصالح عشيرته..

وكان عبد المجيد كثير التجوال بين المتذمرين يبث فيهم روحاً أخرى بقوله :

- إنه ينتظر حتى يتم لكم تدريبكم على السلاح الجديد، ما تأخره إلا زيادة في حفظ أرواحكم، وما تلكؤه إلا ابتغاء وجه سلامتكم.

ومثل هذا الحديث كان يطيب الخواطر، وينفث عن لهائب الغضائب، قبل أن يعود يرى الريفيون رضوان وهو يمضي خارجاً من الدوار دون معترض ثم يعود إليه (وقد أوعز بكر إلى جماعته بعدم التعرض للرجل  الذي بدا أنه - وعلى وجوده المحاصر في أكبر منازل القرية - ممسكاً بقياد الأمور وزمامها، بامتلاكه النقطة الأهم، الأسرى الثلاثة : فردوس وتسنيم وصفوت) فيتندرون (الريفيون) من هاته القوة العذراء القاصرة التي يملكونها، ويردد منهم مردد : "إما أن تتملصوا من طاعة الصغير بكر، وإما أن تنصرفوا إلى أشغالكم.."، ووقف بكر ذات يوم وهو يرمق هذا الخارج (رضوان) في شزر واشمئزاز، ثم انتظر ريثما عبر به واختفى عن أفق رؤيته، فجلس فوق قفة بالية كان بها ملابسه المصفوفة، يقول لعبد المجيد عميق الشعور كأنما يوغل في مكنونه :

- لقد هلكنا، إن أعدادنا كل يوم في تناقص، ولو انتظرنا حتى مقدم العام القادم فلن يبقى من المعسكرين إلا أنا وأنت..

وقال له عبد المجيد :

- قلت لمن هبطت عزائمهم بأنهم لم يصلوا بعد إلى مستوى التدريب المناسب على السلاح وأن..

وقاطعه بكر يقول كأنما يصادره :

- ما عاد أحد يصدق في هذا الحديث، إن السبب الذي يمنعنا معروف واضح، وإن منهم من يقول : "سيؤجل ما استطاع إلى التأجيل سبيلاً، وهو مذق اللسان يقول ما لا يفعل..".

وبدا أن الحوادث بما آلت إليه بعد تداعيها المعروف قد وصلت إلى نهاية الفشل وأوجَّه، وقد كان فشلاً محفوفاً بالهوان ومشوباً به، وانكفأ رأس بكر حتى تركزت رؤيته فيما تحته - القفة البالية - وقد حال لون خوصها، وإنه لكذلك حتى نام في خضم شعوره بالخسران والعجز، كانت الأمور على هذا الحال إذاً قبل أن يعود رضوان إلى دواره - محفوفاً برؤية المتربصين به العاجزين عن الوصول إليه - فيرتقي في الدرج الذي أخفاه، وهناك يعلو بينه وبين نجله فهد جدال عنيف هو أشبه إلى شجار، يقول الابن (فهد) :

- تركت أخي نصر الله نهباً لأياديهم القذرة، بربك.. إذا لم تكن تعر لحياة نجلك الأكبر اهتماماً يحملك على حمايته ودفع السوء عنه فما عساك أن تصنع بي؟

ومضى عبد المجيد يسترق السمع فطلب من جمهرة المعسكرين التوقف عن لهوهم ولغوهم، وقد كان منهم من يتحلق النيران ويرقص، ومنهم من اتخذ من سور الدوار مرسماً يعبث به، ومنهم أطفال جعلوا يطوفون حول الشجرة المخروطية حيث نصر الله المكبل بالأحبال،..  لقد طلب عبد المجيد من أولاء جميعاً الصمت إذاً وقد لبوا طلبه، واعتل الرجل صخرة ناتئة فتسامى بها عن حفيف الشجر ونقيق الضفادع، وبرز صوت رضوان يقول كأنه يتحدث من جوف قمقم :

- لولا أنني قسيت وتركته لهم لفتكوا بي وبك، بعده، ما بيننا وبينهم حاجز واهٍ من الحجارة وثلاثة أسرى ثم طاقتنا على تحمل الخسارة مما لا يطيقه الشاب الغض، نجل نوح..

- فلنعقد صلحاً معهم إذاً..

- فلتنظر إلى أفواههم الكريهة، لن يتركونا إلا جثثاً تأكلها الضباع.

ولم يعجب فهد بجواب أبيه فقال في ثورة محمومة بالغضب وقد احمرت عيناه كأنها خرز العقيق :

- لقد شاخ قلبك، وحتى البديهيات في عقلك قد انكفأت..

وصفعه رضوان على وجهه صفعة شديدة جلجلت في الأنحاء حتى سمعها كل ريفي مُعسكِر كأنها رصاصة أو قذيفة، وحتى لقد صارت - من بعد هذا اليوم مضرب الأمثال - فيقال : "صفعة أشد من صفعة رضوان لنجله"، وتوجه عبد المجيد من فوره تلقاء بكر فأيقظه حتى اضطرب تكوينه فوق القفة البالية يقول :

- ابشر، أيهذا الكسول النائم،.. فلتستقيظ عساك أن تعي أنباء البِشر، لقد وقع الخلاف المنشود بين الأب وبين نجله..

وأجابه بكر فيما يشبه خرف النوم :

- ما أجمل هذا ! يميناً إن حديثك الأخير هو خير ما خرج من فمك، وما عسانا أن نصنع إذاً؟

وتطلع عبد المجيد إلى أفق الدوار حيث تحوم الغربان، وقد تهالك الخفراء على النوم قرب هذا السور، ثم عاد يبصر نصر الله المكبل بالأحبال لدى الشجرة المخروطية، يقول :

- سنضرب نجل رضوان الأكبر (يريد نصر الله) على قائمة من خشب..

ووضح أن اقتراح الرجل قد أعاد بكر إلى حالة اليقظة الكاملة، فقال وقد أزعجه الأمر لقسوته :

-  وما صالحنا في إيذاء من لا قدرة له؟ ليس لرضوان قلب كي يتألم به.

- سننكأ الجرح عمداً، لن يحتمل فهد رؤية أخيه، وسيمرق حينئذٍ من فريق أبيه، سنجيء بقائمة متينة نصنعها هي من خشب الصنوبر، وسيكون الحدث على المشاع، لقد نخر الكلل سوس بنائه (رضوان)، والخفراء سئموا حماية من لا يكترث لهم فصاروا نياماً كسالى، تماماً كالريفيين..

- قلبي لا يسعفني على مطاوعتك، ولكن عقلي يدلني على أن رأيك فيه السداد..

ولكنه (بكر) قال له أيضاً :

- لو تم لنا الأمر على صورة ما وصفت، فستكون العمدة..

- دعنا نأمل أن يحالفنا حظنا أولاً.

وحمد أعيان الريف - كبار المتضررين من حالة اللاحسم - لعبد المجيد اقتراحه فذكروا شيئاً عن "فطنته التي تحيل البطيخ إلى كافيار" بعد أن أثنوا على لبائب فكره، وعلى ما وجدوا في تصرفه من قسوة وعنف فقد ارتأوا فيها نجاعة لا مناص عنها، وقد وصفوا بكراً - بالمقابل - بأن فيه شيئاً من لين النساء، وأن وجوده بالمدينة طبعه بطباعها وأزاغه عن بديهيات الصراع الريفي، وأن منصباً كالعمدة - لو أنه فرغ بعد حسم المعلق من الأوضاع - لا يشغله إلا من أوتي حزم الرجال كعبد المجيد، وعلى هذا النحو اختلفت آراء العشيرة في بكر وانشقت العصا،.. وجيء بهذا القائم الصنوبري الذي ربط إليه جسد نصر الله المنهك، ونُبذ من جماعة الريفيين المعسكرين الأطفال والنساء وذوي الألباب الحساسة من الشيوخ اتقاءً لمشهد اليوم العظيم فأرسلوا جميعاً إلى سكناهم، وأُرسلت حورية إلى بيت بدور التي كانت ترعاها في سلتها الخيزرانية،.. وعلت وقع ضربة الكرباج الأولى، فجعل فهد يهتف بأبيه في توسل وضراعة :

- إلهي! سيفتكون به على مسمع منا ومرأى، لقد استحلوا جسده وقريباً يستحلون حياته، سأنزل إليهم، ولتصحبني في طلبي للسلام..

وأجابه رضوان وهو يعترض سبيله :

- بل قل الهلاك..

ودفع الابن أباه في شدة ثم أغلق عليه الحجرة حتى حيده عن نطاق التصرف، ومضى فهد - في غير استجابة لطرقات أبيه الساخطة المحذرة على الباب الموصد - إلى حجرة تسنيم وفرودس وصفوت يطالبهم اقتفاء حركته، فلما حدس عبد المجيد بحركة النَوَازِل، هتف بالجلاد الذي كان لتوه قد رفع كرباجه - كأنما يهدف إلى أن يزيد - يقول :

- حسبك، لا تزد.. 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول:   رأيت الطمع في عينيه

الفصل الثاني:  عسى أن يكون صدري منشرحاً

الفصل الثالث : صورة المُخلِّص

الفصل الرابع : إلى أين المسير؟

الفصل الخامس : الخواطر المستغرقة

الفصل السادس: نظرة أخيرة

 الفصل السابع: أسطورة شجرة النبق 

 الفصل الثامن: عودة فتاة فيلا لوران

الفصل التاسع: ألكسندرا في غابة بولونيا

الفصل العاشر: مصرع زهران بسبب مراهنات الكرة !

الفصل الحادي عشر: بكر يتحدى سلطة رجال القرية

الفصل الثاني عشر: حوار في مطعم جيوفاني

الفصل الثالث عشر: سلكت سبيل الحب ! 

الفصل الرابع عشر: حفل عرس في حمام شهريار

الفصل الخامس عشر: خطبة مارتن في سكة حديد بالتيمور

الفصل السادس عشر: لقد صفحتُ عنكِ

الفصل الثامن عشر: كأنك تحكمين عليَّ بالهلاك

الفصل التاسع عشر : انطفاء شمعة لا يعود لهبها

الفصل العشرون : نفسيتي تتحسن حين أروي قصة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق