روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/19

رجاء الحق

     الفصل الثاني والعشرون: رجاء الحق



في أبي تيج..

مضى بكر إلى بيت رضوان عازماً على لقائه ومحاججته في قضية أمه تسنيم، سرى الاضطراب في نفس فردوس التي ارتأت نفسها تأخذ تستهل حياتها الريفية بموقف قلق، وإن صحبت زوجها إلى مراده، وهتفت بدور بعبد المجيد تقول :

- هل تتركه يذهب إلى وكر الأفاعي وحده؟

وقال لها :

- ما ترك اللهُ النَّاسَ همَلاً، فإذا تركته فثمة من يحيطه بالعناية إن هو على رجاء الحق والتماس مقاصده.. لقد استقل بقراره وعلينا أن ننتظر ونرى..

وقالت فيما تهب النافذة نظرة فتبصر بكراً وهو يجتاز الحارس والسور خافضاً رأسه عن فروع الغار فيما تناشده فردوس أن يتريث :

- إن تفاهُماً مع رضوان يضفي عليه شرعية الحكم..

وقال عبد المجيد وهو يضم طرفي عباءته ذات الصوف الأحمر :

- إنه اختبار لفتى المدينة الغض، لماذا لا تجربيه عساه أن يصيب توفيقاً غير مسبوق؟

وأغضبها تلكؤه فتركته مهرولة إلى الحارس وهي تذرع نطاقاً أخضر ذا نخل وشجر حتى تدانت منه (الحارس) فهتفت تقول :

- فلتقتفِ أثره، فإذا دخل بيت رضوان فلا تتركه.. 

مضى بكر وفردوس إذاً وفي إثرهما الحارس حتى بلغا مبلغ المنزل الكبير لرضوان، هذا الذي اُتخذ بناؤه من الطوب الأحمر، وكان أكبر من بيت تسنيم قبل أن يعمد عبد المجيد إلى توسعة منزله - دوار العمدة - توسعة أصر على أن يفوقه بها من جهة العمران، معللاً ذلك بالصورة الأخلاقية الرمزية :"إن قلعة الخير لا يصح لها أن تكون دون وكر الشرور بناءً.."، واستوقف الحارس الأول بكراً هناك وامرأته يسأله عن هويته فأجاب :

- بكر بن نوح..

وقصد الحارس الثاني إلى سيده (رضوان) الذي جعل ينادي يقول :

-  فلتأذن لفتانا أن يدخل، إن له عندي مقاماً كريماً..

وإن هي إلا ساعة صُقِلت من الريبة والتوجس حتى حضر الحارس إلى بدور عائداً يقول بين الشهيق والزفير والانفعال :

- لقد تبعته إلى البيت الأحمر الذي ابتلعه وزوجه..

واحتدت المرأة تقول :

- وما منعك أن تصحبه في تهوره؟

- منعني الحارس الذي أجبرني على التوقف، إنه قريني الذي هناك، كان رجُلاً غَضَنْفَراً ذا جبلة قوية، وصاحبه مثله..

- ولماذا لم تضربهما بما في يدك (أي بالبندقية)؟

وقال وقد استقر زفيره وشهيقه دون أن يسكن انفعاله :

- خشيت على سيدي لما كان أعزل هو وامرأته، وقد سبقاني إلى دار وسيعة لا أعرف مسالكها.

في هذا الوقت كان رضوان يتفحص زائريه ملياً، مر بجسديهما من الرأس إلى إخمص القدم، وقال :

- تبدو زوجك غريبة عن المدينة، أنتَ أيضاً ريفي بسيط، بيد أن دأب الريفي أن يتلون بطبيعة المحيط الذي هو فيه، ولا ريب أن معاشك في المدينة قد أورثك شيئاً من طبائع أولاء القوم..

ولم يكن بكر أقل تفحصاً من محدثه، ولكن عينيه الجوالتين استهدفتا محيط الدار لا شخصية رضوان، ومر بعينيه في أنحاء الحجرة الثرية، هاته التي فرشت بالرخام، وبرزت الوفرة في نمارقها وبسطها، وقال :

- فلتهمس في أذن حمروش بأن يتنازل عن قضيته..

وأجابه رضوان مبتسماً، وقد جاءه الخادم بطاجن الأرز باللبن الذي يحبه في قالب من فخار :

- لا شيء في السياسة بلا ثمن..

وأجابه بكر الذي كان يقع في نطاق الشمس وزوجه حتى أحاط بهما كوثر الغبار الذي تكشفت ذراته تحت هذا الضياء القوي :

- لستُ سياسياً، ما جئتك إلا بدافع اللهفة إلى أمي..

وانهمك رضوان في طعامه حيناً، ثم قال :

- مادمت قد حضرت لغرض الحوار فأنت سياسي، أجل، السياسة لحظة جسارة ووصل، لماذا لا تكون عمدة للريف؟ أراك أليق بها من عبد المجيد،.. ألست نجل نوح، وربيب بيت الشيخ السكندري بهاء الدين؟

- لا أظنني على طاقة من الأمر، سأعود إلى الإسكندرية يوماً.

وبلغ برضوان تمطقه حداً منفراً، وتساءل يقول :

- هل طردوك من المدينة؟

- لقد طردت نفسي بنفسي، كان نفياً اختيارياً.

وعلى هذا النحو استضاف رضوان بكراً وامرأته أياماً ثلاثةً في داره الحمراء بدت لغزاً كبيراً بالنسبة إلى الريفيين الذين طفقوا يستنبئون بعضهم بعضاً، قال قائل منهم :" لا جرم أن رضوان قد أجهز على نجل تسنيم لما كان بينهما ود مفقود.."، وقال الآخر:" إنه إن فعل خلق مزيداً من العداوة تجاه أسرة من جاءه طالباً السلم لأول مرة.."، ولم يسبر صاحب حدس في ريف أبي تيج غور الحقيقة الغائبة على كثرة ما قيل، ولكن صبر بدور قد نفذ نحو زوجها فخيرته بين التصرف وبين الهجران، وكثيراً ما أجاب الرجل لهفتها إلى أخيها بقوله :

- حنانينكِ،.. وإنما الجزع عند المصيبة مصيبة.

وطال مطال الانتظار حتى أرسل عبد المجيد نفراً من خفرائه إلى البيت الأحمر عن قصد تحرير المختفيين، كان رضوان يتلمح القادمين من نافذة ولم تمضِ إلا هنيهة حتى انفتح الباب بعد أن همس الرجل في أذن خادمه، وطوحت المفاجأة بألباب الجميع حين لاح بكر فأمر خفراء عبد المجيد بالكف عن رفع السلاح المشهر، وخفض حرس رضوان أسلحتهم بالتبعية، وأخذ يمضي (بكر) بين صفين منهم - الحرسين المتنازعين - رفقة حمروش ورضوان ونجليه فهد ونصر الله، وبلغا مبلغ ساحة الريف وكانت حركتهم تستجدي تجمهراً، ونطق حمروش في صوت جهير هناك يقول وهو يأخذ يرفع يمنى بكر :

- إن عمدتنا الجديد رجل يخاف الله، ولا يهين علماء دينه ! رحبوا به واسمعوا له واطيعوه، ما كان بيني وبين أمه قد انجلى انجلاء صفحة الغبار في يوم صافٍ، وليجازِ الله شيطاناً أوقع بيننا، وعفا الله عما قد سلف..

ووهب حمروش بكراً ورقة فتحرك الثاني بها خطوتين ثم جعل يقرأ ما بها، وكان شعراً لأحمد شوقي في مدح الأزهر ورجاله :

-  قم في فم الدنيا وحيي الأزهرا..          وانثر على سمع الزمان الجوهرا

واجعل مكان الدر إن فصلته..             في مدحه خرز السماء النيرا

واذكره بعد المسجدين معظماً..               لمساجد الله الثلاثة مكبراً

واخشع ملياً واقض حق أئمة..             طلعوا به زهراً وماجوا أبحراً

وطرب حمروش للبيت الأخير فجعل يهتف بالحضور :"واخشع ملياً !  واقض حق أئمة ! هل تسمعني يا عبد المجيد؟"، وكانت لحمروش ملكة التأثير في السامعين عبر التلاعب بالعاطفة فيتصايح الحضور لحديثه الفور، وحتى لقد بلغ الرجل حداً أشفى على الجنون، قال في صوت أهدأ :

- لقد أضاع عبد المجيد مواردكم في توسعة دواره العظيم كي يفوق به بيت سيدي رضوان، بربكم كم من فم كان بوسعه أن يطعمه لقاء ما قد أهدره! (ثم وهو يتقدم إلى موضع بكر فيلبسه عمامة أزهرية حمراء) ورب الكعبة، إن هذا الشبل من ذاك الأسد، وإنه لأرحم بكم وأدرى بحوجكم من غيره، هلموا فأظهروه وآزروه، فأيما شيء يعقده يكون في السماء معقوداً !

وتقدم رضوان ونجلاه إلى بؤرة الحدث فجعل الأول يتطلع إلى الواقفين المجتمعين في استبشار، فيما طفق فهد يرميهم بزهور من النرجس، كانت بدور تقف على مبعدة من الحشد الذي بلغ أوجه ترقب هذا الحاصل، وعادت إلى عبد المجيد تبثه ما قد رأت، وقالت آسفة :

- تركته في وِجار الثعالب زمناً، حتى أغواه البائس بما لديه..

وقال لها في حسرة واضطراب :

- لم أحسب أن صاحبك ممن ينجرون وراء بريق السلطان..

وقالت :

- لعله لم يقبل بما قد قبل به إلا كي يحرر أمه !

وامتعض من تحليلها الذي ارتأى فيه سقماً وسذاجة، قال :

- أما كفاك حُسن الظن بالخلائق؟ لقد قصد إلى المدينة وهناك علموه فنون التلاعب، وأحابيل المناورة، كان بعينيه نظرة تطلع لم تخفِ على أحد.. 

وعلى إثر ما تقدم خرجت تسنيم من محبسها بعد تسوية الخلاف مع حمروش، وقد امتلأت بالنقمة على عبد المجيد الذي ارتأت أنه قد تقاعص عن مسؤوليته في تحريرها وتخليصها من أسرها على نحو أشفى - لديها - على خيانة الأمانة، وحملت عليه حملة شديدة حتى لم تعد تثق بوجوده في دوارها، وقال لها :

- إنني ما أردت أن أعقد حلفاً مع شيطانين كرضوان وحمروش، قلت في نفسي كيف أعاهدهما وذاك أثر فأسهما.

وقالت له المرأة في عتاب :

- بل استهترت بقضيتي، وقذفت بي إلى أسحاق خذلانك..

- أألام على أني استنكفت أن أبارك ملعونين في ساحة الريف كما فعل نجلكِ؟

- لا تتحدث عمن هو خير منك بما يكشف عن حسود نفسك.

وقال مغضباً وقد حملته نقمته على التجاوز :

- فلتذهبي إلى مثوى نوح بمقابر المسلمين، ولتحدثيه عما وقع لو أن بك شعرة من الجسارة.

- سأحدثه عن الوفاق الذي سعى إليه، ونجحنا فيه.

وقال :

- وفاق بين الغزلان وبين الذئاب لا يكون إلا وهماً.

- لقد كان عليه الرحمة يرى الحقيقة بعين عوراء، والله يقول : "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها..".

وقال عبد المجيد :

- بل قولي كان يراها بعين منزهة من المساومة، قاطعة الرأي على الحق والاستقامة.

ولم تحفظ له المرأة حقاً من الحقوق إلا لأجل ابنتها بدور التي كانت كثيراً ما سعت إلى تخفيف وطأة الخلاف بينهما، وترطيب قلبها نحوه، وكان بتسنيم نزعة إلى الشدة تقارب الجور إذا هي لم تُهذب أو تذهب في الاتجاه الصالح، فلم تحفل بمحاولات ابنتها واستعصى عليها الغفران، واضطر عبد المجيد بعدما عدم من ظهير إلى ترك منصب العمودية، وخلع عباءته الصوف تاركاً وزوجه دوار العمدة، فاجتبى لنفسه موقعاً متوسطاً وسط بيوت الطين بعد أن نزعت عنه أبهة المنصب، وتحين لحظة التشفي التي يصدق فيها حدسه، وكان يقف أمام الدوار الكبير الذي أخرج منه حين يمر به بطسته أحيان انقطاع الماء في قصوده إلى الترعة فيقول :"انظرني أعود إليكَ وكل آت قريب.."، وعاد الريف مساحة لرضوان وفهد ونصر الله يرتعان فيها، ولفَّهم الواقع الجديد بشرعية نأت بهم عن «حال الضباع المنبوذة في نطاق الغابة المهجور» الذي كانوا عليه طويلاً.

 

وقضى بكر أياماً من مسؤولية لم يعهد مثلها في أبي تيج، وأفصح لامرأته فردوس ذات مساء عن شعوره الكامن :

- لازلت لا أجد نفسي، أحسب أن العمودية رباط وثيق سيربطني بالريف، قطعت وعداً لبحر الإسكندرية المائج بالعودة حين تضمحل قصة العجوز في الأذهان، أجابني بطاقة من رذاذه، كان لطيفاً على غير المعتاد، وإنه على شططه لأبكر موانئ مصر وأبهاها، (وتنهد ثم أردف يقول..) مشتت أنا بين عذابين كالبندول بلا قرار ! أرى حسادي في كل نحو، ألم يوصي مالكاً الشافعي بقوله المأثور عنه : "لا تسكن الريف فيضيع علمك، من أراد العلا هجر القرى فإن الحسد فى الأرياف ميراث؟".

وقالت فردوس وكانت على النقيض منه متأقلمة على معاشها رغم نشأتها الحضرية :

- فلتحاول جهدك أن تجعل قريتنا على نمط المدينة، ألم تكن الإسكندرية يوماً قرية من خمسة آلاف نسمة تماماً كقريتنا هاته أو هي دون ذاك، عربية المعمار مضروبة بالخواء والكساد قبل أن يشرع محمد علي في بناء مدينته الحديثة؟ إن رؤية ثاقبة تحيل الخرائب واحات للعمران.

وقال :

- الرؤية والقدرة، وبأي منهما دون قرينه لا يستقيم الأمر، ليتني أملك ما ملكه الوالي الداهية من قدرة التصرف..

وأظهرته فردوس يومذاك على حقيقة حملها منه التي وافقت حمل بدور من عبد المجيد، وكانت فردوس دائمة الوصال بها (بدور) لما كانت تحمل لها وداً موصولاً منذ استقبلتها الأخرى فأحسنت الاستقبال، وقالت تسأله :

- لماذا لا تزوره وزوجه فتهئنه بمولوده؟ 

 اقرأ أيضاً : 

           الفصل الأول:  لقد أعماها الحب

الفصل الثاني: المعنى الغائب

الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره

الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم

الفصل السادس: لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً

 الفصل السابع: نقاش حول غوته

الفصل الثامن: عواقب عملية رمضان

الفصل التاسع: حول الهيمنة الأمريكية

الفصل العاشر: صراع في كنف الغروب

الفصل الحادي عشر: أوهام في معبد الرأس السوداء

الفصل الثاني عشر: يوم انفجر الأمل

            الفصل الثالث عشر: سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ

الفصل الرابع عشر: قلوب حائرة

الفصل الخامس عشر: أمل الحياة

الفصل السادس عشر: الفردوس في السماء لا في الأرض

الفصل السابع عشر: اعتذار

الفصل الثامن عشر: وجه آخر للحياة

الفصل التاسع عشر : أيام عصيبة في الجنوب

الفصل العشرون : نقاش في ستوديو التصوير

الفصل الواحد والعشرون : أيتها السماء.. فلتتركي السعداء وشأنهم

الفصل الثالث والعشرون : خطاب من فيفيان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق