روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ في موقع واحد.

2024/11/22

إلى أين المسير؟

           الفصل الرابع: إلى أين المسير؟



حركت نور دعوة قضائية ضد المخرج مظهر بدعوى الاعتداء عليها في استوديو التصوير ما لبثت أن اكتسبت شهرة طاغية في أوساط الصحافة الفنية التي كانت تتصيد مثل هاته الأمور، وتتحين القيل والقال في مثلها من فضائح يكشف عنها غطاء الكتمان، وشاع الخبر حتى وصل إلى أسماع أسرتها بالصعيد : عائلة أبي جريشة التي ثارت للأمر ثورة عارمة (وكان من آثار ذاك أن استهدف بعض أفرادها استوديو التصوير فحطموا ما فيه..)، وإلى زوجها عز الذي لم تكن ثورته دون ثورة العائلة (وإن أخذت صورة باطنية كظيمة ألجمت فيها رغائب العدوان والإفساد)، ولاذ مظهر حين ضاقت عليه دوائر النقد والاستهجان إلى الإقامة بألمانيا الشرقية تاركاً البلاد التي امتهنت فيها سمعته زوراً (بتعبيره الكذوب الذي روج له في محاولة لحفظ ماء وجهه)، ومعولاً على ضعف الذاكرة الجمعية في نسيان الأمر بعد فترة تطول أو تقصر، وقد زاد من مرارة الحوادث تأثر الفيلم الجديد بالدعاية السلبية التي صاحبته والتي نالت من بطلته ومخرجه، حتى أصاب فشلاً كبيراً فسُحب سريعاً من دور العرض، وفرغ شباك تذاكره من الطالبين من واقع ما اقترن به - عدلاً أو ظلماً - من واقعة السوء التي كانت ابنة كواليسه، وعلى كل ما قد تقدم استولى على نور حزن شامل فكأنما انطبق عليها قول الشافعي:

- فلربما مرّت بقلبي ضجرة.. فأودّ منها أنني لم أُخلق.

واعتزلت الخلائق اعتزالاً أراحها من ضجيج حديثهم، ووجدت في نبيل - الذي التحق لتوه بالإبتدائية - وعطية الله سلواها وعزاءها، وأرسل عز إلى خاله يوسف في طلب زيارة زوجه المحزونة لعلمه بقدرته على التسرية عنها، فحضر الرجل (يوسف) مع زوجه عفاف التي كان يلح عليها بعدم الانسحاب من الحياة على مرضها، وقالت له نور في أسف :

- ما عدت أدري أجانية أنا أم مجني عليها؟ وفي نهاري سمعت شاباً سَفَلَاً يصفني بالسوء..

وقال عز :

- الإنسان ليس إلا حيواناً، إنها حقيقة بيولوجية يقرها التطور، وإذا هو لم يهذب رغائبه انقلب وحشاً منفراً، إن المجتمعات الشرقية تعاني مشكلة في مصارحة الذات، وتصطنع التطهرية الزائفة حتى تعود تنفجر فقاعتها الزائفة كالحمم الفائرة..

وتدخلت في عنف وهي تتذكر ما وقع في استوديو التصوير :

- وكأنك تلتمس للرجال معاذير تبرر بها سوء صنعهم..

والتفت عز إلى يوسف يقول كأنما يشهده على زوجه :

- أرأيتَ؟ إنها ما عادت تطيق لي قولاً ولا استدراكاً، وقد أتيت بكَ لغرض الحديث إليها..

كان يوسف حكَّاءً بارعاً يحفظ الأقاصيص في جعبة ثرية، وقد تعرض في رشاقة جديرة بالثناء : لعام 536م أسوأ عام في تاريخ البشرية بسبب أحوال الطقس المتطرفة الناجمة عن انفجار بركاني، وقد تعرض لروبن هود الذي تمنى أن يشارك (يوسف) مجموعته المسماة بالرجال المبتهجين المغامرة في غابات شيروودعن، وكيف أنه لن يجد حرجاً لكونه من اليومن (أبناء الطبقة المتوسطة) في الاندماج إلى رفقته الطائشة النزاعة - رغم ذاك - إلى إقرار العدالة كما يروي الأثر في الفلكلور الإنجليزي عنه، ولقد تعرض - في الأخير - للقناعة الساذجة التي سادت عقول البشر قبل اكتشاف أستراليا بأن جميع طيور البجع إنما هي بيضاء، لقد تحدث يوسف في موضوعات شتى إذاً، لها مسحة مشوقة عن قصد أن يشتت انتباه الفتاة عن الأسف الذي يملأ بواطنها، ولكنها ما فتئت تقول وبعد أن انتهى بين التساؤل والإقرار والعجب :

- لم أتصور أن يكون العجائز على هاته الصورة، العقل أكبر مزين للرغبة..

وهبط رأس يوسف كأنما حمله قولها على الأسف، وهنالك نطقت عفاف تقول :

- عزيزتي،.. أعلم كم أنت على خيبة من الرجاء، وشعور الخذلان ! ولكن دعيني أفصح لكِ عن سر كنت أدخر الإفصاح عنه حولاً من الزمن : إنني مريضة بالنسيان، شخص الطبيب الذي بدا غير مهتم أو متعاطف حقاً لحالتي بأنني على حال الإصابة بالأعراض الأولية من خرف الشيخوخة، وسأنسى كل شيء : الحسن منها والرديء، لن تبقى ذكرى واحدة في عقلي المفرغ، وسيعلمك النسيان القهري فضل التناسي، سيموت الجميع، وإن في هذا لعزاء لكل خائب رجاء على هذه الأرض !

وكان يوسف قد عاد يرفع رأسه في ذهول، وطفرت عيناه بدمعة صادقة، لم يكن عز ونور بأقل من الرجل ذهولاً وانقباضاً وأسفاً، وتجشم الرجل الكظيم عناء اللحظة في خفة روحية، ونهض يقول في صوت مثقل يروم التحرر :

- سأرقص على منوال Gene Kell، الرجل الذي ملأ شبابي بهجة، وستشاركني أجمل مريضات النسيان، رقصتي..

ومكث العجوزان في رقص فاضت بسببه مآقي العيون فوق شفاه باسمة، وقد جللت نور رهبة إنسانية نسيت معها معاناتها الفائتة التي هانت.

 

في العامرية..

ضج الشيخ فوزي بما انتشر في أوساط قرى العامرية من أحاديث تعرضت لصالحة وصديقها الجديد، وقد هددت هذه الأقاويل مطمعه المستقر وقناعته بأحقيته في نوالها (بتعبيره) بشكل واضح سافر على نحو حمله على التحرك، وقصد إلى أبيها هزاع يروم خطبتها في قفطان من الحرير، ووسط شيعة من أصحابه جمة العدد، وكان محباً لأن يظهر في كثرة وعزوة تحمل الناظر العامي على الإقرار بإجلاله والبَوْء بمهابته، وأجابه هزاع - بعد أن تحصل منها على جواب بالرفض - يقول :

- أنظرني حتى استمزجها الرأي في أمرك..

وسأله في حدة تتحرى انقطاع الحيرة :

- هل سبقني إليها الشاب الأغر؟

وأجابه هزاع في شيء من الانتهازية التي تلعب على كل الأحبال :

- كلا،.. بل إنها تحتاج إلى مهلة تصل بعدها إلى قرار حاسم، لا أريد الضغط عليها،.. ألم يقل النبي وأنت أعلم مني بمروياته : رفقاً بالقوارير؟

وهناك غضب الشيخ كأن جبلاً قد تمخض يقول :

- النبي يقول : «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه.. ».

وتطوع واحد من شيعته مكملاً الحديث في صوت جهير كأن بينهما اتفاق:

- «إلا تفعلوه تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير..».

والتفت فوزي إلى صاحبه التفاتة وانية بجانب عينيه ثم مضى عن الدار في ضجر وغضب، حاول هزاع الضغط على صالحة للقبول بالرجل المقتدر، وحاولت الفتاة المناورة بقولها :

- أروم رجلاً ينتسب إلى أقدم العائلات والقبائل بالعامرية كقبيلة القناشات، أو عائلات المريمى : عائله مطراوى والعرجى وشلاط، وأما الشيخ الثري فلا يضارعنا قط من جهة النسب، إنه من هوارة الصعيد..

وانفعل هزاع في وجهها يقول :

- بحق السماء،.. أتتزوجينه أم تتزوجين نسبه؟

- المثل يقول : تخير الجار قبل الدار، فماذا عن زواج بطول العمر؟

- ويك يا من تُسيرين حياتك بالأمثال.. !

ومرت أيام من الضغط والمناورة حتى قصد رؤوف إلى حانوت الريس جعة فألفاه يقول :

- مَرْحَى! لعودتك..

وأغلظ الشاب في الجواب عليه متأثراً بما مر به من تجاربه معه، وقد دهش من تعرف جعة على هويته رغم أنه لم يتحدث قط :

- دع الترحاب ولتلبِ لي طلبي في الشراء..

- وكأنك لا تريد أن تعرف رسالة صالحة التي أوصتني بتبليغها لك..

هناك أمسك التطلع بجوارح المتأفف، قال :

- فلتتحدث بما لديك..

وأخذ الرجل الأعمى يماطل يقول :

- هل تدري لمَ سميت العامرية باسمها؟ يقال بأنها سميت كذلك نسبة إلى ليلى بنت عامر بن الملوح، ابنة عم الشاعر الوَلِه قيس بن الملوح،.. ما أشبهه بك ! وما أشبه صالحة بليلى التي قال فيها قيس :

أَلَيسَ اللَيلُ يَجمَعُني وَلَيلى.. كَفاكَ بِذاكَ فيهِ لَنا تَداني

تَرى وَضَحَ النَهارِ كَما أَراهُ.. وَيَعلوها النَهارُ كَما عَلاني

كان الغضب الذي يحمله رؤوف إزاء الرجل الأعمى قد تصاعد فبلغ كل مبلغ، وحتى لقد أمسك بقارورة النبيذ مهدداً، وهناك عاجله جعة إلى تبليغ الرسالة :

- إنها (أي صالحة) تروم لقياك في بيتها بعد أن ضرب عليها أبوها هزاع عزلة أراد بها أن يكسر إرادتها في رفض الشيخ فوزي..

واستبد برؤوف هاتف التحرك حتى لقد نسي قارورة النبيذ التي اشتراها، وقصد إلى بيت صالحة - الذي كان يميزه بوقوعه في منتهى مظلة هي من الأشجار الباسقة - فاستقبله أبوها استقبالاً فاتراً كاد معه أن يمنعه من الدلوف، لولا أن ابنته جعلت تقول حين استشعرت وجود الزوار على نحو أحيا رتابة فرضت عليها أمام حجرتها :

- كفاك أن تعزلني عن دنيا السبيل، ولا تحل بيني وبين رفقة جاءوني طالبين أن يسروا عني !

وأجابه هزاع متأثراً بحديثها المغمور في ماء الإجحاف والأسى وقد ولى شطره صوب باب الخروج كأنما لا يطيق النظر إلى ابنته مع صاحبها، وكانت الساعة الثالثة عصراً إلا ثلث :

- عشرون دقيقة ثم ينصرف الأفندي،.. فإذا انطبق العقرب على العقرب دون أن يخلو البيت من أثره كان لنا تصرف آخر..

وحجز المنصرف (هزاع) الباب بنعله البدوي ثم اختفى ظله، وانهارت الفتاة في بكاء شديد وجعلت تقول وهي ترى أباها الذي عاد إلى وقفة لدى طبلية الردهة الخشبية عاقداً يديه لدى أعلى صدره فيما ينضح وجهه بالرتابة والسأم :

- استحال البيت إلى سجن كئيب، لقد مُنعت حتى عن الأعمام والأخوال، لم أتصور أن يعمي المال أبي هزاع فيصيره إلى ما يشبه ضابط المحبس، ولا أتخيل نفسي في بيت واحد مع الشيخ ذي الطباع الجلفاء..

وانتهى حديثها كقطرة أخيرة تهبط من شلال جف ماؤه، ونظر إليها رؤوف ملياً ولم يدرِ كيف يخفف من وطأة أحزانها، فلزم السكون حتى سمع صوت يترامى من السبيل يهتف كأنها أصداء جعجعة خارجية يقول:

- أيا بائع الخمر : لقد ترك الشاب قارورته ومضى، لا تناور ولا تدعِ قصور العلم، إنها علامة فضحت ألاعيبك في التستر عليه، أخبرتني عيون لي بأنه قد جاءك،.. فماذا كانت رسالتك إليه؟

وكان الهتاف للشيخ فوزي الذي بدا في ثورة غاضبة أضاعت سمته الديني، وهبطت برصانته إلى عربدة كاملة، وأجابه جعة على وجل وكان حلقه مضغوطاً بقبضة شديدة :

- أخبرته برسالة صالحة إليه،.. إنها تريد لقاءه،.. ما أنا إلا رسول..

ومضى الشيخ فوزي يهتف وسط رفقته بصوت شديد مخيف كأن صاحبه يحترق :

- صالحة بنت هزاع، الرَعْناءُ التي استحقرت هوارة الصعيد وآثرت علينا شاباً لا نعلم له نسباً ولا أصلاً، فإذا كان لدى الصعايدة في العامرية أدنى نخوة فلينصروني على العرب البدو، وليطهروا هذه الأرض من أرجاس جماعتهم المستكبرة !

وخشاه الأنام - لما كان صاحب جماعة - فكأنهم - بالوصف القرآني - حمر مستنفرة فرت من قسورة، وإن خرج من بين أهل الحي رجول عجوز يقول :

- الفتنة نائمة لعن الله موقظها..

فدفعه الشيخ دفعة أنهت حالة السلم، واشتعل نذير الفتنة التي قرعت الجماعة المنفلتة أجراسها، واقتحم الشيخ الغضوب بيت هزاع بعد أن ذرع مظلة الأشجار الباسقة، ولم يجدِ صنيع هزاع في صده أمام الكثرة التي كان الوقوف أمامها والهلاك سواء، واقتحم من البيت - أول ما اقتحم - حجرة صالحة فألفاها فارغة على نحو أزاد غضبته، وحار ملياً فكأنه الأسد يتحير عند رؤية النار، واختزل الغضب حقيقته وقاده في ثورة شيطانية حتى أفرغه من كل قيم، كانت نافذة الحجرة قد فُتحت ورأى منها الشيخ رؤوفاً الذي كان يبسط يديه للفتاة التي لحقت به في هبوط عبر الأنبوب الملاصق للبناء القصير، ومضيا يتخفيان في غيبة الأشجار الباسقة الشاجنة، كانت صالحة تتقدمه ببضع خطى ترشده إلى أحوط المسالك - لما كانت أعلم بدهاليز حيّها - فيما طفق رؤوف يسألها وسط أعين الأهالي الذين خرجوا يستشرفون داعي الجلبة :

- إلى أين المسير؟ 

 اقرأ أيضاً : 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق