الفصل السادس: لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً
مرضت الطفلة إيمان مرضاً شديداً فاستأثر بمراد هاتف الجزع وهيمن عليه الدعاء، كانت ليلة عاصفة باردة من تلك التي يودع فيها فصل الشتاء البشر بخاتمة تحبب إليهم مقدم الربيع، طفقت النوافذ تصطك إذاً، واستطارت البروق، ثم ارتعدت الأبدان، وعلا هزيز الرياح التي كانت تبدو كغضائب جان، لقد كان عتوها رخيماً، وفي أفولها حدة، وأبدت أميرة عطفاً غير منكور إزاء طفلتها حتى أنها استخدمت جوربين تدفئ بهما رجليها الصغيرين، ولفت جسدها في غطاء مخملي ثقيل، ولكن حال الطفلة لم يتحسن قط، ولم يصبه البراء من وجه، إذ هي طفقت تتقيأ ما في جوفها، ثم تأخذ تزيد في سعالها، وتذكرت أميرة يوماً أصيبت فيه بحمى مماثلة في أثناء طفولتها فاستنقذتها العناية الربانية، وكان هذا مما حملها على بعض الصبر وشد من أزرها قليلاً، وجيء لإيمان بطبيب غير خبير فكتب لها دواءً اشتراه مراد لها وعاد به، وأسكن الرجل الملعقة المرة في فيها الصغير، بيد أن حالتها تدهورت دون مسكن حتى وقع أن توقف منها النبض، فجعت أميرة فجعاً شديداً، وهتف مراد يغالب شعوره بالكارثة وهو يضرب مقبض السرير النحاسي حتى لقد تكاد تدمي يده أو ينكسر السرير كأنما انتزع من قلبه سويداؤه :
- بحق السماء والأرض، أين العناية الربانية من الطفلة؟ هل نسيتها؟
وأجابته زوجه في صوت مكلوم فيه غصة غائرة :
- فلتستعذ بالله مما فُهْتُ به، وما من مصيبة إلا وراءها حكمة خافية..
وبدا أن النائبة ذهبت بعقل الرجل وإيمانه فجعل يقول فيما جعلت النوافذ تروح وتغيب بتأثير الرياح العواصف :
- هذه ليست حكمة وإنما سد لباب الشكوى والسؤال، لأن تصرف الحكيم تتضح فيه الغاية، ويبين له الفضل، وما سمي حكيماً إلا لأنه أحكم الأمور وضبطها في غاية من إتقان،.. أين الإتقان في أن تبور نبتة خضراء صغيرة؟ ولو كان مآلها البوار في البدء حتماً فلمَ ولدت؟
وقالت أميرة في صوت وانٍ، وقد صبغ صوتها بضياء ملهم في رفعة عن الأسباب :
- الله أرادها نجمة في السماء نسترشد بها طوال العمر، إن حكمته ليس وراءها حكمة، ولعلي ألد لكَ غلاماً جميلاً يعوضنا عن ألم ما عشناه، ولاتنسَ أن ستة من أصل سبعة من أولاد النبي ماتوا على حياة عينه الشريفة..
وصمت ملياً، ووهب الطفلة الساكنة الماثلة في سلة موسى نظرة عميقة يشيع فيها الحنو، ثم قال :
- لا أرى إلا العبث، قصة وئدت في المهد..
كان اسمها إيمان وقد فقد الرجل يقينه أو كاد حين رحلت إذاً، نصحته أميرة بالصلاة التي تشد أزره - كأنما توصي نفسها معه - فلبى الرجل مطلبها وصلى جالساً يؤمها، وأخذه البكاء في خضم الركوع فأعداها مثله، كادت الصلاة تفسد لولا أن أميرة ارتأت المواصلة رغم كل شيء، وحين سلم الرجل كان قد استوعب ما جرى فأخذه شيء من بأس ألهمه التجلد وأوزعه الصبر، وارتد إلى بعض قبول وتسليم، وقال لزوجه :
- إنكِ ما أردتها قط (أي الطفلة)، وقد أهملتها، وإن الله ليكره ألا تقدر نعمته حتى حمله هذا على أن ينتزعها منَّا !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات
وقالت الأم :
- لا تزدني ألماً..
ولم يعجب بجوابها فقال كأنما تفيض منه حمم التنور :
- إني أراكِ أصبر مني إزاء ما قد وقع.
وقالت في استهجان :
- منذ توفت الطفلة لم تنطق إلا بالحماقة..
وأصاب جوابها وتراً في نفسه، كأنما وعى شططه في مرآة، ولعل ساءل نفسه : "أنى لي أن آتي برشاد في حمأة جنون؟"، قال في هدوء يائس :
- سأترك هذا البيت عَلّي أجد السلوان خارجه..
وسار إلى الخارج دون أن تتركه النقمة، كانت ورشتا حانوتيه مغلقتين لظروف الطقس وقد مر بهما دون أن يشعر بأنه مالك لهما، لقد شعر بأنه بلا تركة أو ملكية أو حوزة، حتى روحه ما عادت تطيق ثوب بدنه، وإنه لثقيل القدمين مع ذاك، وغالب الرياح العاصفة التي كانت تزمجر، وكان يجد لشدتها مقاومة يضطر معها أن يحتمي في موضع ثم يزيد يمضي، ساقته خطاه دون قياد منه إلى شقة تهاني بسموحة، وشعر كأنه الهاوي من سلم بئر كان يتدلى عليه، إنه واعٍ إلى سقوطه، ولكنه غير حر القرار، أو كأن به جمرة مكنونة لا تجد حطباً،.. وحين صعد الدرج إليها ألفى بابها مفتوحاً، ودلف دون إذن حين سمع الصيحات التي تترامى من ورائه، كان أدهم طريح الأرض الرخامية، ووجد تهاني في خمار بني تنازع رغائب أخوتها الأَجْلاَف، واقتحم الرجل الغضوب تجمُّعهم ففاض به داعي التنفيس عن الألم، ورأى في كل منهم حماقة الأقدار التي اختطفت بنيته في المهد، هجم عليهم في غير مهادنة لم يكد يُرى معها لطفه، وأغاثها وأخاها شأنه شأن الصِّنْدِيد من الناسِ، وفر الأخوة في فزع مغلوبين مدحورين، وطردهم كما يطرد النور الخفافيش،.. وقالت تهاني وهي تأخذ تضبط خمارها البني في دهش وعجب :
- لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً في هذه الساعة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق