روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/22

كان بمقدورك أن تكوني شريكتي في النعيم

                                   الفصل السادس عشر:  كان بمقدورك  أن تكوني شريكتي في النعيم



في بيت يوسف..

قضى يوسف مع صفوت وحورية أياماً منتعشة بعد إذ تملص تدريجياً من لجة الأحزان، غدا الرجل محباً للمشاركة في مارثون الشتاء على الكورنيش بالجمعة، ومع تأخر مرتبة الرجل ذا الخطى القصيرة والعمر المتقدم في مثل هاتيك السباقات الطويلة التي تحفل بالشبان فقد دأب على تشجيع صفوت وحورية اللذين كانا أحسن منه حظاً، وأوفق قدرة، وكان يرى في صفوت الذي يأخذ يشاغب سميحة حين تكتب رسائلها إلى منتصر نفسه يوم كان وقبل عقود يشاغب أخته هدى حين تراسل عبد الغني، وإنه ينصح حورية بأن تجمع ثلاثة مناديل رأس من ثلاث عرائس عملاً بالأسطورة السكندرية التي تزعم أن في ذاك ما يزيد حظوظ البنت في تحقيق مأربها في الزواج،.. حتى إذا أتاه سائل أو طالب ذكر عبارة سرعان ما صارت لديه كالمثل :"سأمنح طالب المال ما يريد من حاجته منه حين يعثر الأثريون على مقبرة الإسكندر في المدينة.."، ولما كانت مقبرة الإسكندر لغزاً مطموراً بالإسكندرية فقد عنى هذا امتناع الرجل عن تقديم العون تورية، واخطط - في إثر ذاك - لنفسه سبيل الذاتية والانكفاء، لقد صد هذا المنهاج الجديد محاولات سميحة وأورثها نقمة على الرجل، وقد أصيب زوجها عزت بالزحار وساءت صحة قدمه، وقد نهضت المرأة نيابة عنه مضطرة بشأن قيادة الحنطور، واستكثرت العاقبيل في دنياها بعد إذ تخلى عنها راعيها الذي "عاش لنفسه" بوصفها، وضربها في مقاتل التيه بعد إذ رفع عنها يد الرعاية البيضاء، لقد حافظت الفتاة - مع ذاك - على شيء من رعاية سيرة الرجل واستبقت مسافة من الإساءة إليه، إذ أنها وحين سمعت زوجها عزت يصب على الرجل الميسور صنوف الملام والتقريع - يصفه بالقصير ذي الحظ الكبير - قالت له ما سمعته يوماً في إذاعة القرآن الكريم من حديث الشافعي :

لسانك لا تذكر به عورة امرئ..  فكلك عورات وللناس ألسن.

 ذلك اليوم كانت الفتاة تسير في شارع الخديوي على أصداء ضربات سنابك الخيل وعزف أجراس عربتها الخشبية متهادية تحت سياط الألم الذي أوجب عليها أن تنهض بشغل الرجال، لقد أصلحت لتوها  في ورشة أبناء سليم العجلات التي أفسدها طول السير والسعي، وغفت عيناها في عودتها من هناك إلى مقامها في غبريال فتركت قياد العربة لسندريلا التي كانت تعرف الطريق جيداً إلى البيت، وسرحت بمنامها في غوائل نفسها ورأت فيه ريحاً زعزع قوية تعصف بها، وطلاسم غرائب عن أشباح وشخوص وخيالات تروح وتجيء على صفحة السواد كخيالات من نور في إغماض،.. وانحلت عروة الغفوة على صوت ضابط يهتف بها يقول :

- مخالفة مرور،.. أيعقل أن تسير فتاة نائمة بالليل في شوارع المدينة؟!

ووهبته مراده من جزاء المخالفة في غضب كظيم، وكان آخر ما بقى لها من المال في هذا اليوم، وبلغت إلى دارها ورأسها لا يفارق حقيقة أنها دفعت المخالفة على "ما أرتكبته في منامها"، لقد كانت تفكر أيضاً في تراتبية النظام الاجتماعي الذي جرت عليها مثل هذا البؤس، وما وراءه من الأسباب السياسية والاقتصادية التي أفضت إلى مثل هذا الواقع المختل،.. حتى إذا حفت نطاق الدار أتاها عطوة، مالك شقتها في غبريال الذي كان يأخذ يأكل سميط وجبنة وبيض من بائع سريح، وها هو ذا يترك البائع أول رؤيته لها كمن وقع على شيء، ولم يكن عسيراً رغم هذه الظلمة التي ضربت الآفاق أن يميز الرائي حنطوراً بهذا الحجم وجعل الرجل يهتف بها يقول :

- الأجرة، ولا أريد أن أكرر حاجتي إلى ما هو حق لي، وآفة المستأجرين  أنهم المستفيدون من الإقامة حتى إذا جاء ذكر المال نازعوا ونابذوا وناكروا.

وقالت :

- ألا ترى أني زوج رجل عليل أنهض بالعمل الذي لا يكفيني سحابة النهار فأصله إلى فحمة ليل؟ ثم إنني أراك تصدر عن انتقائية واضحة،.. لماذا تلح علينا فيما تتغاضى عن جارتنا؟

- إن لها وجهاً (أي جارتها) تزدان به الديدان العمياء، ويخجل منه القبح،.. إنها تدفع أجرتها من وجوه أخرى..

وقاطعت سميحة استرساله في وصف المرأة - وكان غزله فيها مثيراً للريبة غريباً - بقولها :

- لقد دفعت ما بقى لي من المال في مخالفة مرور.

وقال :

- لن أتركك اليوم ولو جئت لي بمعاذير بحجم الأرض.

وشعرت بأن هذا إلا أمر يُراد بها كي تجن، ورمقته باحتقار وشزر كأنه الرُذالة ولكنه مضى يكرر حاجته وطلبه، فعادت توعز إلى سندريلا مكرهة بالحركة في دياجير الليل، ومع الحركة المتحررة شعرت بأن السلام يرخي بأطنابه في قيعان نفسها وإن مكث عطوة يتتبعها في زيادة ثقل روح، وإنه ليمضي وسندريلا تسبقه، لقد شعرت الفتاة بلذة ما من تعذيب الرجل، ولم يساورها أقل الندم في خضم ذاك، وقد كان عطوة على شيء من المثابرة العجيبة الذي تزرعها الطبيعة في بعض ثقال الروح الحريصين على مصالحهم،.. وإنها كذلك حتى بلغت بئر مسعود وكانت تكرر عادتها بإلقاء العملات فيه والتمني فرامت يومئذٍ أن تزيد، هذا دون أن تجد في محاولاتها اللاحقة مثيل ما وجدته في الأولى من تجاوب الأقدار، ووجدت عطوة يقف قبالته - كأنه يتعهدها بالمنع عنه - يقول :

- أيتها المراوغة : لن تهربي مني اليوم إلى أيما مكان..

وأطبقت عليها أسباب المرارة حتى غيبت منها الرشاد، لقد أوعزت سميحة إلى سندريلا بالحركة وقد دفع الحصان الرجل حتى أسكنه جوف البئر صريعاً، وتلمحت عجائز جذبهم الصوت فجعلت تداري اضطراب نفسها وتقول لهم :

- لقد التهمته عفاريت البئر، عفاريت بئر مسعود العجيبة، ذات الأحوال، لقد فر الرجل من ثأر الصعيد ومات في البئر..

وجعلت العجائز يندبن عطفاً على حديثها فحمدت المتحدثة التقاطهن للطعم الزائف ومضت عنهن، وهرعت عائدة - وهي تتملص سريعاً من قناع الحزن المدعى - إلى بيتها لا تكاد تصدق ما اقترفته من جرم، وأظلتها سحابة من الندم ثقيلة وهي تزلف من العقار الشاهق ذي الحوائط الحاملة منزوع الأعمدة، ودلفت إلى دارها بعد إذ ركبت المصعد على خوفها المعتاد منه، وما أسهل أن تصعد بها حجرة صغيرة مربوطة بالأحبال - كحجرة المصعد - بعد إذ ألقت برجل في بئر، إنها إذ مرت بليلة كتلك فقد باتت أشد من أن يأخذها القلق من صغائر الأمور إذاً، وألفت زوجها يشرب من شربة العدس وفي محيطه آثار البطاطا المشوية فتبسمت متكلفة تقول :

- أهلاً..

ووجدت منه كدراً مماثلاً لما في نفسها وأخفته، فسألته عما هنالك وقال:

- لقد قتلتْ الباغية أبي الجوهرجي بعد إذ سرقته، وأخفت جثته تحت أطباق الثرى، لقد قصدتُ إلى وكرها في ساحة بأكير أطلب بورث أبي الذي انتهبته يداها الآثمتان، إنني لم أقصد الثأر منها إذ أنني قد تملصت فعلياً من شعوري بالبنوة له (أي أبيه) ومن ثم بواجبات هذا الشعور، وقد أجابني "شيخها" هناك مستهتراً بأن الصالحين لا يورثون، وإذ ترينني على تلكم الحال، أتحامل على قدمي لأسير فقد كفيت نفسي شر العراك،.. (ثم وهو ينظر إلى زوجه يسألها) أنى لنا أن ندفع الأجرة اليوم للعين عطوة؟

وعاد يحتسي العدس ويحدث صوتاً فقالت منطوية على ما رأت من مصيره :

- يمهل ولا يهمل، سيلقى جزاءه..

 

في فيلا لوران..

وجد منير أسفل تمثال العاج ذي النافورة ضالته، لقد كشفت يداه ذات الطين عن صندوق من الزجاج المتين لم يكن يتوقع أن يقع على مثله، وامتلأ الرجل وزوجه بالحيرة والعجب فتمترس في ظل شجرة أم الشعور بالحديقة وانتحى بالصندوق ناحية، وسمع لهَيْنمة الهواء على الأزاهير وقلبه يكاد يرتجف، وضرب أصص الريحان وهو يمعن النظر فيما داخله من الحلي، لقد كشف الزجاج عن أسباره القيمة ونفائس مكنونه، وقال الشاب ينطق الأسماء النوبية لما استطاع تمييزه عبر الحاجز الشفاف :

- « القمر بوبا» (عقد تتوسطه دائرة ذهبية تحيط بها مجموعة فصوص)، «زمام» (قرط أنف من الذهب)، «قصة الرحمن» (ست دوائر ذهبية مربوطة بحبات من الخرز تتوسطها دائرة سابعة كبيرة محفور عليها اسم ما شاء الله)، ولؤلؤ منظوم وجوهر مختوم..

وابتهجت آمال بما رأت وقالت :

- توقعته رضخاً وإذ هو عطاء جزيل كريم، لقد أراد أباك أن يؤشر إلى حقيقة أن الكنز في الجذور، لقد عثرت على الذهب حين عدت إلا بلادك واستمعت إلى خالتك..

وقال منير مغضباً :

- ما هو أبي ولو منحني الذهب، كان أولى به أن يهبني الرعاية قبل الثروة..

وقالت مبتسمة كأنما استعادت ما أسرها في نفسها قبيل أن تفوه به :

- كأنك تذكرني بأمثولة : عنزة ولو طارت، إذ أنتَ تصر على أن تغير من هوية لا تُبدل..

وقال وهو يسلم الصندوق إلى الأرض في جوار أصص الريحان التي كانت تشيع في نطاقها المحدود ريحاً أطيب من المسك :

- لقد تحدثت في هذا الشأن مراراً مع هجلى دون أن يمس إلحاحها تخوم نفسي، لقد تركني أمام هذه الفيلا قبل عقود كنت فيها أضل من بعير، إن شيئاً جوهرياً تهبه الطبيعة للأم التي تدافع عن صغارها فلا تتعتع ولا تجبن أمام أشد الأخطار، وللأب مثله أو أكثر، وقد نزعته الطبيعي عن أبي الكذيب، إن كلوم الطفولة لا تُمحى بل يمضي المرء طول حياته وهي على رأسه، وإن ذهب الأرض لن يبدل رأيي فيمن أورثني جرح العمر، والحال كما ترين..

وقالت :

- فلنتقاش مجدداً ولولا أن الكلام يُعاد لنفذ، لعلي أطرق بمطرقة الحجة زجاج ما بنفسك من بقايا الكبر والصلف، لقد تركك لينشغل بالكسب الذي أودعك حصيلته في صندوق منيع، اِرْبَعْ عَلَى نَفْسِكَ ولتعد النظر..

وتركها ومعه المفتاح دون أن يجيب سؤالها وبدا زاهداً في عطية أبيه القيمة لما اقترنت بإضفاء الشرعية على الرجل، وسرعان ما تنبهت آمال إلى أن الصندوق "الزجاجي" على شيء من الإحكام هو فوق ما ظنته، وإن زجاجه قاسٍ لا ينكسر، لقد حدث واستخدمت الفتاة في سبيل كسره الساطور اقتباساً مما رأت من صنيع المرأة النوبية التي سبق وحطمت صندوق الخشب بعين الأداة، وإذ شق عليها الأمر واستعصى فقد عجبت له، وعادت إليه تسأله المفتاح الذي بدا أن الصندوق الصلب لا يُفتح إلا به، ووهبها إياه على كره كأنه المساير لها من وراء وراء، ووجدتها فرصة أن تعيد سؤالها في حضور نجليه الصغيرين باهر وأمنية :

-  لن يفتح كنز الأب إلا نجله..

وشعر أنه يدور حول نفسه، لقد أرهقته الذاتية بمثل ما شق عليه الامتناع، وعاد متأملاً في عبارة زوجه على وجازتها حتى عاد كراً إلى ما تركه، ودس في الصندوق الشفاف مفتاح الخشب فانفتح في يسر،.. وجد منير في الصندوق عنوان أبيه الذي قضى فيه آخر أيامه ونسخة من مفتاح داره هذه، وقد أقام (أي ذهب) في إحدى العقارات قرب ترعة الفرخة : ذلكم الممر العريق والمدخل الرئيس للمدينة، وفي مبنى من تلكم المباني التي تحف هذا الطريق الواطئ المسمى حالياً بشارع قنال السويس المنخفض إلى أمتار عشرة، وكانت المنطقة نطاقاً لمقام النوبيون والصعايدة والبحاروة، صحبته آمال إلى هناك بعد إذ أوصته باستكمال ما قد بدأه، وإذ وجد الشاب في الشقة صور قديمة له جمعت بينه وبين أبيه معلقة على الحوائط، منها ما يظهر فيه طفلاً، فقد توقف طويلاً أمام مرايا الوتيفات النوبية التراثية الخشبية وقد رأى فيها صورة أبيه لا نفسه، وعجبت آمال حين بصرت به في استغراقه في انعكاس صورته وذكرت أنه "أشفى على الفناء فيها.." بوصفها..

 كانت مراسلات مارتن قد توقفت، وإذ وجد منير نفسه في ضيق من مراسلة صاحبه الذي  نابه من الزمان نوب فقد انكسرت به هذه العادة أيضاً، لقد تساءل في نفسه : "أتراه قد تغير عليَّ؟ أم أن نائبة قد نزلت به؟ وأي مصيبة تنزل به فوق ما قد نزل؟"، ولكنه عاد يفكر في آخر رسالات صاحبه إليك وعبارته التي توقف أمامها طويلاً :"الفقر الأفريقي فضيحة عالمية.."، وفكر في أن يصرف هذا الكنز المتواضع الذي هبط إليه دون صادق رغبة إلى من يحتاجه من ضياع وفقراء مالي، لقد رأى في البذل مصرفاً أخلاقياً لما تراكم لديه من النعائم وغلبه التصرف فيه، لقد سمع من مارتن "القديم" يوماً قال له فيه :

- إن دولاراً واحداً يكفي حياة يوم في مالي، ونصف فقراء العالم يعيشون في خمس دول : إثيوبيا، وبنغلاديش، والهند، ونيجريا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية..

 وألفاها بعد ما دار في عقله من خواطر واستخلاصات وصفة لا مثيل لها ولا عوض منها ولا خلف، سيعطي من يملك ولا يريد من يحتاج ويرغب، واستفصل في شأن صاحبه الأمريكي عبر رسالة لم تجد مجيباً فقرر السفر بحياله إلى بلده (مالي)، لقد وزع على المحتاجين هناك ألف دولار ودولار، وأحيا بكنز أبيه نفوس جمة كثيرة، والتقى بآل صاحبه مارتن فعاد يستفصلهم فيما حُجب عنه من أمره وأجابوه بقولهم الذي أدماه من الحيرة :

- "لم نعد نسمع عنه خبراً..".

     رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


**

2000م..

دعا إياد أباه حسيناً لعرض مسرحي كان يشرف عليه مخرجاً ويقوم فيه بدور رجل اسمه "زكريا"، كان للعرض الذي تؤيده فرقة كلية الطب للفنون المسرحية اسم "الفيل يا ملك الزمان" للكاتب السوري سعد الله ونوس، وقد وعد الابن أباه أن يجد فيه من الإلذاذ والإمتاع ما هو حقيق بأن يجمع له معارفه وخلصانه، وقد طاوع حسين نجله فأتى بصاحبيه شريف وخالد، وكذا زوجه ابتهال وابنته مليكة، ثم طليمات الذي أبدى بدوره تردداً قبل أن يحسم إلحاح حسين عليه ما بنفسه من ريبة، لقد حضر طليمات رغم ذاك مكفهر الخاطر تعس النفس في بذلة رمادية كأنما لم يحدوه إلى الحضور سوى المجاملة، ونازعته الدوافع في منشأ نيته حتى أنها ما استقرت كلية على جانب، وبئس العمل ما كان وليد إرادة كتلك،.. حتى إذا ابتدأ العرض أشعل طليمات سيجاراً وانحدر سريعاً إلى مهواة السأم والكلل،.. لقد حكت فصول المسرحية عن ملك له فيل شديد البأس والبطش يلحق الضرر متى حل في مقام أو ارتحل، وكان زكريا (حسين) يحفز في وعي العوام داعٍ الشكوى من تخريب يحدثه الفيل، حتى إذا بلغ الشاكون من الملك مبلغاً في موكب ذي بهرجة وزينات تخونهم الخوف من البوح له، إنهم يرددون تحت وطأة الخشية : الفيل يا ملك الزمان، ثم حين يسأل المك عن شأنه أخيراً يجيبون : إننا نقترح تزويجه،.. واستأنس حسين بعرض نجله فوجد فيه الإسعاد والإمداد وانتابته السوية وغلب على ظنه مباعث الرضاء، وقد زاد من كل أولئكم ضعفين لما وجد تصفيقات الحضور تزكي الشاب الذي انقطع له تهذيباً وتعليماً، والتفت إلى طليمات - الذي يحسبه إلى جانبه - حين انتهاء العرض يقول كأنما فاضت نفسه بالمعاني مما يود أن يشاركه لغيره :

- ما أبدعه ! حقاً، للشباب انبعاث حسي وطاقة عمل أكثر طزاجة من الشيوخ والكهول..

ولم يجبه طليمات الذي بدا أنه قد انصرف عن مقعده، ونهض حسين عن الجلوس المصفقين باحثاً عن صديقه الذي سأم العرض، ووجده يشرب السيجار عند كافيتريا الكلية وقد أخلى بينه وبين نفسه، ومضى حسين فسأله :

- لماذا تركته؟!

- لم يعجبني، لقد داخلني الكسل وزايلني النشاط ورأيت التكلف ينضح من الجميع.

وألفى حسين في رأيه تحاملاً فسأله :

- لعلك كرهت المضمون لا ممثليه..

- كلاهما على الحظ نفسه من التصنع..

- إنني أخالفك، لقد كان الصدق باعث العمل وحتى لقد اقشعر بدني لدى خاتمته،.. أما سمعت إلى تصفيقات الحضور؟!

وطوح طليمات بسيجارته صامتاً على الأرض ثم أخمدها بقدمه، وحضر إياد بعد انتهاء عرضه فكان يبحث عن أبيه مهرولاً، وإذ وجده في صحبة طليمات فقد اكتسى سعيه بالتريث وصارت لخطاه إيقاع متمهل حذر، وسأل إياد - لما كان على حظ من الزَكانة والفطنة - طليمات كأنه المستمع لما سبق من حوار الرجلين :

- وماذا كرهت في العرض فحملك على تركه؟ لقد رأيتك تنصرف وقد أوعز هذا إليَّ على خشبة العرض باضطراب، ولدى المممثلون حساسية الانتباه حتى أنني أكاد أميز كل الجلوس..

أجابه طليمات يقول :

- بالمسرحية إسقاطات لا تخفى على طفل، لقد عرضت جانباً من الحقيقة، وأغمضت آخر، ولا أرى شراً من هذا سبيلاً للتلاعب، إنكم تستخدمون الحيلة، تفتلون في الذُّرْوَة والغارب، أو لعل رؤية قاصرة تسوقكم إلى سبيل هو نفسه سبيل الاحتيال،.. فلتسمع لي : كانت هذه البلاد بلا فيل ولا ملك قبل مئتي عام، يتنازع عليها عصابتين أو قل ميليشيتين مسلحتين بمصطلحات هذا العصر، الأولى بزعامة مملوك جركسي ذا كبر هو مراد بك، والأخرى يتولاها مملوك آخر لا يقل عن الأول صلفاً ونزقاً هو إبراهيم بك،.. لقد بدأ كل شيء بحملة نابليون وقد أعاد محمد علي لمصر الحياة، وخلفه على عرشه ملوك وحكام وسلاطين ورؤساء، منهم من أجاد كالخديوي إسماعيل، ومنهم من خان كالخديوي توفيق، ومنهم من هُزم كعبد الناصر، ومنهم من اغتيل كالسادات وعباس حلمي الأول،.. إلخ، ومهما يكن من أمر الجميع فيجب أن نكون ممتنين للظروف التي  دحرت هذه الفوضى المسلحة وخلقت شكلاً من النظام..

وأعقب طليمات مقدمته هذه بشيء مما ذكره لحسين سلفاً عن الاختلاف بين أشكال الحكم الثيوقراطية ونظم الحكم الحديثة فأجابه إياد يقول :

- لقد حكم عمر بن الخطاب ما يقرب من عشرين دولة، لا قبيلة أو قرية كما تزعم، وتسنن ذروة السلطة الإمبراطورية وقد عاش دون أن يصيب حظاً من الأبهة،.. وفي التراث الإسلامي ما يدعم العدالة من نماذج متحفة رائعة، إذ كانت أخت بشر الحافي تكره أن تنسج الثياب على مصابيح كان يستصبح بها الظالمون،.. إن جنون العقل العربي يتجلى في نظرة شكري مصطفى بمثل ما يلوح في غثاء الكتاب الأخضر، ولا يصح أن تقدح في واحدة وتغض الطرف عن الأخرى إذ أن كلاهما خطر داهٍ، وخطل مريب،.. إن أحقاب الاستعمار المختلفة جزء من تاريخ البلد، وعليه فيجب أن نتسامح مع حقيقة أن مصر عرفت الفرس واليونان الألبان والأتراك والفرس والتتار والهكسوس والإسلام والقبطية، وأن نستلهم ومضات الصواب والحكمة من كل عصر..

وازور طليمات عن حديث الشاب بوجهه ثم قال :

- ومضات شحيحة منذورة، سأعود وأكرر : لقد بدأ كل شيء من نابليون وجيشه، أيقظت المدافع النيام، كان يجب أن يستيقظوا،.. ولولاه لما اختلف مصائرنا كثيراً عن أيما بلد متخلف مشتت ضائع،.. وأحب أن أذكر هنا، في هذا المقام : حرم كلية الطب، بأول مستشفى شيد في مصر بعد الحملة الفرنسية وقد أقيم عام 1827م، إنه القصر العيني الشهير الذي تحول لكلية طبية برئاسة أنطوان كلوت بك، والشاهد ها أن مصر قد أفادت من الحداثة مبكراً عبر صدفة التاريخ، وغدت قدوة لمثلها من كيانات الدول المحيطة بها، تلك التي تشكلت بعد معاهدة سايكس - بيكو،.. فواعجباً لكم، كأنكم تتباكون على الكتاتيب وأنتم نوابغ الطلبة في جامعات الطب،.. ثم بربكم،.. أين الأمدوحة والثناء؟ كان الشّعراء ينالون العطايا جزاء مدحهم للخلفاء في الأزمنة " الراشدة المنزهة"، ألم تصلكم  مدائح المتنبي وهو أشعر العرب في سيف الدولة؟ وهو عينه القائل :

فإن يك بعضُ الناس سيفا لدولةٍ.. ففي الناس بوقاتُ لها وطبولُ

واستوى وجه إياد الغض في ليلة إضحيان، ونشطت فيه إرادة الصدق وقد جاور برأسه قمراً منيراً، قال :

- لازال الفقر والجهل والمرض ضارب في كل ربع، الحال عورة وعوزة، إنه واقع موجود ومعيش، وبمقدوري أن أنسج في هذا ما يزيد عما خطه مالك في الخمر،... وما دام ذلكم كذلك فسيظل عملكم في غير عمل وضربكم في غير مضرب،.. وأي امتنان نبديه بعدئذٍ؟ يعاني المثقفون أيضاً مما هو قريب الصلة إلى إرهاب المكارثية..

وقاطعه طليمات يقول في عزم :

- بل قل المكارثية يمارسها المجتمع نفسه على نفسه،.. أما أتاك حديث تظاهرات طلبة الأزهر لمنع رواية وليمة لأعشاب البحر؟! وقد تقول بأنها تشتمل على الإساءة لدين الأغلبية ولكنك متى وضعت الضوابط الجمة ألجمت الحرية، على الأفهام أن تستوعب الحمق والإساءة والسخرية بالتغاضي لا بالمنع، ذلك أن البضاعة الثقافية القيمة في سوق حر تدافع عن نفسها بنفسها ولا تحتاج إلى من يتولاها،.. إن في البشر هنا ميلاً ضيق النظر لإبقاء كل شيء كما كان دائماً، إنها ثقافة جمود راسخة الجذور، إنهم يكرهون المختلف وينبذون صاحب الرأي بل يقتلون الحر المتمرد، على الفقير أن يسعد بوهم سعادة الآخر، إن مزاج الشكورية منتج مفيد له، لقد مررنا (يريد نفسه) بأطوار عوز كنا فيها من المحاويج، ولكننا صعدنا على السلم بجهد شريف ونفس راضية.

وقال إياد :

- كيف يعيش الفقراء في ظل حكومات تتوسع بفضل جباية الضرائب؟ عذراً، سيدي، لا تسق بالحرية والشرف إلى سياق كهذا..

وانحلت عروة الاحترام بعد حديث الشاب، نظر حسين إلى الْمُتَخَاصِمَينِ المتصاولين في صمت، وقد اضمر الملامة على نجله إذ هو رآه وقد تجاوز على صاحبه.

 

في منطقة الفراعنة بالحي اللاتيني..

لعب القلق بعماد منذ رأى كبير الخدم مهران يتلصص إلى حديثه الذي جمعه إلى أنهار، وإذ ترزن انطباعه بخطر الرجل وترسخ فقد انتوى الخلاص منه، وجمع طاقته على أن ينتقص به لدى سيده حسنين الصحن فيورد له من الحديث ما يمحو به رضاء الآخر عنه، حتى كانت ساعة صفاء في ليلة رائقة مكثا - عماد والصحن - يأكلان فيها البطيخ الدينسوكي ويتسامران في شؤون العمل والحياة، وقال الصحن كالمفاخر بما في يده من الثمرة القيمة، وفي نفسه تخمة من الاعتزاء :

- هو فاكهة نادرة، ولا يُزرع سوى في جزيرة "هوكايدو" اليابانبة، وفي آيسلندا، وبعدد منذور،.. ولترطب بها عناء العمل فلدينا من المشاغل غداً ما يستحق التأهيل !

وأجابه عماد فاتراً - وكان يتعمد إبداء الفتور الذي يسوق الصحن إلى السؤال عن سببه - يقول :

- هنيئاً مريئاً، سيدي..

- وكأنك لست راضياً.

ورمى عماد ببصره في البهو المترف ثم خفض بصره إلى ظل الثرية المذهبة على الأرض يقول :

- الرضاء مسألة نسبية.

- لا يجب أن يكون كذلك في حضور أفخر الثمار وأجود أسباب الحياة المنعمة، ومحبوبات الرغد، حدثني بما لديك، ولا أريد أن يؤثر شاغل على صحة تنجيماتك..

وتنهد عماد بعد إذ أكل شيئاً من شأفة البطيخ ذي القشرة السمراء يقول:
- مهران، سيدي، حسبته مخموم القلب وقد خُدعت فيه، إن فيه شيئاً من البأو والكبر، إنه رَجُل عَمِيُّ الْقَلْبِ يحسبه الرائي متواضعاً متطامناً وفيه غرور يكفي أربع رجال، وللمرء أن يحتفظ بشيء من الاحترام  للنصابين الأقحاح ذلك أن لهم وجهاً واحداً لا يغيرونه، ولكن مهران، أف له وتف، لقد غمط الحق وبطر الناس، وقد بصرت به يقف في ذلكم البهو في موقع هو كمجلسي أو كمجلسك فيه فيدعي لنفسه ربوبية الفيلا إذ هو يزعم أنه المسيطر على كل صغير فيها وكبير فوق سيدها، والكبر في أصله ربوبية وتأله، لقد كان معجباً أيضاً، والمعجب لا يحتاج إلى من يلبسه ثوب الدونية، إذ تكفيه نفسه كي يتملقها،.. إن له حديثاً عنك منكر هو بأمثال الذر..

وغضب الصحن من حديث الجالس فسأله وقد ارتفع حاجبه الأيمن عن الأيسر :

- هل يغتابني الشقي الردي؟

وأجابه عماد وهو ينهي شأفته في استهتار لا يليق بما يتحدث به من مقال :

- كثيراً، كثيراً، وفي عدد الدولارات التي دُفعت في هذه الثمرة (يريد ثمرة البطيخ الدينسوكي) السوداء والنعمة الكريمة، وبمثل هذا المنهاج السقيم حقيق به الطرد ولو كان في ملك سليمان..

- سأره أينا الرفيع وأينا الوضيع..

وزاد عماد في الطنبور نغمة  فجعل يقول :

- إنه لا يؤمن بالتنجيم كذلك ويزغم أنني لست إلا مخرفاً، وإذ هو يصدر عن رؤية كتلك فإنه زعيم أنك قاتل نجلك عنفاً بيدين من معين الإجرام تغبان..

هناك نهض الصحن في غضب يقول :

- طف الصاع،.. سأره لمن الرجحان في الحق وفي الأحساب والأنساب!

وجر الصحن هندامه بطراً وهو في ظل ثرية السقف فيما جعل عماد يناديه :

- بورك ما ستفعل سيدي، ولتره أيكم أكرم محتداً فلسنا كلنا أبناء تسعة..

والتفت الصحن إلى عماد يقول كأنما استرد شيئاً من الرشاد الذي استلهمه عرضاً من رؤية العاقبة :

- سأبقه يوماً أو بضع يوم قبل أن آتي ببديله.

- وإن كنت ذا عزم فأنفذه عاجلًا فإن فساد العزم أن تتقيدا، اليوم اليوم وليس غداً، سيدي.

وكان من بين الخدم من يستمعون إلى حديث الاثنين فخرج منهم من يلوم افترائه على الرجل، وجعل عماد ينذرهم بقوله :

- فليلزم الواحد منكم مواقعه وإلا نالكم ما نال كبيركم..

طرد حسنين الصحن كبير خدمه المخلص مهران في ذلكم اليوم، وإذ رأى الرجل نفسه مغموط الحق وقد وقع عليه العسف والتبلي فقد تميز وغضب، وودع الخدم في ليلة حزينة وقال له منهم واحد :

- إذا فرط سيدي فيك على هذه السهولة، فجميعنا (يريد الخدم) لسنا بمأمن، لقد لعب المنجم بعقله وتسلق على كتفيه..

وقال خادم آخر :

- إن أمره لأهون من ذاك، ما أشبهه إلى ابن آوى في تقفيه للأسد..

وقال ثالث :

- الدجال لم يحضر وحده، كان في صحبته غجرية وقردة، وفيهما طرف خيط للكرة المتشابكة ومفتاح عودتك إلى ما قد نُبذت منه..

بحث مهران بعد خروجه من الفيلا عن طرف الخيط إذاً، وهدته الأوصاف إلى بيت الغجرية في غبريال، ولا عجب ففي كل عابر في سبل حيّنا شيخ حارة كامن ينتظر سؤالاً يكشف عن استعداده، وقالت له عجوز : "عند منتهى سبيل شجرة الدر تجد حمار الغجرية الذي هو شارة بيتها.."، وإذ هو اقتفى الوصف إلى نهايته فقد وجد أمام باب البيت المقصود حماراً مربوطاً يأكل شيئاً من البرسيم الحجازي، وأمامه قدر من الماء الرَنْق ذي العكارة والكدر، ويحرك رأسه في مضغه ومعه أذنيه النافرتين، وتقدم الرجل وقد حاذاه متأففاً فطرق على الباب مرات ثلاث، وكان رغم ما جرته عليه الأيام من الضرر رزيناً، وتلك سجية فيه فلم يزد، وانفتح الباب بعد فترة ولكن الرجل لم يجد في مستوى ناظريه حياً، وهبط برؤياه حتى ألفى القردة روز التي أفسحت له حتى جلس إلى أريكة الشقة الأرضية، وتسربت الأشعة النهارية عبر فتحات المنخل من تلك النافذة حتى بدت على صفحة وجهه الصارم كالنمش، وإذ جبل الرجل على النظام فقد شق عليه أن تستضيفه القردة التي ما فتئت تقفز على بذلته المهندمة، ثم  هي ما تلبث تراوغ وتناور، حتى إذا وقف مغضباً ومستنكراً ألفى صوتاً خارجياً ينادي :

- روز، لقد عدت، وقد جئت بتفاح الجن، ووردة الجبل، وشوكة الحمار التي تحبينها..!

وكان الصوت لأنهار فما أن دلفت إلى محيط الاثنين حتى ازورت وانتابها الدهش من حضور الرجل، وإذ شق عليها أن تتصور وجوده في حجرة دارها أولاً فقد أحست أن في محضره ما يصح أن يفيدها في إعادة صاحبها الذي غره ترف الحياة في الحي اللاتيني، وأحسنت الغجرية استقباله - متأثرة بذلكم الشعور - فوهبته بورمة فستق (اعتذر مهران من قبولها مخافة ما تحدثه الحلوى من تسوس واصفرار في أسنانه الناصعة ولكن المرأة أصرت على ألا ترد عطيتها "البسيطة" كتمهيد لمأربها الذي تدخره)، ومنخلاً يدوياً، وسألته :

- هل من خدمة أؤديها لكَ؟

وجرب مهران الفستق فاستساغه ومضى يسألها وهو يمطق :

- هل يرضيك أن يُطرد كبير الخدم بافتراء من صاحبك الكذيب؟!

وتحسبت منه بعد إذ استبشرت، وارتابت من غرضه بعد إذ قال هذا القيل، قالت فيما تنذر روز التي كانت تعيث بحركتها حتى كادت تسقط المناخل :

- ليس عماد فيما عرفت بكذيب، ولكن أغوته النعمة..

وأغضبه حديثها الذي تلتمتس فيه العذر لمن أضر به يقيناً، وجمع جواهر رغائبه على كلمة سواء يقول كأنما يصرخ بها :

- لقد قتل نجل سيدي ثم حرضه على أن يطردني من عيون عنايته، كان في زعمه الأول زور الانتساب والقدرة، وفي ادعائه الثاني وزر الاختلاق والغيبة، ويجب أن تحدثي حسنين الصحن بما تعرفين من أمره !

وكان لحديث الرجل جدية نافذة حتى لقد كفت روز عن الشغب لوهلة في أعقابه قبل أن تستأنف.