روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/21

مكتبة في باطن الجبل

                                  الفصل الثاني عشر: مكتبة في باطن الجبل





شعر محمد علي بالقلق وهو يتابع أنباء معركة نِزِّب (1839م) بين جيش نجله إبراهيم باشا وبين الجيش العثماني بقيادة حافظ عثمان باشا، وحاول رجال القصر التهوين على مولاهم فقالوا:

- لا ضرورة للقلق، لقد تمرس إبراهيم باشا على التغلب على قتال العثمانيين، وحقق الظفر في كل مُنازَلة!

قال محمد علي باشا:

- هذه معركة مختلفة ولا عهد لنا بمثلها، منذ أن طُبق التكتيك الأوروبي في الشرق لم يلتقِ يوما في ساحة الوغى أفضل من هذين الجيشين، إن الكفتين متعادلتان، في كل جهة أربعون ألف رجل مدعوم بالمدفعية والفرسان، وأما بخصوص الاستعداد فالكفة تميل إلى صف العثمانيين، لقد استراح الجيش العثماني في معسكره وأما جنودنا فأُنْهِكوا من المسير في حر الصيف!

حاولوا طمأنة الوالي فقالوا:

- إن معسكر إبراهيم باشا معسكر جنود، أما معسكرهم (يريدون معسكر العثمانيين) فهو كمَضارب الحُجَّاج! ففي معسكر إبراهيم لا ترى سوى الجنود بسلاحها إلى جانب خيولها ومدافعها، أما في معسكرهم فثمة اليهود والتجار والعلماء والفقهاء! لقد أُنهكت قواهم (أي العثمانيين) منذ الحرب الروسية العثمانية، وكذا حرب الاستقلال اليونانية.

علق الوالي وهو يتذكر مشاركته في حزب العثمانيين إبان حرب الاستقلال اليونانية:

- أُنهكت قواهم مثلما أُنهكت قوانا.

قال رجل معمم من الحضور:

- إذا دعونا الله رجحت كفتنا..

 طلب الوالي من خدم القصر الدعاء فجعلوا يتمتمون، ونظر إلى باسليوس فتصنع الأخير الحركة لئلا ينكشف سره، وما لبث أن هتف الوالي فيه:

- قف! لماذا لا تدعو الله؟!

اضطرب باسليوس وهو يقول:

- دعوته في سري، مولاي.

- يجب أن أسمعك وأنت تدعوه لأنني لا أصدق نجواك، لا تستخفُّوا به، إن دعاء منك ليُستجاب فوق دعاء هؤلاء الخدم الذين لا يعرفون ربنا إلا ساعة الملمات، أنتَ كأبيك غالي نصف علماني، خالك فرنسيس كان زعيم الكاثوليك بعد أبيك، وأما هؤلاء فعلمانيون خلصاء لا يُستجاب منهم، هَلُمَّ، فلتسمعني تضرعاتك، كأنك في معبد بيتك أو في دير الصعيد!

- الإخلاص في الدعاء يتطلب الخلوة.

- سأخرج الرجال من القصر إذن..

حاول باسليوس المماطلة فقال:

- وأنت، مولاي؟ أين تذهب؟ لا يليق بعرشك أن يشغر، وإلا تقع فتنة في الأرض..

كان باسليوس يسمع عن اضطراب أحوال سوريا بسبب سياسة التجنيد الإجباري التي يتبعها إبراهيم باشا هناك فصمت عن الدعاء متحفزا، وكَرِهَ أن يتحدث بما ليس في نفسه من رجاء، وطال مطال الصمت حتى ألم به حرج شديد، وَوَدَّ أن يقول:"إنني نصف علماني ولكن ضميري كامل.." ولكن جسارته لم تسعفه، حتى جاء الخادم بالنبأ وهو يزفر:

- لقد انتصرنا، مولاي، تقهقر الجيش العثماني تاركا في أيدي المصريين مئة وستة وستين مدفعا وعشرين ألف بندقية وغيرها من الذخائر والمُؤَن، وقد كان يوما مشهودا.

تحدث خدم القصر فقالوا:

- لسنا في حاجة إلى دعاء باسليوس..

قال الوالي وهو يستحضر احتمالات تدخل القوى الأوروبية:

- سنحتاج إليه،.. (ثم وهو يتحدث في مَسَرَّة لا تتزن بالضوابط) سنسقط ضريبة الحواة وعندها ستجدون باسليوس يسجد أمام هذا الكرسي، اثنان وأربعون كيسا نشتري بها صلواته! ولقد أصدرنا مرسوما هذا العام بإعفاء الأٌقباط من ضريبة الجزية بناءً على إلحاحه في الطلب.

كان باسليوس يقول في نَجْواه:"لِتَهْلَكْ أنت ومالك إلى الأبد، لأنك اعتقدت أنك تستطيع شراء إيماني بمال.."، وهتف رجال القصر:

- إن بباسليوس مَيْلًا إلى السحر والحواتية ولا عجب فهو يمجد أساطير الغابرين آناء الليل والنهار!

قال رجلٌ في خبث:

- بل هي ساحرة واحدة شغفت قلبه، وَجَدَت بها نفسه المرهقة في خلاء الجبل ودون نوال !

وقال آخر:

- الرجال نوع عجيب، يملأون الدنيا بالأعمال العظام ثم ما يلبث أن تُوقع نفوسهم المتطلعة أنثى، في زاوية من نفوسهم المشرئبة طفل صغير يبحث عن اللين والدعة،.. هل أتاكم حديث غراميات نابليون؟ فليحفظنا الله!

لم يعد باسليوس يضيق ذرعا بسخافات أهل القصر منذ رأى نفسه في منام الغجرية، بل لعله ود أن تدفعه جرأته الزائدة إلى أن يُنبَذ منه فلا يعود، إنَّ في تَرْكِهِ القصرَ؛ الأملَ في عودة موكب الغجر ومصاحبة كوثر في ترحالها الذي لا ينتهي، يدرك باسليوس جهل محمد علي العميق بمسائل الاقتصاد، ولولا اعتماده على مبدأ الصواب والخطأ لَعُدَّ جهله كاملا، وتخبطه كالأعمى الذي يبرجس في النخيل*، قلص الوالي الدور الإداري لديواني الدفتردار والروزنامة، وحول اختصاصهما إلى ديوان الخزينة المصرية، كانت هذه توصية أبيه غالي الأخيرة، وبعد فشله في تأسيس ديوان الإيرادات يتحدث اليوم عن رغبته في تأسيس ديوان المالية،.. أي تخبط يهيم فيه الرجل وحكومته؟! لقد شهد باسليوس مظاهر الإسراف حتى قدر أن خمسي القدر المتحصل من جامعي الضرائب لا يصل إلى خزانة الدولة حقا، وقال للوالي يوما:"لا يهم أن نزيد الضريبة لأن قَدْرَ خُمْسَيْها يضيع.."، وكان جواب الوالي أعجب العجب فقال:"ثلاثة أخماس الضريبة تكفي إذا كان المتحصل وافرا،.. كيف أعالج فسادكم إذا هو طبيعة متأصلة في النفوس؟".

 

اندفع باسليوس إلى الخروج من باب القصر كمن يبحث عن هواء نقي، أطاع نداء باطنه فمَرَّ بأكواخ مُتطامِنة مغبرة لا ترتفع عن الأرض إلا ببضع أقدام، وتأمل جدرانها الهشة المتخذة من الطين الآجر النيِّء الذي اتخذ روث الحيوان لإلصاق بعضه ببعض، واقترب فكان منها قاب قوسين، لقد شعر بالسلام في حضور هذه الأكواخ الحقيرة فوق شعوره الذي كان عليه بالقصر المنيف، عجبا ألقى على جدرانها محبة وعطفًا، وهتف في نفسه يقول:"هذه أكواخ لم يجر أصحابها على أحد.. حقارة البناء ولا حقارة نفوس من فيه.."، إلامَ ينتمي حقا؟ إلى معبد الرب، أم إلى قصر السلطان، أم إلى جبل المتمردين، أم إلى أكواخ المعدمين؟ في هذا كله بعض منه، وفي نفسه بعض من كل هذا،..  وغمرته سعادة عجيبة حتى تهامس من رآه من الأهالي بالدهش، ثم سمع صوتا هلوعا يناديه:

-  سيدي، يجب أن تأتي معي، الآن وهنا، لأن نجلي لوقا يطلبك..

كان صوت جرجس متلفعا بالألم، وحدس باسليوس أن مكروها أصاب نجله، فسأل أباه:

- هل مس لوقا سوء؟

تجشم جرجس العناء وهو يقول:

- أثر عصا الجريد في وجهه!

هرع باسليوس إلى قمة الجبل فوجد لوقا مُمَدًّا، تقوم النسوة على خدمته بالماء الدافئ، وعند جبهته جرح متورم، تحدث الفتى قليلا بما لا يُعقل، قال باسليوس لجرجس منفعلا:

- كان يجب أن تَكُفُّوا عن أداء هذه الرياضة الإجرامية!

ردَّ جرجس:

- فلتُخْبِر وَالِيَكَ وجنوده، لسنا إلا قوما يعالجون الشدة بالشدة، النبتة التي تنبت في حوض ضيق يجدر بها أن تعتاد على النمو في الظروف الشحيحة، ماء قليل، وشمس لا تصل،.. إنْ هذا إلا كفاح الشرفاء في دنيا المظالم!

قالت عجوز:

- يجب أن يتفادى لوقا ضربة الجريد وإلا طُرد من الجبل.

تساءل باسليوس:

- أي حمق تتحدثون به؟

- إنها تقاليد الجبل، من لا يقدر على تفادي ضربة عصا الجريد لن ينجح في تعامله مع جنود الوالي!

عاد باسليوس يتساءل:

- وماذا بعد  الطرد؟

- نتركه حتى يشتد عوده فيعود قادرا.

نظر باسليوس إلى صديقه المجروح في رثاء، خلقت انعكاسات الضوء على الزجاج الملون خيالا مسحورا، قال وفي وجهه بشرى الأمل:

- سأفعل ذلك نيابة عنه.

قال لوقا الذي انتبه أخيرا:

- لا تعرض نفسك للهلاك، سيدي، كنت خيرا منك مقاتلا، ولتنظر إلى ما ألمَّ بي.

قال باسليوس:

- ولِمَ؟ لقد فعلتُه سلفًا ونجحتُ فيه.

ندت عن لوقا آهة ثم قال:

- لم تنجزه حقا، سيدي، لقد تحدثت مع الفارس لئلا يصيبك، أطاعني لقاء إِرْدَبّ من القمح منحتُه إياه!

استوعب الوقوف الخديعة، أرجأوا معاتبة الفتى حتى يبرأ، وقال باسليوس خائبَ الأمل وهو يستوعب زيف إنجازه القديم:

- الرب لم يمنحني سره إذن.

أحس لوقا أنه أفسد سعادة صاحبه، وخشيَ أن يفسد يقينه فقال:

- الرب جعلني أقف لأساعدك، إنما طلبتك لتمسح على جرحي بيدك.

نهض باسليوس مشمرا عن ساعد جد ومسح على جبهة الغلام المُسَجّي بيده بعد أن أودعها هذا القدر الدافئ، وقال في يقين وقد حاذى رأسه البرونز:

- واليوم أيضا جعلني الرب أقف لنجدتك، وسوف أنازل سيف الجريد الطويل بسيف البابا القصير!

نهض لوقا مضطرب الخاطر سائرا بين الناس وهو يقول:

- لقد هلك سيدي لا محالة!

تمرن باسليوس بسيف البابا بيوس السابع الذهبي القصير، أيامًا ثلاثة بلياليها في خلاء الجبل لم يعرف فيها الكلل، أخذ الرجل مسؤوليته في فداء لوقا بنشاط عزيز وهمة دائبة، تحدث الناس عن شبح الخلاء الذي يهيم ضاربا نباتات الغابة المتحجرة، ويسقي العجائز بجرة الماء في الصبائح، سأله لوقا الذي صحبه في تدربه:

- وكيف ينتصر سيف بهذا الحجم على سيف طوله ست أقدام؟

نظر باسليوس إلى صاحبه، قال وقد بدا أثر لمعة السيف الذهبي في حدقة عينه:

- إنه سيف مبارك، لوقا، سيف البابا بيوس السابع، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ دعني أحدثك عن هذا البابا أكثر فلقد كان اسمه الذي اختاره لنفسه يعني السلام في أيام عانت فيها أوروبا من الحروب والمعامع الحمراء، ولقد دعم الديمقراطية والمساواة عقِب الثورة الفرنسية.

أمسك لوقا بجرح رأسه وهو يقول:

- إنك لتضع الآلهة في مأزق بتحمسك الزائد، سيدي باسليوس، فإذا أراد الرب أن يلبي مطلبك لَتَمَهَّل وقال: إنْ هذا إلا رجل أحمق، لا يتوقف عند الأسباب التي صنعتها، ولا يلتفت إلى المنطق الذي به تسير الأمور، بربك، سيتحطم سيف البابا السابع العظيم عند أول ضربة من الفارس، ذلك أنه سيف هش لرجل عظيم، وليت أن الأمور تكتسب قيمتها من صلاح أصحابها حقا، فحينئذٍ يكون لكَ أمل في النصر، مثلما يكون لي تطلع في العودة إلى الجبل، وإذا أنت ذكرت لتوك أن اسم البابا يعني السلام فلا يستقيم لنا إذن أن نقاتل بسيف له في ساحة ينطرح فيها المهزوم، مجللا بعار النبذ، وثقل الخسران، لقد جهزت نفسي، على أي حال،.. جهزت إنجيلا وزكيبة أحملها على ظهري، سأخرج متجولا بين القرى كشحاذ يجمع الصدقات، بائس أنا إذ علقت مصيري على كتفي رجل أحمق!

قال باسليوس بعد أن وجه ضربة خاطفة لجذع الشجرة:

- من الجيد أنك جهزت إنجيلا لأننا سنحتاج غدا إلى معجزة.

نظر لوقا إلى باسليوس دهشا وقد تقدم نحوه خطوة:

- لقد أقرَرْت بأن انتصارك معجزة إذن !

ضغط باسليوس على مخارج الأحرف وهو يقول:

- معجزة يحققها الرب لا تصير معجزة.

- لا تظلم الرب بتُرّهاتك، سيدي، إذ نحن لسنا في زمن تُلبَّى فيه الأماني!

توقف باسليوس عن أداء الحركات، نظر إلى عيني لوقا نظرة عميقة ثم قال:

- فلتسمع لي: لقد ذكرت لك يوما بأن لكل عصر من الأعصار رجالَه، وإنني القَنوع أيضا بأن لكل زمان معجزاته، أقسم لك أن كل شيء يحدث حولنا الآن هو معجزة، من بسمات الأطفال على الجبل، ولحون الفتيات في أهازيجهن الرائعة، لقد رأيتهن يومًا يمشطن رؤوسهن بمشط مصنوع من العظام، كان هذا أروع ما شاهدته،.. حسنا، دعني أكمل، وحتى طقطقات الريح في عصفها المذهل، وغطيط نيام العجائز في تواتره المزعج، وكذا دبيب الزواحف في حركتها المتحسبة، حركات الحشرات في زحفها وطيرانها، وهذه الشمس الحارقة، وتلك الأرض السادرة، وحتى أنا بيقيني الذي لا تدعمه الشواهد، وأنت بشواهدك التي تفتقر إلى اليقين، إن في هذا كله لمعجزة، لقد نقل سمعان الخراز* هذا الجبل (يشير إلى جبل المقطم) ليس لأنه كان قديسا عظيما أو نبيا مرسلا، لقد أزاح الجبل عن بركة الفيل بفضل معروف صغير، لأنه كان يسقي العجائز الذين لا يقدرون على سقاية، مثلما نسقيهم نحن اليوم، ونعود ننتصر غدا، بمعجزة أخرى من معجزات الرب،.. فلتقل بأن باسليوس رجل أحمق، ولكن فلتذكر عني أنني قلت يوما بأن كل حركة هي عجيبة قدرة، وتجلي عناية، وآية انتظام،.. إنك إن امتلكت شعيرة من تبصرة لرأيت في كل شيء خارقة من الخوارق، خليق بك أن تؤمن بهذا لوقا لما كنت غلاما صالحا، فإذا آمنت استشعرت عظمة كل شيء، إن ذرة واحدة تخرج من رحم العدم لهي أكبر معجزة ممكنة، إن الوجود لهو المعجزة، ودون حاجة إلى تعطل قوانينه هو كذلك، وهو لمن يرصده بهذه العين نعمة جليلة، لأن حالة العدم كانت واردة الاحتمال ممكنة التخيل، ولا تقل بأنها الخرافة أهرف بها، لأن الخرافة الحقة هي أن تعتقد بأن كل هذا قد جاء بلا سبب وسينتهي دون غاية.

عَلَّق لوقا في هدوء وسأم:

- كيف بمقدوري أن أتخيل العدم، سيدي؟ إن العدم من حيث هو لا يُتَخَيَّل، إنك تهذي، ويُخَيَّلُ إليَّ أنك أنت مَن تَلَقَّى ضربة الفارس فذهبتْ برُشْده لا أنا، لقد ابتلع السأم كل شيء منذ خسرت نزال الفارس، وتلوت نفسي بمرارة الهوان حين ترجلت عن صهوة جوادي أمام الأهلين، وقد أوتيتُ يومها من حيث بُوغِتُّ في صباح بلا شمس، إنني لا أكاد أرى في الأشياء إلا تكرار الأمس، وكلل العادة، قد أملك عقلا فقير الخيال ولكنك تملك خيالا يستوعب ما لن يحدث، سيدي، إنني أصدق في حديث المسيح مثلما أعرف قسوة الحياة، سمعت مواعظه التي هي إلهامات رائعة كضياء الشمس، وعاشرت خيبات آمالها التي هي سقطات غادرة كالثمار العاطبة، وغدًا أهيم على وجهي في الخَلَوات بعد أن أفقد رعاية الأهل، وتحنان العشيرة.

قال باسليوس وقد أسقطت ضرباته المتتابعة جذع الشجرة أخيرا:

- ما زلت أراك تنظر إلى الأمور بعين السأم لأنك ما فهمت مرادي.

طَوَّحَ لوقا بحصاة ناحية الجبل وهو يقول:

- أعدك أن أنظر بعين غيرها إن انتصرت غدا في نزالك المستحيل! هل أنت مجنون أم قديس؟

- إنني رجل عادي..

- ما زلت عند رأيي: سمعان الخراز لم ينقل جبل المقطم ولن ننتصر غدا. 

- المتسرعون من يتوقفون عند ظاهر الأمور ويَنْسَوْنَ رمزيتها ومغازيها.

في الغد تجمهر أهل الجبل عند حافَتِه، تراهم كحبات الرمال يشايعون باسليوس أو يهتفون لمُنازِعه، كأنهم في شغفهم لا يرقبون نزال رجلين وإنما مسيرة الحياة، وأَلْقَوْا على الفارِسَيْن المُتأهِّبَيْن ماء الورد حتى غمر السفح رطوبة نديَّة، ها قد ساد الأفقَ ضياءٌ وانٍ وحلق الأشهب في نشاط، وهذا باسليوس يمتطي صهوة جواده متطلعاً، كان خصمه قويا شديد الأسر يتفجر عافية، في صبر انتظر باسليوس منه الضربة الأولى، حتى إذا أقبل عليه الآخر مُغيرَا تفاداها في حماسة ثم تجهز للهجوم المضاد، الآن حق للنفوس أن ترتقب وللأعناق أن تشرئب، كان سيف باسليوس ذهبيا قصيرا ولكنه أطوع على الاستخدام من سيف الأقدام الستة الجريدي، وما عَتَّمَ أن أثخن باسليوس خصمه بالضربات السريعة حتى سقط الفارس المنافس وهتفت عجائز الجبل :

- فعلها طفل الرب المبارك مجددا!

وهذا باسليوس ينظر إلى لوقا نظرة معبرة، ترجل باسليوس الفائز عن جواده في بطء، لم ينزل في زهو ولكنه هبط كرجل عادي، مد يده إلى ذاك الفارس الطريح وهو يقول:"لا تنبذوه من الجبل لأنه هُزم، ولكن ادعموه حتى يقوم، وظاهروه حتى يقدر.."، وهتف في الجمع يقول*:

سعداء من يدركون حاجتهم الروحية فإن لهم ملكوت السماء..

سعداءهم النائحون فإنهم يُعَزَّوْن..

سعداء هم الودعاء فإنهم يرثون الأرض ..

سعداء هم الجياع والعطاش إلى البر فإنهم يُشبعون..

سعداء هم الرحماء فإنهم يُرحمون..

سعداء هم أنقياء القلب فإنهم يرون الله..


     رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


**

بات باسليوس ليلة أخرى فوق قمة الجبل مشمولا بالسرور المُنَزَّه، ومُحاطا بعناية الكبار والصغار، وتقدير صديقه لوقا الذي عاد بين ظهراني عشيرته بعد نبذ، أولمت له نسوة الجبل وطُفْنَ حوله بمبخرة للعود والعنبر فنام مُتْخَمًا، وفي فجيرة الغد تجهز ليباشر عودته إلى قصر الوالي، كان الملأ أمام البيوت نيامًا وليس في الأفق نجمة واحدة، وقد تحسب الرجل في خطوات مسيره لئلا يوقظ منهم أحدا، وحاذت خطواته مضاجع الأطفال في هداوة، وتفادت أقدامه شعور الفتيات المسترسلة، وتحاشى مسيره أرجل العجائز البدينات، حتى إذا ظن بنفسه النجاح أو كاد؛ سمع جرجس يهتف فيه:

- طوبى لكَ فقد صرت بعد الأمس عضوا من هذا الجبل، وخليق بك أن تطَّلع على أسراره إذن، لقد أنقذت نجلي لوقا من اختبار منازلة الفارس، ونجحت حين لم يتوقع لك أحد النجاح، عانقت ذُرى المجد على ضعف ما عندك، هزمت القوة بالبراعة.

ضيق باسليوس عينيه من أثر الحيرة التي وقعت في نفسه، لم يعهد عن جرجس مثل هذا اللطف والثناء، ولكنه يبدو صادقا، قال في خشوع:

- لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروحي قال رب الجنود*.

وما لبث أن صحبه جرجس  إلى ممر ضيق يقوم في قلب الجبل بعد أن أزاح عن الأرض غطاء، ونزلا في جوف الأرض ثم سارا في هذا الممر، كان على جانبيه قناديل زيتية هي مشاعل وضَّاءة متراقصة النور، وانتهيا إلى مكتبة حافلة بالكتب والصحائف والمَهَارق* والرقوق، وما أن وطِئ باسليوس أرضها حتى فر جرذ وسال الغبار فوق رأسه، قال جرجس:

- لقد جمعنا ههنا آلاف الكتب، لكي يتعلم أولادنا، فالجهل علة كالظلم، وهكذا َيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا، عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ*، ولابد من القوة أَوَّلًا، ثم التقاليد التي لولاها لَخَيَّمَ عنكبوت الخراب وتداعت الأركان للسقوط..

توقف باسليوس عند نسخة من القرآن مُذَهَّبة، وعند الأناجيل الأربعة، ومصحف التوراة، وكُتُب تقي الدين المقريزي وبعض مخطوطات الجبرتي التي كان يخشى أن يُعاقب بسببها من الوالي الذي يترصد كتاباته*،.. بدت الكتابة يدوية متعرجة، وقد اعتاد باسليوس على ما كان يراه من إنتاج مطبعة بولاق*، وفي ركن هاته المكتبة يربض رجلان نائمان على سرير متهالك ذي أَغْطِيَة بالية، تحت ثُرَيَّات نحاسية بلا مصابيح تحرك الرياحُ خيالَها على الأرض، وحولهما محبرة وأوراق وأقلام بوص، علق جرجس يقول (يريد الرجلين النائمين):

- لابد أنهما أُنْهِكَا بعد أن سَوَّدَا كثيرا من بياض الأوراق بالأمس.

فتح جرجس بابا بدا أول الأمر خزانةَ كتب، وكشف عن حجرة مخبوءة انطوت على كثير من الهراواتِ وبراميلَ تحوي على البارود وغدارات، ومَرَّا بمدافن تحتية رأى فيها باسليوس قبر صالحة فتوقف عنده ودعا لها، وذكر أنها كانت امرأة مفعمة بالتقوى، والتفت إلى جرجس وقال:

- إنني لم أنقذ لوقا من الفارس، ولكنني أنقذته من تقاليد الجبل.

عَلَّق جرجس:

- كأنكَ ما أُعْجِبتَ بكل ما رأيت!

- ما تصنعونه جدير بالاهتمام حقا، ولكن براميل البارود في قلب الجبل ليس مما يُنذر بالسلام.

- ماذا تنتظر؟ العنف يولد العنف!

مَرَّرَ باسليوس ناظريه في مقابر الراحلين، قال:

- تمنيت ألا تتورطوا في دائرته اللعينة، لأنني رأيت فيكم قوة الخير العذراء، كما قال السيد: سعداء هم الودعاء فإنهم يرثون الأرض*..

عاد جرجس إلى طبيعته الحادة وهو يقول كالمنذر:

- لن تُطلِع الوالي على شيء مما رأيت إذن.

- ما رأيت شيئا.

خرج الرجلان مثلما دخلا عبر الغطاء، كانت عجائز الجبل قد استيقظن فأدركن حين رأين جرجس وباسليوس خارِجَيْنِ منه أن سر الجبل قد انكشف للضيف الغريب،.. هبط باسليوس الجبل بجسده دون خاطره، وقصد إلى القصر وفي ذهنه أثر ما رأى في الجبل، هناك وجد أخويه دوس وطوبيا بين يدي محمد علي باشا، وسأله الوالي أول ما رآه :

- أين بِتَّ ليلتك، باسليوس؟

أدرك باسليوس تورط أخويه في الخيانة ولكنه آثر الصدق، فقال:

- بت عند الجبل، سيدي.

تساءل الوالي:

- ولمَ يبيت كبير موظفي الحكومة عند جبل الصعاليك؟

حاول باسليوس المناورة فجعل يقول:

- لقد شهد جبل المقطم على معجزة سمعان الخراز، إن له مثابة خاصة في نفوسنا نحن الأقباط، علاوة على أمر لابد أنكم تُقَدِّرونه أنتم المسلمين: فلقد تمشى تحته عمرو بن العاص ومعه المقوقس (عظيم القبط) وأثنى على مقابره، وذكر فضل المقبور فيها، ثم أنه شهد على مناظرات بين المسيحيين وبين اليهود إبان عهد  المعز لدين الله الفاطمي،.. وعليه فالجبل ليس محض كومة متكتلة من رمال!

علق محمد علي باشا في استخفاف:

- حقًّا؟ خليق بي أن أزوره إذن.

- إياك وزيارته، مولاي، فقد دخل فيه الحاكم بأمر الله بحماره واختفى!

اضطرب الباشا فنظر إلى دوس وطوبيا وهو يقول:

- أخواك يقولان بأنك تعرف أكثر مما تُظهر.

قال باسليوس:

- الحصيف من يفعل، سيدي.

- الحصيف لا يصادق الضِّباع وهو المتردد على وكر الأسود، باسليوس، لا تغامر بمصيرك لأنني لا أريد فاجعة أخرى تقع في أسرتكم، بعد فاجعة ميت غمر، أسرة سيرجيوس بن فلتأوس المنكوبة بالفقد لا يجب أن تعاني المزيد، لقد قُتل أبوك غالي ظلما، وأما أنت فتدفع نفسك دفعا إلى هلاك عادل!

ساء باسليوس أن يُوصَفَ أطفال الجبل بالضباع، فقال مندفعا:

- إنّ من في الجبل ليسوا بضباع، مولاي، وإنما هذان (يريد دوس وطوبيا) اللَّذان تأخذ منهما الرأي والمشورة هما أَخَسُّ الضباع.

انطوى الأَخَوَان على تذمر لم يعربا عنه، وكان الوالي يكابد آثار أزمة المشرق الثانية*، وتدخل القوى الأوروبية لإبقاء رجل أوروبا المريض* حيا، فبدا فارغ الصبر إزاء حديث باسليوس الأخير، وسرعان ما فقد اهتمامه به إزاء هذا الشاغل العظيم، ودلف إليه موظف يظهره على موقف فرنسا الداعم له فقال (محمد علي):

- كالعادة حين تجري: لم يقف إلى جانبنا إلا الفرنسيون، تبا لهذا الحلف المقدس، وملعونة بريطانيا العظمى، مسلة كليوباترا، هديتي القديمة إليهم، لا يجب أن تُنقل من الإسكندرية إلى بلادهم*، أجل،.. إنهم يريدون إبقاء الميت ميتا وقد تجيفت جثته منذ قرون!

كان الحلف المقدس (أو الحلف الكبير) يضم كل من روسيا والنمسا وبروسيا بطلب من القيصر الروسي ألكسندر الأول المعروف بأطماعه التوسعية، ووجد باسليوس الفرصة سانحة ليفوه بحديث يكتسب به ثقة الوالي مجددا فقال:

- إن أعضاء هذا الحلف يتاجرون بالقيم المسيحية، إن الرب منهم براء، إنهم زاعمون أنهم مكلفون من الإله بالدفاع عن السلام والنظام، وهم إنما يقصدون إلى القضاء على أي محاولة للتحرر والديمقراطية، وهم الجهلاء بحقيقة التحول الذي جرى في العالم بعد الثورة الفرنسية العظيمة!

قال الوالي وهو يلملم شتات نفسه الغاضبة:

- أنت تعرف مراد الرب جيدا، باسليوس، وقد صدقت في هذا كله.

سرعان ما تناسى الوالي أمر الجبل وجعل يناقش باسليوس في أمر المذاهب المسيحية فتساءل:

- ولِمَ اختلف المسيحيون إلى المذاهب المعروفة؟

- مولاي، إنها قصة طويلة، وكثيرون لا يعون حقيقة أن تحولات العقائد جزء من تراث الثقافة، وتأثيرات السياسة على المجتمع،.. فبعد مجمع خلقيدونية* المنعقد عام 451م حدث أن آمن بعض المسيحيين بأمور جديدة لم تكن من ضمن الإيمان القديم السابق،.. انشق المسيحيون إلى قسمين: الأرثوذكس (أي التقليديين)، وهم مَنْ استمروا على النهج السابق، وحافظوا على التقليد القديم،..  والكاثوليك مَن مثلنا، وهم مَنْ آمنوا بما هو جديد!

تساءل الوالي الذي كان يقرأ عن الراهب والقس الألماني مارتن لوثر واعتراضه المعروف على صكوك الغفران الكاثوليكية، ودوره في إطلاق عصر الإصلاح في أوروبا:

- ماذا عن البروتستانت؟

وقال باسليوس:

 - البروتستانت انشقوا عن الكاثوليك في القرن السادس عشر، لقد خرجوا علينا، مولاي، وهم يُعَدُّون مسيحيين في الإجمال، لأنهم يؤمنون بالعقائد الأساسية..

وتدخل دوس قائلا:

- كيف تَعُدُّهم مسيحيين وهم لا يؤمنون بالعديد من الأسرار الكنسية، والطقوس، والصلوات المرتبة من الكنيسة، والمعمودية*، والتقليد المقدس؟

وقال طوبيا:

- إن أخانا على أضعف شعرة من الفهم حتى أنه لا يستبعد أحدا من دائرة الإيمان.

وقال باسليوس:

- ليس لي أن أستبعد من لم يستبعد نفسه!

وكان مستشارُ الوالي المسيحي سنواتٍ طويلة، وناظِرُ الخارجية والتجارة بوغوص يوسفيان صديقًا لباسليوس، فحاول تخفيف وطأة الخلاف بين الإخوة، فقال مخاطبا الأَخَوْيِن: دوس وطوبيا:

- لا تملكا نفوسا تأكلها البغضاء، فقد كان أبوكم غالي يوسع ما ضاق من السبل في وجه الجميع.

شكر باسليوس صنيعه:

- ليس عجيبا أن تكون أول من حاز رتبة البكوية من الأقباط، سيدي لأنك تملك روحا سمحاء وعقلا أمينا.

قال بوغوص الذي بدا رجلا متقدما في العمر على حافة الغروب:

- بل أنت أول من حُزْتَها منَّا، ثم جاء دوري ونوبار باشا* وبكري بك (شقيق نوبار باشا).

قال محمد علي وقد عاد إلى نقطة الإصلاح الديني:

- لقد فشلت محاولتي في إصلاح الأزهر بتنصيب حسن العطار* شيخا له، أدركت منذ يومئذٍ أن الأفعال الجيدة أصعب من الحديث الجيد، وأن خيرا للدين أن يُترك.

حين غادر باسليوس القصر تنفس الصعداء، لقد نجا بنفسه حتى حين ولكن الجبل لم يَعُدْ آمنا بانكشاف سره، وهرع إلى هناك فقال لأهله:

- يجب ألا تبيتوا ههنا اليوم، لقد انكشف مخبأكم عند الوالي، وما أسرع جنوده إليكم!

سأله جرجس ووجهه يطفح بالغضب:

- هكذا كشفت سرنا لواليك؟

قال باسليوس في وداعة ظاهرة:

- بل فعل أخواي، لا سامحهما الرب،.. لِمَ أحذركم إن فعلت؟

وقال جرجس:

- لن نترك الجبل، لقد تدربنا لهذا اليوم، وجمعنا له الهِرَاوَات والغدارات والبارود.

وقال باسليوس:

- ما عند الوالي من السلاح والجنود فوق ما عندكم.

تدخل لوقا بين صاحبه وأبيه:

- فلنطع باسليوس هذا اليوم، أبتِ، ولك أن تكرهه في الأيام التالية كيفما تشاء!

هناك امتعض جرجس وساءه أن يُنسب موقفه إلى عاطفة شخصية، قال لنجله زاجرا:

- ما أوتينا إلا من طريق صاحبك المدلل، إنما أبتغي صالحكم وصالح الجبل.

نظر باسليوس إلى وجه جرجس العنيد الذي بدا كصخر الجبل الخشن، قال:

- فإن كان لا محالة فلتهبطوا في البئر قبل المغيب، ولتختبئوا في حجرة الغدارات والبراميل، فإذا حضر الجنود لم يجدوا أحدا منكم، وإن حدث  واكتشفوا أمر البئر وما تحتها، كنتم على خير استعداد للقائهم هناك بما لكم من سلاح وعتاد كثير.

تساءل جرجس:

- وما ضمانتنا في ألا تكون خائنا تدبر المكيدة بإظهار وجه الصداقة؟

قال باسليوس في هدوء:

- ضمانتي أن أختبئ معكم..

هبط آل الجبل تباعا عبر البئر إلى المَمَرَّات والحُجُرَات، ساعد باسليوس ولوقا العجائز والأطفال على الهبوط، كان لوقا يشبك يديه تحت النعال كأنهما وحدة دَرَج، جمع باسليوس كثيرا من القش ووضعه في الممرات وقال بأن له استخداما ربما يَئِين وقته، ولم يبقَ في ثيابه موضع إلا وتعفر، تهتكت أزرار صديريه، وتغبرت قلنسوته كأنه خرج من ركام بيت تهدم، كان باسليوس مسرورا مع ذاك بخدمة الأهالي، حتى لقد عَدَّ اتساخ ثيابه آية شرفه ونزاهته، نظر لوقا لصاحبه وقال لوالده جرجس:

- أما يزال يبدو لك خائنا مع كل هذه العفارة؟

 وضع جرجس نجله لوقا عند البئر ليرصد حركة الجنود عبر فتحة غطائها الضيقة، كانت البئر مغطاة بالعشب محجوبة عن الأبصار، يطلع منها الناظر على العالم، ولا يطلع العالم على الناظر منها، وفي المساء طال الانتظار دون قدوم أحد، حنق جرجس وقال معاتبا نجله لوقا:

- يكاد العجائز والأطفال يختنقون في الحجرة لأجل وهم يدور في رأس صاحبك! أين هم هؤلاء الجنود؟

حلق النسر الأشهب في الأفق فصدق حدس باسليوس أخيرا وحضر الجنود، فتشوا في البيوت العلوية الخاوية فلم يجدوا ما يثير الاهتمام، وكادوا ينصرفون في خيبة لولا أن تعثرت قدم آخر الجنود في غطاء البئر، هوى جسد الجندي على هذا العشب وتكشف الأمر المخبوء، هرع لوقا إلى حجرة البراميل والغدارات ليخبر الرجال بما شهد عليه، أخرجوا هنالك براميل البارود وكادوا يشعلون فتيلها لولا أن قال لهم باسليوس:

- لا حاجة لإحداث دمار بهذا الحجم، ستُحرق المكتبة إن فعلنا، ونفوس كثيرة ستُزهق، إنني أرى الحكمة في إخفاء حجرتنا بالقش الذي جمعت.

قال جرجس غاضبا:

- ما أخبثك! ما هذا إلا ضعف نهلك بعده، بعد براح الحياة عند السطح نختبئ وراء باب محجوب بالقش؟

قال باسليوس في يقين:

- تكفيك نعمتي.. لأن قوتي في الضعف تكمل*.

أسرع لوقا وباسليوس في إخفاء باب الحجرة بالقش، كان جندي واحد قد هبط ليكتشف ما يدور أسفل غطاء البئر، عَبَر بالممرات التي انتهت إلى هذا القش الكثير، قال مناديا على زملائه بالأعلى:

- إنه مخبأ قش، لا شيء مهم هنا.

- فلتصعد إذن، وحدك، لأنك خيبت رجاءنا!

علت قهقهات، وابتعد الجندي من الباب وهو يقول ضَجِرًا:

- أيها الحمقى! أين ذهبتم؟!

وسرعان ما انكشف البلاء عن الجبل فخرج الأهلون من جوف الأرض مزدهين فرحين، انتصر باسليوس بقوة الخير العذراء، أثبت دهاء التدبير جدارته فوق نزعة العنف التي أصر عليها جرجس، طوح لوقا بالقش من قمة الجبل فما بلغت سفحه إلا وهي تتهادى من أثر الريح، وعلا وجهه الخصب ابتسامة مراهق، قال جرجس ليلتئذٍ:

- يجب أن يُطرد باسليوس من الجبل، لأنه أتى والشر معه.

تساءلت العجائز:

- ولِمَ؟ وهو أتقى من عرفنا؟ وقد جرت المعجزات على يديه؟

قال جرجس:

- فإن كان أتقى الناس فلَهُ أَخَوَانِ باغيان، كان بيننا والهلاك بضعة أمتار.

قال الرجال:

- أسأت التقدير من حيث أعمتْك الكراهية، لقد أنقذ باسليوس برجاحة رأيه مكتبة الأجداد.

قال آخر لجرجس:

- إن فيك نَزَقًا ومَيْلًا إلى الدم والثأر، رغائب واطئة تحركك، ونوازع سوء تصدر عنها، سيبقى طفل الرب في الجبل.

غضب جرجس وقال:

- لن تَتَّعِظوا إلا يوم هلاككم!

 

 

 اقرأ أيضاً :