روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/07

رسالة من عبد العزيز

                     الفصل السادس عشر: رسالة من عبد العزيز


دون عبد العزيز إلى صديقه فؤاد في أحواله الجديدة بالكويت تدويناً حسن الإضافة جديراً بالإيراد كتب فيه :

"عزيزي فؤاد.. بعد التحية والسلام والوداد..

أكتب إليك رسالتي بعد مدة من الاستقرار ههنا، وبعد زواجي بآسيل وعملي طّواشاً (صائد محار اللؤلؤ) كواحد من ندرة من بقى مشتغلاً بالمهنة القديمة اليوم بعد ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني المصنوع من الرخويات، وانحسار الطقس الشعبي منذ خمسينيات القرن الحالي دون أفول، إنها مهنة الأجداد التي يحييها الأحفاد هنا إحياء الاعتزاز والفخار، وقد دفعتني آسيل إلى إجراء حمية قاسية هبط معها وزني من 120 كيلو جرام إلى 80 كيلو جرام، وجعلتْ من الأمر العسير مهراً سائغاً للزواج بها، وقد انتهجت في هذا السعي نمطاً خاصاً لكوني من مصابي مرض القولون العصبي، وقد عنَّ لي أن أستأنس بنصائح الحكيم لقمان بن ياعور القيمة في ذاك الصدد، وقوله : "يا بني ! لا تأكل شبعاً على شبع، فإنك إن تلقه للكلب خير من أن تأكله..".

 

لقد بدأ موسم الغوص الكبير كعاداته في الأول من يونيو، حيث تكون الأجواء على ارتفاع درجات حراراتها هادئة صافية، وبمقدوري أن أرى نفسي وسط البحارة الوقوف إلى جوار السفن وقد أزمعت أمري على تجشم العناء الطويل، وهذه آسيل تودعني بين المودعين، وأما النوخذة الأكثر خبرة - واسمه ثابر - فقد تولى قياد الرحلة والإعلان عن مواقع الغوص الذي تتجه إليه كل سفينة، وقد كونت صداقة بالسردال (ربان السفينة) فكان يناديني بالمصري، حتى أمكنه أن يحفظ اسمي بطول إبدائي لانزعاجي من النداء الذي طمس هويتي، ثم بطول العمل رفقته والاسترشاد بخبرته البحرية الواسعة، وقد أقمتُ الأواصر الإنسانية مع السيب (المسؤول عن الحبال) وصبية التبّاب (مساعدي السيب) حتى أنهم باتوا ينادونني بـ"العم".

 ولشد ما سعدت برؤيتي لآسيل وهي تستقبلني في اليوم الأخير من الموسم في خاتمة سبتمبر بأناشيد الترحاب وقد تزينت المنازل بـ"البنديرة" حتى تناسيت المشقة، وقد أبكاني السرور حين أظهرتني على حقيقة حملها، ولم أتردد في تسمية الوليد المنتظر بـ"لؤلؤ"، والمرأة لا تزال متعلقة بالأمل في عودة أخيها أكرم رافضة محاولاتي في صياغة تضحيته كثمن للحرية التي ينعم بها أبناء الكويت اليوم، وقد جعلت أحك حبتان من اللؤلؤ من حصاد ما جمعته من الموسم ببعضهما أقول لآسيل :

- إنهما يلتصقان، ويخلفان رواسباً بيضاء، وأما الصناعي فينزلق نتيجة ملمسه الناعم..

وقالت متأثرة، مبرزة لفارق آخر :

- إن الأحجار الكريمة ينبع بريقها من الأعماق، أما المحار الصناعي فبريقه خارجي سطحي،.. لقد تعلمت هذا من أخي أكرم.

حتى إذا أدركني الحزن لحديثها عدت أصنع لها قبعة كريمة مزينة بحبات اللؤلؤ الذي كنت قد جمعت محاره،.. لا زلت أذكر فترتي في تجارة الكبتاجون بالمكس بعين جزعة آسفة حتى سئمت الندم عليها، أراني وسط زمرة عضها الفقر ومزقتها الأوصاب، أزيد في الحفر وأنا الغريق، والحمد لمن انتشلني من وهدتي، وردني رداً جميلاً إلى طيب المعاني وكريم المقاصد،.. إن الإنسان حقيقة من الخير والشر، ولا يضره أن يفقد البوصلة بقدر ما تضره مكابرة الإيغال في مسارب السوء والجهالة، لا يمكن أن أفسر هذا التبدل الكبير الذي طرأ على حياتي إلا بسحر الصداقة وطاقة الحب، لقد ذقت أفاويق مترعة من برد السلام، وقد تعلمت - مما تعلمت من تجربتي الحافلة المتقلبة - أن المشقة قرينة الإنتاج الفذ والفارق الجلي بين اللؤلؤ الطبيعي وبين الصناعي، وإنني واضع تبرعي في جمعية الهلال الأحمر بالكويت كأكليل من الزهر حول عنقي، آملاً أن يوزاي ما تورطت فيه سابقاً من الأذى الذي ألحقته فيمن قربت إلى أياديهم العقار الضار،.. وإني أبعث إلى الإسكندرية بالسلام الذي يليق بأشواقي إليها، وأرجو أن يكلأك المولى برعايته وأن يشملك بعطفه، ولتبعث إلى فريد بأحر التحية على أمل رؤياه في نادي الفيديو ومتابعة أفلامه الهندية.

وقد وفِّقتُ في إرسال حقيبة النقود الثانية التي حدث وفقدتها هنا في يوم سفرك العاصف إلى عنوانك عبر البريد،.. إذ ساهمت - بجهد متواضع مع فراس ورجال الأمن الكويتين - في إعادة الحق المسلوب، بعد استتاب الأمور ههنا، في أعقاب انتهاء حرب تحرير الكويت،.. أمُ المعارك التي استحالت إلى ذكرى شاحبة في وجدان البلد !

هذا، وعلى أمل أن يكون بريقك بالإسكندرية، دائماً كاللؤلؤ الطبيعي: عمقياً ساطعاً..".

كانت الابتسامة قد طفقت تعلو وجه فؤاد فيما جعلت هدى تزغرد بما انكشف لها من نعمة النقود العائدة، وقد بدت المفاجأة السارة فوق احتمالها، وحتى لقد صلَّت المرأة العجوز صلاة الشكر المندوبة ذات الركعات الثمانية والتسليمة الواحدة !

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


في الغردقة..

رأت الصغيرة نجلاء - ابنة عشوب - شمعة متسللة تحت عقب الباب فأمسكت بها وأخفتها، وفتحت الباب فمرقت منه مروقاً شغوفاً - كأنما تقتفي مصدر الشمعة - دون أذن من أبيها أو صاحبه، كان عشوب يأخذ يقول لقرينه :

- دعني أقص عليك أمراً : حين قدم الإغريق إلى الإسكندرية هربَّوا كثيراً من آثارهم الغابرة إلى دول غربية : ثلاثة تماثيل لبطليموس وقد صنعت جميعاً على الطابع الفرعوني، ثمانية وعشرون تمثالاً على هيئة أبي الهول، علاوة على بعض المَسلّات الفرعونية، حتى معبد القيصرون، وفي وقت لاحق، هُرِّبت مسلتاه : الأولى إلى لندن والأخرى إلى نيويورك في العام 1877م، إن كل شيء من إرث الجدود يُهرب إذاً، لقد دمرت المنارة الفرعونية أيضاً بزلزال مدمر، إنه غضب السماء على الأوثان البشرية.

وكان وجه لأثر فرعوني في قلب فوضى المخزن يكاد ينطق فستره عشوب بستارة من الكتان لفزعه منه،.. وفي هاته الأثناء كانت نجلاء قد بلغت مبلغ طاولة الخزف، وفزعت الصغيرة لرؤية نور وعز فزعاً احتوته المرأة، وسألها عز في صوت خفيض :

- معذرة، صغيرتي،.. أين يجلس أبوك في حجرة المخزن؟

وبدت صامتة قبل أن تغريها نور بشموع كثر كانت في سلال القش، وأجابت مرتبكة تقول :

- بمحاذاة الباب..

- وصاحبه؟

وأجابت الصغيرة بعين الارتباك الأول أو أكثر وفي يدها الشموع :

- إنه يجلس قبالته.

وعلا صوت عشوب من هذا الباب المفتوح يقول :

- لا أريد أن أكون حفيد أحمس حافي القدمين، أريد الحاضر، الآن، وهنا،.. هل ينام تحتمس الثالث قرير العين إذا عُفِّرت وجوهنا بالتراب لخدمة زوار معبده؟!

اقتحم عز مجلس الاثنين - عشوب وصاحبه - في حس شرطي لم يفقده حتى بعد استقالته، كانت صدمته في صاحبه آنئذٍ شديدة، وقال الضابط فيما قصدت زوجه إلى إبلاغ الشرطة :

- لقد خذلتْ الصداقة واشتريتْ بالأصل والجذور ثمناً قليلاً.

بوغت عشوب بمحضر زائره غير المرحب به، وتسمر في موضعه كمثل جذع شجرة يقلمها بستاني، قال :

- فتلقذف بالقناع الواهم،.. لقد كنت صديقاً مشاغباً ولا جرم أنك ستفهم أبعاد مغامرتي.

لم يهبه عز وجه قبول، أزاد عشوب يقول :

- فلتخفض سلاحك، ما من إثم يأثمه الابن إن هو باع تركة أبيه في عوزه وقلة حيلته.

- فلتسمي الأمر على حقيقته : إنك لص مهرب ومتى طالتك يد العدالة جازتك بما يليق بجرم ما أقدمت وتقدم عليه.

واستهزأ عشوب فراحت رأسه بحركة يقول :

- أي عدالة؟ العدالة التي تحمي الموتى في مقابرهم، هاته التي أشادوها بالقهرية في أعصار السخرة، وتجور على الأحياء في سكنى الصفيح في أصقاع البلد المأسوف عليه !

وأبدى عز أسفاً يقول وهو يعود يكشف ستارة الكتان عن الوجه الفرعوني بيده فيما يُبقِى الأخرى على الزناد :

- كان يجب أن أفكر فيما دعاك إلى طلب شراكتي على رواج تجارتك ههنا، ثم كيف قفزت إلى هذا الأفق من الثروة في وجيز المُدد.

وقال الآخر :

- مهما فكرت فلن تصل إلى كنه الحقيقة ولن تخبر شعوري ما دمت تراني بعين متهمة، كنت مصرياً قبل اليوم، واليوم ما عدت أحمل لكم إلا البغضاء والاستهانة.

وأخذ البهر من عز مأخذه لحديث صاحبه، قال :

- لماذا لا تصارح نفسك بالحقيقة تخفيها وأنت بها عليم؟ كان يجب أن تفخر بإرث الأجداد لا أن تهربه، ما كانت الحاجة مُسَوِّغاً مقبولاً للإجرام.

هناك أمكن لعشوب أن يتطلع إلى القناع الفرعوني، لأول مرة دون فزع يقول :

- الفخر بالبلاد يكون مستحقاً إذا هي سَمَت بأبنائها ومدت لهم يداً كريمة ثم وهبتهم معاشاً مرموقاً،.. كُفْ عن الحديث نيابة عن الموتى.

وأزعجت عز العبارة الأخيرة فقال :

- الجينات المصرية القديمة لم تتلاشَ بكرور الزمن، أقسم أنها كامنة حتى في نفسك التي تجتهد أن تتنصل منها، إن ثلث المصريين متحدرون أبوياً من الهابلوغروب الذي ينسب إليه الفراعنة والأمازيغ، إن هذه إلا الآيات البَوازِغُ، والشواهد النواصع، لا تلومن إلا نفسك..

 ما لبث أن تملص عشوب من زناد المسدس المشهر في حركة خاطفة منفلتاً من تهديد الآخر، ألقى الأمن - الذي حضر مع نور - القبض على صاحب عشوب فيما اختفى الرجل نفسه عن الأبصار منذ يومذاك،.. دبر عشوب محاولة لتهريب ما بقى له من آثار في محاولة هجرة غير شرعية إلى إيطاليا في واحدة من قوارب الموت، ولكن قاربه قد ثقلت في البحر موازينه واضطرب بناؤه العائم، واضطر القبطان إلى اختيار آدمي يلقي به لتخفيف الحمول فاتَبَّع الرجل الذي كان كثير الاهتمام بالطوالع سبيلاً في الاختيار غريباً، إذ حسب حِسَاب الجُمَّل لأسماء ركابه وعزم على التضحية بأقلهم رقماً، فكان لعشوب أقل الأسماء رقماً ووقع الاختيار - بناء على ما تقدم - على صاحبنا، وقاوم الرجل العباب حيناً قبل أن يغلبه، وهكذا عثر على جثته في المتوسط طافية في دُجْنة الليل وفُقد ما معه من تحف، واختطفه عزرائيل من غاشيات اليم، وانتهت سيرة بائع الروبابيكيا ومهرب الآثار في قلب البحر المتوسط دون أن يعبره، وفجعت الأخبار أسماع الجميع حتى لقد خرج وزير السياحة والآثار فذكر آنئذٍ شيئاً عن الثروة التراثية القومية التي لا تهزها الهزاهز والإحن،.. تبنى عز وزوجه نجلاء التي كانت أشبه إلى صورة مصغرة ومستردّة لملامح ميريت آمون نجلة رمسيس الثاني الأثيرة، وصارت الصغيرة بمثابة الأخت لنبيل وعطية الله، وتأقلم الزوجان على معاشهما بالغردقة ما خلا استياء نور من البق والنمل الأبيض هناك ونوبات اشتياق عز إلى وظيفته التي تنتابه في أحيان متابعته لواحد من الأفلام الأمريكية البوليسية، هناك يظميه الحنين ويشبعه، وعزمت نور بعد استقرارها هناك على عقد جلسة صلح مع عائلتها في فندق شيراتون بالغردقة فشرعت تراسلهم في ذلكم الأمر في يوم صادف زلزال القاهرة الشهير (12 أكتوبر 1992م).


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة