روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/21

نقاش باسليوس مع الوالي في قصر الجوهرة

                                الفصل العاشر: نقاش باسليوس مع الوالي في قصر الجوهرة


 لم يصدق باسليوس ما سمعه، وحين قبض على التوصية أحس نفسه حائزا منة جزيلة، وأن شمسا تشرق فيه، أحسن الشاب استغلال هذا الأسبوع، وكتب إلى صديقه الكاهن لوقا في دير  إسطفانوس عن أحوال رحلته فقال:

"عزيزي الراهب لوقا..

لست أستطيع أن أصف لك وقائع مغامرتي إلى القدس إلا وترتسم على وجهي ابتسامة حمد وشكران، فقد كانت أياما حافلة بالضياء والعجائب، اختلط فيها العناء بالروحانية، وامتزج فيها النَّصَب بالإلهام، وإنني أقول لكَ بأن المرء لابد له من كدح في هذه الدنيا ينسى معه آلام نفسه، ويخوض في خلاله تجربة ثرية تضيف إلى وجوده وجودا، وليس أَدْعَى إلى الكآبة من نفس أمنت حاضرها أمان الاستسلام..  

 

أنبئك بأن مسلمي القدس أحسنوا استقبالنا، نحن وَفْدَ المسيحيين، فإذا وصفتُ لك هيئتَنا قلت: كنا حاملي أقفاص من الشموع، أرانا متأهبي النفوس بالبشارة، وقد نُصح لنا بأن نلزم زينا من الأزرق والأسود، وألا نخرج عليه أبدا، وألا نلبس العمائم البيضاء لئلا نستثير حفائظ المسلمين هناك بمنازعتهم في الهيئة، وقد استقبلنا رجل كريم النَّحيزة مسلم الديانة معروف في القدس اسمه يونس، أصَرَّ على مناداتنا بأهل الكتاب، وأجلسَنا في بيته، وألبسني بنفسه عمامته البيضاء حين تلمس فيَّ هذه النزعة الدينية القوية، ولِيُعْرِبَ عن خلو سريرته نحونا من الضغائن جهز لنا أطايب المأكولات، وفرش لنا الأرض بأوراق الشجر، ودعت لي ابنته سارة بالهداية، التي هي تعني في أعرافهم الدخول في دين الإسلام، والانتظام في شعائره، وكانت سارة ذات حجاب غليظ لا يُخفي وجهها كله، وسألتها عن مصير الأقباط في مذهبهم فلم تجبني الفتاة خجلا، وذكر أبوها آية ما زلت أحفظها لسعة المراحم التي تقطر منها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ*، وفي مساء اليوم رأينا الشهب وهي تمرق من السماء فاستشعرنا عظمة الرب، واقشعرت فرائصنا دون خوف، وناجيت الرب بأبي وقد امتلأت بالفخار والاعتزاز وأنا أرصد آي قدرته، وتجليات بأسه، ورأيت وجه سارة يومض بلهب الضوء فكانت جميلة الطلة، رائعة العينين، حتى أنني استوحشت الساعة التي تركتنا فيها ديار يونس، قبل أن يساورني هذا الندم لشعوري بالإساءة إلى كوثر، فتاة الجبل التي سبق أن حدثتك عنها، بما أقدمت عليه من التماهي مع غيرها، والندم شعور كالظلام الزاحف يسلب من الأرواح زهوتها..

 

وفي الغد زرنا عين كارم، كنيسة يوحنا المعمدان، حقل الرعاة، ثم توجهنا إلى بيت لحم لزيارة مغارة الحليب، وكنيسة المهد، ثم عرجنا إلى مدينة أريحا، وصعدنا هناك إلى جبل التجربة وزرنا الكنيسة التي فى قمته، وقد غلبني الإعياء هناك لكثرة تنقلاتنا حتى أنني تقيأت، وخجلت وسط الرهبان، وقد قال قائل منهم بأن الشيطان يخرج مني، وإنهم لا يدرون حقيقة وضعي في الحكومة، وصِلتي إلى الوالي، ولو أنهم عرفوا لتحفظوا في أحاديثهم، وتملكهم الرعب الذي لا يعودون بعده كما كانوا، مثلما لا أعود بعده كما كنت،.. ثم توجهنا إلى شجرة زكا، قبل أن نطل على وادي قمران، وذكر لنا راهب تقي أن فيه اُكتشفت مخطوطات العهد القديم، وبعد ذلك انتقلنا إلى بحر الشريعة، ونزلت مع عدد قليل بالملابس البيضاء للتبرك هناك، وعند جبل الزيتون حظينا بإطلالة على مدينة القدس من أعلى الجبل، ولم ننسَ بيت فاجي ثم كنيسة الصعود وكنيسة أبانا التى توجد بها كتابة للصلاة الربانية بجميع لغات العالم، وكنيسة الدمعة، وبكيت هناك حيث بكى السيد المسيح، هذا قبل النزول إلى بستان جثسيمانى في شرق أورشليم، وعرفت أن الكلمة الآرمية تعني معصرة الزيت، وأن البستان كان خلوة المسيح مع تلاميذه من أجل الصلاة حول أشجار الزيتون العتيقة، وفقدت سعادتي بالبستان حين أدركت أن فيه وقعت خيانة المسيح في الليلة الحزينة التي سبقت فاجعة صَلْبِهِ، وبعد ذلك زرنا قبر القديسة مريم العذراء، وتذكرت غبار مغارتها الذي عفر به أبي جبهتي، وما زلت أسير في هذا العالم الفسيح ببركته، وانتقلنا إلى كنيسة القيامة والكنيسة القبطية ودير السلطان،.. وقد كنت وسط طائفة من الرهبان ولكنني لم أشعر قط بوجودي بينهم، وفي الرحلات الجيدة لا يشعر المرء إلا بنفسه، وقد سمعتك تقول يوما، عزيزي لوقا، بأن الأوقات الجيدة تنساب، وصعدت إلى جبل التطويبات المُشْرِف على بحيرة طبريا، وبلغت معبد العظة على الجبل، وحين سمعت الحلقة الثالثة والأخيرة من العظة توقفت لدى عبارة:"فبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم"، ورأيت شبح إبراهيم باشا وأبي غالي يقتحمان خضرة الجبل، وتحفزت راغبا في أن يُكال للرجل الذي عربد في حياتي بنهاية تتوافق وجرم شنائعه، وسألت الرب أن يحجب عني خيالهما لئلا أعود إلى الأرض، وقد كنت أحلق في هيام السماء!

 

 هذا قبل التوجه إلى كفر ناحوم لزيارة منزل حماة التي شفاها السيد المسيح من الحُمّى، وصعودنا الشاق إلى جبل طابور لزيارة كنيسة التجلى، وهناك توارت نفسي عن نفسي، وذابت ذوبان الثلج في الأيام الدافئة، وعند نهاية الرحلة، زرنا جبل صهيون، حيث قبر الملك داوود، وتوجهنا إلى منزل قيافا، حيث حُبس المسيح، ومررنا بالتتابع على كنائس القديسة حنا وبير سلوام والجلد، حتى بلغنا كنيسة القيامة التى تحتوي على الجلجثّة (مكان صلب المسيح)، وعمود الجلد ومكان التكفين والقبر المقدس، وسألت عن المدة التي قضيناها طوال هذه الرحلة الرائعة فقيل لي:

- شهر،.. لقد مر شهر!

وصُعِقْتُ عند سماع الجواب كأنَّ أحدهم ألقى بي من شاهق، وأدركت أن محنتي مع الوالي ستتواصل حين عودتي إلى مصر، وأن عقابه لي مجهز سلفا، لولا أنني فُوجئت به يسألني عن أخبار الزيارة، وأحوال التجوال، وقد أحسن دوس أداء مهامي فلم يحدث في الديوان اضطراب كبير، ولم يتعكر سير العمل كثيرا، وتلمست من الباشا وجها طيبا، وما لبث أن فهمت أنه إنما كان يستفسر مني عن زيارتي إلى القدس ليقف على حقيقة جغرافيا الشام، وطبيعة سكانها، لما كان يُعِدُّ نجلُه إبراهيم باشا لغزوها بجيش عظيم جرار، فأدركت سذاجتي، وسعدت بها!

 

كان فيضان هذا العام 1826م هو أفضل فيضان منذ سنوات عديدة، وقد أزعجني ما عرفته من أن أخي دوس استغل غلاء أسعار الفول، فأرسل أربعين ألف إِرْدَبّ من هذا المحصول إلى فيرناندز في لجهورن، لبيعها لحساب الباشا، مما ضايق التجار في مصر، وزاد من شظف معاشهم، وكان هذا جُزْءًا من سوء تصريفه للأمور في غيابي، وحين أظهرت الباشا على أسباب امتعاضي قال:"إن أخاك أفضل منك!".

 

وفي غضون الأعوام التي أعقبت زيارة القدس، كتب باسليوس خطابا آخر إلى لوقا أورد فيه الآتي:

 

"عزيزي الراهب لوقا..

لا أستطيع أن أَرْقُبَ غزوات إبراهيم باشا في الشام إلا بعين الحاسد، وقد ساقت الانتصارات المتتالية التي حققها هناك العقول إلى سكرة من النشوة تكاد تكون هي الجنون، وحتى لقد سمعت موظفي الحكومة يقولون بأنه فتح عكا التي عجز نابليون عن فتحها، وبأنه بما تم له هناك وفي دمشق وحمص وحماة من ظفر مبين قد تفوق على أعظم جنرالات فرنسا قاطبة، وهذه حقيقة مُختطَفة يعوزها ذكر السياق الكامل للأمور، فنابليون دي بونابرته انخرط في الحروب النابليونية العظيمة حتى دانت له إمبراطورية كبيرة سيطرت على معظم أوروبا القارية، وإذا فشل حصاره لعكا فذاك لاستبسال حاميتها، وأما إبراهيم باشا فليس له من المآثر غير هذه، ومقارنة القائدين تندرج تحت بند المبالغات التي تحفل بها نفوس العالقين في الحاضر أكثر مما يجب، والحقائق المختطفة أسوأ من الأكاذيب الصِّرفة التي يسهل دحضها لوضوح العوار فيها،.. ومع حقيقة كونه (إبراهيم باشا) الساعة الحاكم الفعلي لسوريا فإنني لا أستطيع أن أرى فيه إلا قاتل أبي المعلم غالي أبي طاقية، وإنني أجتهد في كتم غضبي من أحاديث الناس، وأخشى لحظة الانفجار، وفي زفتى كانت لحظة من النزق والرعونة لن تمحوها في ميزاني سنوات من المجد ولو في أقصى الأرض، ولا أتصور مجيء اليوم الذي يتبوء فيه الرجل عرش مصر إلا ويغلي دمي، وقد تهربت من الوقوف في ممر شرفي أُعد له بعد عودته من الشام متحججا بالإعياء، وإنني أندفع إلى تأكيد الرأي الأوروبي الذي يشكك في نَسَبِهِ (أي إبراهيم باشا) إلى محمد علي، لأن رجلا صنع ما صنعه لا يمكن إلا أن يكون ابن الشيطان، أو مَسْخًا أوجده الحرام في ليلة حالكة،.. وإذا أردت أن أخرج من هذا كله إلى شيء من الإنصاف لذكرت لك، عزيزي لوقا، الرأي الذي يتبناه عوام المصريين عنه:"إنه قائد موهوب، لم يغادر أبجديات القيادة وأصولها إلى ملذات الهرج والمرج والخطابة والربابة، سواء أكان ظالما أو مظلوما.."، وفي العبارة الأخيرة بيت القصيد، ولعلي أُعقب على حديثهم فأقول بأن قيادة أُسست على المظالم لن تقوم طويلا ولن تدوم، ذلك أن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، وللباطل جولة ثم يضمحل وللحق دولة لا تنخفض ولا تذل، مثلما يردد إخواننا المسلمون، ولست أعجب بعدئذٍ حين أسمع أن الرجل الذي حقق كل هذا لم يَحُزْ بعد رضاء السوريين أو قبول العثمانيين.

 

بالأمس ناقشني الوالي مع غيري فيما ينوِي الإقدام عليه في مستقبل أيامه، وإذَا بدا جلوسه على العرش بطول هذه السنين أبديا فإن تطلعه في الأيام القادمة عظيم لا يعرف سَأَمًا، استدعاني في القصر وأولمني وأجلسني على مائدة عظيمة هي ذات لحم حنيذ، ونبيذ (امتنعت عنه)، مع صفوة رجالات الحكومة، وجاء من عطر الجلسة بالكافور، وابتسمت مرة، وكان على يميني كلوت بك، الطبيب الفرنسي المعروف، الذي قال لي:

- باسليوس، هل تبتسم؟ إن المسيحيين لا يعرفون الابتسام، إن نسختهم التي عاشرتها في مصر تعادي مَسَرَّات الحياة !

وقلت:

- لقد تحدثت مع مولاي في هذا الشأن، وقد ذكرت له أن الحزن العميق فيهم باعثه الطبول التي دُقَّت على رؤوسهم!

عَلَّق محمد علي:

- إن أفراد أي جماعة يتطبعون بميراث أجدادهم.

وعاد كلوت بك يمزح:

- باسليوس ليس مسيحيا إذن.

 وقد بدا أن جعبة الوالي لم تَخْلُ من طموح الغزو، مع الحرص الذي تتسربل به كلماته، وأن عينه متطلعة على الأناضول، مع التردد الذي يكبح جموحه، وهو نسيج وحده مختلف عن نجله إبراهيم، لأن فيه فضيلة الندم والازورار بعد الجموح، ومهما يكن من شيء، فلقد غلب على الوالي يومئذٍ الإيمان بالظن في أن ما نجح في نجد وسوريا قد يتأكد ويتكرر في الأناضول، والأمور تندفع إلى مواجهة محتومة مع الدولة العثمانية، لأن سفينة لا تسير برُبَّانَيْنِ طويلا، وقد وجدته واقعا في أسر هذه الإغراءات الأوروبية التي تُهَوِّن عليه الفكرة، وسألني:

- حدثني بالمشورة مثلما كان يفعل أبوك غالي.

وكان هذا اختصاصا وتشريفا عجب له كل من سمعه، وحديث منحني على الطاولة مثابة لم تكن لي قبله، قلت مستأنسا بالمظلة التي أعطاها لي:

- فإذا تكالبت فرنسا وبريطانيا وروسيا على أسطولنا في نافارين بعد انتصاراتنا في اليونان، فهذا شاهد صدق على سوء سريرتهم، وما حدث في اليونان سيتكرر في إسطنبول حين يزيد الحد.

وهاجمني الرجال الجلوس بضراوة:

- ومن ذا يقرر هذا الحد؟

 - صاحب السلاح الأجهز والعتاد الأوفر من يرسمه.

وكانت هذه إشارة واضحة إلى القوى الثلاث العظمى لم يتحملوها فقالوا:

- الحدود يضعها صاحب النار والبارود؟ وأين الحق؟ إننا أصحاب الحق، وقد طال المطال جدا بهذا الكيان العثماني الرجعي، وآن لديار العرب والإسلام أن تتطهر من تبعيته.

قلت:

- الحق دون قوة أعرج، والقوة بلا حق عوراء، والحكيم من استشرف العواقب قبل أن يتورط في الأفعال.

تساءل الباشا:

- لماذا يحببون إليَّ إسقاط هذه الدولة العليلة إذن؟

كان الوالي غاضبا من التباس الحقائق في ذهنه، فقلت:

- لعلها المصيدة ينصبونها لك ولنَّا، مولاي..

وتحدث جلوس المائدة وتَبَارَوْا في تزيين سبيل الحرب له:

- لا تسمع للقبطي فحديثه كنعيق البوم! سينجح نجلكم إبراهيم باشا دون كثير عناء في إسطنبول، يسمونها الدولة العلية وهي الدولة العليلة!

قال رجلٌ:

- سنشرب نبيذ الاحتفال في قصر طوب قابي.

ردَّ آخر:

- لا نريد النبيذ لأنه حرام، ولكننا نروم القصر المنيف!

- أجل، القصر هو حق لنا.

- القصر حلال!

وانفجروا ضاحكين، وتحدث بعض قادة الجيش عن أن المحاسبين والكتبة من مثلي لا يصح أن يُدْلُوا بدلوهم في مسائل الحرب، وأن اختفاءهم وراء الدفاتر مَرَدُّه جُبْنٌ فيهم دفين، حتى قال قائل منهم إنه على استعداد أن يمنح جوهرة لمن يجيء له بمحاسب غير رعديد، لقد ذكروا هذا كله دون أن يمنعوا أنفسهم من الحديث عن ميزانية الحربية التي لا تكفي تطلعاتهم، ولو أنهم يقدرون الاختصاص حقا لصمتوا ولكنهم لا يسايرون إلا حديثا على هواهم، ومن الخير أن هذا النقاش كله لم يجد عند الوالي اهتماما أو يقع من نفسه موقعا، لأنه يخبر بفراسة مخلصة الفارق بين النصيحة الحقة وبين أحاديث الموائد والأسمار المغالية، وأن بعض الجرأة هي تَهَوُّرٌ، وأن لسانا أطلق الخمر عقاله ليس كلسان متحفظ يعرف أين يرسل الكلام، ولقد كانت نصيحتي سببا في وجومه، وآمل أن تكون بعد ذاك سببا في مراجعته، وبعض أكبر الدروس نتعلمها مما يزعجنا.

عزيزي لوقا، إنني أحسد كهنة الرب، ذلك أن معابدهم على الأرض هي منافذ على الجنائن العلوية والجنات، وهم بمنأى عن التشبث بهذه الزهوة الزائلة التي رأيتها في قادة الجيش، وما اختلط المرء بالناس إلا وتسممت نفسه، وفقد صبره، وغَشَتْهُ سحابة إحباط، ومن أجل ذلك كانت العزلة مآل طالب الحكمة في زماننا هذا ولا غرو، ولقد كانت أيامي في القدس وفي دير الصعيد خير أيامي التي إليها كل الأشواق..".

     رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


**

هذا النهار تناقش باسليوس مع الوالي بصدد الميزانية الجديدة في قصر الجوهرة، لقد تحدثا عن الضرائب المفروضة على الحِرَف والصنائع، قال باسليوس وهو يقلب الدفاتر بين يديه في تركيز وحماسة:

- فرضنا على الحدادين والنجارين والصاغة وصانعي السلاح والنحاس وبائعي شراب العرقسوس، والصرماتية (الأساكِفَة) والسراجين (المشتغلين بصناعات الجلد) ضرائب مختلفة، وأما على المزيكاتية (الموسيقيين)، والحواة من الغجر وغير الغجر؛ فاثنين وأربعين كيسا.

تساءل الوالي في فضول ضاحك:

- ماذا عن بنات الهوى؟

تأمل باسليوس النقوش الذهبية من طراز الروكوكو، المتميزة بالمنحنيات الزخرفية المتكررة والمناظر الطبيعية من تكوين القصر العثماني الطراز، وقد أخجله السؤال قليلا وإن ظل ملازما للرسمية في الجواب عنه، قال:

- بنات الهوى مثل المزيكاتية والحواة، مولاي: اثنان وأربعون كيسا..

علَّق الوالي ضاحكا:

-قسمة عادلة، لأنهن يتلاعبن بالشعور مثل الطائفتين..

- وإنني أسألك أن نعفي الشحاذين والحانوتية (حفاري القبور) والندابات منها؟

اعتدل سرور الوالي قليلا، وقال كأنه يستقري حقيقة جديدة:

- تملك قلبا رهيفا، باسليوس.

- العمل مع مولاي يكسبني مثل هذه المناقب.

وانتهت مسرة محمد علي وهو يقول في جدية مقبضة:

- مولاك لا يملك هذه المناقب، إنني قنوع بأن الشيء النبيل هو النافع، ومؤمن كذلك بوجوب تضحية الفرد من أجل الجماعة، وبالأمس أمرت بإلقاء ساحرة مشعوذة في النيل، لأنها ضللت الناس بلا حياء،.. معظم البشر يحصلون على أكثر مما يستحقون، باسليوس، ومنهم من لا يستحق حتى شعاع الشمس..

واستأنف باسليوس القراءة فجعل يقول:

- وإننا نرى تعديل الضرائب الجمركية على بعض السِّلَع كالعنبر والمسك والعود والزيوت العطرية والشاي والكشمير، في كل مئة خمسة قروش، وفي المئة قِرْشانِ على اللؤلؤ والمجوهرات،  (ثم وهو يقلب الورقة..) وفي المئة أربعة قروش على صنف الكهرمان.

لم يكن محمد علي منتبها حقا إلى حديث باسليوس ولكنه طرب لوجود أبواب كسب كثيرة، كان الوالي مُحَمْلِقًا إلى سقف القصر الخشبي وبدا بصره عند ألواح الجص الملونة طوال حديثه، قال منفعلا حين انتهاء باسليوس:

- عفارم! مثل أبيك غالي وأفضل، وفرخ البط عَوَّام، ولا تنسَ تعديل الضريبة الجمركية على دخول المشروبات الكحولية إلى ميناء الإسكندرية، هؤلاء المعربدون من قناصل الدول الأوروبية يجب أن يدفعوا نظير ما يحصلون عليه من فخفخة في بلادنا الفقيرة!

قال باسليوس في حس خافت:

- أصبت ناصية العدالة، مولاي.

نظر الوالي إلى مجموعة الصور المعلقة على الجدران وكانت تمثل قصص ألف ليلة وليلة، قال:

- لا يمكن أن أكون عادلا بهذه النبرة الخافتة التي سمعتها.

وتردد باسليوس وزاد اضطرابه حين سأله الوالي:

- أين جافيْت العدالة؟

قال باسليوس وَجِلًا:

- فردة أهل الذمة، ناشدتك الله أن تنظر في أمرها..

قاطعه محمد علي وقد فَقَهَ إلى المرام:

- الجزية؟! هذا جزء من تراث عصر السيادة الإسلامية على مصر، ومبادئ القرآن الكريم.

نظر باسليوس إلى صور الحائط المعبرة عن ملابس الموظفين والأتراك في القرن الثامن عشر الميلادي، قال:

- بل هو جزء من تراث السيطرة العثمانية التي تطمحون إلى إلغائها وعهد أمين الجوالي (مأمور التحصيل) والجزية دار*.

وجد محمد علي في حديث باسليوس جديدا حقيقا بالاهتمام، تساءل:

- كم كيسا نتحصل عليه من الذميين سنويا؟

اضطرب الصليب الذي على صدر باسليوس:

- بين ستمئة وأربعين إلى ثمانِمئة كيس من أصل نحو 480000 كيس، مولاي، إنها لا تشكل ثقلا في واردات الخزينة المصرية، ومنعها لن يؤثر في قليل أو كثير، ولكن له رمزية إقرار التساوي، ولنعامل الأقباط كحفاري القبور بإسقاط الضريبة عنهم!

ضحك محمد علي من الحديث الأخير وهو يقول:

- هل تدري لِمَ طلبتُ من جوزيف أنتيلمى سيف أن يبدل اسمه إلى الكولونيل سيف ثم يغدو اسمه سليمان باشا الفرنساوي بين الناس؟ لأنني لا أحب وجع الرأس، باسليوس،من أجل ذاك دخل الرجل في ملتنا قبل أن يشكل النواة الأولى للجيش، وإذا ألغيت الجزية لقال العوام بأن محمد علي باشا يعطل أحكام الله النافذة عبر قرون، وتَقَوَّلُوا عليَّ بما يثير حفيظة النفوس، وستجد أحمق ينفخ في الكير، ومأفونا يهيج الثارات دائما، لأن الله لم يهب العقل للجميع، إنهم ليزعمون أن فردة الرؤوس التي تشكل سدس الميزانة المصرية بدعة،  ولا نريد أن نهبهم حبلا آخر للجدل الفقهي، ومأخذا للقيل والقال.

قال باسليوس وقد اعتوره يأس من تعطل أمنيته:

- أحكام الله هي العدل والإحسان بين العباد، مولاي، أوصلتنا قوانين العثمانلي إلى الحضيض، المسلم أخو القبطي في دولتكم التي خرجت من رحم التناحر الطائفي.

- سواد الأقباط لا باع لهم في الحرب، وهذه الجزية الزهيدة تعويض عن تخاذلهم في هذا الميدان.

- ولكن..

قاطعه الوالي:

- ها قد بدأت تشبه غالي في تلك الوجوه التي كانت تزعجني منه، إنني شديد الحرص على إعطاء الأقباط إيصالات بالمبالغ المطلوبة لئلا يكونوا عرضة للمطالبة بها مرة أخرى، هذا غاية ما أستطيعه، باسليوس، اِيتِنِي بِاسْمِ حاكم مسلم غيري في القديم أو في الحديث منحكم البكوية وعينكم مستشارين له، لقد أمرت يوما  بنصب المشنقة بالقرب من عامود بطليموس لمن قتل مسيحيا وألقى بجثته في البحر، إنني لم أفرق بين مسلم وقبطي لأن الشخص إذا أريد أن يؤدي واجبه على أحسن وجه، وجب أن يكون محترما بين الناس،.. لن أولي وقتا أكثر من هذا لمناقشة مسألة ثمانمئة كيس.

أصاب باسليوس الحزن فتحدث محمد علي:

- لا تشغلني وتشغل نفسك بالصغائر وأمامنا كبريات المسائل لم نَبُتَّ في أمرها بعد، فلتسمع لي: إن واردات موانئ رشيد ودمياط والإسكندرية لا تزال بيد الأسطول العثماني السلطاني، خير الأمة المصرية يُضبط إلى الترسخانة السلطانية (الأسطول العثماني)، يجب أن نجد حلا لهذه السرقة المستباحة، لأن السكوت عن الحق يكسب أهل الباطل شرعية، تكبدنا خسائر فادحة في حرب الاستقلال اليونانية ولم نَحُزْ ما نستحقه من السيادة على سوريا.

قال باسليوس:

- ليتك تجد حلا غير الحرب، مولاي.

- إنني لا أجد حلا غير الحرب، باسليوس.

صمت الرجلان وقد بدا أن نقاشهما قد بلغ منتهاه، فتساءل الباشا:

- وأين جافيت العدالة أيضا؟

لمعت عينا باسليوس لمعة نبيلة وحزينة، قال:

- ضريبة النخيل، وهذه مسألة شديدة الحساسية، ولقد فقد أبي غالي سيرجيوس حياته بسببها، ولست أرى نفسي إلا نجلا عاقًّا إن كتمت أمرها عنك، إنها بين قرش وقرش ونصف وقرشين، وكانت تفرض على إناث النخيل دون ذكورها، قبل أن تفرض على الإناث والذكور قبل عدة أعوام (يريد عام 1819م)، وتغدو أكثر الضرائب التي تثير استياء القرويين.

- وماذا ترى من التدابير في سبيل إصلاحها؟

استحضر باسليوس صورة أبيه غالي في نفسه، قال:

- مثلما كان يرى أبي: ألا تُجبَى إلا بعد مرور عشرة أعوام من عمر النخلة!

وعد محمد علي باسليوس بالاستجابة لرأيه في قادم السنوات، لا يزال الوالي يتألم لسماع أي مسألة تتعلق بقتل مستشاره غالي، تلك الرصاصة الطائشة في ميت غمر؛ لا تزال تدوي أصداؤها في ضميره، قد يحرك عزيز مصر الجيوش إلى الجزيرة وإسطنبول ودمشق ولكنه يبغض الغدر، لقد استأصل شأفة المماليك لأسباب تتعلق بمنازعتهم له في الحكم، ولكن.. ما جريرة غالي أبي طاقية؟ ما خطيئة كبير المباشرين الذي لم يُبْدِ تجاه القصر إلا العون والانصياع؟ وما خطره؟ إن دماءه ستظل تصرخ إلى الأبد،.. ابتهج باسليوس بما انتهى إليه اللقاء وأسرع يكتب رسالة إلى صديقه كاهن دير إسطفانوس : لوقا، ولقد أورد فيها حقيقة الاعتزاز الذي شعر به وهو يغادر قصر الجوهرة، وأن دماء أبيه لم تذهب بعد اليوم هَدَرًا إذا حدث في فردة النخيل إعادة نظر، وحتى لقد أحس أنه إنما يبارح الدير لا القصر، كذلك طلب في رسالته من كهنة الدير الدعاء لخاله فرنسيس يقول:

-    "إننا أسرة كاثوليكية الجذور، إن اسم فرنسيس منتشر في الأوساط الكاثوليكية دون غيرها، نسبة وطلبا لشفاعة القديس فرنسيس الأسيزي*، مؤسس رهبانية الإخوة الأصاغر، والذي لا شك فيه أن كنيستنا القبطية الأرثوذكسية في وقتنا لم تكن تعرفه، وإلا فلم تكن لتترك أبناءها يعطون مواليدهم أسماء قديسين كاثوليك، وإذا حظيَ فرنسيس بالدعاء منكم كان هذا شفيعا له، لما كنتم تملكون مفاتح الصفح والعفو، ولا تظنوا به الإلحاد أو الهرطقة مما ليس فيه لأن الرجل كان مؤمنا بالله على طريقته، وهذا مما تبين لي في خواتيم أجله القصير..".

 ولكن باسليوس بعد حماسة المراسلة لم يظفر بأيِّ جواب، ولعب القلق في نفسه، وظن أن كهنة الدير استبعدوا جواز طلب المرحمة لخاله، على ما أبداه لهم من وجوه حسن سيرته، ومداخل الاستغفار له،.. سرعان ما سافر بنفسه إلى دير الصعيد، لم ينزع الشاب حذاءه حين دلف إلى دير إسطفانوس لأن الاضطراب أنساه الآداب، ومضى إلى القسم الفوقي المنفصل عن بقية الدير بحاجز يتوسطه باب ينسدل عليه ستار، مرسوم عليه طايب كبير، وسأل عن الكاهن لوقا فوجد الشمامسة والمرتلين في وجوم عظيم، كان بين أيديهم لوقا المسجي وقال أحدهم:

- لقد تنيح الرجل الفاضل، وارتاح من غدر هذا الزمان..

ارتسم الذهول على وجه باسليوس، جف ماء فمه نصف الفاغر، وقال:
- هل وصلتْه رسائلي الأخيرة؟

خرج من بين الجمع قسيس يقول:

- أجل، ولقد سر بها أيما سرور، لقد أوصاني بأن أبلغك رسالته وهو على فراش الموت: قال فإذا جاء باسليوس يسأل عني فأخبره بأنه سيجدني حيث يجد تعاليم الرب، وسيجد تعاليم الرب في الحب، ولقد عثر على الحب في الجبل.

تفهم باسليوس الرسالة الخافية وراء وصية لوقا، إنه يدعوه إلى البحث عن كوثر، وذرع طريق العودة إلى جبل المقطم مشغول البال، أثقلته الوصية حقا، لقد مر بغابة النباتات المتحجرة وتذكر مسيره هناك رفقة كوثر في الأيام الخالية، وهذه كبخانة الجنود ومنها كان ينبعث القواصة مسممين الحياة كالهَوامّ، وفي شِعْب الجبل تذكر صالحة والرجال، ها هنا كاد الثعبان يودي بحياته، وذرف الدموع وهو يقول:

- بائسٌ مصيري، لقد عشت أكثر مما يجب..

وسمع نهنهتَه غلامٌ فعرفه ودلف إليه في الشِّعب، كان باسليوس كالساجد وتحت عينيه أثر الدموع ككوب مسكوب، فما أن تلمح باسليوس الدالف حتى اعتدل وسأله:

- هل تعرف أين ذهب البوهيميون؟

وأبدى الغلام عجبه في حس لم يتشبع بأثقال الحياة بعد:

- الغجر؟! ألا زلت تذكرهم، سيدي؟ ومن أنت؟

أجاب باسليوس بأقل اعتداد أو زهو ممكن:

- اسمي باسليوس..

لم يشأ باسليوس أن يعرف الغلام بمكانته في الحكومة، ولم يزد في بيان سلسال أسرته المنتهي بغالي أبي طاقية، ولكن الاسم الأول كان كافيا لإحداث الذهول في نفس الغلام الذي اهتدى سريعا إلى حقيقته، وقال:

- باسليوس! إلهي! كبير محاسبي الحكومة! حدثني أبي كثيرا عن فضائلك، وقال بأنني إن كنت صالحا صرت مثلك، كان والدي من بين مهربي الأنعام في شِعْب الجبل.

تساءل باسليوس خافت الشعور:

- حقا؟ أهذا كل ما ذكره عني؟

دار رأس لوقا نصف دورة وارتفعت عيناه وهو يقول:

- حسنا، ليس هذا كل ما ذكره، لقد قال بأنك نسيتنا وأغفلت شأننا منذ حُزْتَ البكوية، وصار لك في البلد أمر كبير أغناك عن حياة الصعلكة في الجبل، وغدوا يسمعون بعد ذاك أخبارك كالناس.

بلغت اللهفة مداها في نفس باسليوس، تساءل مترققا وقد انبعثت في وجهه المرهق بشاشة:

-  أيها الغلام الطيب: هل تساعدني إذن؟ أين استقر موكب الغجر؟

ابتسم الغلام يقول:

- لا استقرار لمواكب الغجر، سيدي.

- هل أضعناهم إلى الأبد؟

-كلا، كانوا يعودون إلى الجبل في يوم الأربعاء من شهر صفر، لأنه يوم نحس يهجر فيه الناس منازلهم تقية الإصابة بالأمراض، فيتلقفون الخارجين بثعابينهم وسيرهم على حبالهم المشدودة، يؤدون العروض بكلابهم وهررهم الذكية التي تستهوي الأنظار، لَشَدَّ ما أحببت طرائقهم! فلم يزعجني منهم إلا يوم وضعوا الأحجبة المغلفة بالحرير تحت إبطي اليسرى حين كنت طفلا، واليوم،.. اليوم، قليل هم ما يعودون!

انفعل باسليوس، وتساءل :

- ولِمَ حدث ما حدث؟ لَمَ هجرتْ أرجُلُهم خلاءَ الجبل؟

عجب الغلام من سؤال يطرحه الرجل الذي يحدد الضريبة في البلاد، قال بصوت عالٍ كأنه ينبه غافلا:

- الضريبة، سيدي، إنهم يخشون الضريبة!

همس باسليوس في سره:"ضريبة الحواة! اثنان وأربعون كيسا تفصلني عن كوثر!"، وللحظة تطوح الشاب في غرور الأماني، وانطوتْ أحزانه كسحابةٍ سوداءَ من الدخان يغزوها المطر الرطيب، كاد الغلام يمضي عنه وهو يقول:"ستجدني كل يوم هنا عند المغيب، متى تلون الجبل بالقرمزي، وبسط النسر الأشهب جناحيه على مملكة الخلاء.."، سأله باسليوس:

- وما اسمك؟

فأجيب:

- إن اسمي لوقا!

 

 اقرأ أيضاً :