روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/09

ما وراء الصداقة

                        الفصل العشرون: ما وراء الصداقة


توطدت صلة حسين بالمرشح النيابي حسن طُلَيْمات، والأخير جعل يقول وهو يشرب مشروبه المفضل : الحليب بالزنجبيل في جلسة بنادي سبورتنج بعد أن بدأ يومه بتناول الفوم (الثوم) الذي يطهر به معدته :

- أبي حدثني طويلاً عن استقالة بهاء الدين عن مجلس الأمة عام 1949م، لقد أحدثت ضجة في أوساط الساسة آنئذٍ، وسمعت من يزعم أن القصر تلقفها بالاستهتار والاستهانة، وبعد ما يربو على أربعة عقود لازلت أراها تكتسب أصداءً جديدة من نفاذ البصيرة، لقد تنبأ الرجل بالثورة وحذر منها الملك.

وأجابه حسين يقول وقد حمله حديث الرجل على الاعتزاز بسيرة جده التي لم يكن يعرف عنها الكثير :

- ليت أن فاروق استمع لما فيها من تبصرات واستشرافات.

- لقد سبق السيف العذل، كانت الحرب العالمية الأولى في جوهرها انقلاباً عالمياً على الملكيات إذ لم يكن في أوروبا كلها قبل العام 1914 سوى جمهوريتين يتيمتين : فرنسا وسويسرا، وقد اندثرت بعد الحرب وتدخل الولايات المتحدة تيجان الملوك تدريجياً وأمسك الشعوب تدريجياً بالصولجان،.. هلا أمكنك أن تخبرني بالضمانة من عدم تحول الحكم الملكي إلى طغيان؟

- صغر حجم جهاز الدولة، قلة نسبة الضرائب، و..

وقاطعه طُلَيْمات يقول وكان الآخر على وشك أن يضيف "وضع حدود واضحة للطبقات الاجتماعية المختلفة" كخاتمة لجوابه فبهت الحديث على لسانه للمقاطعة :

- صدقني، لا جدوى من السؤال أو الإجابة.

وعاد حسين يقول :

- أبي (يريد يوسف) يردد دائماً بأن الحكم الملكي هو أنسب الطرق لإدارة الأمور في بلدان العرب، ثمة مشكلتان رئيسان في مجتمعاتنا : تحالف الدين والسياسة الذي يصنع التطرف، وتحالف الثروة والسياسة الذي يشكل الفساد.

اعتدل طُلَيْمات في جلسته يقول وقد عد المشكلة الثانية تخصه :

- لا تصدق كل ما ينقل إليك، لا أحد يملك عصا سحرية لينزع أسباب الفساد في مجتمع، وأقسم لك أنه لو فعل لأنهار الجهاز البيروقراطي والإداري من فوره، ثمة مشكلات يصنعها الشعب لنفسه ولن يجرؤ مخلوق على الحديث عنها، إذ أن رؤية متأثرة بالمقولة : "إرادة الشعوب من إرادة الله" تضفي المعصومية على الجماهير اللاغبة الكادحة، وتنزه الجماعة - أقول رؤية على هاته الصورة غير قادرة على تشخيص مثل هذا الصنف من المشكلات : سأضرب لكَ مثلاً بالزيادة السكانية، وفي المثال يضح المقال، كان التعداد في مصر هو ست وعشرون مليون في العام 1960، واليوم (يريد العام 1993م) استحال إلى ستين مليوناً،.. لقد تضاعف عدد السكان في غضون جيل واحد، وحين أحصانا الفرنسيون الغزاة في مستهل القرن التاسع عشر كنَّا محض ملايين ثلاثة، وما من  معدل تنمية بقادر على أن يجاري هذه الزيادة الهَوْسَاءُ،.. بعض المعارضين لبرامج تحديد النسل لا يزالون يرددون أن كل زيادة سكانية هي قوة بشرية مضافة، وكأنك تستطيع أن تجاري أمماً متفوقة بجماعة من العراة الحفاة، إن الكم وحده ولو كثر لا يصنع الكيف، والأمر أشبه إلى من يلقي بالإسباغيتي على حائط كي يتحقق من جاهزيته إن حدث وأمسك به (الحائط)، (يشير إلى أسطورة إلقاء الإيطاليين للباستا على الحائط) وكان أولى به أن يحسن تجهزيه من البداية، إن أمة قوامها هو بضع ملايين تحسن تعليم وتنشئة أبنائها قادرة على أن تفرز النخب والنوابغ فوق أمة هي من مئات الملايين من قاطني العشوائيات وأطفال الصدفة.

وانزعج حسين من حديث الرجل فطفق يقول :

- إن مسألة تخلف أو تقدم أي مجتمع هي مسؤولية تشاركية بين سواده وبين نخبته، لقد عشت في باريس طفولتي وصباي وأعرف كيف تدار الأمور في المجتمعات المتحضرة.

- باريس ليس مجتمعاً صالحاً  كي يُتخذ كمعيار تُقاس إليه مجتمعات العالم الثالث، إننا "مازورة" أخرى، والمجتمعات القديمة على مثال مصر والعراق والهند يجب أن تتعامل بتواضع مع حاضرها المعقد، أذكر أن بعضاً من أصدقائي من ساسة الهند قد ذهبوا للحصول على الشهادات التعليمية من إنجلترا، إنه البلد عينه (أي إنجلترا) ذو التاريخ الاستمعاري الطويل في الهند، الذي حولت حكومته (الراج البريطاني) الكاست سيستم (نظام الطبقية الهندي) من فكر وعرف استمر لآلاف السنوات هناك إلى قانون، ولكن الحياة تمضي، ومن يسير حاملاً فوق رأسه ميراثاً من المظلومية ينتهي إلى نقمة الإخفاق والفشل..

كان طُلَيْمات قد أنهى حليب الزنجبيل وقد شعر بأن حديثه الأخير لم يصادف هوى في نفسه الشاب، وقد حاول التخفيف من حدة اعتراضاته باستخدام الوصف الموسيقي "مازورة" لعلمه بهوى محدثه الفني، وأتبع يقول :

- لقد حصلت على التسهيلات الضريبية التي كنت تريدها لنقل أدواتك الموسيقية.

وسر فؤاد حسين وابتهجت نفسه، ولكن استبشاره انكمش حين خطر بذهنه الحقيقة التي تقول بأن المصلحة تقابلها المصلحة في دنيا البشر، وسأله :

- لقاء ماذا،.. سيد طُلَيْمات؟

وأجابه الآخر في بداهة ثعلبية ماكرة تجتهد في التنزه من أغراضها :

- لقاء الصداقة..

- وماذا وراء الصداقة؟!

وابتسم طُلَيْمات كأنما كشف الآخر افتعاله للبراءة واللطف أسرع مما ظنه يقول :

- ستكون عضواً مهماً في حملتي الانتخابية..

وحضرت أسرة جديدة بالنادي الرياضي فجلست غير بعيد من الاثنين، قال حسين :

- لم أقنع يوماً بالحزب الوطني..

وقال :

- ليست القناعة هي المهم ولكن القدرة، إننا قادرون،.. (ثم في تململ) ومَن مِن النخب يعجبك إذاً؟

- أما ذكرت لتوك بأن الكثرة لا تصنع الجودة؟ لا أحد. 

وعلى هذا النحو حاول طُلَيْمات أن يبث في محدثه روح القبول بالانضمام، وقد نجح - بعد طول نقاش - في أن يحفر في ذهن الشاب مبتغاه كأنه حقيقة قدرية لا راد لها.

    اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص



في الولايات المتحدة..

عاد منير وآمال من الجزيرة الإيطالية بورانو إلى الولايات المتحدة دون أن ينجحا في إثناء عارف عن عمله كصياد هناك، وأخفق سعيهما في أن يسلكانه في سلك الطب، وكان منير يقول لصديقته وهما يمضيان في سبيل آخره مبنى المربية حواء :

- لقد حمله (أي عارف) العناد على أن يتشبث بما في نفسه، وذكر عن قصيدتي أنها ما كانت لتوصف حتى بالشعر في زمان قبل اليوم،.. ومهما يكن من أمر، فقد أعجبني رؤية الحِرف اليدوية هناك من زجاج مورانو إلى أقنعة الورق المعجن، وصورة البحر الوانية المستقرة بغير الأمواج والحواذي، آمل أن يحصل عارف على تاج من الرغوة من ملكة الأمواج هناك..

وقالت :

- لقد حدثتُه (أي عارف) في الأمر وأوردت له ميزات أن يخلف أبي وجدي في مهنة الطب إيراداً طويلاً، وبلا جدوى،.. الذكاء لا يفلح في إقناع المعاندين وأصحاب الرؤوس المتحجرة.

وسألها :

- كيف يزيد المرء من ذكائه إذاً؟

- حاصل الذكاء ليس كتلة عضلية تتحسن بالتمرين، وتجارب التلاعب في بنية الدماغ لا تزال تبوء بالفشل.

- لماذا كنتِ تتمرنين إذاً؟

- أردت القبول في جمعية العباقرة لا زيادة حاصلي حقاً.

حَرِدَ منير واستاء وطفق يقول وهو يدلف إلى دار مارتن :

- بل تملكين الأسرار التي تحتفظين بها لنفسك.

- الأسرار؟ أجل، الأسرار،.. التغذية الغنية بالشحوم والتعليم التفاعلي النشط مما يصل بالذكاء إلى سقفه الجيني.

- جيد،.. متى تبوحين بالبقية؟

- لا بقية،.. لعلك تحتاج إلى رقاقة دماغ.

وجعل الشاب ينادي يقول :

- مارتن! أين أنت؟ لقد عدنا، في الواقع لقد أخفقنا وعدنا، لدى الإنسان طاقة مذهلة في أن يفشل وأن يحتفظ بعزمه وجديته. (ومر ببهو البيت يقول) ما أسخف المقالب تدبرها لعائدين من سفر ذي وَعْثاء! (ثم وهو يلتفت إلى آمال فيما يأخذ يدلف إلى حجرة مارتن) إن لديه حساً اجتماعياً مشاكساً، ولقد علمتُه البريدج، وقد علمني البوكر والكونكان..

هناك ألفى منير صاحبه على حال من الإعياء الشديد مسجياً على الأرض، يتغشاه طائف الخور، إن لحدقتي عينيه اتساعاً واحمراراً، وإن في جسده رعشة وحرارة، وأما حُشاشته فتنطوي على تسليم ووهن، وتحرك منير حتى استقرت وقفته لدى لوحة طبيعية قرب صاحبه المسجي يقول وهو يرفع أطرافه التي بدت كالمخدرة حتى يسلمه إلى سرير، وإنها لثقيلة فوق وزنها الحقيقي حتى يكاد يشق عليه (منير) حملها:

- "إلهي ! ماذا نزل بك؟".

 ولم تتأخر الفتاة عن تشخيص حالته فشرعت تقول وقد تفجرت في قلبها شآبيب الرحمة :

- "إنها الأعراض الانسحابية لما كان يتعاطاه من الكوكايين.".

بخع منير نفسه غماً وحزناً على صاحبه حتى بدت بواطنه أحلك من غيابة جب، وقال :

- "يجب أن يتخلص جسدك من هاته السموم، أن تمسك عنها إمساكاً كريماً قبل أن تقبض على روحك، لقد أورثتْك الشقاء.".

وتحدث مارتن وقد تحسنت حالته قليلاً يقول :

- "الكوكا تسبب لي السعادة لا الشقاء،.. لماذا يعود المتعاطي إلى مادته رغم كل هاته الأخطار التي تحيط بها ويسمع عنها لولا أنها تسبب له سعادة بلا نظير؟ أشعر أنني أحلق على أكف السرور المنزه وقد تحققت المدينة الفاضلة حيث سادت الحقوقية والعدالة مع كل تجربة، أجل، أشبه إلى اليوفوريا الساحرة المحلقة..".

هز منير رأسه في أسف يقول :

- "بربك، فلتتحدث عن السعادة في سياق آخر، عدنا وقد رأيناك كمن تسمم بسيانيد البوتاسيوم، ولولا أن لطفت بك الصدف لكنت من الغابرين !".

- "أعلم أنني كنت أقرب إلى جرو يحتضر، ولكن هذا كان بسبب شحة ما بقي لي منه لا بسبب التعاطي نفسه.".

- "السعادة التي يراها الحكيم هي في رؤية الحقيقة ولو كانت قاتمة شاحبة، وأما الوهم فيبقى وهماً ولو صُبغت تخرصاته بأجمل الألوان..".

هناك أحس مارتن بالصداع الشديد ولكنه جعل يقول :

-"ما الوهم؟ وما الحقيقة؟ إن حجم الأرزاء في هذا الكون يجعله غير قابل للتصديق، إذا أنت بصرت الوجود بأعين أخلاقية خلصت إلى كونه مزحة، لقد ذكرت لرواد محطة القطار يوماً أن التسعينيات هو عقد رائع البشائر، لقد خذلني الاستبشار وأغراني الأمل، وفي التسعينيات يمضي البشر كعاداتهم في وحشية وبربرية : حرب الخليج الثانية، الحرب الأهلية الرواندية، ثورة الطوارق في مالي والنيجر، حرب الاستقلال السلوفينية، حرب جنوب أوسيتيا،.. إنني أتضرع بصدق إلى الرب أن يظهر فاحتجابه لم يعد سائغاً، إنه وحده القادر على أن يبسط العدل ويقيم الميزان، لقد أرسلت إليَّ أسرتي التي في مالي رسائل تصور لي فيها فزعها من جرائم تدبر ضد المدنيين هناك، إن من غير المنصف أن تنسب كل هذا الإجرام إلى مذهب أو إيدولوجية أو فكرة، بل قل هي طبيعة فينا متأصلة تحدرت من وحشية إنسان الكهوف بلا مغيث، لقد تفطنتُ إلى حقيقة أنني إنما أحدث الموتى وأناجي من يهيمون في ملكوت هو غريب عني.".

وعاد مارتن ينظر إلى صاحبه وكان صداع رأسه يجعله يلفظ بالحديث في تدافع وفصاحة بيان :

- "أنتَ أيضاً، أجل، أنت ! لقد حدثتني عن حياتك بالإسكندرية، من وهم الانتساب وحتى فزعة الفقد، لقد هربت من المدينة الصغيرة، من نوائبك وأحزانك هناك، وقد حضرت ههنا كيما تتوه في كيان أكبر، كان هذا صنفاً من التخدير الذي مارسته وتنكره عليَّ، الجميع مخدرون، أنا وأنت والجميع،.. أريد أن يعيش البشر بلا غيرة أو حاجة، أن يتحقق الأمل في الحريات الأربعة، هاته التي أوردها روزفلت في خطابه الشهير الذي سبق تدخل أمريكا في أكبر الحروب العالمية المعروفة : حرية الرأي، حرية العبادة، التحرر من الحاجة، ومن الخوف، أريدها اليوم لا كمبرر لحرب أو توطئة لتدخل ولكن واقعاً معيشاً من الأمن..".

هناك أطرق منير وصمت وعلا عزف الهارمونيكا، كانت آمال قد تسللت وعادت بالآلة حرة الريشة، أحس مارتن الخمول ونام نوماً ذا غطيط على أنغام القيثار التي كانت بأَنْشَازها جديرة بهاوية ومجربة. 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..