روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/08

فلتلمس قدماك الأرض من جديد

                       الفصل التاسع عشر: فلتلمس قدماك الأرض من جديد



في أبي تيج..

كان عبد المجيد قد وقف قبالة هذه المرآة يتأمل هيئته في زهو، فيضبط عباءته الصوف ويتزين بخاتم الياقوت، ويحني شاربه الكثيف - كأنه شارب نيتشه الشهير - ويكحل عينيه، ثم يرش العطور والطيوب اللتين تشرعان تتضوعان في جنبات حجرة النوم وتتنثر ذرارتهما على صدر عباءته ورقبته، فيرجع النظر كرة أخرى، وطال به المطال حتى أتته بدور تقول :

- من أسرف في النظر إلى المرآة أصابه الجنون..

وتأفف يقول :

- متى تذرين هذا الملام السخيف؟

وجلست إلى السرير قرب وسادة من الإِبْرَيْسَم تقول :

- ما ينبغي لكَ أن تكره النصح والناصحين، لقد فقدت بكراً وقد كان خير من يسدي إليكَ بنصح غالٍ نفيس، وإنه لأَشْوَس أمين،.. وقد حال بينك وبين معاش الريفيين البون منذ اتخذت فأس خشب الزيتون للزينة لا للعمل، وتناست يداك التحطيب وتقطيع الأغصان والحراثة، أجل، وقد أفسدتك بطانة السوء وعلى رأسها اللعين مؤنس، فلم تفِ بنذورك في إقامة العدل ولا إقرار الوفرة وكأنك المتغافل عن مداولة الأيام..

والتفت إليها يسألها في هدوء :

- حسبكِ، حسبكِ،.. هل ترينني هولاكو هذا العصر؟ ماذا تريدين مني بالضبط؟

وقالت فيما يشرق وجهها بأضواء نهارية تحدد وجهها المُرهَق المشغول :

- أن تعود تلمس قدماك الأرض من جديد.

وانفعل الرجل يقول :

- ما رميتني إلا بالسوء مما ليس في،.. وإذا أنتِ لا تعرفينني فإني بنفسي عليم.

ووهبها نظرة صامتة ثم هبط إلى السبيل كأنما يتقي فورتها، وقد صارت المرأة كثيرة النقد له عظيمة الاستهجان باستهتاره، وجعل يهمس في تحامل الغضب :"لا بأس،.. إنما يأسى على الحب النساء.."، واستقل «كارتة» العمدة التي يجرها هذا الحصان، ولم يكن في القرية من سبيل واحد يتسع لها، فإذا هي مضت ألحقت الضرر بالعباد وحوانيتهم، حتى استحالت إلى لعنة يتشارك الجميع في حمل النقمة عليها دون بوح، واستقبله مساعده الجديد مؤنس بعينيه الجاحظتين جحوظاً شديداً كأنه المصاب بمرض جريفز، وإن له ظهراً محدودباً، ووجههاً تظهر منه العظام الناتئة لنحالته،.. يقول المساعد وهو يمسح له الغبار عن مقعده الوثير :

- مرحى بسيدي في نهاره المتألق،.. ولتشمله الرعاية في كل حين.

وكان عبد المجيد يُسر بهاته التحية التي ما تلبث تأخذ شكولاً مختلفة في كل صبيحة، وإن احتفظت بالجوهر نفسه من النفاق والمداهنة، وكان يرى فيها (التحية) مُعادِلاً لنصائح بدور له بالاتعاظ، هاته التي كانت تفسد استمتاعه بحقيقة الرئاسة التي آلت إليه دون منازع، وتجر عليه من الامتعاض والتَنْكيد ما ينزع عن ذاته المتضخمة بخيلاء القدرة وزهوتها، وسأله وهو يطوف البيوت التي كانت لا تزيد عن دورين :

- ما أخبار اليوم؟

وأجابه مؤنس وكان قد أخذ يتمثل وظيفة الحوذي في قياد العربة :

- كل شيء على ما يرام، سيدي.

وكان عبد المجيد في غيمة نرجسية لازمته حتى بعد أن ترك وقفته الصباحية أمام المرآة فتساءل :

- وكيف صورتي؟

وأجابه مؤنس بعد أن التفت إليه :

- وجه ذو نعمة، وثياب ذات مجد، وشارب يقف عليه النسر!

وأمطرت السماء مطراً خفيفاً فحسر عبد المجيد ثوبه سُنة عن النبي محمد، وارتعش ظهر الحصان وهز ذيله، فيما أخفى مؤنس رأسه في قماشة بالية، وقال عبد المجيد وهو يتذكر طيف بدور في رأسه :

- إن بدور تزعم أنك تزين لي صورة الوقائع فترسم وجهاً وردياً لما يدور،.. يخفي القتامة والبؤس.

وأجابه مؤنس وهو يأخذ يغب من معين النفاق حتى لقد يبدو كالذي ملأ منه دلوه :

- عذراً، سيدي، أيها الأجل الأشرف، ما كانت زوجك لتدرك حقيقة أن حصافة رجل بمقدورها أن تحل كل مشكل وأن تزيل كل عسير، الريفيون قبل مقدمك ذبحوا بعضهم بعضاً ذبح النعاج فكانت حياتهم جيفة واليوم هم على كلمة سواء، وحتى لقد أشرقت دنياهم بثمار الاستقرار الخصيب المتين!

وانعطفت العربة، فعاد عبد المجيد يسأله في صوت قوي واثق فيما ينعكس بريق خاتم الياقوت على طفل متسخ القدمين عاريهما يتفادى حركة الحصان وعربته :

- أيهذا المساعد : هل تظن أن الأمر كذلك إذاً؟

وأجابه الآخر في نبرة لا تكاد تتغير :

- أجل، سيدي.

وغرست عجلات العربة في طين الأرض فجعل عبد المجيد يلوم على مؤنس سوء قيادته،.. وكان عرفة - وفي موقع آخر من عين الصبيحة المشرقة - قد اجتمع إلى الناس في ساحة مسجد القرية يقول في جرس خافت كأنما يمهد لإنهاء حديثه لسبب هبوط رذاذ المطر هناك، وفتور تجاوب مستمعيه :

- ينبغي التفكر في الدين الذي نرثه، في أصوله وجذوره، فأبناء الهندوسي يعتنقون الهندوسية، وأولاد السيخي يلتزمون بالكافات الخمس، وهلم جرا، وفي هذا  التدبر ما يوثق قناعتنا ويحرر ذواتنا من الارتهان لظروف التنشئة المحيطة، وقد سبقنا إليه إمامنا أبي حامد الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال حين طرح الاستعلام عينه، والاستدلات الفلسفية حول وجود واجب الوجود لم تقف لدى بُرْهَانُ الصِّدِّيقِينَ لابن سيناء، ولا تجرنكم النقول إلى الكسل والثبوت،.. فالمواكبة المواكبة.

وألحق حديثه بأبيات البوصيري "بردة المديح النبوي" حتى انتهى إلى قوله :

- "لا تعْجَبَنْ لِحَسُودٍ راحَ يُنكِرُها.. تَجاهُلًا وهْوَ عَينُ الحاذِقِ الفَهِمِ

قد تنكرُ العينُ ضوء الشمسِ من رمدٍ.. ويُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ الماء منْ سَقَمِ"

وأنهى الرجل درسه دون حفاوة مستمعيه - وكان أكثرهم تلامذة أبيه حمروش - فيما مر عائداً إلى داره، وإنه لذو وجه بشوش يرضي بابتسامته من يبصر به، وكان للطفه وتواضعه أشبه إلى شجرة ذات قدمين تبث الحياة حيثما حلت أو ارتحلت، ومكث جالساً على الحصير يقرأ آي القرآن مدة، فهمس بالقول : والسماء والطارق والنجم الثاقب،.. وشرد لدقائق في حقيقة هذا التجاوب الفاتر الذي أبداه تلامذته له في درسه، وقد ساءه الأمر حتى عاود الآيات جاهر الصوت هاته الكرة، عسى أن يدفع عن نفسه شيطان الشرود والسهو، وعاد يخاطره هاجس نفسه فيقول :"ليت شعري ! أنى لهم (تلامذته) بكل ذاك الصدود؟ وحتى الأشاعرة كانوا يتقنون الكلام والجدل، ما هم إلا نزقون لهم مناهج العصر الحجري في تقديم الحجج،.. سامح الله أبي الذي ألبسهم ثوب الجمود، وزرع في حوضهم نبتة العصبية.."، فلما انتهى إلى استحالة الانتباه حضره هاتف الجوع ونهض كيما يجهز لنفسه الثريد من الخبز، تيمناً لمَّا فضله النبي محمد على سائر الأطعمة، وخلع عمامته فأسلمها إلى طاولة ذات كؤوس وآنية، وهناك سمع طرقاً على بابه هو أشد مما يجب فجفل وفزع، ثم ارتبك واضطرب،.. وتحرك إلى الباب متسائلاً :

- من الطارق؟!

وأجابه من بالخارج يقول :

- جئناك سائلين في أمر قد غمض علينا من درسك.

وأجاب الرجل في حدس صائب :

- ما ينبغي لطالب علم أن يُفزع أستاذه ويرهبه في بيته.

- هل تمنع عنَّا ما كتبه الله لكَ من علم؟ من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار، كما قال النبي محمد.

- فلتتحلوا بآداب طلبه أولاً.

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


وعاد الرجل يتحرك إلى الوعاء الذي تأخر عنه وكان (الوعاء) قد بدأ يفور فيتميز كحمم البركان الفائر، وسمع الرجل همساً، ورأى عبر نافذة المطبخ من يحمل السلاح، ومن يحيك المكر السيء، ومن يدبر السيئات يقول :

- مزور الدين يتأبى الموت السهل، يحسب نفسه العالم  النِحْرير.

وقال آخر في خبث :

-  سنحاصره إذاً حتى يسقط كالثمرة العفنة.

ونزل في نفس عرفة الرهاب فجعل يقول هلوعاً : "غفرانك، ربي، غفرانك !"، وفي موقع آخر، غير بعيد،.. كان عبد المجيد في غضب من غروس عربته في الأرض الطينية، ومن تأخره عن الوصول إلى مكتب العمودية، هبط مؤنس مشمراً سرواله كيما يعالج الأمر دون جدوى وإن ظل يقول في غمرة اتساخه وعجزه :"ما أمرت به فأنا به مؤتمَر، كل شيء سيكون على ما يرام،.. سيدي !".

 

حتى إذا استيأس الرجل من مساعده نظر إلى محيط السبيل كأنما يطمئن إلى خلوه من المراقبين، وشمر هو الآخر سرواله - لما اطمأن إلى فروغه من الأبصار - ثم هبط يساعده متأففاً، وكانت عودته (عبد المجيد) إلى العمل أشق من واقع ما كانت عليه حياته المترفة والرخوة من دعة، وبدأ الرجل في زحزحة - تسبق الإزاحة - الإطار المغروس بساعدين يستعيدان بأسهما مكرهين وقد ساءه أن يتفصد من جبينه العرق، هذا حتى أتاه في قلب إنهماكه بالطين من ينادي كالمذعور من خفرائه :

- سيدي،.. العمدة،.. من الخير أني قد وجدتك أخيراً، ولقد حلت المصيبة التي كنا نخشى نذرها..

وحاول عبد المجيد أن يضبط هندامه الذي تضرر بما لحق به من الاتساخ، ومن عجب كيف ارتأى الرجل آنئذٍ في العناية بمظهره أهمية فوق التعرف إلى ماهية المصيبة التي يحملها رسوله المفزوع، هناك تدخل مؤنس قائلاً :

- فلتلطف من حديثك ولتهون مما فيه، فسيدي يكره حديث البؤس ويتطير منه..

وعاد مؤنس بناظريه إلى عبد المجيد كأنما ينتظر منه أن يبدي نحوه مراده من الاستحسان، بيد أن عبد المجيد أشار إلى مساعده بيده كأنما يدعوه إلى أن يكف، وقال للخفير وهو يضبط حزامه الكتاني حول وسطه :

- فلتحدثني بما لديك..

 وقال الخفير فيُعَجِّل لسانه بما يعرفه :

- لقد قتل المتمردون عرفة في داره بعد أن حاصروه لساعات !

هناك خفض عبد المجيد رأسه وقد أزرت النائبة بما كان في بواطنه من زهو وخيلاء، لقد أحس حمقه وحاول - مع ذاك - أن يظهر رابط الجأش، ثابت الجنان، أمام مساعده وخفيره وحتى وصوله إلى مكتبه، كان الحصان ذو الرقبة الطويلة المنكفئة قد عاد رافعاً رأسه وهزها هزة سريعة ذات اليمين والشمال متأهباً، وماج هذا الشعر النابت على ناصيته وعُرفه، وما أن صهل حتى فقد عبد المجيد دافعه في المسير، لقد أمر الرجل مؤنساً بأن يسوق الحصان المتأهب إلى أن يُغيِّر من طريقه ومن حركته، سيعود إلى داره إذاً، وقضى أياماً يلوك فيها الخبز بغير الأدام، وأحاطته هالة من الزهد رقيقة، وحاشية من الأسى عميقة،.. وقال لبدور :

- تخلصنا من حمروش واحد وكان ثمة ألف من مثله،.. إذا هم قتلوا شيخ العمدة فما يمنعهم أن يقتلوا العمدة عينه؟

وقالت كأنها تنزه نفسها من الإقدام على أمر تورط فيه محدثها :

- سبق وحذرتكَ من الركون إلى الدعة غير مرة.

- اعتقدت بأن القوة والوجاهة ستجلبان لي السعادة المنزهة.

وقالت :

- ليس حائز السلطة إلا رابض على فوهة بركان، لا يفصله والانفجار إلا فسحة الأقدار.

- ما العمل الآن؟

- فلتعاقب المذنبين ولتضرب على يديهم.

- أضعفني رؤية الريفيين في سلبيتهم، لم يثر منهم واحد لمقتل شيخهم المتنور ولم يحركوا ساكناً،.. هل يفترض بي أن أسوس هؤلاء؟ وإلى ماذا؟ ألا يحق لي أن أتركهم يموجون بعضهم في بعض؟ أليس جديراً بهم أن يحصدوا ما زرعوا دون أن يستنقذهم عاقل من ضحالة ما يدور في رؤوسهم؟ سمعت منهم من يقول بأنه استحق القتل لآرائه الهرطقية، ولم أعجب لحديثهم المغالي فثمة من زعم قديماً أن الحسين مات بسيف جده!

 وقالت :

- لا تكثر الأسف والسؤال في موقف العمل، ليت بكراً لا يزال هنا،.. كان ليعينك على ما أنتَ فيه من ارتياب التصرف.

ووهبها بصراً خائراً يقول :

- لقد بدأت أفهم ثورته على الريف.

وقالت :

- لا يزال اختفاؤه لغزاً محيراً، ولكني موقنة بظهوره يقيناً لا يناله الشك من سبيل، وحتى لقد يخيل إليَّ أنه هنا أو هناك يستمع إلينا.

وجعل يقول وهو يلوك قطعة من الخبز اليابس وقد أَدَمَه لأول مرة :

- كيف لا تزالين تثقين ببقائه على قيد الحياة؟ لقد ابتلعه بحر الإسكندرية، أجل،.. ابتلعته المدينة هذه المرة دون عودة،.. وسفت عليه الرياح التراب كالأثر المكفور،.. لقد كنت مثلك على حال من زيف التوهم قبل أن يحملني اليأس على التخلص من تخرصات الانتظار!

وخفضت رأسها متأثرة وسمرت إلى الأرض تقول :

- لا تزال تحدثني أمي تسنيم عما أوصاها به،.. وقد استبعدت أن يكون قد انتهى إلى المدينة.

- إنها (تسنيم) في خرف الظن والتوهم هي الأخرى، ومنذ حادثة الوابور صارت ملازمة لسريرها كأنما هي في أفول النهاية، قالت بأنه اجتبى لنفسه مقاماً غير الريف والمدينة،.. بربك، إن هذا مما يستحيل تصور وجوده، إن هذا إلا سخف.

وكانت تسنيم قد لازمت سريرها منذ انفجر وابور الجاز ذو النحاس الأصفر بوجهها فيما هي تطهو الطعام فأصابها بحروق أضرت بما تبقى لها من صحة في كهولتها، وغضبت بدور منه تقول :

- وكأنك ما عدت ترى الأشياء إلا بعدسة السوء منذ انتهى عرفة.

هناك تساءل الرجل فيما ينهي كسرة الخبز دون أن ينفض عن نفسه ردته :

- وما جريرتي إذا وافق الشؤم الحقيقة؟





 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة