الفصل التاسع : وفاة باسليوس
كان
الجندي مرسلا من قبل إبراهيم باشا الذي ضج بتجاهل باسليوس له في القصر، واضطر
المتخاصمان: باسليوس وفرنسيس إلى أن يجمعهما مقام واحد حتى حين، قال فرنسيس:
-
هذا وقت جيد كي تقرأ الرسائل التي أرسلها إليَّ سكرتير المجمع المونسنيور بطرس
كابرانو (Pietro Caprano) إلى النائب الرسولي مكسيموس جويد، وقد تحصلت على
نسخة منها!
قعد
باسليوس وهو يأكل البصل والخبز، وعَلَّقَ قائلا:
-
رسائل أخرى مثل التي تزيفها وترسل بها إلى البابا؟
أمسك
فرنسيس بعنق باسليوس وقال:
-
ستقرأها وإلا أهلكتك!
أمسك
باسليوس بالرسالة الأولى وقد ترك مائدة الطعام جالسا على أريكة إسلامبولي:
-
"إن سعادة مجمع انتشار الإيمان للأخبار المشجّعة التي تضمنتها رسالتكم
المحرّرة بتاريخ 26 مارس لهي كبيرة جدا،… وقد سُرّ قداسة البابا لمَّا نُقِلَ إليه
مضمونها، إذ رأى الآمال المعقودة في أن ينهض كاثوليك مصر من حالتهم المزرية التي
استمروا فيها سنين طوال، بسبب عناد وسوء نية مواطنيهم المُنْشَقِّين، هذه الآمال
بدأت تباشيرها في مستهل حبرية قداسته. وأنه بإمكانهم استعادة المكانة المرموقة
المحفوظة لهم بعودة الكرسي الإسكندري والرئاسة الكنسية القبطية، فليتمجد الرب الذي
استمال قلب وعقل الوالي نحو كاثوليك مصر، وأن قداسته يرغب في أن تتقدموا أنتم
والوزير الأول فرنسيس غالي بالشكر للوالي للاهتمامات الطيبة التي يبديها نحو رعيته
من المؤمنين الكاثوليك.".
وأمسك
باسليوس بالرسالة الثانية فقرأها في صوت مسموع:"إن سعادة ورضا هذا المجمع
المقدس قد تعاظما بتوالي الأخبار السارة التي وردت في رسالتكم المؤرّخة في العشرين
من أبريل، وبعد وفاة بطريرك الإسكندريّة المنفصل؛ فإنَّ عليكم أنْ تؤكدوا للوالي
أنَّ المجمع يسعى بكل جهده لتحقيق رغبته في أن يرسل على وجه السرعة الطالب إبراهيم
كاشور إلى مصر، وأن قداسة البابا قد سمح له - أي لكاشور - أن يحمل النيشان الذي
أُهدي إليه أثناء إقامته القصيرة هنا في كلية انتشار الإيمان. ولتتأكدوا نيافتكم
أن المجمع المقدس يبدي عظيم الاهتمام بهذه الشؤون، التي تخصُّ الخير الروحيّ
للأمّة القبطيّة، وهو يأمل بمعونة الرب أن تأتي عنايتكم نحو هذه الأمّة بالثمار
المرجوّة".
عَلَّق باسليوس:
-
تحسبون أن الوالي يزكينا على أبناء ملته من المسلمين؟
قال
فرنسيس:
-
ليس للوالي ملة غير الضريبة والسيف والصولجان.
عاد باسليوس إلى الرسالتين يقول:
-
أرهقتَني يا فرنسيس، هل أنت مع الرب أم ضده؟
- لا يستطيع امرؤ قط إلا أن يكون
معه، حتى أعتى الزنادقة فهم دائما يؤمنون بشيء، وهذا نابليون الملحد وقد آمن
بالغزو والقوة،.. فلتسمع لي: إن نقيض الإيمان هو الخواء، ولا أحد يحتمل الخواء لحظة
واحدة، ولو قلت بأنني مع الفضيلة ولست مع الدين، فقد آمنت بالفضيلة،.. إنني مع
الرب، باسليوس، وفي أشد لحظاتي حُلوكا وتذمرا كنت معه، كنت أغضب لأنني على يقين من
وجوده، أراه وقد تجلى في الأشياء، في انتظامها وإن ساءت، وقد قلت ما دام هو حقيقة فإن
احتجابه عنَّا يضعفنا، وهو في نظري احتجاب غير سائغ، كنت أخاطبه في سَخَطي، أردت
أن أبصر أنواره وهي تغزو أصقاع الشرور، فلا يعود لها على الأرض أيُّ مقام،.. ولقد
بحثت عن الرأفة في كهنته، من النائب الرسولي مكسيموس جويد، النائب الرسولي الذي لن
يبارك الرب سعيه، ولن يتقلد بطريركية الإسكندرية أبدا*،.. وددت أن أسمع الحديث
الذي فيه شكر لمشاعري الدينية الصادقة، لخدماتي لطائفة الكاثوليك في مصر، وكنت
حينها لأبدي الخضوع كَابْنٍ مخلص للكنيسة.
تأثر
باسليوس كثيرا بحديث خاله فرنسيس، لقد أبدى بعده رغبته الصادقة في تقديم المساعدة
له، ووعده بإقناع دوس وطوبيا وأرمانيوس بأحقيته في التفسيح الكنسي، وقال فرنسيس:
-
تأخرت يا ابن غالي، إنني عليل مريض، ونهايتي الساعة هي كما بين البنصر وبين الوسطى،
ولن أظفر بالاعتراف في حياتي، قطورة هي خيال سعيد عشت في كنفه بلا اعتراف، ولا بأس،
فلم أكن جديرا بامرأة مثلها أبدا..
جعل
فرنسيس يبثق الدم من فمه فحل الهلع في نفس باسليوس، وانطلق نحو الجندي يحثه على التجاوب
له، وقال:
-
إن خالي يموت، أحتاج إلى نِطاسِيّ*ينقذه..
-
قف! أوامر سيدي إبراهيم باشا..
-
ملعون سيدك إبراهيم باشا..
حين
عاد باسليوس إلى فرنسيس كان الرجل قد أسلم الروح، مرت ثلاثة أيام قبل أن ينصرف
الجندي عن بيت باسليوس، كان هذا جزاء تجاهله لإبراهيم باشا وتحذيرا مبطنا شديد
اللهجة، سرعان ما جاء إلى البيت النائب الرسولي مكسيموس جويد وقد حزن لوفاة فرنسيس
كل الحزن، لقد صالحَهُ مع الكنيسة بمسحه المسحة الأخيرة* وتزويده بالأسرار
المقدسة، وسمعه باسليوس يقول: "ليتني كنت رؤوفا معه فما حل في قلبي كلُّ هذا
الندم.."، فسأله باسليوس عن سبب هذا الندم، قال النائب الرسولي:
-
حين ترامت إليَّ الأنباء عن طريق الأب تاوضروس أبو كريم باعتلال صحة فرنسيس؛ أسرعت
إليه كي أبلغه قبل موته بموافقة الكنيسة على زواجه من قطورة، ولكن السيف سبق
العذل، لقد ساعدني أخوك على تَقَلُّد الدرجة الأسقفية وعلى تأمين الخطوات الضرورية
في سبيل هذا.
انفعل باسليوس وهو يقول:
-
ولِمَ
انتظرتم حتى احتضاره؟
خفض
النائب الرسولي رأسه:
-
خشيت غضبكم (أي غضب العائلة) مع حصولي على موافقة البابا ليون الثاني عشر الذي
منحني التفسيح، وترك لي الحرية في تفعيله، لقد تأنَّيْتُ.. أكثر مما ينبغي.
قال
باسليوس وهو يسلم على النائب الرسولي في حزن مماثل:
-
هذه خطيئة نشارككم وزرها إذن، حين يبحث مُتَحَابَّان عن مِظَلَّة سماوية في الأرض
فيجب أن يحصلا عليها.
وقال
باسليوس له وهو يتذكر يوم حمل جثمان أبيه غالي في زفتى:
-
جميع الموتى جديرون بالعطف والرثاء، حين تحمل جثمان أحدهم ستنسى كل خطاياه، لأنك
ستدرك حتمية زوال الخطأ من زوال النفس..
استدعى
محمد علي باسليوس في القصر عشية هذا اليوم، كان يناقشه في شأن الإصلاح البروتستانتي
وقال:
-
البروتستانت يشبهون المسلمين من جهة تحريم تصوير الأنبياء، تحطيم الأيقونات، ونقد
النص.
علق باسليوس:
- أجل، سيدي..
-
هل بمقدور دين الإسلام أن يمر بطور إصلاح مماثل؟
-
ربما..
قال
أحد رجال الحكومة:
-
الدين خرافة رائجة، وإصلاحها هدمها.
انزعج
الوالي من الحديث الأخير، وقال:
-
أعتقد بأنني جئت بباسليوس لكي يتحدث، لقد نشأ في بيت شَطْرُهُ مَعبد، حظيرة بها
المال والصليب، إنه نصف علماني، ورؤيته - لأجل ذاك - لأمور الدين والدنيا هي أعم
وأشمل، لأنها تلتمس في أحكامها زاويتي نظر..
-
ولكن باسليوس لا يتحدث..
توجه
الوالي إلى باسليوس بالحديث:
-
ماذا يحملك على الصمت؟
-
مولاي، إن شيئا مُرًّا في صدري تتعثر معه كل كلماتي، إنَّ نَجْلَكم، الفاتح المغوار
الموقر، الذي بلغت أنباء انتصاراته الحجاز والجزيرة واليونان، القائم الساعة على
حرب المورة، إبراهيم باشا، انصرف عن جليل مهامه وأرسل إليَّ من يحبسني في داري أيامًا
ثلاثة، ويمنع الدواء عن خالي فرنسيس، لقد أرسل جنديا بلا قلب، لأن فرنسيس كان يبثق
الدم أمامه دون أن يستدر منه التعاطف، وقد قلت لنفسي بأن أصداء هذه القصة الخطيرة
لو بلغت مسامع الناس لأساءوا الظن بنجل الوالي المبجل، وربما بالوالي المبجل نفسه.
استدعى
محمد علي نجله إبراهيم باشا الذي كان يتأهب بأسطول ضخم مُؤلَف من ثلاث وسبعين
سفينة حربية، وسبعين مركبا شراعيا أجنبيا، نقل عليهم ثمانية عشر ألف محارب لنجدة
السلطان محمود في اليونان، وعاتبه يقول:
-
أقتلت خال باسليوس بعد أبيه؟
استحقر
إبراهيم باشا المسألة موضوع النقاش، قال:
-
عذرا، أبي، تناقشني في أمر نفس واحدة وإني أتأهب لقيادة ثمانية عشر ألف نفس إلى مشارف
الأخطار والمجهول؟ ولست أدري بعد حربي هذه أعود أم لا أعود، البحرية اليونانية
المؤقتة تحقق الانتصارات المتوالية ضد البحرية العثمانية في بحر إيجة، إن دورنا قد
اقترب كثيرا.
وعد
محمد علي سؤال إبراهيم باشا وحديثه دليل جهل فامتعض، قال:
-
القائد الذي لا يكترث بنفس لا يُستأمن على ألف.
نظر
إبراهيم باشا لباسليوس أول مرة، قال:
-
لقد حَبَسْتُه ولكنني لم أمنع الدواء عن خاله.
وقال
الوالي:
-
جنديك لم يفرق..
-
هذا وزر الجندي إذن..
وتدخل
باسليوس في غضب مشحون يقول:
-
بل هي خطيئة من أرسله! بثق خالي الدماء أمام عينيه فلم يُبْدِ من الشفقة ما يرفعه
إلى الآدمية، وقد دعوت الرب في معبد البيت مرارا أن يعاقب المتسبب بمثل ما أصاب
فرنسيس من الداء.
عَلَّق
إبراهيم:
-
من الجيد أن الرب يعرف المتسبب.
وقال
محمد علي:
-
لا تماطل يا إبراهيم، الخطأ خطأ من أرسله، لسنا في أبعادية كي تمنعه من مغادرة
بيته.
وغضب
إبراهيم باشا من حديث أبيه ولم يأخذه محمل الوعظ والاعتبار، قال:
-
لقد تناقشت آنفا مع غالي، جامع المكوس، والد هذا الغلام الذي تنصره عليَّ بهتانا في مسألة حرب اليونان فما سمعت منه إلا نصرة الثورة
هناك على حساب السلطان العثماني، وتأييد كِفّة الأعداء على كِفّتنا.
وسأل
محمد علي باسليوس عن موقفه من حرب اليونان فأجيب:
-
إن قلبي مع المَطَارِنَة الأرثوذكس، وعقلي مع جيش مولاي.
وانفعل
إبراهيم باشا كأنما تحصل على ما يريد وهو يقول:
-
أرأيت؟ إن الغلام كأبيه والحية لن تلد إلا الأفاعي، إنه يقف مع الكفة المناوئة لنا
بقلبه، إن أقباط مصر قلوبهم مع الثورة الشيطانية في اليونان، وهم مِن قَبْل مع
الفرنساوية والإنجليز،.. كيف ننشد النصر أو التسديد في الساحة الخارجية فيما نُعَيِّنُ
أمثال هؤلاء حُكَّامًا للأقاليم بالداخل؟ من بطرس أغا أرمانيوس مأمورا لمركز وادي
برديس بمديرية قنا،.. وفرج أغا ميخائيل حاكما لمركز دير مواس، مرورا بميخائيل أغا
عبده لمركز الفشن ببني سويف، تكلا سيداروس لبهجورة، رزق أغا وأنطوان أبو طاقية
للشرقية، وانتهاءً بمكرم أغا لشرق أطفيح،.. ماذا بعد؛ أبي؟
لم
يكن إبراهيم باشا ضد تعيين الأقباط حقا ولكنه أراد أن يسجل نقطة ضد باسليوس، اعتدل
محمد علي في مجلسه كأنما يتأهب لحديث طويل، تمهل قليلا حتى انتظمت في عقله الفكر،
ومن أين يبدأ؟ قال:
-
مهلا، ماذا تريد من قلب باسليوس، إبراهيم؟ وفي إدارة الأمم لا تعنينا أهواء القلوب
ولكن انحيازات العقول، والحب لا مجال له هنا، وإنما يَأْسَى على الحب النساءُ*،
فلتسمع لي: لقد أبصرت النور في قوله، كان هذا قبل أن توجد أنت أو باسليوس، ألفيت
هناك معاملة قوامها التسامح بين أبناء الأعراق والأديان، صبغتني هذه المعاملة
بصبغتها وإن خرجت من قوله فإنها لم تخرج قط من وجداني، وحتى هذا اليوم فإني أستمسك
بدين الإسلام ولا أزال أحترم غيري من أصحاب الشعائر، لا يجب أن نغفل عن أهمية
الجانب القومي فنقع في خطيئة العثمانيين والمماليك، علاوة على أن الأقباط أقلية لا
شوكة لها..
كان
إبراهيم صامتا على حين طرب باسليوس لحديث الوالي، لقد رأى الأخير لمعة إنصاف خلف
طبقات من الظلامة، استأنف الباشا حديثه يقول:
-
لا تقلق، لقد أمَدَّنا الأقباط بالبنادق والبارود حين تمردت حامية القاهرة قبل عدة
أعوام، صاروا من يومئذٍ صفا ثانيا لنا ضد التمردات التي تطل برأسها بين حين وحين،
لقد انضم بعضهم إلى جيشك مقابل إعطائهم ميزة السلاح، اختلطت دماؤهم مع إخوانهم
المسلمين في غزوات الشام وجبال المروة وسهول آسيا الصغرى، أعطيناهم وأخذنا منهم،
إبراهيم، هذه هي طبيعة السياسة، ويجب أن تفقه في فنونها إذا كنت المرشح الأول
لتبوء هذا الكرسي بعدي.
أظهر
إبراهيم لهفة كبيرة وهو يقول:
-
بعد عمر طويل، أبي.
رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
**
كان
باسليوس يستمع إلى أخبار حرب اليونان* بقلب مشوب بالقلق، مشبوب بالعاطفة في تأييد
الثورة، وعلى حقيقة كونه لا يزال كبير محاسبي جيش إبراهيم باشا قامع الثورة نفسها،
فإن نفسه كانت عند هتافات الاستقلال، لم ينسَ الشاب أن إبراهيم باشا هو قاتل أبيه
غالي برصاصته الطائشة في زفتى، علاوة على حقيقة أن المطارنة الأرثوذكس الذين
يؤيدون استقلال اليونان هم أقرب مذهبيا إليه من الجيش العثماني ومن تخندق في حزبه،
وما لبث أن حطّ إبراهيم باشا في البيلوبونيز (شبه جزيرة واقعة جنوب اليونان) في
فبراير 1825م، وحقق انتصارات فورية بحلول نهاية العام نفسه،
أصبح معظم البيلوبونيز تحت السيطرة المصرية، وسقطت مدينة ميسولونغي في أبريل 1826م
بعد حصار تركي استمر عامًا كاملا، وعلى أن إبراهيم باشا تعرض للهزيمة في شبه جزيرة
ماني، فقد نجح في قمع الثورة في أغلب البيلوبونيز، واُستعيدت أثينا،.. رأى باسليوس
نفسه ممزقا - كأبيه غالي أو أشد - بين خدمة السلطان وبين نصرة الحق، وقبل أن يترك
القصر نصح الوالي بإصدار أمر يحرم تصدير الفول والحبوب لانخفاض الفيضان خلال عامي
1824م، و1825م، ولاذ إلى دير القديس إسطفانوس في صعيد مصر، بعد أن ترك أعماله التي
في المحروسة وتنكر في أسفاره، وقد صدق عزمه على الإقامة الدائمة هناك، وصادق كاهنا
التَمَسَ فيه الحكمة والرشاد والاطلاع على العلوم يَدْعُونه لوقا، اقترب منه لوقا
هذا النهار وجعل يرقب صلاته حتى نهايتها وقال:
-
مباركة
صلاة كبير المحاسبين..
انزعج
باسليوس من حديث الكاهن، وجد لوقا على وجهه انطباع من استمع إلى مسبة أو إهانة،
قال باسليوس في حسم:
-
منذ اليوم الذي حطت فيه أقدامي في هذا الدير فإنني راهب للرب.
-
لقد كنت كذلك (أي كبير محاسبين) قبل يومين.
انزعج
باسليوس مجددا وقال متحفزا:
-
لِمَ تُلِحُّ عليَّ بِذِكْرِ ماضٍ أجتهد في تناسيه؟
-
لأنه حقيقة..
-
إنه خطيئة، لقد أشرفت على حسابات الأسطول الذي يحارب الرب عند اليونان.
-
الخطيئة حقيقة في دنيانا، وهي جزء من التجربة.
-
فإذا كانت كذلك فلنُخْفِها أو فلنصمت عنها.
-
المرء لا يُخفي شيئا إلا وهو لا يستطيع التعامل معه، لو أنك وَارَيْتَها في يقظتك ستطاردك
في أحلامك.
-
ماذا أفعل إذن؟ أشعر بالعار.
-
فلتصنع الخير الكثير الذي يصير معه هذا الشعور صغيرا.
-
كان يجب ألا أقترف خطيئة أودت بحياة ثوار يقف معهم المطارنة والأحبار من الأصل،
لقد انخفضت مياه الفيضان خلال العامين الفائتين لأن الرب غضب علينا.
استخف
لوقا بأمنية باسليوس فقال:
-
كان بمقدورك أن تفعل لو وُلِدتَّ رسولا أو قديسا.
-
جئت إلى هذا الدير كي ألتمس شيئا من العصمة..
-
المنفعل كثير الزلل، وهيهات أن تصيب وأنت على هذا الحال حظا من حسن القرار.
وصمت
باسليوس وقد استوعبت حكمة محدثه بعض ما في نفسه من غضب، لم يبارح نطاق الانفعال
على أي حال، سأله لوقا:
-
لماذا جئت إلى هذا الدير على الخصوص؟
لم
يحتجْ باسليوس إلى وقت طويل قبل أن يجيب:
-
لأنني سمعت أن الكاهن روفائيل بسكي قد طالب مجمع انتشار الإيمان بالاهتمام
والعناية به على الخصوص، ليكون مقر الطقوس الدينية الكاثوليكية في صعيد مصر، كان
أبي يردد أن إسطفانوس هو اسم يوناني معناه "تاج" أو "إكليل من
الزهور"، وقد خَلَّفَتْ هذه النقطة في طفولتي أثرا طيبا.
-
ذكرت القشور ولم تعرج إلى الأصل، ولعلي أسألك ولِمَ التقيت بالكاهن روفائيل بسكي؟
ولعلي أسمعك تقول بأن والدك غالي قد أوصل حبلك بحبله منذ نعومة أظافرك، ولعلي
أسألك: ولمَ فعل؟ فإذا أجبتني عن السبب الأول انتقلت بك إلى الثاني الذي وراءه حتى
وصلنا إلى علة أولى غامضة، محيرة، هي أصل كل الموجودات والحركات،.. لقد جئت إلى
هنا لأن مشيئة حتمية جاءت بك، ما حديثنا هذا إلا تجلي مشيئة القدر، إننا لا نملك
التفسيرات الحقة على أي شيء، الآدميون هم أكثر من يحتاجون إلى الطمأنينة وإن كانت
زائفة، لَشَدَّ ما يحبون أن يشعروا بزيف طمأنينةٍ في معرفة الجواب، دعني أقل لك:
إنها المشيئة التي صَيَّرَتْك على رأس موظفي الحكومة المصرية، ولقد هربت من قدرك،
واخترت الرهبنة في دير الصعيد..
انفعل
باسليوس وهو يقول:
-
حياة زهد بين جدران معبد الرب لهي أشرف عندي من جنائن السلطان بما حوت، كان حلف
أبي والسلطان حلفا شريرا ولكن تبادل المصلحة فيه لم يسقط عن طرف منهما اعتبار
الدهاء، هذا كله قبل ما حدث في زفتى، فإذا لم أتَّعِظْ بمصير أبي هناك فإني إذا لأحمق
ممرور..
وقال
لوقا:
-
هذه حماسة مشكورة الغرض تُخْفِي جبالا من الريبة، وذاك جموح نبيل المَنْزَع ولكنه
في غير محله، أنت هنا تخاف مواجهة المصير وتفسد التجربة بانعزالك عن مظاهر توترها،..
لم تركت القاهرة التي لم تظهر مواهب أسرتكم في الحساب والإدارة إلا فيها؟
-
لا أشعر هنا أنني سجين أبدا، هذا العالم الذي أراه خلف الجدران هو أكبر سجن عرفته.
صمت
الرجلان قليلا، حامت الطيور فوق رأسيهما، وقال
لوقا وهو يتطلع إلى أحد النقوش على جدار الدير:
-
لماذا أنتَ ناقم كل هذه النقمة على المدعو محمود الثاني (يريد السلطان العثماني)؟
إنه يزعم مثلما عرفنا أنه لا يريد أن يكون ثمة فوارق بين أبناء شعبه المنتمين إلى
أديان وأجناس مختلفة، ويجب ألا يختلفوا إلا في طريقة صلاتهم في معابدهم، لا أراه
صراعا صِفْرِيًّا لنا..
-
السلطان محمود الثاني، قامع الثورة في اليونان، هو أكبر كاذب عرفته، إنه يحذو حذو
محمد علي بالكلام لا بالأعمال.
تمهل
لوقا قليلا ثم قال:
-
سينهزم إبراهيم باشا في اليونان إذن، ومن ورائه الجيش العثماني إن كان ما ذكرته
حقيقة.
نظر
باسليوس إلى لوقا باهتمام دون غضب أول مرة، كان في حديث الكاهن أمنيته التي لا يجد
عليها دليلا، قال:
-
تبدو الهزائم عثرات عارضة لقائد مثله، لا تخطئ الظن بي فلست أطري عليه، إنه وغد،
قتل أبي، ولكنه في ميدان الدم منصور مظفر، ولعل النجاح في الجندية يتطلب من المرء
أن يكون وغدا، لأن الجندية نفسها من حيث هي تعني حرب الإنسان ضد الإنسان- فكرة
شيطانية ابتدعها البشر، وشرعن لها تاريخهم المأسوف عليه، إن رغبتنا نحن الأقباط عن
الجندية ظاهرة بوضوح، ونفورنا من حياة المعسكرات غني عن الدليل..
-
لا تعطِ للأشياء صورة دوام ليست لها، لقد خسر إبراهيم باشا في ماني، وسيخسر غدا..
-خسر
في ماني وعاد يستعيد أثينا بأسرها!
-
وسيخسر كل شيء في الأخير..
-
وكيف عرفت؟
التفَتَ
لوقا إلى باسليوس، قال:
-
ثمة من الأمور الغائرة جدا في الضمير ما يستطيع المستبصر أن يحدس بحتمية وقوعها في
الواقع المنظور، لأن تصور عدم حدوثها يكون مجافاةً للعدالة كاملةً، ليس بمقدور أحد
أن يهرب من العدالة، باسليوس، لأن الرب كشف لنا عن نفسه بناموسها، لدي اعتقاد بأن
لكل امرئ منَّا تاريخًا قبل ولادته، إننا أقدم مما نبدو، مثلما أن لنا امتدادا بعد
الموت،... لعل الزمان لا يسير فقط في الاتجاه المعروف، إذا كانت أبداننا متزمنة
فما يدور في فلك عقولنا شيء آخر.
بلغ
التحفز مداه في نفس باسليوس، كان غاضبا وقد تندى جبينه بالعرق لحرارة الحديث،
انفجر قائلا:
-
لِمَ كان الظلم إذن؟ لِمَ قتل إبراهيم باشا أبي؟ لِمَ لَمْ يَحْظَ فرنسيس بلحظة
اعتراف واحدة من الكنيسة بزواجه من قطورة؟ أعني لقد كان خنزيرا ولكنه أحبها
بصدق،.. لِمَ قُتل السيد المسيح؟ لمَ وشَى يهوذا به*؟ لِمَ تبكي الأرامل ويَتَيَتَّمُ
الأطفال ويُقتل الرجال ويفقد الأخ أخاه؟ لِمَ ندور في دائرة المتناقضات ولنا رب في
السماء؟ فلتسمع لي فلقد حجب التبتل عنك مرارة المعاش: عما قريب يهجم الأسطول
المصري العثماني على جزيرة هيدرا، لن يوقفهم شيء، وإذا عدت لهم أكون المحتفي بنصر
الشيطان، ولست أريد أن أساهم ولو بالصمت في احتفالهم المشؤوم.
قال
لوقا في هدوء:
-
الظلم هو تأرجح الميزان، والعدالة هي استواؤه المحتوم، مثلما قلت لك: سينهزم
إبراهيم باشا في اليونان، إنه قائد مظفر ولكنه ليس أقوى من الرب، سيعود مجللا
بالعار، فلتعد إلى القصر، باسليوس، فإنك تؤدي إلى رسالة الرب هناك خدمة هي فوق ما
تؤديها معزولا في الدير، الكهنة ليسوا أفضل حتما من العلمانيين، علماني فاضل خير
من كاهن لم يُختبر، فلتقصد إلى وِجار الذئب عسى أن تهيئ للغزلان حياة أفضل.
كان
لوقا يحمل ثياب الصوف، وهذا شريطٌ من الصوف الأزرق سابِلٌ حول قلنسوته، نظر باسليوس
إلى هيئته وهو يقول:
-
أريد الرهبنة..
-
حسنا، حسنا، فإذا ابتغيت سبيل الرهبنة فسيجري إرسالك إلى إحدى الأديرة الواقعة في
الصحراء، وهناك تؤدي الأعمال الحقيرة المُزْرِيَة، فإذا أبديت قدرة على الاحتمال
قرأنا عليك صلوات الموتى* في حفلة تخرجك،.. هل تستطيع أداء شيء من هذا؟ هل يستطيع باسليوس
المُنَعَّم لبس الصوف بعد الحرير؟
لاذ
باسليوس بالصمت وقد شق عليه الأمر، نهض لوقا تاركا باسليوس في حيرته واضطرابه، لم
تتصرم الأيام الكُثُر حتى حمل الشاب بقجته عائدا إلى المحروسة، ودعه لوقا وقد
أوصاه بالاستقامة قائلا:"فإذا فعلت وفعل غيرك مثلك صار القصر ديرا.."،
وسمع باسليوس أول نزوله بالقاهرة أن القوى العظمى الثلاثة: روسيا وبريطانيا وفرنسا
قد أرسلت كل قوتها إلى اليونان، اعترض أسطول التحالف الأسطول المصري في نافارين
فاستبشر، دلف باسليوس إلى القصر فاستقبله محمد علي مائجا وهو يقول:
-
أين كنت، أيها الحمار، باسليوس؟ لقد تحطم أسطولنا في نافارين، والحكومة في فوضى
منذ غيابك!
تلعثم
باسليوس عند استقباله للنبأ البهيج، بَيْنَ استبشاره به وبَيْنَ تَجَاوُبِهِ
المصطنع مع تقريع الوالي اضطرب مُحَيَّاه، حفلت نفسه بالعواطف الإيمانية الجزيلة، تذكر
حديث لوقا فثمل بسعادة منزهة، ووجد نفسه يقول دون تفكير:
-
لدي طلب عندك، مولاي!
- تَحَدَّثْ به عَجِلًا لأني مشغول
بمعالجة آثار نكبة الحرب.
- أريد الحج إلى الأراضي المقدسة،
أريد الذهاب إلى كنيسة القدس حاملا قفص الشموع.
- القدس؟! ومن ذا يدبر الحسابات في غيبتك؟
- أخي دوس، سأُلَقِّنُه كل شيء..
تطلع
إليه محمد علي فوجد في عينيه لمعة شوق دفينة ساءه أن يقابلها بالجفاء، قال كمن
يحدد حدود العطية بضوابط صارمة:
-
أسبوع واحد، فإذا زدت عليه فلا تَعُدْ.
اضطربت
أنفاس باسليوس بالبشارة التي سمعها:
-
الأقباط يعانون حين يقصدون إلى القدس..
-
منذ متى والأمر كذاك؟
-
منذ عهد المماليك البحرية ولعل الحال أسبق، مولاي، ونحتاج عونك في بسط الصعاب
وتيسير الأمور.
أشار
محمد علي إلى الكاتب الجالس على الأرض وجعل يقول:
"من
عزيز مصر إلى متسلمي غزة والقدس..
أوصيكم
خيرا بالأقباط الذين يريدون الحج إلى بلادكم، وأوصيكم بصيانتهم وحسن إكرامهم حين
نزولهم وألا يُترَكَ لأحد مجالٌ للتدخل في شؤونهم، وبحماية الزوار الأقباط وعلى
رأسهم كبير محاسبي الحكومة، باسليوس بن غالي بن سيرجيوس، تجدونه هزيل الجسد، طيب
الأرومة، على وجهه سيماء الحزن كدأب الأقباط، ليس فيه شيء يميزه إلا عمله معنا (وتبسم
الوالي هنا قليلا، ثم تابع..) حاملا قفصا من الشموع، وسيعرفكم بنفسه،.. والأمر لمن
في يده الأمر.".