روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/21

إنني حارسكِ من أخيكِ..

 الفصل الثالث عشر : إنني حارسكِ من أخيكِ..

 في نوبة مصر..

تلكأ منير طويلاً في لقاء هجلى التي عرف من زوجه  آمال أنها خالته - أخت أبيه ذهب - التي تبحث عنه، وإذ كان الشاب ناقماً على أبيه فقد انتقل سخطه إلى أخته ثم إلى آله وذويه جملة، وكا

كان عماد قد هجر بيته وآوى إلى شقة الغجرية أنهار التي استأجرتها في حي غبريال - حيث تركز الغجر في المدينة - بعد إذ افتضح سره في أسرته، ترك الفتى رياضة التايكوندو على نحو "هجعت معه موهبته"، ولم يعد يستخدم قوته إلا في حماية الغجرية من أخيها الذي ما يفتأ يعود - إن واتت له عودة يختلسها - يذكرها بعصيانها وخروجها على التقاليد الغجرية بامتناعها عن الزواج المبكر من نظرائها، وكانت المرأة في أغوارها لا تجد بأساً من حديثه لما كانت على شيء من التمرد على إرث الغجر وطباعهم لا تجتهد في إنكاره،.. وقالت المرأة لنزيلها (عماد) ذات يوم :

- يجب أن تمتهن حرفة، ما عاد بمقدورنا أن نبقى في هذا المقام، وقد بت كثيرة التهرب من صاحب الأجرة..

وقال متكئاً على أريكة رديئة فيما يلعب مع القرد "روز" المشاغب وقد امتلأ جسده بالوِشام :

- إنني حارسكِ من أخيكِ..

وقالت :

- المهانة أن يمكث الرجل بلا عمل فيما تخدمه امرأة، حري بالرجل أن يصاحبه سؤال بسيط وعميق لا يفارقه طوال حياته : ماذا أفعل هنا؟

- جميع رجال الغجر مهانون إذاً، فلتعديني غجرياً..

وأغضبها أن الرجل يلاعب القرد دون أن يهبها نظرة اهتمام، فصفرت على نحو فزع معه القرد إليها، وقالت :

- فلتدرب روز ولتؤدِ به العروض البهلوانية التي تجني من وراءها المال.. 

- كيف والملعونة (يريد القردة) لا تطيع غيركِ؟

- ماذا عن صناعة المناخل والغرابيل؟

ونظر الجالس على خزانة كانت تجاور هذا السرير وقد ألفى فوقها المناخل على أنواع، منها مناخل : السلك التى تستخدم فى غربلة الحبوب، ومناخل الحرير التى تستخدم فى تنقية الدقيق، والغرابل التى تنتج من جلد المواشى،.. قال بعد إذ نظر إلى الثلاثة في تجوال بصري عابر :

- لم أترك بيت أبي لأكون مناخلياً،.. لماذا لا تقرأين لي الطالع؟ إن السماء اليوم لمشعشعة النجمات خالية السحائب وبمقدورنا أن نقتفي مسارات الأجرام في الأفق،.. الوشم ! أجل، الوشم، فلترسمي لي واحداً هنا (يشيرد إلى ذراعه الأعسر)، إنه ما بقى لي خالياً من صفحة جسدي ذي الرسوم.

ورمقته بإزدراء وكان في نفسها حديث باطني يقول :"إنه توأم جابر في سلبيته دون أن يرث جبروته،.. وما من امرأة معيلة في هذا الزمن إلا وتدفع فادح الأثمان في تنور من التضحيات،.."، وتركته المرأة فخلا الرجل إلى القردة في أسف وجعل يقول لها :

- أرأيتِ؟! ليتك تذرين شغبك فتصيرين لي مستأنسة أؤدي بكَ العروض أمام الملأ، ثم ما نفتئ نتدرب في صالات السيرك ذوات الهامات المخروطية، والجسد المقلم بالأرزق والأبيض، لعلنا نشارك في مهرجان السيرك المصري الأوروبي أيضاً، وتقابلين قرود المندريل البديعة ذوات الألوان الحمراء والصفراء والزرقاء..

وأزاد يقول :

- آه روز، ما جدوى الحديث وكل ما أنسجه من الجمل في عقلك الصغير غير مفهوم،.. الخيارات اليسيرة توشك أن تكون غير خيارات، وما بقى للمرء إلا أن يركب الصعب والذلول، والصدفة صانعة الثروة وكم من أبله در رزقه وسحت عليه النعم،.. (ونظر إلى عيني روز يقول) هؤلاء البُله الموسرون والحمقى الواجدون لا يغضبونني البتة إذ أنهم وصمة على جبين النظام الاجتماعي بأسره، إنهم دعوة إلى الراحة لكل مكد يصل فحمة الليل إلى بياض النهار،.. وبالعود إلى بدء، أنتِ، روز، ألستِ نهمة إلى تصفيق؟! هل ستفزعين لدى رؤية النمور البيضاء هناك؟ ماذا عن السوداء؟!

وافتعل المتحدث خرخرة نمر فرمته القردة بنواة تمر كادت تصيب ناظره فجعل يقول :

- مهلاً، مهلاً،.. سأضربه ضربة قتالية مما تعلمت إن هو فعل، دليني إلى ما ينفعني إذاً، ما يناسبني ولا ينافرني، ويا ما أكثرها.

قبضت القردة على طبشورة بذيله ورسمت شيئاً لم يفهمه الرجل على بلاط الأرض، واجتهد في تفسيره فجعل يقول في شرح رسمها غير الواضح :

- حمار رحى؟! تريدني حمار؟ ألا بئس الناصحة أنتِ !

وأبدت روز يأساً فحركت هامتها وجعلت تسير عجلى ، اقتفى عماد أثر الحيوان الذي مضى إلى حجرة أنهار مدفوعاً بالغريزة،  وتفكر المقتفي في عبارة سمعها ولم يتحقق منها : "إن الحيوانات تتحرك بغرائزها المحضة أفضل مما يتحرك الإنسان بعقله المحض.."، حتى انتهت روز إلى سرير أنهار العاجي وأشارت إلى ما تحته، هبط عماد إلى ما دون السرير إذاً حتى ألفى تحته صندوقاً مترباً هو من الخشب الماهوجني، وإذ كان الرجل في شغف التعرف إلى ما فيه فقد اضطرب وصدم رأسه بعاج السرير، ثم فتح الصندوق دون أن ينفض عنه غباره، وظن أن فيه كنزاً يفلج القلب وتنشرح به النفس، وفتحه - وأمله يرتقي في نفسه ارتقاءً كبيراً - فألفى فيه أوراق التاروت، هناك خاب ظنه فرمى روز بشيء فيه قدح خفيف، وملام طفيف، ولكنه عاد يحدق إلى ما في يده، وقد أسرته الصور ببهرجها : المهرج، والصولجان، والكأس، والنجمة الخماسية، والسيف،.. إلخ، وكانت أنهار قد عادت فلما دلفت إلى حجرتها اضطرب الجالس وعاد يصدم رأسه في عاج السرير كرة أخرى،.. وتدارك الألم يقول :

- فلتلقنيني قواعدها..

وجلست إلى جوار الرجل والقردة، تقول :

- لم أعد أتذكر منها جماً كثيراً، لقد مات أبي في طفولتي وقد همس في أذن أخي جابر بأسرار التاروت، كل ما أعرفه محفوظ في هذه (تشير إلى ورقة بيضاء في قلب الصندوق)،  لقد تركها أبي، أيضاً، في الصندوق.

وأظهرته على صورة أبيها المحفوظة في الصندوق فكان غجرياً ذا سمت حسن، يشبه أنهار، ولا يشبه أخاها، وقال عماد :

- لم نخسر كثيراً، إن رأس جابر هي وعاء مثقوب ولا أحسبه يتذكر شيئاً مما انسكب فيه..

 مكث عماد يقرأ القواعد - أو ما بقى له منها - ويلوكها حتى يأخذ يحفظها عن ظهر قلب، كان يمضي في ردهة البيت القصيرة ذهاباً وجيئة فيقول :

- "أوراق السر الأعظم : هاته التي تنتمي إلى مجموعة السر الأعظم صورٌ ذات دلالة على الحياة بشكل عام، والمراحل والخبرات التي نمر بها جميعاً، بدايةً من ورقة المُهرج الدالة على الشباب والحيوية، مروراً بأحداث ودوائر الحياة التي تنتهي حتماً بورقة العالم (نهاية دورة حياتنا).".

وقاطعته المرأة تقول :

- لا أحد يذكر اللعبة الأوروبية في مصر،.. ولن تعمل بما لا يعرفه الناس.

وقال في عزم :

- لقد نقلها مماليك مصر إلى أوروبا منذ قرون، مثلما هو مذكور هنا، وإحياء الماضي لا يتطلب أكثر من مُذكِر لحوح،.. (ثم وهو يعود إلى ما في يده) أوراق السر الأصغر : تلك الأوراق التي تصف الناس والأحداث والمشاعر والأحوال التي نمر بها في حيواتنا العادية مُمثلةً في حياة المُهرج، تمثّل هذه المجموعة الأحداث الخاضعة لسيطرة البشر، وتعطي توجيهاتِ عما بوسعهم أن يفعلوه، إنها مألفة من مجموعاتِ أربعة أصغر، كل منها يرتبط بأحد تلكم العناصر : الصولجان (النار)، الكأس (الماء)، النجمة الخماسية (الأرض)، والسيف (الهواء)، علاوة على الأوراق المعهودة على مثال : الفارس، الملكة، والملك، وثمة ورقة إضافية هي ورقة الوصيف أو الأميرة..

وطالبته المرأة بكتمان أو خفض صوته فيما كانت تعد هذا المنخل الحريري (السنان) فيما تشاركها روز بإحضار ما تطلبه من أدوات، حتى إذا انتهت أو كادت داهمت المستأجرة ومعها طاقة من الأمن بيت أنهار تقول :

- لقد نفذ صبري، هذين، سيدي الشرطي، في علاقة غير شرعية، وهما يماطلان في دفع الأجرة منذ أشهر، وقد كنت لأمرر قصورهما المادي إذا لم يقرناه بمخالفتهما الشرعية والخلقية !

وتحفز الشرطي من شطر الحديث الأول : "في علاقة غير شرعية" لعله فوق تحفزه من شطره الثاني، فجعل يقول :

- أخرجا، الآن..

طُرد عماد وأنهار من البيت يومئذٍ دون أن تترك لهما فرصة جمع المقتنيات، تحامل الضابط على "العاصيين" حتى سلبهما حقهما القانوني، وجلس عماد على طوار السبيل قرب يقول :

- لقد خسرنا كل شيء..

وكانت روز قد جاءت الجالسين على الطوار بعد مشاغبة الأمن وفي يديها صندوق الخشب الماهوجني، فجعلت أنهار تقول في استهتار خائب عطفاً على حديث شريكها :

- كل شيء ما خلا أوراق التاروت !

طفق عماد يقرأ للمارة طوالعهم لقاء عملات منذورة، ما كان الشاب آنئذٍ مجيداً بحق لقواعد اللعبة الإيطالية أو ملماً بها تمام الإلمام، ولكن الحاجة صيرته في موقع من لا يملك الخيار، كان على أنهار إيقاف المارة فإذا عجزت جعلت روز تدور حول العابر حتى يقلقه الأمر، ومن ثم عرض عليه عماد ما لديه في عبارات يجتهد في أن تكون على شاكلة ما ينطق به الحواة، ومن هنا تجتذب الواقف الفكرة أو لا تجتذبه، هام المطرودان إذاً في شوارع غبريال : من مصطفى كامل، مروراً بالترعة المردومة، وحتى مصر القديمة، على هذا النحو إذاً، وتوالت الأيام حتى حققا شهرة محدودة في نطاق الحي وما حوله من هذا الباب، فكانا إذا وقفا في جانب يؤديان عرضاً من العروض تدافع الملأ إليهما واحتشدوا، وتوسع نشاطهما حتى ضم ألاعيب من الحيل جمة، وقفز السحر بصعلوكين فوق أكف الكفاية، واستأجرا في غبريال شقة ضيقة كانت أشد بؤساً من الأولى يتنافس على سكناها الخفافيش والعناكيب، حتى جعلت الجغرية تزيل من صفحتها أكداس القبح فأحالتها بيد مسحورة مشكورة إلى حقيقة مرتبة منسقة، حتى كان هذا اليوم فجعل عماد يقول للملأ :

-  أين تخبئ حبة الفاصولياء؟! إنها في واحدة من أنصاف جَوْز الهند الثلاثة، ليس الأمر على ما يبدو من يسر، بل هو عسير ذو سر، وإذا أردت أن تحير فخير! ومن كشف سرها المطمور أعدنا له رهانه أضعافاً ثلاثة..

وتقلب روز أنصاف الجَوْز الثلاثة فيما يرقبها عماد كالمستحسن لصنيعها المتابع له وهو يزم على شفتيه، فيما تسعى أنهار بين الواقفين فتسرق ما في جيوبهم مستغلة انشغال هاته الأعناق المشرئبة، والوجوه المتطلعة، والعيون المتحفزة فيما يتبدى من أحوال العرض، كان الوقوف كالمجمدين النيام إذاً، وكانت للغجرية يدان ذواتي حيلة ولياقة،.. وإذ نجح بعض المحزرين في التنبؤ بموقع الفاصولياء فقد كان للغجرية أن تعوض خسارة الرجل من هذا الباب، وتصير المحصلة بمكاسبها وخسائرها حقيقة من الكسب، واقترب رجل بدين من الواقف فجعل يقول :

- هل بمقدورك أن تتنبأ بما أكلته اليوم، في الفطور، أيهذا "الساحر"؟

ومسح عماد طرف فم البدين بإبهامه، وكان فيه أثر الباقلاء (الفول) وجعل يقول وحديثه يأخذ ينتقل من الخاص إلى جمهرة العام :

- الفول،.. سيد برميل !

ووقف يتلقى التحيات مزدهياً بنفسه وهذه روز تشاركه بخفض هامتها فوق كتفه، حتى إذا تفرق الجمع اختبأ الثلاثة في زقاق مجاور قرب عقار مائل، جعلت أنهار تكشف له عما جمعت من جيوب الحشود في ظل ذلكم العقار إذاً، وسألها عما جمعت فقالت :

- جيد، بل هو ممتاز،.. ولكنني سئمت تعليقات الوقوف المزرية بي وبالغجر.

وقال لها :

- أذن من طين وأذن من عجين..

وكشفت عن المال فوق طاولة من الخشب متهالكة ينسحب عنها الظل مع "حركة الشمس" في الأفق، وقالت :

- نصيبي هو مثل نصيبك، ولروز نصيب نصف الواحد منا..

وقفزت القردة من كتفه إلى كتف الغجرية، فجعل عماد يقول وهو يرقبها منتشياً بالمال الذي أمامه كأنما يطمئنها إلى نواياه التشاركية :

- عزيزتي الصهباء،.. إن كثيري هو كثير غيري..

ورفع الثلاثة أكواب من العنب وهتفوا جميعاً - ما خلا روز التي  أصدرت نُهاتاً : "في النَّعْماء والبَأْساء، سوياً..". هناك حضر رجل تبدو عليه مخايل النعمة والثراء، إنه محفوف بالوقار والهدوء، وليس كل ذي نعمة هو موقر محترم، كانت مشيته فوق الأرض مستقيمة متأنية ولو أمكن لمواقع قدميه أن تتجسد لناظر ثم أوصل بينها بخطين لكانت جميعها فوق خطين مستقيمين، وارتبك المحتفلون بمقدم الرجل وخطر ببالهم أنه إنما قد وعى سرقته قبل الأوان وعاد يسترد ما سُلب منه، لولا أن الرجل الموقر مد يداً لعماد يقول :

- هنيئاً لكَ، عرض موفق باهر..

ومد الآخر يده في تحفظ لمن بادر بالتحية ولم يجبه، فيما قال الرجل الموقر وهو يمسك بورقة المهرج  :

- إنني خادم سيدي،.. هلا ساعدته بما أوتيت من معرفة التنجيم وقراءة الغيب؟!

واعتذر عماد أولاً اعتذاراً اقترن بترك الموقر لورقة المهرج، وتساءلت الغجرية كأنها تستوقف من ترك الورقة :

- معذرة، وأين يقيم سيدك؟!

وانتظر مهلة سبقت الجواب أكثر مما يجب توافقت وحقيقته المتأنية، قال:

- إلى جوار فيلا أبي الفضل، في منطقة الفراعنة بالحي اللاتيني..

لم يكن خافياً على أنهار أشهر فيلل الإسكندرية، وقد أسالت خيالات الكسب لعاب نفسها فقالت :

- إننا في خدمة "سيدك"..

ومد الموقر يده لها مصافحاً، وقد فطن مما أبدته من الرأي المستقل عن "الساحر" إلى أهميتها فأكبرها بعد إذ أهملها :

- ما دمنا في خدمة الرجل عينه، فنحن أصدقاء إذاً.

ونظر عماد لصاحبته التي مدت يداً عجباً، واقتفيا أثر الرجل الموقر الذي عرفا أن اسمه مهران، وكان مهران - وفي خلا سعيه هذا - يعرف بفيلا أبي الفضل من محيط فيلا سيده لضيفيه الغريبين، فيقول :

- انتقلت فيلا أبي الفضل من جوزيف جوهر، أحد أهم الشخصيات الإنجليزية اليهودية في تاريخ المدينة، إلى نجله أدوين تاجر الحرير والسجاد الأرضي، إلى الملاك المصريين..

وهمس عماد في أذن صاحبته يقول :"ولماذا قبلتِ عرضه؟! سيفتضح أمرنا، وكأنك لست في مطبخ ما نقوم به من تمحل واحتيال، أرأيتِ إلى من اغتاله طموحه؟!"، ومثل هذا من غيره من الملام،.. التفت مهران إلى الاثنين فصمتا، وكان الرجل من ذاك الصنف المهذب الذي يستعصي التعرف على ما يدور بنفسه حقاً لما هو يثقِّف انفعالاته جيداً وينتقي كلماته بعناية، غير أن التفاتته حوت ولا ريب على رغبة في إسكات المتحدثين، وإن له شخصية لوجستية باردة تكاد تصل به إلى الروبوتية المحضة ولكنه - مع ذاك - يكره أن يعامله الآخرون في إهمال كأنه مبتور الشعور أو فاقد شخصية، وكانت مشيته الرزينة - ولما كان قصير اليدين - إلى مشية بطريق أشبه وأشكل، وانتقل (مهران) إلى الحديث عن فيلا سيده يقول :

- لقد مرت فيلا سيدي أيضاً بمخاض مماثل من تنقلات الحوزة الأجنبية فالمصرية حتى آلت إليه، ولكن شوكة واحدة تعصف بكل هاته الفخامة، وتنزع آيات الحمد من ربوع الرغد انتزاعاً، إن سيدي لحزين أكدر في داره المنعمة،  إن بمقدور نائبة واحدة أن تسيء إلى بناء من الكثرة والوفرة إذ كلما زاد التوقع تعذر الرضاء، والعشم حصان طروادة أعمق الخيبات، وما تحصل ابن آدم على نعمة إلا وخالها دائمة لا تُفقد..

اشترت الرجل على ضيفيه أن يتركا روز في حديقة الفيلا مخافة أن تسيء بمشاغبتها إلى "النظام الذي يحرص عليه كثيراً" بوصفه، ساق مهران عماد وأنهار وحدهما إذاً إلى حجرة في جناح الفيلا الموفورة، وإذ بهر عماد بما رأى من شكول النعمة فقد شق عليها رؤية "الشوكة"، كان نجل السيد صاحب الفيلا نائماً في قلب هذه الحقيقة المترفة وقد أحيط بأجهزة التنفس الاصطناعي، وقال مهران :

- زعم الطبيب أنه قد مات أكلينيكياً منذ عامين، إنه حي ميت، والحجرة مقبرته وموطن معاشه، إن أنفاسه حية وجسده كتمثال، إن روحه مضطربة إذاً بين عالمين،.. ولكن سيدي يرفض أن ينزع عنه تلكم الأجهزة فيقطع أمله الطفيف في نجاته..

والتفت مهران إلى عماد الذي كان يدقق في عيني النائم المغلقتين، إنه (مهران) سائله :

- وماذا ترى في أمره،.. أيا قارئ التاروت؟!


 رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص

**


في السيالة..

عاش نبيل في زَهادة وانكفاف بعد معايشته لمشهد العجوز والصبي الأسمر الغارقين في لجة الأمواج، وإذ استعصى عليه أن يعود إلى سابق عهده من الاستهتار، وتعذرت عليه مماهة نفسه في مجالات اللهو إلا فيما عز وندر، فقد تملص الشاب من حقيقته واستحال شيئاً آخر، كان يستفرغ وسعه في جمع القمامة غير منتعل في غبار النهار، ويدلف إلى الملحج (الطريق الضيق) كي يهب الشحاذين ما لديه، ويوافي البحر في برودة ليلاته فيترجاه أن يلفظ الضحيتين من جوفه، وإذ هو كان لا يجد من جواب البحر إلا المألوف من موجه ورذاذه فقد جعل يفسره بقوله :"حسناً، حسناً، تريدني أكثر زهداً وخيرية.."، ثم يعود إليه في الغد فيتلو عليه ما أنجزه دون أن يجد جديد.

حتى كان يوم يمر فيه بتلكم الحانة فسمع من يناديه يقول :

- من أعظم الخسار أن تسلم نفسك للزهد حتى تنتهي،.. لقد نحل بدنك فما عاد ثمة مزيد يُنتقص..

وكانت سعاد هي صاحبة الحديث فنظر لها وجعلت تقول :

- ما الذي صيرك إلى ما أرى؟!

وتولى عنها ماضياً يقول :

- المسألة تبدأ من جذر بعيد،.. بعيد..

ورأت جفافاً وتشققاً في شفتيه حملها على القول وهي تخطو نحوه خطوتين :

- فلتشرب شيئاً في الحانة، الماء في السيالة مقطوع منذ أيام ثلاثة، ولدينا خزين من الشراب جيد..

وأحس من نفسه الظمأ فحضرته النية وطاوعها في مأربها، ومر بأطفال  يلعبون بكجَّة من زجاج وصلصال حتى انتهى إلى باب الحانة، وقعد على هذا الكرسي فقدمت له المرأة شراب الويسكي في كأس، وقال وهو يفك يديه المتواشجتين عن بعضهما في غضب :

- حسبته الماء..

وقالت :

- أبي غدا لا يخزن سوى الويسكي، الخمر ماؤه..

وأمسك بالكأس كارهاً وكان يشعر بجفاف حلقه، ولامست شفتاه المتيبستان المشروب الكحولي فرأى في خياله صورة هذا الصبي الذي يهبط إلى الموج كيما ينقذ العجوز، وجعل يزعق ويهتف :

- فلتنتبها ! إن القارب يغرق، أيها العجوز، أيها الصبي، فلتنتبها !

 وارتعد وفزع - كخوف شاة أمام ذئب - حتى زلقت الكأس من يده فانكسرت، كان وجهه معرورقاً حين انتهى من مماهاة هذا الخيال أمام ذهول رواد الحانة، يسرح ماء وجهه إلى ياقته المنكسة، ونهض منصرفاً فرمقته سعاد بعجب تقول :

- أين تذهب؟ إنها محض بداية..

وترك الحانة يقول :

- بداية توشك أن تكون نهاية..

في هاته الليلة عاد الرجل إلى البحر يحدثه، يقول كالمنادي :

- أعلم أنك لن تطاوع رغبتي اليوم لما انزلقت إلى قبول عرض المرأة، إنني ما شربت من المشروب حسوة ولا رشفة، إنه كريه اليوم في فمي، حتى رائحته، وإنني معتذر،.. ولكن منذ متى وأنت تجيب رجاءاتي وتضرعاتي؟! كم من متمنٍ يبثك شكواه وأنت الصامت، العاجز أمام إراداتهم وقصودهم، وكل تحريكة وتسكينة تأتي بها هي سأم وملل، إن لكَ روحاً تقلب بها العباب دون لسان، لقد ابتلعت الأفق بشُسُوعك والتهمت الرجلين بأمواجك،.. ألا ما أبشعك !

وشعر بمن ينقر رأسه بكرة بلي فتألم، والتفت عن البحر إلى من وراءه فألفى سعاد التي تقول :

- هل جننت؟! هل تحدث البحر؟

- لقد ابتلع عجوزاً وصبياً، إنه قاتل وما تلكم الأسوار حوله إلا سجن عقوبته الأبدية، بمقدوري أن أتخيل أن صخوره التي ينحتها هي أشغاله الشاقة !

وألقت بكرة البلي في البحر تقول :

- طرقت أسماعي بقصتك غير مرة، ويوم أبقيت عليك في الحانة كنت تهذي بها كثيراً،.. لقد ألقيت بهذه (أي الكجَّة) ولست أرى فرصة في أن استعيدها، ما ابتلعه البحر لن يعود، ولو لم يكن ذا خطر ما أقاموا حوله هذا السور، لقد مرت على الفاجعة أوقات طوال، عام أو أكثر،.. لقد كنت (تقصده) قبل الساعة مجاوزاً صفيقاً، واليوم أنت متقشف واهن، وكلا الحالتين فساد وتزيد..

ورأى شعرها المذهب فحسر نظره متذكراً حقيقته الأولى يقول :

- ماذا تريدين أن أكون إذاً؟

وهبت نسمة من البحر هي بين بين فقالت :

- الاعتدال..

- ومن أين تعلمتِ هذا؟

- أبي اختزل حياته في الخمر والمال، وأمي كانت صيادة صبورة وصامتة جابت الأبحر،.. وكلاهما لم أفهم طريقته.

وسألها أيضاً :

- كيف وصلتِ إلى هنا؟!

- ليس عسيراً أن تقتفي أثر شاب نحيل غير منتعل في مدينة متوسطة النسم.

ابتاعت المرأة للشاب حذاءً ولبسه الرجل شاكراً، وإذ عرض عليها البائع أثماناً لأسعار ثلاثة ممكنة فقد تخيرت الأوسط، وقالت :

- يقال بأن بوذا قد قبل الحليب والأرز والحلوى من فتاة في القرية اسمها سوجاتا، وقد تعهد يومئذٍ ألا تنشأ شجرة التين الهندية التي كان يقبع في ظلالها قبل أن يصل إلى الحقيقة،.. إن بوذا حين شاهد كفاح وجهد الفلاحين في العمل مما لم يعرفه بالقصر بدأت تثور في عقله التساؤلات : لماذا يجب على المخلوقات أن تعاني بهذه الصورة؟ كان هذا طريقه الصحيح للصحوة عبر الاعتدال عن التطرف في الانغماس الذاتي، وتحديد المصير،.. أرسطو أيضاً تحدث في فلسفته عن المتوسط الذهبي، لقد قبَّح "المعلم الأول" الإفراط والتفريط، وأزرى بالتهور مثلما قدح في الجبن، الشجاعة هي ما يجب إذاً، إنها الوسط المرغوب بين النقيضين، إحداهما عن مبالغة والآخر عن تقصير،.. أما لاوتزو فقد أجاد شرح الأمر في الطاوية بالتقليد الصيني، إنه يرى أن الأشياء ترتد إلى أصولها بعد أن تبلغ غايتها القصوى، والحكمة تقتضي الإبقاء عليها والحيلولة دون تطورها الكامل الذي يعود بها إلى نقيضها..

وقال وهو يلبس حذاءه فيحدس بمناسبته لمقاس قدمه الكبيرة :

- من أسف أن الحقيقة بلا وصول، إنها طريق دائم واستقصاء غير منتهٍ وديمومة استرشاد،.. لقد نبتت ألف شجرة هندية دون أن يصل بوذا أو غيره إلى غور الحقيقة حقاً،.. ومن وقع على سرها كمن اقتفى السراب، هل بمقدور أحد أن يقبض على الماء؟

وصحبته إلى الحانة مجدداً، كان الليل قد عتم، والماء قد عاد بالسيالة في ظلام الليل بعد انقطاعه حتى رأيا أمام الباب صبياً يحمل جردلاً هو في مثل حجمه ويركض به إلى بيته، وامرأة منتقبة ترفع عن وجهها غطاؤه وتغسل وجهها من كولدير ماء له كوب صدئ مربوط بسلسلة مخافة السارقين، وثالثاً يسكب ماء سطله الذي ملأه من حنفية عمومية حين يفطن إلى جرذ غارق فيه، وفي قلب الحانة ألفت أباها يقرع الأقداح فجذبت هذا الكأس الأخير عن يده، كان جسد الأب ثقيلاً، وقالت فزعة :

- لقد تعاهدنا على كأس واحدة.

وقال الأب مغضباً وقد بدت عليه علائم صداع الكحل من الهذيان الارتعاشي والهلوسة :

- تسكبينه للجميع وتمنعينه عن أبيك؟!

وهم أن يضربها فتفادته وصدم المهاجم رأسه بلوحة معدنية فنزف وهوت لوحة الحائط، وأصابه الغثيان فجعل يلفظ ما قد قرعه، وسألها نبيل في انفعال والمرأة تطبب جرحه بقماشة ذات ماء :

- كم كأساً يشرب في اليوم الواحد؟

- بين عشرة وخمسة عشر.

وأمسك نبيل بالصورة المعدنية الهاوية التي كانت تصور الأم الصيادة الممسكة بسمكة هامور كبيرة من ذيلها (التقتطتها سعاد لها في سفرية بالبحر الأحمر) :

- سيشرب خمسة كؤوس، سيكون هذا اعتدالاً منجياً بالنسبة إلى حالته المسرفة.

ونظرت له سعاد نظرة عميقة ثم عادت تطبب رأس أباها المتضرر في لهفة.

 

في السيوف..

استأنف رؤوف إلقاء دروسه في مسجده وسط صفوته وخلصانه في آخر أيام رمضان، وكانت ابنته عائشة من بين حضوره يجلسها على ميمنة منه فتلعب في حصير الأرض، وقد صار قليل الحديث عن مواجيده وأحواله بعد إذ اقترنت الصوفية في خاطره بالخسارة الأسرية والمالية، وإذ شعر الرجل بالهدأة والسكينة في أحضان دار العبادة فقد ألقى على مجالسيه قصة النبي أيوب، يقول :

- خَرَّ عليه رِجْلُ جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربّه : يا أيوب ، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال : بلى وعزّتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك..

وعرج إلى الحديث عن محنة النبي الصبور فجعل يقول :

- لقد أصيب عليه السلام بضرر جلدي من مفرقه إلى إخمصه، وراجح الظن أن محنته دامت ثلاثة عشر عاماً، هذا ما تسالمت عليه جمهرة المفسرين، وفي نصوصنا الشرعية المرعية، وإن ذهب بعضهم إلى أنها سبعة عشر، أو سبعين،.. وقد كان يعالج نفسه بالرماد..

وشدت عائشة طرف ثوبه ففقه الرجل إلى مأربها يقول مبتسماً :

- كلا، ما كان ينفعه بيض النسر،..(ثم وهو يعيد الالتفات إلى حضوره) واضطرت زوجه رحمة بنت إفرائيم إلى الخدمة وإلى قطع ذؤابة شعرها كي تطعمه، وقد عجل هذا بدعائه المأثور : ربِ إني مسني الضر و..

وتحشرج صوته فيما يشبه البكاء فلم يكمل واكتوى بغصة، ولعله تذكر كيف تركته صالحة في حاجته فزاد كدراً، وتوجه إلى تلامذته كأنما يحذرهم :

- الهوى مركب عثور، حاذروا أن تنزلقوا إلى حفرته..

وقال كلاماً آخر محصله نبذ الهيام والعشق والاعتدال، واستروح إلى نسمة ولاذ بالصمت ومد بصره إلى بعيد فرأى شبح آدمي لا يلوح منه إلا سواد قرب  باب المسجد نصف المفتوح المنقوش من خشب الأرز، وعاد يمرر ناظريه في تلامذته حتى استقر إلى من استحسنه واستجوده لغرض نفسه، وأوعز إليه بعد إذ اصطفاه بأن يسأل عن هوية الواقف، وبأن يستفسر في شأنه، ومكث رؤوف يسبح متمتاً على سبحة من خشب الكوك ذي الحبات الصغيرة ريثما يعود رسوله بجواب سؤاله، وعاد المأمور متهللاً يقول له :

- إنها صالحة جاءت في خمارها..

ترك الرجل مجلس الدين وانتقل إلى المرأة التي فسد عرسها وجاءته، وما لبث أن أنهى درسه بالدعاء العجول،.. وأنهى حديثه بما كان يذكر به تلامذته دائماً، يقول :

- الشريعة هذا لك وهذا لي، الطريقة ما لي هو لك، الحقيقة لا لي ولا لك..
 سرت عائشة بعودة المفترقان وكانت تدق الهون النحاسي في حماسة آملة أن يطول "الشهر ذو البركات" الذي أشفى على نهايته في "وقفة عرفات"، ذاكرة ما يؤيد أملها في هذا بين الضربات وهي تنسج على ما منوال ما  تلقنته من موروث الثقافة مما يرد ذكره في وداع الرمضانات، وتزيد بما يداخلها من إضافة الإحساسات الدافئة، وصعدت إلى السطح كيما تبث الطائر حكايتها وتشاركه شعورها، فلما صعدت توقف دقها وفترت حماستها، لم تجد الصغيرة طائرها وجعلت تناديه :"نخبيت ! هل أزعجك ما رسمت في تصوريك فرحلت؟ أين أنتَ؟ نخبيت.."، وإنها كذلك حتى غفت في قلب العشة ذات الخشب الملون والهامة القشية منهكة بعد عناء البحث والنداء، وحضرها منام رأت فيه الطائر يودعها بعد إذ وهبها تاج رأسه، واقتفى أبوها أثرها بحثاً فلما انتهى إلى السطح ودلف من باب عشته سقط القش فوق بدنها، وأزالت عن نفسها سيقانه الجافة بعد إذ يقظت وهي تسعل، قالت في لهجة مؤسفة مؤسية حتى لقد تكاد تبكي :

- لقد رحل الطائر..

رنا رؤوف إلى الأفق من فوق ذلكم السطح ذي الجدران القصيرة، كان البحر يبدو هناك بعيداً بعد جمهرة من البنايات المصفرة ذات الزينة، إن للبنيات في بلادنا صورة كالحة مكفهرة، ولكن بنايات هذا اليوم - لما عمتها الاحتفالية وخالطتها الأنوار - كانت أفضل حالاً، وقد بدا البحر الذي كان ضيفاً على الأفق أكثر تواضعاً،.. لقد احتفلت المدينة الساهرة بالوقفة ومقدم العيد بعد انقضاء ثلاثين يوماً من صيام رمضان، واستأنفت حوانيت الفلافل نشاطها أخيراً، وعلا هرج الأطفال على جبين الفجر، وأحدثت الزينات هديراً اقترن بأحوال زوابع الهواء، وابتاع المبتاعون المفروشات الجديدة ذات الطوابع والرسومات، وعملوا بالعادة المتوارثة من شراء أدوات للمطبخ جديدة،.. وتحرى صاحبنا الابتعاد من النظر الفوقي لما كان على شيء من فوبيا المرتفعات وقد نكس رأسه، قال الرجل متنهداً وهو يتذكر هجوم الطائر على عرس صالحة وحسن الصائغ :

- رحل بعد أن أدى وظيفته، وأتم من وجوده الغاية..

ومضى يتأهب للهبوط من السطح في خطوات فساح هادئة، وتقهقر تكوينه كي يمر على السلم ذي السقف الواطئ فلحقت به الصغيرة تسأله:

- ماذا رمت بحديثك؟! وماذا تقصد به؟

وقال في حس متحدٍ دون أن يزيد كثيراً عما جاء به أولاً :

- طوبى لمن يرحل بعد أن يؤدي دوره !

هذا ووقفت عائشة تحدق إلى السماء وحدها منطوية على عجب وحزن.