الفصل الرابع عشر : لقد صارت أختاً له
في السيوف..
جمع رؤوف لإصلاح مسجد الشوربجي شيئاً
من المال قيماً، لقد كان في نفسه آنئذٍ سرور شبيه بسرور الشيخ عبد الباقي
الشوربجي، محب الإسكندرية حين ترك بلاده (المغرب) ليقيم في المدينة التي استقر
فيها سعيه ذلكم الأثر، لقد فقد رؤوف زوجه صالحة ثمناً للأمر وجزاءً له، وإذ يراه
المحب بذل في سبيل مأربه النفس والنفيس، فقد يراه كارهه متهور في مهوار الطيش
والنزق والدروشة، وأما هو فسعيد بين عيون العارفين ونجوم الواصلين (بوصفه).. لقد
قصد إلى المسجد الواقع في سوق الميدان، أشهر أسواق المدينة طراً، المطل (أي
المسجد) بواجهته الشرقية على حارة الصاغة، وبواجهته الغربية على سبيل محمود فهمي النقراشي،
المحدود بجانبه الشمالي الشرقي بوكالة المنشئ - قصد إلى المسجد وفي نفسه نزعة
تطهرية كأنما استفرغ صبره وفوق رأسه مثاقيل الجزع تشق عليه،.. كان حقيقة المسجد قد
بُعثرت : فوكالته استحالت إلى حوانيت لبيع الفواكه والخضروات احتواها سوق الميدان
في نسيجه الممتد، وأما الاسترحات فمساكن للأهالي، وقد وطأه الإجرام وتَدَكْدَكَت
بعض أحجاره، وهمس المتطلع في نفسه يقول :"سيحييه الله مثلما يحيي القرية
الميتة..".
ووقف منتظراً جامع التبرعات الذي
تأخر، كان اسمه حسنين السحت وأما عمله فتاجر في سوق الميدان، وقد عبر الرجل عن حاجته
لسبعين ألفاً ومائتي وخمسة وثلاثين جنيه لإصلاح المسجد العثماني التليد، لقد بدا
الرقم "دقيقاً على نحو يثير الريبة"، وشرب رؤوف من جرة المسجد الفخارية
وجعل لعائشة - التي صحبها معه لتبركه بها وعلمه بأنها ومثلها من الأطفال مرفوع
عنها الحجاب - أن تشرب من يديه، وكانتا في تشققهما وتدفق المياه الباردة منهما إلى
الحجر الذي يتشقق فينبثق الماء منه أقرب، وقالت بعد إذ أغصَّها (أشرقها) الماء :
- فلنرحل من هنا، ولنعد في وقت آخر،
لليل هنا أيما عتمة وظلمة، وإن حقيبة من نقود لن ترد مسجداً على هذا الحال إلى
حياة، إنه محال..
ونظر إليها بعطف يقول :
- فرض المحال ليس محالاً،.. سيجيء
طالب المال في غضون ساعة أو بعض ساعة،.. ثم ألم يأتكِ خبر عزيز الذي خرج إلى ضيعة
له يتعاهدها، هذا الذي أماته الله مئة عام في الخربة التي هلك فيها بنو إسرائيل،
ثم أحياه بعد تبدل الأحوال دون أن يفسد طعامه من التين والعنب والخبز؟
وقالت في مشاغبة طفولية لم تنضبط بعد
بالحلال والحرام :
- لقد استغرق الأمر مائة عام على أي
حال..
ولاحظت أن حديثها خدش هذا الهيام
الوجداني الذي كان ينماع فيه الرجل ويذوب، فقالت :
- معذرة..
- سألتمس المعاذير لطفلة في العاشرة
دائماً.
وقالت متشجعة بما أبداه لها من تجاوب
عطوف :
- أحياناً أرى خطأً يقترفه المرء حين
يروم إصلاح بناء هو جدير بالهدم، لقد كانت عشة نخبيت المألفة من الطين والخوص ذات
صدوع وفساد، وقد هدمناها كلية وأقمنا أخرى من الخشب الملون، وجعلنا فوقها هامة من
القش، وقد رسمت على واجهتها صورة نسر أردته مكافئاً لنخبيت ومضاهياً له، وقد
اجتهدت في أن أجعل الطائر في عشته على صورة الثبات فتصير رسمتي بعد تتمتها إلى
حقيقة واحدة، وقد أرهقتني المحاولة من أمري عسراً لما كان الطائر بعيداً من
الاستئناس، حتى أسرفت له من الطعام ما حبب إليه السكون لدى الآنية،.. لقد بدت
الصورة المرسومة وياللأسف وبعد الانتهاء منها كالبطة العرجاء، وإذ كان لنخبيت وعي
متقدم فقد كان يسوءه أن يرى نفسه على مثل تلكم الصورة، وإذ كنت مستشعرة منه شيئاً
من الحس وبعضاً من الاستجابة فقد أعرض عما رسمته مغضباً أو لعله لم يدرك ما بينه
وبينها من التشابه المروم، ومهما يكن،.. الإصلاح ليس الحل المجدي، الاجتثاث أنجع
طريقة.
وقال الآخر في حلم :
- لا أصبت ولا قربت، إنه مسجد أثري
وهدمه يعني ضياع الأثر، إن فساده تأريخ، وتحلحل أحجاره توثيق، وكل ما يطرأ عليه
وعاء لضربات الزمان الطويل،.. أما إذا بلغ الأثر حداً من التضعضع خُشي معه من ضياع
الهوية وإسقاط الكينونة رمم بهدف الإبقاء عليه..
مضت الساعة دون أن يحضر السحت، صحب
رؤوف صغيرته إلى الحضرة كيما يلقنها الحب الإلهي (بوصفه)، كان طريقه إلى هناك
واضحاً لاحباً مستبيناً كدأبه حين يقتفي حساً روحانياً في نفسه، ومن عجب أن هذا
الوضوح كان وبقدر جلائه "يعميه" عن غيره، وهناك وجد على رأس الجلسة شيخاً
عارفاً بالطريقة ينبه على كل ما من شأنه أن يشوش إمكان الوصول إلى لحظة الصفاء،
وقد انفصل رؤوف وجدانياً وكان إلى جواره رجل ذو عمة يهز رأسه ويردد : "
واثبوراه، واويلاه.." أزاد من خشوعه ووثق رهبته، حتى إذا انتهى ضرب الدف
والدعاء والذكر الجماعي وإلقاء الشعر والمواجيد ضبط تلفيحته الخضراء التي "سمع"
يوماً أنها تستحيل إلى دخان ما زاد المحب في منازل الوجد، ثم مد يده إلى الحقيبة -
أو خيال نفسه عنها بالأحرى - فما لبث أن انتبه إلى أنها قد اختفت، لقد ترك رؤوف
جلسته سريعاً وبحث عن ضالته في كل موضع، ولم يعثر لها بعد العناء على أثر كأنما احتواها
الاستتار في مستقر مجهول.
عاد رؤوف إلى السيوف مكلوماً خاسراً، وقد زاد
حرج نفسه حين رأى زفة صالحة إلى حسن الصائغ، وإنه لمن سوء الموافقات أن يجتمع على
المرء كدران،.. كان هزاع يرقص في ترخص، وإذ رأى منه رؤوف دناءة وخسة فقد أعرض عنه،
وهذا حسن الصائغ كالمتفحم في بذلته الكحلية، وما أكثر ما حفلت به يداه من الخواتم
والمذهبات دون أن تشفع له البهرجة بشيء من بهاء طلعة الرجال أو الزينة الحقيقية،
وقد همس رؤوف حين رؤياه :"حقاً،.. ماذا تفعل الماشطة في الوجه العكر؟"،
ومضى بعد الهمس متقدماً ومباركاً، تحفه عيون بأسف، وتعرض عنه عيون، وسلم على صالحة
كالثمل من إبريق الخسران، وقد تنازعه صوتان داخليان، إن أحدهما يقول : "لقد
أضاعت الصوفية المال والأسرة.."، وأما الآخر فيقول :"لا شيء يضيع في
حساب المحب.."، وعاد يقول كأنه النحلة الدوارة حين تستقر فإذا هي فاقدة
وقفتها المقترنة بالدوران :"المقدور أن يضيع المال، ولو لم تتكفل به الحضرة
لكان السحت.."، وخرج من لجة الزحام فسألته عائشة :
- هل أنت حزين؟
كان على وجهه خريطة البؤس الشامل :
- يقولون بأن ثمة مائة وخمس امرأة لكل
مائة رجل،.. لا بأس !
وأحست عائشة منه الحزن يستتر وراء
قناع القناعة، تطلع الرجل إلى هاتيك الزفة التي تأخذ تتحرك ببطء وتزحف عنه في ثقل،
وإن للأعراس في بلادنا صخباً أحمق، وعجيجاً مرهِق، وفيها من يستأنسون بالضوضاء،..
أرجع الرجل البصر إلى صغيرته فلم يجدها، وإذ سمع الرجل صافرة باعثها السماء فقد
رآها (عائشة) فوق ذلكم السطح هناك، وإلى جوار عشة الخشب الجديدة، لقد تحرك النسر
في أعقاب صفارتها مهاجماً رواد العرس الليلي، وبث الطائر الذعر في النفوس وخلق هاتف
الهلع، إنه نبي الرعب المحلق، ورسول الإرادة المحققة لرغائب الطفلة، وملبي مشيئات
مطعمته،.. وإنه لكذلك حتى قيل بأن المحظوظ هو من لم ينقره الطائر في عرس صالحة
والصائغ، وأما المنجاة فمقصورة على الفرار،.. وتسمر رؤوف في موقعه وترقب صالحة
التي كانت تنظر إليه وسط اضطراب محيطها البشري وفوضاه، بأثر من هجمات العقاب
المتواترة.
في زيزينيا..
جلس إياد في ركن حجرته محرنجماً
حائراً كأن في جوفه شيء، وإذ كانت عادة الفتى الذي أتم ربيعه السادس عشر هي الحركة
والنشاط فقد بدا منه هذا السكون مريباً ذا غرابة، وقد دأب الأب على زيارته في حجرته
لما كانت له سِيمياء لا تشق على البصر تسر الناظرين، وكأي من مرة لاقاه وفي نفسه
شيء من الضيق فانفرجت بعد اللقيا ضائقته، وسعى إليه مستأنياً ثم ألقى السلام،
فحياه الجالس فاتراً، وإذ رأى منه حسين هذا الجمود القاتم فقد انقبض وحذق أمراً،
وسأله عن سر تبدله فأجاب الآخر وهو يحسو من الشاي حسوة أو حسوتين :
- إنني لا أبسم ولا أعبس..
ولم يعجب الأب بالجواب القلق، قال :
- جدير بك أن تبسم وأن تبتهج ما دمنا
على فضل صحة ومال،.. قاتل الله الألفة الغافلة إذ هي تسلب من المرء نعمة الحمد
والشكران..
وأجاب الجالس وقد استفزه أن ينسب الأب
صمته إلى جحود النعمة :
- ليست الألفة الغافلة، ولكنه أنتَ سر
كدري..
واستثقل الأب مثل هذا الملام، حتى كاد
يفزع ويجزع، وسأله :
- حدثني بما في نفسك، والخطأ لا يعرو
منه أحد..
تنهد الآخر، قال :
- لقد فزت برئاسة الاتحاد الطلابي في
جامعتي، وإذ كنت على صلة بطبائعي إلى القيادة فقد قنع بي زملاؤي من طلاب كلية
الطب، لقد سخرت طاقتي في إيجاد سبل مالية ومتابعة عمل اللجان الثقافية والرياضية،
الفنية، الجوالة، والأسر،.. إلخ، ثم نذرت عزمي على تمثيل الطلبة في الاجتماعات
واللقاءات بأحسن ما يكون التمثيل، أذكر أنني كنت في إحدى الرحلات أحدث الجلوس، وخير
أوقات التلقي ما كان فيه المرء في فسحة وراحة نفس، لقد حدثتهم عن الفيلسوف جون لوك
وقوله المأثور بأن العقل شمعة الله التي نصبها بنفسه في أذهان الرجال،.. وفيما كنت
في استغراق الخطابة واسترسال الحديث عن عصر التنوير ونحوه من وقائعه في زمنه
الممتد الثري (يريد الفترة منذ أواخر القرن السادس عشر إلى أوائل القرن التاسع
عشر)، مورداً مكافئه المؤسف في بلادنا إبان السيطرة العثمانية وعصر سلطنة الحريم
وتأثير مفهوم الكاماريلا - أقول فيما أنا كذلك فقد شاء منافسي (يريد منافسه الخاسر
في الانتخابات الطلابية) أن يهمز قناتي، لقد قال : إن أبيه جليس مرشح الموطني
وساعده، وإنني إذ كنت نجلاً لك فقد شابهتك، وفي هذا ما يخل بمبادئ الاتحاد من
تعميق أسس الديمقراطية والحقوق، لقد سمعت عن كراهيته التي لم تنقشع سحابتها بعد
خسارته أولاً، ثم رأيته ينطق بما يؤيد المسموع بعدئذٍ، وإذ وقع لي يقين العيان بعد
يقين البيان فإنني ما ارتبكت ولا اضطربت، وقد أجبته بما رد كيده إلى نحره.
وتساءل حسين الذي بدأ في الاقتناع
حقاً بحديث صاحبه طُلَيْمات في تحفز :
- وما يضيرك إذا أنت ألجمته؟!
- أخشى أن يكون للأمر توالي وعواقب أخرى،
وأكره أن يتخذك المبغضون سبيلاً للنيل مني.
وأجاب الآخر يقول وهو الممسك بطرف
شيبته من شعر رأسه :
- بل إن صاحبك أشبه إلى الثآليل
الضارة (عين السمكة) التي تنبت في الجسم وتنتهي من تلقاء نفسها،.. يملك الشباب
القوة والبأس، إن لهم همة كهمة أوليسيس الذي خاض البر والبحر دوماً بحثاً عن دخان
مدخنته، ويملك الشيوخ الحكمة وسداد الرأي، وإن لدى الحذاق منهم نظرة ثاقبة
رشيدة،.. إن فتى يافعاً هو حصان وإن شيخاً هو بوصلة،.. يبدأ الإنسان وعيه في
طفولته وكل شيء مسموح وأما أفقه فبعيد قاصٍ، إن خياله اللانهائي ما يفتأ ينضبط
بتراكم التجارب ويغربل بها حتى إذا صار إلى عمر الشيخ كانت له الخريطة،.. لقد حدثك
كارهك بخيال الشباب إذاً وغَرارتهم،.. أريد أن أقول أيضاً : إن أمراً ما يجعل
القوة مقرونة بشيء من الوعي، ذلك أن قوة هائلة وغاشمة هي عرضة للتآكل والزوال أكثر
من غيرها، إن عملاقاً عليه أن يتعلم كيف يضبط نفسه في حجرة تضيق عليه وإلا كتب على
نفسه الشقاء، وفي الإسلام حرم الله وهو القوي الظلم على نفسه،.. وإن رجلاً يملأ
الدنيا هتافاً في ميدان قد لا ينفعه الحكم ولا يلائمه كرسيه، ذلك أن المسؤولية هي
اختبار الحقيقة، الديمقراطية ليست دواءً مسحوراً لكل داء، إذا سألت تسعة ثعالب عن طعامهم
فلن يكون لعنزة نصيب في النجاة، والحكمة تقتضي أن تطمئن إلى وعي رفقائك قبل أن
تطلب منهم مشورة، وعقل العوام كمجموع هو كعقل أرأدهم..
وأجاب إياد أباه يقول :
- الوعي ابن التعليم والثقافة، وهما عضوان
يتحكم فيهما نظام السياسة، والديمقراطية ليست البلسم المسحور ولكنها وسيلة مقننة
لضبط الكراهية في مجتمع واستيعاب الاختلاف فيه..
ومد الأب قدمه على بساط الأرض وكان
على صورة دجاجة وبيضة، يقول :
- ماذا عن الذكاء؟ إن حاصل الذكاء في
مجتمعنا يقصر بنحو عشرين درجة عن متوسطه العالمي، وهذه نقطة جينية جبلية، إن
لترديه جذوراً في التنشئة وزواج الأقارب..
- إنني لا أؤمن بالحتمية والارتهان،
أقام الفراعنة بجينات تشبه ما لدى المصريين اليوم أجل حضارات العالم القديم، لقد
كان انهيار الذكاء خلال العقود الفائتة معزواً إلى انهيار قيمة الجنيه والانفجار
السكاني ثم تناقص نصيب الفرد من البروتين الحيواني،.. وإذا أنت منحت الفقير
والبليد بيئة مواتية أشعلت فيه جذوة أطفأها فيه شعوره بالانهزامية، وحببت إليه أن
يرتقي على سلم الإنتاج درجات، فنلبدأ بالتنشئة ومشتملاتها، ثم تنظيم النسل أو حتى
تحديده، ونبذ زواج الأقارب ونحوه من أسباب الخلل والقصور الجيني،.. وسيجبر تراكم
الأجيال ذات الأسس القويمة ما خلفه إرث الماضي من نكوص عقلي وذهني، لقد أغفلت عن
الجذور الكسبية للأمر التي تنتج من الدوران في منظومة غير واعية إذاً، معذرة،
أبي،.. هل قرأت شيئاً عن تجربة الهند، أكبر الديمقراطيات في العالم المعاصر؟
وأجابه حسين يقول :
- مرة أخرى : فكرتك قائمة على مغالطة
التوسل بالأكثرية..
وصمت حسين محدقاً إلى ساعة كان
لعقاربها صوت مسموع، إن جلسته لمزعجة وما أشبه صوت العقرب إلى نقط ماء تتسرب فوق
رأس سجين، إنه يحب من نجله أن يراه على هيئة المثل الأعلى لا على صورة الجالب
للاستخذاء، وإذ رآه الآخر على غير ما أراد فقد انزعج وبسر، سأم إياد بدوره حديث
أبيه مثلما مل من صمته هذه اللحظة، وسأله رأساً عن مأربه :
- لماذا لا تذر الشراكة مع
طُلَيْمات؟!
- سنفيد من الرجل غداً.
- فلتتركه اليوم، وغداً نجد من
يسعفنا،.. ألا إن درهم نقد لهو خير من قنطار نسيئة !
- غريب أن تردد مثل هذا المثل
البليد،.. وأنتَ الفطين النابه.
ودلفت مليكة - توأمة إياد الراضية
الباسمة - إلى اجتماع الاثنين، فنهض الأب الذي لم يجد - كعاداته - مأربه في المسرة
التي يتوسلها من الحديث إلى نجله، يقول :
- سأترك لكما مجال النقاش..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
**
صارت بدور كثيرة السؤال عن اليوم الذي
يعود فيه نجلها من الإسكندرية بعد زيارة ثريا لها، وإذ شق على بكر الجواب عن
سؤالها المتكرر فقد أبدى انزعاجاً وتأففاً منه يقول :
- لقد خضت رحلته هذه، قيل عني آنئذٍ :
ما وُلد في أبي تيج ولد هو أعصى منه أو أشام، واليوم، أختاه العزيزة، انظري إليَّ
: ما نقص مني عضو، وما سُلب مني شيء !
وإذ كان الرجل من الحذاق فقد فطن إلى
أن وراء سؤالها المتكرر أمر هو دون قلق الأمهات المعتاد حين غياب بنيهم عنهن لسفر
من الأسفار، وإذ سألها عنه فقد أجابت وهي تطلع إلى القطعة السوداء المائلة في صورة
تسنيم المعلقة على الحائط :
- زارتني ثريا وقد أحسنت استقبالها
لما كانت صديقة أمي المتوفاة، لقد قلت إذا كانت الفقيدة صالحة فخليلاتها هن صالحات
مثلها، والمرء على دين خليله، آه، وليتني ما فعلت، إنها (أي ثريا) لثرثارة وإذا لم
تجد سياقاً للحديث اصطنعته، حاولت التلميح بالانزعاج من محضرها ولكن الفهوم
كالأبدان متى شاخت تقهقرت،.. لقد نظرت في عيني وقالت : إن منتصراً لهو أخو حورية
من الرضاعة، لقد أعادتني العجوز إلى عشر سنوات خلت، لقد أرضعت حورية مرة في سلتها
الخيزرانية لما كانت تبكي بلا دواء، اليوم أذكر تلكم الواقعة ذكراً مشوشاً غير
مبهم، لقد صارت أختاً له إذاً منذ يومئذٍ وإني ما انتبهت إلى هاتيك الحقيقة، فضلاً
عما وراءها من توالي،.. وددته أمراً مطموراً إلى دهر الدهرين، ولكن.. أف وتف لهذه
المتطفلة المزعجة، ألا ليت الموت خطفها قبل أن تشي بما شتت شمائلي !
ولم يفقه بكر الصلة بين حراجتها من
سفر نجلها إلى الإسكندرية وبين ما أوردته من حديثه مبعثر غير مرتب، فسألها عما لم
يحط به، وقد أحاطه الحديث الذي باغته بشيء من بلادة الذهن، وقالت :
- أخشى أن يخلق الاختلاط بين الغلامين
(تريد بين منتصر وبين حورية) شيئاً ينجم عنه ود فزواج، وهو (أي الزواج) الممنوع من
جهة فقهية وشرعية.
وقال وهو يستشرف حقيقة الريف المخضر
عبر نافذة :
- إنهما صغيران، منتصر لم يبلغ الحلم،
وحورية ابنة الثالثة أو الرابعة عشر، لا تقلقي، إن لديه (أي منتصر) في الإسكندرية
مئة شاغل وشاغل عنها.
وألفى الرجل شحاذاً يلبس المَرْقَعة
يحجزه الحراس عن بيته فهرع إليه وأكرمه تاركاً أخته في حيرتها الباطنية، وكان
ممسكاً على سواط ذي شعب فألقاه،.. ومكثت - ورأسها في دنيا أخرى - تطلع إليه وهو
يكنز يدي المتسول بالمال ويقول من شعر ابن الوردي :
رأيتُ الفقيرَ في المرقَّعةِ التي..
على لطفِهِ دلَّتْ وحسْنِ طباعِهِ
وفي موقع آخر، كان قد انتهى سعي منتصر
ببذلته الكمونية ومنديله الأخضر إلى الإسكندرية، كان غلاماً وقد جذبته نباريس
المدينة وأضوائها، وما لبث أن التقى بحورية وصفوت في ميدان محطة الرمل ذي الميسم
الأوروبي، وتندر صفوت على صورة الضيف فلا ترك البذلة ولا المنديل حتى حملته أخته
على السكوت،.. وهمست في سمعه قائلة :
- ما كنا خير منه يوم قدمنا إلى هنا
أول مرة، ثم انظر إلى ذلكم الميدان الرحب الفسيح ! لقد كان يوماً منطقة رملية يرعى فيها أصحاب
الغنم، مثلما حدثنا عنه يوسف، وكل بمقدوره أن يلبس ثوب التحضر وأن يكتسي بزينة الذوق
!
لقد أطاعها أخوها أولاً ثم انفجر ضاحكاً
في شدة زادت على تندره الأول ثانياً، وأحيطت ضحكاته بحاشية من السفه والحمق، وقد
بدا أن محاولته لكبح ما بنفسه قد أزاد الطين بلة، واتقى النظر إلى من أضحكه حين
ذكرت أخته شيئاً عن سوء الأدب الذي تورط فيه،.. وقالت بما عرفت من يوسف :
- إن الميدان موسوعة لتأريخ إنجازات
أسرة محمد علي، هاته التي يتناسى الجميع أفضالها على البلد.
ثم صحباه إلى بيت يوسف في المنطقة
الشعبية بكرموز، وإذ نادى صفوت على الرجل (يوسف) فقد أشار إليه بأن يمضي بالضيف
ولا يصعد، وإذ عجب المنادي من تصرفه أولاً فقد أطاعه على جهل، لقد تشعب سير
ثلاثتهم إذاً في سبل هي حول البيت الذي كان بدوره حقيقة مترفة ناشزة في بيئة
شعبية، ولقد تريضوا حول حوانيت ملاكي الأخشاب في حارة هناك عتيقة، هذه التي كانت
تتضافر لتشكل ما يشبه المتاهة، إن الألواح الخشبية والنوافذ المتهالكة - يجيء بها
تجارها من "الهدد" والأبنية الآيلة للسقوط - هي هي التي تسلب من المعالم
تفردها، وإنها لتُترك أمام بيبان الحوانيت المغلقة والمفتوحة،.. وكان عصياً - حتى
على أهل كرموز من المتاخمين للمنطقة - أن يميزوا شوراعها لما كانت جميعاً حقيقة من
الخشب، فما كان من راغب الخروج إلا أن يتفلت من نطاقها المتشابه إلى جهة يعرفها، وقال
صفوت كأنه المرشد :
- الأخشاب القديمة هنا على أنواع على
مثال : «الكتلة» بشكله العريض، و«العرق» الذي هو مربع الشكل، والألواح !
وعلى ما أبداه صفوت من القلق على ضيفه
من التيه هناك، فقد ضل الرجل نفسه طريقه وأصابته عاقبة "كعاقبة ناصح لا يعظ
نفسه"، خرج منتصر حورية من "المتاهة الخشبية" بعد طول عناء إذاً
دون صاحبهما، وقالت مسوغة غياب أخيها :
- لا بأس، فلعله رأى ما لا نرى، وآب
قبلنا إلى بيت يوسف، ولعلنا نقابله هناك،.. أي شيء تود أن ترى ههنا؟
وسألها منتصر - الذي بدا مرتبكاً أكثر
مما يجب - عن جهة شبيهة بمعاش الريفيين، وقال أيضاً :"يشوقني الريف والخضرة،
وأهوى عيشةَ الضَّيعة.."، وصحبته بعد تفكر لم يدم طويلاً إلى ترعة المحمودية
: الممر المائي القديم للمراكب التجارية بين الإسكندرية ونهر النيل، وقالت أول
وصولها :
- هنا أو هناك كانت قرية بهبيت ! لقد
قص عليَّ يوسف حكايتها لما كان عليماً بالأقاصيص والنوادر،.. لقد جمع محمد علي
لمأرب حفرها كل شيء : العمال، والبنائين، والحدادين، والمساحين، والفؤوس،
والغلقان، والمقاطف، والعراجين، والسلب،.. إني أراهم يسيرون مع كاشف كل منطقة
بالطبل والزمور، لقد وجدوا عند الحفر مساكن مطمورة، وحمامات معقودة، وظروف بها قطع
نحاس كفرية قديمة، وقيعان، لقد رفعوا ما وجدوا إلى الوالي، هذا الذي وفقه الله إلى
كل شيء ما خلا العدل والقسطاط، كما يقول الجبرتي،.. ولقد استمر العمل القسري فما
منعه إلا الطاعون، وكان يدفن كل ميت في موضعه فينتهي خبره بعد إذ هِيل عليه التراب..
وألقى منتصر بحجر في الترعة المستقرة
فاضطرب ماؤها وقد "وجد نفسه" أخيراً في المدينة الغريبة يقول وهو يجلس
على حافتها المشطوفة :
- إننا نقف على أكتاف الماضي، ولا نرى
إلا قمة جبل الثلج، تحت هذا الاستقرار الزائف أكداس من آلاف الجثث..
وسرت الأخرى بحديثه حتى ودت لو تثيبه
عليه، وقد أوفى الغلام على الغاية في توصيل شعورها وصياغة رأيها، ولكنه (أي منتصر)
ما لبث أن نهض يقول :
- أهل المدينة لا يقدرون مياه القناة،
إنها لآسنة مخضرة، وفيها من الإطماءات المتراكمة ما يفسدها..
وكانت أنوار أعمدة الإنارة ترتد في
هاته الماء الآسنة فتخلق في "فم الجدول" ما هو شبيه بالأصداء التي
يصنعها الصوت إذا ارتد في قلب الكهف، فمكثت حورية ترقبها وتساءلت بعد أن شردت فيها
للحيظة :
- إلى أين؟!
وأجابها الواقف يقول وهو يدس يده في
جيب بذلته الكمونية، فيما يمد بصره ذات اليمين والشمال :
- سأبحث عن حانوت طعام.
وقالت :
- أخشى أن تتوه في المدينة..
وقال :
- وفري هذا الخوف، إنني تائه..
وابتسمت تقول فيما تنهض فتنفض ما علق
بثيابها من تراب :
- وهل معك ما يكفي؟
وأفرغ جيبه الذي كان من الساتان فكشف
عن بضع ورقات يقول :
- تكفيني لقيمة ويُشبعني قثاء..
وفي هاته الأثناء كان صفوت قد خرج من
تيهه في أسبلة الخشب بنواحي كرموز وحاراتها وإذ هو جعل ينادي أولاً على صاحبيه
لفترة، فقد أوحت له نفسه بأن يعود إلى بيت يوسف باعتباره نقطة الالتقاء الوحيدة
التي يعرفهما من افترق، وكان الغضب يملأه كأنفاس موقد يتضرم إذ هو شعر بقصوره
كـ"مرشد تائه" أولاً، ثم هو على شيء من النقمة التي جرها عليه خذلان
صاحبيه له،.. وكان يهمس في نفسه :"لقد تركاني الأحمقان في ضلالة وضياع،
وانفردت الغلامة بالغلام في ناحية من المدينة المبهرجة.."، حتى إذا بلغ الباب
وخاطره لا يزال فيما هو فيه من الازورار عن نفسه، والانشغال بما وقع له، سمع يوسف
يقول وقد حَرِد وغضب :
- هل تظنينني كنزاً من المال وقعت
عليه؟! ألا بئس مثل هذا الظن الذي أوعز إليكِ بالمجيء..
وكانت الأخرى تقول له :
- مثلما ذكرت لكِ غير مرة : لقد حرر
عزت فرسه سندريلا من العزبة وكان من عوارض ذاك اليوم المشهود أن دخل مسمار في
قدمه، آه، وليت أن كل نصر عظيم ينجزه الفرد هو مجرد من شوائبه، لقد أصيب من أثر
ذاك زوجي بخراج في قدمه، إنه انتفاخ ذا صديد وقد تطور لمَّا أهمله وساء، حتى
استحال معه أن يمارس مهنته في قياد الحنطور، إذ صارت الحركة مما يرهقه، وقد
انتهينا إلى شحة وإقلال فعدم، والفقر مما يعتقل الحرية إذ لا خيار في واحد.
وكان الصوت ما يفتأ يتسرب عبر الباب
الموارب إلى أذني صفوت الذي أخذ به حقاً، ودلف الصبي في تؤدة كأنما لا يريد أن
يستجلب انتباه أحد وسمع يوسف يزيد يقول وهو يغلي من الحنق :
- لقد هجرني الجميع،.. لماذا استمر في
خدمة من جحدوا فضلي عليهم؟! لماذا أدفع ضريبة إهمال الحوذي؟
وقالت :
- فلتسمع لي : إنك تهرف بالأذى مما لا
يقنع ولا يخيف لما خلعت على نفسك ثوباً لا يلائمك، لقد كان للأشرار سيماء مقنع
دائماً، وأما أنتَ، بحق السماء، كيف أكره قزماً بعينين زرقاوين؟! لقد انتشلتني من
حوض اليتم كنبتة لم تزهر بعد تقتلعها يد رعناء، وإذا أنتَ نكصت عن مساعدتي فقد
تركتني أبور بعد إذ أخرجتني من بيئتي، لقد أنجبتُ ولداً وقد سميته بيوسف، وددته
نبيلاً على مثال ما كنت عليه قبل اليوم، وإذ كنت لا أتملقك بصنيعي هذا فإنني اليوم
في ندم.
وأجابها في استخفاف :
- اقترفتِ عين الحماقة، إن حياة ليوسف
واحد تكفي في هذا الكون الرديء، بل هي كثيرة زائدة، وعلى تلكم الغبراء المؤسفة
يتفضل الأسوياء بأوقاتهم.
وألفى منتصر بعد تسلله يوسف واقفاً
أمام خزانة الأكواب المرمرية، وأما محدثته فسميحة، ولم يكن بينه وبينها معرفة
وثيقة - تزيد عما كان يملأ به يوسف فراغات أسئلته حين يحدث ويستفهم عن أحوال معاش
الرجل قبل مقدمه وأخته - وإن تأثر بحديثها ملياً، وقد عجب لطريقة مضيفه (يوسف) في
تعامله مع المرأة إذ رأى فيها من الشدة والجفاء ما يناقض ما قد عرفه عن مضيفه من
الكرم السخي والمسلك الودود، وإذ كان هذا شعوره فقد انطوى على شيء ورأى في صورة
الفتاة وعزمها ما ساهم في تمتين إحساسه،.. وسمعها تقول وفي نفسها أثر جرح :
- كلما اقترب المرء من الحق فني عن ذاته،
وأما أنت فترى نفسك اليوم هائلاً كهذا الخيال (تشير إلى خياله على الحائط)، ولتحزر
كيف أنت بعيد من جادة الصواب إذاً.
ونظر الرجل إلى خياله الذي ارتبك
بحركته فيما كانت الأخرى قد انسلت إلى الخزانة وعاد يوقفها يقول :
- لن تنطلي عليَّ أخاديعك كرة أخرى،
(ثم وعزمه يأخذ تضعف حين تحدق إليه بعينيها الزيتونتين) لا، ولن ترمقي بنظرة
الاستعطاف من حجاب يدي إلى خزانة النقود مجدداً !
هناك تقدم صفوت إلى مجال الاثنين يقول
لسميحة :
- لماذا لا تحضرين في الليلة
الموالية؟ لقد غاضبته وقد غاضبك، والنفوس متى احتكت عجزت عن الالتقاء أو التسوية.
ولاحظت سميحة نبرته القروية ولما
أقنعها ما جاء به فقد سايرت اقتراحه، وتركت "سيدها" الذي لم يعد كذلك
بعد أن وهبته نظرة ذات انفعال كأنما أرجأت منازلة لم تنقضِ كلية بينها وبينه،
وهبطت على الدرج خطوات ثلاث وهناك سمعت صفوت يهمس كالهاتف :
- أنتِ، فلتتوقفي..
ووقفت ترمقه حتى هبط الرجل درجة ووضع
يده في جيبه وقال :
- هاك ما أردتِ من المال..
وكادت تقول شيئاً عن امتنانها لتصرفه
وهي تتلقف منه حزمة من النقود من فئة المئة، وكان المال ربيع قلبها المدقع، ومنارة
نفسها اليائسة، وقد ساءها الاشتغال على الحنطور بديلة عن زوجها في مرضه، وساءها
السؤال مثلما ساءها الاشتغال،.. كادت المرأة تفصح عن هذا كله أو شيء منه إذاً لولا
أن منتصراً عاد إلى يوسف وقد سبقها إلى ما بنفسها يقول له في لهجة تتصنع التكبر
والخيلاء :
- أحسنت صنعاً، سيد يوسف،.. صار للانتهازيين وقاحة مذهلة، يعز على
المرء صدها بغير ما هو على مثالها من صفاقة !