روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/12

لقد حررت سندريلا أصدقاءها

  الفصل الثاني عشر : لقد حررت سندريلا أصدقاءها





في زيزينيا..

أمكن لطُلَيْمات أن يؤدي مقطوعة "لا كامبانيلا" الموسيقية كاملة بعد عناء طويل وسهر جزيل مما كان عربوناً للشراكة السياسية بينه وبين رؤوف، هذا الذي شوهد بدوره جالساً على يمين الرجل في مؤتمراته الشعبوية صامتاً، وفاز طُلَيْمات بنيابة الدائرة في هذا الفصل التشريعي السابع (1995م : 2000م) الذي مرت به البلاد، دون مجهود يذكر فظفر بنصر يسير مما كان مثار عجب حسين، وقال له الآخر :

- ستفهم الأمور على حقيقتها حين تطرح العجب جانباً، إن رؤية مضادة للالتزام الأخلاقي ستمكنك من سبر الواقع سبراً كامل الوضوح، الحقيقة ميدان تفاعلي لا دخل للأخلاقية في تسيير قانونه، إننا ممثلو حزب الأغلبية كـ«أصحاب الكرة»، ولشعبنا نزوع إلى الاستقرار حتى أن استفتاءً واحداً لم يخرج عن نتيجة نعم في تاريخ البلد، والمصريون أحفاد فلاحي نهر النيل القنوعين بحراثة الأرض، لا مغامري أوروبا من الإنجليز المهاجرين إلى أمريكا إبان الحقبة الاستعمارية في القرن السابع عشر.

وبدا حديث طُلَيْمات بعد فوزه اليسير مناقضاً بطول الخط لحديث  "الفضيلة الظافرة" الذي اكتسى بدوره برداء خافت باهت، وبدا مسلك الرجل بتناقضه أمراً قريب الشبه إلى "جمال الخداع" الذي تمارسه النباتات المفترسة للإيقاع بفرائسها،.. ولم يتوقف الشاب طويلاً أمام هذا التناقض في غمرة سعادته المتحفظة وأخرج من دلن جيبه ورقة دون فيها رؤيته لصياغة الاقتصاد عارضاً فيها فضائل المدرسة النمساوية في هذا الباب، يقول :

- إنها (أي المدرسة النمساوية) تدرس الأفراد - باعتبارهم أبسط وحدات المجتمع التي تبحث عن مصالحها - وتراقب حوافزهم ودوافعهم، وأما تلكم المدراس التي لحقت بها من مدارس الاقتصاد فغايتها تسخير الأفراد لأغراض دولانية (يريد بها أولوية الدولة على المجتمع)،.. هاك تصوري للميزانية الجديدة !

نظر إليه طُلَيْمات في صمت زاد بعد انتهاء حديثه لثانيتين، يقول في قميصه المشجر وهو يتلقف منه "ورقة الميزانية":

- فلتسترخِ، حسين، فلتسترخِ، لقد انقضى من المهمة شر ما فيها وأصعب خطواتها، لقد صنعنا الكعكة، والآن يتعين علينا أن نضع عليها الثلج.

واقترن حديث الأخير بأن قلب طُلَيْمات "ورقة الميزانية" ثم جعل يقول وقد فرد ظهرها الفارغ على طاولة صغيرة يقول :

- هلا بدأنا في تعلم رسالة من تحت الماء للموجي؟ (ثم حين يتلمح من الآخر دهشته) أو قارئة الفنجان؟ (وأدار رأسه وقد ارتفع بؤبؤا عينيه كالذي خاب ظنه في أمر يقول..) فواعجباً ! أيزعجك أن الأمور مضت على أكف اليسر والسهولة؟!

هناك طُلَيْمات خلع نظارة الشمس السوداء الكبيرة - من هاته التي تجعل صاحبها على قدرة من رؤية محيطه فيما تعجز الناظرين عن رؤية عينيه - كالمنزعج، وأحى تصرفه إلى حسين برغبة الآخر في الاستماع إلى حديث جاد فتنهد، إن في جوفه طفل يستصرخه من كثرة ما يكنه من مضمرات، وإن البوح مؤلم كالحديث وقد تعلق جَنانه بشيء، إنه يقول في صوت خالٍ من التكلف يكاد ينطبق على صوت مناجاته الباطنية :

- قبل عدة أعوام، ولا أذكر التاريخ على التحديد، صحبني أبي يوسف إلى منطقة «زعربانة» في فلمنج بحي الرمل، لعلها أفقر مناطق المدينة طراً، وإذ كنت لم أزر كل الأحياء بالإسكندرية فحري بي القول - ولو من أجل التماس الدقة - إنها أفقر ما رأيت من المدينة،.. وقد صحبني أبي إلى هناك كي التمس الرضاء من واقع العوز والفاقة، غير أن شعوراً آخر هو الذي خلصت إليه بأن الإنسان، أي إنسان ومهما ادعى الأخلاقية، يريد أن ينجو بنفسه، ذلك أن الحياة امتحان صراع تطوري،.. لقد كان المعوزون يمضون إلينا سراعاً والمضطر يركب الصعب كما يقال،.. إنهم ما يفتأون يطلبون ويوسف يجيبهم إذ هو كريم جواد حد السفه، إن لديه حساً اجتماعياً سخياً يجعله مؤثر غيره على نفسه، وإذ هو ضرب هذه العزلة على نفسه فلأنه يخشى أن يستغله غيره من هذا الباب، ومهما يكن،.. ساقتنا الخطى إلى دار أحدهم، إن لها (أي الدار) مصطبة أسمنتية، وإن بها وسادتين و«كليم» صوفي مهترئ يكشف من الأرض فوق ما يستر، وذلك هيكل خشبي تقبع تحته بعض الآنية،.. وهذا صندوق خشبي بقفل صدئ علي وشك الانحلال ينطوي على «كراكيب» غلفت بطبقات من التراب،.. أذكر أنني رأيت طبق فول نصف فارغ وحبات من الطماطم منذورة وكسرة خبز جافة، وإذ ملأت رائحة الثوم أنفي وأزكمتها فقد توخيت الخروج العجول، ولكن أبي الذي أصر على استبقائي ذكر شيئاً مازحاً عن فتحة سدت ببقايا ثوب بالٍ ينسل منها بصيص الضوء، وكانت (الفتحة) بديلاً عن النافذة، وقد ذكر يوسف عنها أنها «جعلت الحجرة أرحب وأفسح» !

وصمت حسين ملياً، وكان في استفاضة وصفه وإسهابه فيه ما حمل طُلَيْمات على التململ، حتى بدا غير مستقر تماماً على كرسيه، وواصل يقول كأنه يتمثل مرئياً في محيطه :

- جاءتنا زوجه وفي يديها صينية من الحديد، وفوق سطحها برطمان من سكر لزج وكوبين من الشاي،.. لقد أعدت المرأة الشاي للضيوف ونسيت المضيفين : نفسها وزوجها، وجعلت أفكر لحظتاك بأن الجميع مسؤول عن مثل هذا الحال، لقد أغراني رفع مظلمة هؤلاء بعد إلحاحك عليَّ بدخول معترك السياسة، وقد مضيت ثلاث ليالٍ أجهز رؤيتي للميزانة، هاته التي أحلتها في لحظة إلى ورقة لتدوين النوتات،.. لا يفصل الزعربانة عن أرقى المناطق بالثغر : منطقة كفر عبده سوى شارع واحد وهو أول حدود منطقة الظاهرية، وإذ قبعت كفر عبده الأرستقراطية فوق الهضبة المرتفعة فلأن الجغرافيا وافقت الحقيقة الاجتماعية، وقد ذكر أبي أنه رآها (كفر عبده) مخصصة لمعسكرات ومخيمات الجنود البريطانيين قبل اتفاقية 193،.. لقد شاءت الأقدار أن يتجاورا إذاً، وما لهما من اتصال،.. إن شعوراً مماثلاً يروادني حين أرى عجوزاً تحمل الكثير فوق رأسها وتلتمس القليل، يبلل وجها العرق كما تتندى الأرض،.. لقد تعاياني الأمر وأعجزني.

كان حديث حسين المسهب قد نأى بطُلَيْمات عن رشاقة الحوار، وألبسه طول الصمت قناعة الانتظار التي تلازم التلقي كما يلبس السامعين مثل هذا الشعور في درس أو ندوة، وقد أشعل الرجل سيجاراً، وتحرك أعلى جسده إلى الأمام في لغة جسد متحفزة يقول :

- لقد تشبع وعي الجميع بمثل هذا عبر الخطب الحماسية التي بثت على ألسنة العابثين من محترفي الديموغاجية، واستوعبته التمضينات الثقافية زوراً، إنهم يتحدثون عن عمر الذي سيُسأل عن شاه تعثرت على شاطئ دجلة، ولاجرم أن شيئاً مثل هذا قد بلغك وقد ساهم في تشكيل رؤيتك للأمور،.. عزيزي، إننا نعيش عصر الدولة القومية التي يدير فيها الساسة مجتمعات قوامها قد يصل إلى المليار، ولسنا في مقام الحديث عن قرية محدودة أو قبيلة صغيرة يعرف الجميع فيها هوية الجميع، وبين الاختلاف الشاسع بين حقائق الكيانات تبرز الفوارق،.. ما من مسؤول اليوم بقادر على أن أن يزيل عن كاهل الجميع مشكلاتهم، أو هو بمستطيع أن يرفع عنهم صخرة التراكمات الطويلة بضغطة زر، ولو أنهم انتظروا صاحب العصى المسحورة القدير على تبديل الأمور بين عشية وضحاها فلأنهم متوهمون، وإنني أأسف لشعورك الرقيق إذ أقول بأن الفقراء أو سوادهم هم محدودو قدرة، وجانب منهم غير يسير تشرب من الثقافة أسوأ ما فيها إذ كان يجب أن تلحق أو تقرن حديثك الإنساني العطوف بشيء عن إجرام "المهمشين" في حارات الزعبرانة وفي غيرها، ولا تسئ فهمي إذ لست بمحتقر لهم بل أني مقيم لهم موائد الرحمن من هاته التي آكل عليها من اللحم كثيراً، وقد أعجبك طعامها لما كنت حريصاً على تقديم العون الحقيقي لهم..

ورمى طُلَيْمات بسيجارته فأخطأت السلة واستقرت في أصيص النبات، يقول :

- إن النظام في جوهره فكرة حميدة منشودة، وإذ صبغ المعارضون وصمة الانتماء إليه فلأنهم زيفوا الوعي، إنه يفرض على المنتسبين إليه قواعده، وإذا كانت القواعد جيدة بما يكفي فسيدفع الجميع في اتجاه واحد ولغرض واحد، وما من منجز عظيم إلا وأقيم بنظام، ولينقم الناقمون على سعيد استخدامه لسخرة السويس ولكن القناة ما كانت لتشق في ظروف زمنها الشحيحة لولا هذا الثمن، كذلك الأهرام وغيرها،.. ولا أبالغ إذ أقول بأن الحضارة في جوهرها مدينة للنظام بكبريات تجلياتها،.. ولكل تضحية ضحايا، إن جانباً من الحقيقة هو جامد صارم وقد يسوء المثالي أن يراه.

ترك المتجادلان نقاشهما دون أن يتركهما "أثر احتكاك النفوس"، ومضى الدرس الموسيقي مضياً متحسباً هذه المرة، كان عصياً على طُلَيْمات أن يتصابى أو يتخفف بعد الذي سمعه وبعد الذي تحدث به، لقد لزم وجهه الجمود إذاً فيما كان يعزف الكلمات : "الشعر الجغري المجنون يسافر إلى كل الدنيا"، وإذ رأى منه حسين هذا الانقباض فقد دعاه بعد انتهاء الدرس إلى عشاء في مسمط سعيد يونس، بعربته الصغيرة البسيطة، وجذوره ذات الأعوام المائة، هناك اصطفى طُلَيْمات لنفسه السمين فيما اجتبى حسين المشكل، وقد بدا للاثنين أن فواكه اللحوم هي خير من مشتبك النقاشات.

 

في غبريال..

مضت أيام شحيحة النعمة على سميحة وزوجها عزت في غبريال، وقد عجز الأخير عن استرجاع حصانه سندريلا : وسيلته في كسب المورد، وكان واحداً من بين جماعة من الحوذيين المتضريين بضياع خيولهم وبغالهم، لقد حملهم طول شعورهم بالعسف إلى إبداء الاعتراض، هذا الذي بدا - بعد ضعف الاستجابة له - كأنه تنفيس عن الغضب فوق أن يكون سبيلاً ناجعاً إلى تغيير، كانت سميحة - بعد أن استنفذت محاولتها في طلب العون من يوسف - قد حملها الحمل من بعلها على الانكفاء المنزلي، ونظرت له (عزت) في ذهابه إلى العزبة كأنما تسأله :"هل من جديد؟" وأما نظرته لها فأوحت بالجواب : "كلا"، لقد تبادل الزوجان هذا الحوار الصامت إذاً، قبل أن يقصد عزت إلى تلكم العزبة في صبيحة حارة كأنما هي الصَّيْهَدُ، وإنها (أي العزبة) لتجمع سكني محدود على حوافٍ أراضٍ زراعية، وعبر عزت بأولاء العساكر الذين كانوا يتحفظون على الخيول المخالفة، وقد كانوا لطول تردده هناك على علم به، وإذ لم يكن منهم من يعرف اسمه فقد أحسنوا تمييز مظهره، وقد كان الرجل كثير التقرب إليهم عبر منحهم السجائر الفرط، إنه يريد أن يستميلهم إلى مأربه في إطلاق سراح الدواب، وجلس رفقة الحوذية المتجمهرين من أمامهم في حر الشمس، كانت الأحصنة زهاء عشرين وقد أمكن للجلوس تمييز بعضها يأكل العشب، وآخرين تختفي رؤوسهم في براميل حاوية على عليقة وعلف، ويفصل بينهم وبين أصحابهم - قبل الجنود - سور من الخشب هزيل من تكوين المزرعة المهجورة، وقد أمكن لكل حوذي جالس أن يتعرف إلى حصانه، وإنهم في متابعة عاجزة حتى حدث أن نهض من الجلوس واحد يقول :

- لقد سئمنا رَهِقَكم، وركوب الشر والظلم..

وقال آخر :

- إذا العزبة ستزال، اليوم أو غداً،.. ما الضير في أن تُسترد خيولنا وبغالنا؟

كان للجنود صورة سمراء اللون من أثر الشمس، وقد بدوا دون المثابة التي يستحقها إبداء مثل ذلك الاعتراض، لقد كانوا جميعاً حقيقة من الامتثال، وقال هذا الجندي يجيب السائلين :

- ما كنا أصحاب الرأي والقرار.

ونهض عزت إلى الرجل يقول :

- فلتنظر إليَّ، ما كنت حصاناً ولكنني أدربها وأقودها،.. ما يمنعكم من القرار المستقل إن هو في صالح العدالة؟

وعاد يجلس وسط جماعته وقد ساءه فتور تجاوب من أمامه، وجعل يتطلع إلى سندريلا التي طفقت تبادله نظرة ذات دلالة وإن حجب رأس الجندي الذي كان يتثائب معظم هامتها الجميلة، وحدس بأن معاشها في العزبة قد أرهقها من أمرها عسراً، وما نظرتها إلا استغاثة وراء قضبان الجنود، وقد حفزه رؤيتها على تلكم الحال على فعل المزيد، اجتمع عزت مع الحوذية المتضريين قرب العزبة في مغيب اليوم وقال :

- إنما أنتم محدثون الطرف الخاطئ، تستجدونه ما لا يملك فيه الفصل، وتلحون عليه بما يفوق طاقته من التصرف، إنكم تنقمون على "سدنة المعبد" متجاهلين ربه، وبينكم وبين استعادة دوابكم ما بين المستحيل وبين طالبه.

وأجابه منهم واحد يقول في إنكار لحديثه :

- وكأننا لم نرفع شكوانا إلى الجوسقي، لا بارك له..

ووجد عزت في محيطه عقرب يسعى فقتله، وذكر حوذي من الوقوف شيئاً عن إحلال قتل الفواسق الخمس، وقد أحدث وجود العقرب ارتباكاً وفزعاً لدى المتجمعين أراد عزت أن يستغله لصالحه بقوله :

- أرأيتم كيف يحدق بنا الخطر؟ بربكم،.. أأننتظر حتى يهجم علينا الكلب العقور أو يلدغنا العقرب الخبيث؟ لقد ضاعات أرزاقنا وأشغالنا في الانتظار، سأتسلل إلى هناك في فجر اليوم، وسأعمد إلى جوهر الأمر ولبابه عسى أن أعيد الحصان، واسترد ما أُخذ، وليحدث ما يحدث..

ونظر في وجوه من حوله، يتساءل :

- من منكم معي؟

وانفضوا عنه عائدين إلى مواضعهم الأولى، تسلل عزت في مساء هذا اليوم وحده إذاً (وقد برر غيابه لسميحة برغبته في شراء القهوة التركي مما لا يتوفر في غبريال!)، كان الجنود جميعاً يغطون في منام عميق وقد تلحفوا القش والقماش، وإن لغطيطهم صوت عالٍ مقلق، وخلع نعليه كيلا يحدث الأثر الذي يحملهم على اليقظة، مضى الرجل على أطراف أصابعه إذاً في محاذاتهم إلى حصانه، وعبر السور الخشبي فحنى تكوينه الهزيل حتى اجتازه، وبدا أكثر شيئاً قرباً إلى سندريلا لا يفصله عنها إلا برميل تدهور تكوينه وانْسَكَب ما فيه من العلف، وبدا رأس الحصان المقيد بالأحبال يتموج فرحاً، واستبدت بعزت نشوة مماثلة في ناشئة الليل نأت به عن الحرص، حتى صار كعبا قدميه مما يشارك في حركته العجلى، ولم ينتبه إلى مسمار من الحديد كان مخبوئاً في هاذيك القش، وقد دلف معظمه في قدمه اليمنى فانفجر من الألم الذي ما كان لطاقته أن تسره حتى يقظ الجنود من صيحة تأوهه، وأسعفه قصور وعيهم - الذي لم يصل إلى تتمته بعد - على أن يفك أحبال سندريلا بقدم واحدة وأن يمتطيه، ومضى فوق الحصان الذي أطْفَرَ وعبر به وسط الجنود، وقد شل الذهول حواسهم حتى أزاغهم عن استخدام الرصاص، حتى إذا صار به الحصان إلى نقطة آمنة قذفه من ظهرانيه بحركة منتفضة، وعاد الحصان إلى النطاق الذي خرج منه، مكث عزت بُرهة وهو يحاول إخراج هذا المسمار من قدمه التي تضررت وكان ألمه الشديد قد أرجأ تفكيره في ذلكم السر وراء تصرف الحصان العجيب، حتى إذا فعل وانتهى منه عاد يفكر فيما يدهشه من أمر فرسه الجامح الشموس لحظة نفرت وجمحت، وقد انقضى - أي عجبه الذي لم يطل -  حين سمع حمحمات قوية تأتيه، ونهض واقفاً على قدمه التي انتزع منها المسمار - دون أن تعود إلى سابق عهدها كلية - كأنه الأعرج، وذهل لما رآه لحظتاك من مشهد الأحصنة المنطلقة صوبه تنهب الأرض نهباً وفي أعقابهم الجنود يقول :

- لقد حررت سندريلا أصدقاءها..

     اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص

**


1997م..

ألحق فؤاد بمرعى الخنازير مطعماً لإعداد الأطعمة المشتقة منها : كالنقانق، وباكون (لحم الخنزير المقدد)، ومن الرأس جبن الرأس، ومن الأقدام الكُراع، وهلم جرا،.. وكان لتمرسه في الأمر عليماً بطبيعة الحيوان الاجتماعية فيسمح له بالتجول هنا أو هناك في جماعته وحول مرعاه، وإذ كان الرجل متحرجاً في الأصل من تربية الحيوان المحرم فقد بدا بعد مضي الوقت - وبسبب من الألفة التي تصنعها المداومة - مستسيغاً تجارته الجديدة، واجداً لها من التخريجات الفقهية ما يسكن به ضميره،.. إنه يتحاشى الحديث عن الأمر مع امرأته حتى غدا شاعراً وفي خلوته بأنه مرقوب مرصود، وكانت غادة لا تفوت فرصة إلا وسألته فيها دون جواب حاضر منه :

- لماذا اختارت الأرواح الشريرة والشياطين أن تدخل في أجسادهم (أي أجساد الخنازير)؟! ولماذا اقترونوا بالمدافن والقبور؟ وإذا فرعت شجرة فاسدة وزادت منها الأغصان والفروع شق على مريد البتر أن يبترها، حتى تصير للجذور مناعة من الاقتلاع من تشاجن ما تأسس فوقها، وكذلك ما وقع لكَ بعد أن ألحقت بالمرعى مطعماً.

ولم يتح انشغاله (فؤاد) الجديد الفرصة له لمناقشة أسباب هذا الخلاف المكتوم، والترصد الصامت بين نجليه : عماد وإسحاق، لقد كان الرجل - وفي سبيل اتقاء سؤال امرأته عن الأمر المحرم - كثير السَهَرَات، وفي يوم الجمعة ما يفتأ يقصد إلى صديقه فريد وقد نما شغفه بالأفلام الهندية بعد ازورار، لقد أبدى استعداداً ذا عزم لأن يقصي منغصات السؤال عن دنياه ولو اقتضى الأمر منه تصلق التلال والنجاد، بوصفه، وإنها معاتبته متى تصادف أن رأته في درامة زائدة فتقول :"ابحث عن يهودا الإسخريوطي فيك.."، حتى إذا تحدث إليها بما يجافي لباقة الاتصال وود الزواج أجابته بقول المسيح :"الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح، والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر فإنه من فضلة القلب يتكلم فمه.."، ثم تتركه شاعرة بالضيم والإجحاف منزوية، حتى تركن إلى قرع ناقوس الكنيسة الإنجيلية يترامى إليها عند رأس كل ساعة فيدخلها بعض السلام.

 

 وهذه المرأة معدة فطور أصابع جبن الماعز بالزعتر أو شطائر الجبن الرومي واللانشون بالزيتون، ثم هي متذكرة صنيع أمها فيفيان حين كانت ترمي ورق اللوري والحبهان والجزر والبصلة الصغيرة في صحن حساء الدجاج المسلوق، لقد كانت تكره منها هذا واليوم هي واضعتهم، وإنها مباركة لإسحاق تقدمه في المسايفة،.. لقد تسرب الحب الذي تكنه لبعلها من قلبها إذاً رويداً وحل في نفسها شغف بتربية الطفلين هو بديل منه، ووقف إسحاق أمامها ذات نهار في اضطراب بدا لها غير مبرر، وقد زاد على تحية الصباح برهة من الزمن، وخالت المرأة أن نجلها يحدق إلى صحن القراصيا فيخجله أن يطلب حاجته منه، وقالت :

- فلتأخذ منه ما شت فما جئت بها إلا لأجلكما (تريد الولدين).

ووارى الفتى اضطرابه في تلقف الصحن - فمكثت المرأة تراقبه فيما تغسل الصحون بطرف ناظريها - وقد بدا أن شهيته تقصر عن التمادي في تناول هذا الخوخ المجفف، وتساءلت :

- أهو عاطب أو أن به سوء؟

وحانت منه حركة مصطنعة هي ابنة الاضطراب وجعل يأكل في نهم يقول :

- كلا، بل هي شهية رائعة.

وتولى عنها مستديراً - بعد أن أعاد الطبق الذي لم ينقص كثيراً فوق هاتيك الرخامة - فيما جعلت المرأة بعد حركته عنها ترقب ما أكله منه، وحدست بهذا التناقض بين حديثه الأخير وبين ما رأت فاستوقفته ونادته :

- إسحاق،.. ماذا تكتم عني من أمر؟

وانتفض جسده - كالمريض إذا أصابته رعشة - يقول وهو يعيد الخطى إليها :

- يسوءني أن يتخلف أخي عماد عن دروس التايكوندو إذ كنت أود أن يكون رفيقي في التقدم في رياضته.

وقالت :

- الحق معك، لقد أهمل موهبته الواعدة حتى خبا منها البريق أو كاد..

وتنفس الصعداء فخال أن المرأة اكتفت بجوابه لما بدا من مصادقتها الأخيرة له، وزيادتها في مسار حديثه، ولكنها عادت تتساءل في حس فطن :

- وماذا وراء تخلفه من أمر يؤسفك؟

وهناك استقوى الفتى بما بدا من عزمها على معرفة الحقيقة على ما بنفسه من تردد يقول كأنه يزرع لغماً في أرض ذات سلام :

- لقد زينت له غجرية سبيل الفساد. 

كان عماد - آنئذٍ - في حانوت الأقمشة رفقة أنهار التي صار بينه وبينها شيء هو فوق الود العذري، وضبط هندامه وقلب في محفظته، قال للمرأة التي كانت ذات قوام ممشوق، وبياض ملفت، وعينين لوزيتين يرسمها الكحل العربي الثقيل، ووشم يعلو الذقن، وخلخال لا يفارق ساقها، وشعر أصفر مسترسل تخالطه حمرة خفيفة، وهو يلحظ كيف سرقت منه المال بخفة لم يلحظ منها إلا الأثر :

- كان يجب أن أصدق ما قيل عن الغجر.

وتساءلت في إنكار :

- وماذا تقوَّل العوام علينا به وصدقته؟

وقال :

- ليس كل ما يأتي به العوام هو باطل حتماً،.. إنهم لزاعمون أنكم متسكعون مستهترون، مؤثرون على قيم المجتمع ومواصفاته ثقافتكم الخاصة،.. وإن في أيديكم خفة تقرب إليكم الاحتيال، ثم إن بقاءكم مشكوك فيه ما دمتم على هذا الدرب سوائِر.

وقالت في حس مشاغب يأخذ صورة الحدة :

- لقد حاول قبلك ملك بروسيا في مرسومه المشؤوم الذي نص على إنهاء حياة كل غجري، وألقى المخبول هتلر بنا في معسكر أوشفينتز (ودارت حول نفسها تقول..) دون أن ينال سوء صنائعهم منَّا شيء.

ونظر إليها بعد استقرارها نظرة باسمة يقول :

- ولكنكِ سرقتِ المال..

واقتربت نحوه تقول :

- الغجرية تجيء بالمال من موردين : قراءة الطالع (وهنا أمسكت بكفه حتى انفتح)، والسرقة (وهنا وضعت فيه ما سلبته من النقود).

وتساءل ونظره صوب المال الذي استرده :

- وماذا عن الرجال؟!

وأجابته وقد ولته ظهرها متحولة إلى المرآة :

- الرجل هو مصدر داعم وثانوي لما تجيء به المرأة الغجرية.

وقال :

- حري بهم (أي بالرجال) أن يبدوا لكن الاحترام إذاً،.. ماذا في نفس جابر حتى يركبه مثل هذا الجبروت؟

فما كاد السائل ينتهي من استفهامه حتى حضر موضوع السؤال : جابر، واستبد بالرجل هاتف النقمة حين رأى أخته في ثيابها المتخففة رفقة الغريب وقد خلَعت عِذارَ الحياءِ، إنه يقول كالمنفجر :

- ألا بئس الوزر يا بنت الكلاب !

وكاد الغضوب يضربها بيده لولا أن اعترضه عماد فاحتوى بكفه قبضة المهاجم في حس رشيق لم يتملص تماماً من تمرسه القديم بالفنون القتالية يقول :

- فلتتحدث عن الشرف يوم تجد لنفسكَ مورداً مستقلاً عن النساء.

وانتفخجت أوردة عنق جابر بالأحمر الناري، قال شيئاً عن خصمه "الأبيض كالطحين، المطلي بالكلس" وفقاً لوصفه المحتقر، حاولت المرأة أن تتقي فتنة فجعلت تعزل بين المتنازعين وتقول لأخيها :

- ماذا عاد بكِ،.. الآن؟

وقال لها :

- ما رأيت أسفه من سؤالك ولا أضعف منه عقلاً،.. حتى الثعالب لديها أوجرة تأوي إليها.

وحاولت أنهار أن تهبه شيئاً من النقود التي كانت تجنيها من قراءة الطوالع ومن بيع القماش عسى أن يجمح المال غضائبه، كأنها جباية الصمت، فاستخف الأخ بما حصل عليه من منذور العملات، وكان في رأسه شعر خفيف بين الأشقر وبين البني الفاتح كالزَغِب فمرر فيه يده، ثم إن له لحية نزاعة إلى الاحمرار وطفق يمسد عليها، وقال وهو يهبها نظرة ذات شزر :

- خسئتِ وساء سعيك،.. أهذا كل ما تجنيه من الأملد لقاء التفريط في..

وقاطع عماد استفهامه وكان يتعمد الضرب على الوتر الذي يزعج جابراً :

- مرة أخرة تتحدث عن الشرف وأنت فاقده ! ألا ترى أنك مزري بنفسك حين تسيء إلى من تعيلكَ؟!

أشعل عماد فتيل المتفجرات عامداً هذه المرة ولن يطفئه سعي الغجرية المتوسطة، هذه التي جعلت تندب بين نزاع الرجلين، واستغاثت العارفة بالتنجيم بنجوم السماء وعربة داوود، إنها تسعى في الحياة حاملة فوق رأسها شيء من ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب،.. وفي موقع آخر كان إسحاق قد فرغ من شهادته بخصوص أخيه وانطلق إلى تمرين المسايفة الذي تأخر عنه كالجندي الذي قذف بقنبلة يدوية وركض بعيداً عن موطن الانفجار، فرغ البيت إلا من غادة إذاً، وقد تلوت الأم بمرارة ثقيلة الوطأة حتى نسيت الدجاج المسلوق، وتبلبل فكرها وغشتها سحابة الكدر، وجعلت تقول وقد زحف مد الأسى :"إنها تجارة الخنازير، ولا غيرها،.. من أفقدت البيت الآمن رعاية الآلهة، وإذا عماد آكل من مالها الحرام فلا عجب أن يصير إلى ما هو إليه صائر.."، وتضرعت أن يأتيها الجواب على ما في نفسها من سؤالات الاضطراب، فسمعت بعيد التضرع طرقاً على الباب جذبها عن المناجاة الباطنية المرة، وفتحته فألفت أمامها الغجرية، وقد وافقت أوصاف إسحاق لها صورة ما رأته من حقيقتها، واستبقت الأم الحديث إليها تقول في نبرة خافتة :

- أهلاً، أنهار..

وعجبت الغجرية من تعرف الأخرى إلى هويتها عجباً لم يأخذ فرصته في الظهور في ظل اضطراب (وقد شدد عماد لها غير مرة على أن علاقتهما سر يحرص على أن يدفنه في أسحاق الكتمان)، وأدخلتها الأم فقالت الغجرية لها ولم تكن قد زايلت عجبها بعد وإن رفع عنها الأمر الذي استأنست به قليلاً بعض الحرج :

- عذراً، سيدتي،.. لقد وقع نزاع بين أخي ونجلك استخدمت فيه الأيدي وساءت بعده العاقبة !

وسألتها الأم في نبرة ذاهلة حزينة كأنها المتأثرة بالمعنى : إن البلايا لا تأتي فرادى :

- أين هما الساعة؟

- في القسم،.. هلا حضر أبوه؟

كان فؤاد قد أقام في مطعمه الجديد مأدبة للطعام لصديقيه : فريد، وعبد العزيز الذي آب بدوره من الكويت في زيارة قصيرة رفقة آسيل ونجله لؤلؤ إلى الإسكندرية، وألفى من فريد إقبالاً على الطعام فيما أدبر عنه عبد العزيز لما ألفى فيه من حرمانية وعبثاً بنظامه الغذائي الجديد، وجعل فؤاد - الذي تيسر عليه أن يتلمح منه هذه الحراجة لصداقته به - يقول له :

- إن في المطعم صنوفاً من الأطعمة الأخرى..

ونادى على النادل فطلب لصاحبه المستنكف الكبده البانيه بتتبيلة الكمون والبهارات وعصير الليمون (يردد فؤاد في اعتزاز غير مبرر أن تتبيل الطعام في مطعمه يتفوق على البهارات الهندية)، وكان طعاماً قاهرياً يعرف عن صاحبه استساغته له، وهناك سأله عبد العزيز وكان يضع نجله الصغير لؤلؤ على ساقيه :

-  وما دفعك إلى اجتبائه (أي الخنزير) على سائر الطعام الحلال؟

أجابه فؤاد بعد أن جال ناظريه في محيطه العامر بالزبائن في حس يواري شعوراً بالوزر تحت قناع التخفف :

- الصدفة وحدها من دفعتني، ترددت إلى صالة بليارد بعد استقراري هنا، وهناك غلبني رجل تفحم لاحقاً في الطريق الساحلي، وقد عرض عليَّ في حياته شراكته، إنها رواية طويلة مذهلة وعجيبة معجبة،.. الأمر ليس كما تتصوران،.. كلا، كلا،.. إن تربيتها ليست على هذا السوء، وقد نحصل على الأنسولين من بنكرياسها لمرضى السكري، (ثم وهو يخص عبد العزيز بحديثه..) أعلم أن لديك مشكلات في القولون، وقد أصابك السكري على حداثتك، لقد هبطت إلى الحياة بمشتملات صحة شيخ في الخمسين إذاً، أعني مثلما تحب أن تتهكم من نفسك، وقد يفيدك مثل هذا،.. هل تدري أن أظلافها لا تسمح لها بالغوص في الأوحال؟

ومكث عبد العزيز يتابع حديث صاحبه في استجابة خافتة، وكان الحديث - لاضطراب صاحبه - قفازاً وثاباً كالأرنب النفور، وطلب عبد العزيز من زوجه آسيل أن تحمل لؤلؤاً نيابة عنه، مد الرجل يديه في صحن الكبدة المتبلة بعد أن حررهما، وسمع فؤاد يزيد يقول حتى علقت اللقمة في مريئه :

- يجب أن تزورا المرعى أيضاً،.. أن تريا هذه المخلوقات على حقيقتها وفي بيتئتها الطبيعية هو ما سيجعلكما تعيدان النظر في أمرها !

صحب فريد وعبد العزيز الرجل في مسعاه الغريب إلى برج العرب، دلف فؤاد إلى المرعى الذي كان يبدو على حال من الهدوء التام، وجعل يقول في اضطراب :

- لابد أنها هنا أو هناك، إنني أسمح لها بالحركة في نطاق المرعى، وإن للواحد منها أنفاً أسطوانياً صلباً ينبش به الأرض فيخرج منها طعامه من الديدان، لقد ضل سعيها إذاً،.. هل عساها تحرجت من رؤية الغرباء؟ إنها حيوانات خجولة،.. ألم يأتكم قولي؟

وطال بحث الرجل عنها حتى تدارك حقيقة أن "مخلوقاته اللطيفة" قد سُرقت وجعل يقول لصاحبيه خائب الرجاء :

- لقد سُرقت،.. سُرقت قبل أن تريا لطفها أو تشهدا عليه !