الفصل العاشر: نقاش على ألحان مقطوعة "لا كامبانيلا"
أثمرت رغبة طُلَيْمات في تعلم
الموسيقى بحضوره حتى قطع الرجل شوطاً لم تكن تبشر به بدايته، وصار قديراً على أداء
المقطوعات السهلة فأضاف إلى هذه الثلاثة : كان عنا طاحونا لفيروز، وكل ده كان ليه
لعبد الوهاب، وأمل حياتي لأم كلثوم - أقول أضاف إليهم قلبي ومفتاحه للأطرش، هذا وإن
أعجزه شح موهبته عن أن يرتجل أو أن يؤلف أو حتى أن يحاكي مسموعاً من النغم،..
واقترن هذا كله بتوطد الصلة بينه وبين حسين الذي تغيرت بدوره نظرته للرجل كلية منذ
وعى أنه يمثل "شبيه نجله الذي فقده" فانقلب الغموض والتحسب نحوه شفقة
ووداً، وقال له (طُلَيْمات) :
- أرأيت؟ كل شيء يمكن تعلمه وتداركه،
وحتى الموهبة،.. بل لا وجود في الأصل لها.
وكانت صورة الرجل المتصابية في قميصه
المشجر تحيطه بهالة من السخرية يستعصي على حسين أن يقابلها بالجدية، وقال :
- أجل، أجل، إنك تعمل بعقلية إديسون
المجدة لا نيكولا تسلا الخلاقة، وإنني أقدر لكَ هذا،.. ولكن يجب أن تؤدي مقطوعة
"لا كامبانيلا" (الجرس الصغير بالإيطالية وهي مشتهرة بصعوبتها البالغة)
أولاً كيما أقطع لكَ بسلامة الرأي، أو كيما يكون لزعمك وجاهة جديرة بالنظر،..
عذراً، لدي سؤال يلح عليَّ في ديمومة مزعجة : لماذا لم تنجب بعد نجلك الفقيد ولداً
عساه أن يعوضك عنه؟
وأجابه الآخر وقد بدا في جدية تلائم
السؤال هي فوق ترخصه الأول:
- لقد أنجبت بعده بنين أربعة، كلهم
وياللأسف من الإناث كأنني الأبتر، وقد سميتهم على هذا المنوال المتشابه : شاهندة،
شدوى، شهد، وشيرين، لما لم تكن بي رغبة صادقة في حضورهن، وخلصت بعد أن استنفذني
الغضب إلى حقيقة أنها (أي تواتر نسله على الإناث) رسالة خفية مفادها أن من فُقد لن
يستبدل باستحضار غيره،.. كان هذا قبل أن أراك.
وارتقى طُلَيْمات في منازل الجدية
بسطة أخرى حتى بلغ الذروة مع احتفاظه بمظهره المتصابي المعروف يقول :
- آمل أن تحملني صداقتي بكَ على تغيير
موقفك من اعتزال السياسة، إن الانتخابات التشريعية على الأبواب، وأروم ظهيراً لي
ذا ثقة.
وأبدى حسين تحرجه المعتاد يقول :
- لا أحب أن ألج بقدمي وحلة نزاع
واستقطاب كهذه.
هناك أبدى طُلَيْمات انفعالاً شبيهاً
بالانزعاج فكأنما رمى بقناع الود في خطوة يقول :
- نزاع بين من؟ المعارضون هم محض
مهرجون غوغائيون، لقد قاطعوا الانتخابات الفائتة (يريد انتخابات 1990 : 1995) فلم
يخض غمارها سوى الوطني والتجمع، حتى إذا انتهوا إلى لا شيء جعلوا يتصايحون، إذا
تحدثنا عن اليسار فإني لم أرَ له قاعدة شعبية تذكر،.. ولم تتقاطع بي السبل بمن حمل
مطرقة أو منجل منادياً بالمبادئ الاشتراكية،.. وأما اليمين فبينه وبين العصر حواجز
شواهق، إن الخراب قرينه الذي لا يفارقه أينما حل ببلد، حتى لقد تبدو داحس والغبراء
(أطول الحروب بين العرب في الجاهلية) نزهة قياساً إلى صنيعه المعاصر،.. هل أتاك
حديث العشرية السوداء؟!
وحاول حسين أن يكافئ بين التزوير
المعنوي الذي تمارسه "تيارات الشعارات الجوفاء" وبين التزييف المادي
الذي يدور في صناديق الاقتراع، وأزاد (حسين) يقول :
- هل خبرت بالذباب الأزرق؟ قيل أنه
أرواح موتى هائمة، وزعموا أنه حشرة تتغذى على الجثث، إنني ما رأيت امرأً يسلب حق
عائز حتى ساويت بينه وبين ذلكم الذباب الأزرق،.. ذباب المقابر، لقد قبلنا بفوضى
الاقتصاد بعد الانفتاح، وتحمل المواطن ثمنها من خبزه،.. فما يمنعنا اليوم من تحمل
تبعات فوضى الحرية؟!
قال الآخر وقد بدا أن انفعاله موصول بحديثه
الأول :
- بني (وهنا ارتبك حسين من النداء
الغريب لانتفاء المصاهرة بين الاثنين)، أعلم أنك على حظ من الأخلاقية هو بين
محمود، وإني أقدر من توشح بوشاح الفضيلة ولو أنه انتهى إلى الخسران فوق هذا الذي
عاث فساداً ثم أخذته الخيلاء في موكب نصره الزائف،.. ولكن،.. وليت شعري ! أجمل
بالفضيلة الظافرة ! إنها حلم الجميع ومناط سعيهم، ولو بارك الإله من الوجود شيئاً
فإنه مباركها،.. إن الحياة لتكرم العنيد ولو كان بلا خطة أو فطنة أو هبة، وتزري
بالمتكاسل ولو ملك كل أولئك، إن هذا إلا قانونها وعلى قضبانه تسير، وإن ارتقى
البليد فوق صاحب الهبة فلأن الثاني ما أخذ مسؤوليته بجدية واجبة، وحمله طول تردده
على يأس مخيب أقعده عن التصرف، وإذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة،.. حري بنا أن نفض الاشتباك
بين العمامة وبين العوام، ولن يتأتى هذا إلا بأن يتقدم الأجدر الصالح، والويل لو
تركت بلادنا نهباً لهم، ستلتمس اليوم شيئاً من الخبرة التي تجعلك أهلاً للمستقبل.
كان ثمة في نفس حسين بضع شكوك وريب
حول ما إذا كان مرشح الوطني هو "ممثل الفضيلة الظافرة" بوصف محدثه نفسه،
بيد أنه ما عبر عنها وإنما تطلع إلى بيئة الحانوت المنسقة حين صار الحديث إلى
الآخر مما يرهقه،.. انقضى الاجتماع الموسيقي وعلى غير ما بدأ حامياً مشحوناً، تفكر
حسين وتدبر، حاك في صدره الأمر واشتبه، ألا إن في النفس لرغبة ! وإن في الضمير
لغصة ! وكل لحظة تمضي مشتتة بين رغبتين، لقد
شده قطارين متعارضي المسير،.. واستشار الرجل ذوي قربته فنصحت له غادة بالامتناع،
فيما لم يكن لمليكة رأي، وقال له إياد وكان في عمر هو بين غلام وفتى :
- إذا عنى ذلك أن تكمل سيرة جدي، وأن
تحوز القصر (يريد قصر الصفا)،.. فهلم !
وساءل صاحبيه شريف وخالد فنصحوه بقبول
المغامرة، وذكر له خالد - في حس مكيافيلي - شيئاً عن المنفعة الكامنة في أن يتخذ
من طُلَيْمات رجلاً يقف وراءه حتى تواتيه فرصة مناسبة، وتمخض السؤال عن قناعة
صاغها الرجل بلسانه، إنه يقول لطُلَيْمات :
- سأقبل بمعاونتك شريطة أن تؤدي
مقطوعة "لا كامبانيلا" الموسيقية كاملة ! فإن وافقت مواضع أناملك مواضع
أنامل الهنجاري فرانز ليست (مؤلفها) رافقتك فيما أردت مني المرافقة فيه.
في أبي تيج..
كان بكر قد عاد إلى ريف أبي تيج عملاً
بنصيحة يوسف له، وساورته في دواخله مشاعر من الإقبال والإدبار، وفكر في أن أهليه
سيسعدون بلقياه بعد غيبته وأنهم وإن أنكروا عليه أنانية تصرفه فما أسرع أن تغلب
عليهم المسرة الأولى التي تجعلهم يلتمسون له العذر، ويخفضون له الجناح،.. وإذا هو
على هذا الحال من تضارب الرأي فرجحانه فقد راوده اضطراب،.. وجعل يحدث نفسه فيما
يقلب وجهه في بروج السماء :"ترى كيف هي صحة تسنيم؟ أتراها وهنت أمام إلحاح
بدور وعبد المجيد فوشيت لهم بشيء عني مما نصحت لها بإخفائه؟ كيف حال الأخير (عبد
المجيد)؟ هل عساه قد صمد أمام امتحان الرئاسة المخيف؟ وبدور، أجل، بدور، هي
الأخرى،.. ألازالت عجيناً طيعاً لم تيبسه السنون؟"، وتمثل واقفاً رفقة زوجه
أمام باب الدوار الذي حذق أن تغييراً عظيماً قد طرأ على حقيقته فجُعل فيه شيء
اُقتبس من دنيا القصور المنيفات، فهذا درج الرخام، وتلكم تعريشة الخشب يستشرف
الرائي ذؤابتها عبر السور - الذي تطاول - في صعوبة، وعلى الأرض بسط خضراء
كالزبرجد، وود لو تأتي حقيقة العائشين في مثل هذا الترف المشهود متوافقة معه، أو
هي على شيء منه هين،.. بيد أنه - بعد الأمنية - نصح لفردوس بأن تبقى في مبعدة من
الدار لما كان قلبه قد أوجس بريبة ما، ومضت تسير حتى وقفت قرب طاحونة بخارية
استحدثت هناك،.. وأحس نفسه أمام الدوار الهائل غريباً فما أن طال طرقه دون مجيب
حتى انقلبت غربته وحشة مقلقة، وانفتح الباب أخيراً فاستشرف الطارقَ مؤنسُ الذي كان
عليماً بهويته - حتى بعد انقضاء السنوات - في صمت، وظن بكر فاتح الباب واحداً من
فقراء القرية الذين عطف عليهم عبد المجيد فتبناه حتى أسبغ عليه النعمة ، وسأله :
- هلا أظهرت عبد المجيد وزوجه على
حقيقة عودة نجل نوح؟
هناك انفجر مؤنس في بكاء مر استقت
أدمعه من بحيرة كاذبة، وقال ممسرح النبرة :
- قتلوه الخونة في نومته، ويتموا نجله
البريء قبل الأوان، ألا ساءت صنائع المجرمين..!
تجرع بكر أولى الكؤوس في كدر، شعر
بأنه ما فقد الكثير بغيبته الفائتة فانسحب استبشاره بالعودة وانلقب يأساً، وما لبث
أن لاح "البريء" (منتصر) الذي جاء راكضاً من جلسته في ظلال التعريشة
الوارفة إلى ذلكم الباب، وتحركت في إثره زوبعة قش، حتى إذا انتهى هبط بكر إلى
مستواه يقول :
- سأكون لكَ بماثبة الفقيد، عليه
الرحمة.
وتدخل مؤنس وقد بدا أنه تحلل من بكائه
على نحو غير مدرج أضر بصدق مشاعره يقول :
- أخشى أن الجراح المثخنة في جسد
الصالحين كثيرة،.. لقد ماتت أمكَ تسنيم قبيل اليوم الذي انصرفت فيه بدور عن هنا
بحثاً عنك، لقد صرنا نعيش في عهد مقفر إذ أصابتنا القُحْمَة والساحة قد خلت
لتلامذة حمروش، بعد زمان حيينا فيه حياة طابت وطابت أنعمها، ومذ ثكلنا الحبائب
انتظرنا خلائفهم على أحر الجمر، وقد علمتني تجربتي مع عبد المجيد ما كان بالأمثال
موروداً من أن "السلطان من ابتعد من باب السلطان" !
اكتوى بكر بمرارة ألجمته حتى جعل مؤنس
يقول وتحت عينيه لايزال أثر ماء الجفن الزائف فيما تبدو العينان في اتساعهما الأول
:
- هلم، إلى دارك، ولتجلس رفقة الصغير منتصر
في ظلال التعريشة،.. لطفاً بنفسك ورحمة بها،.. سيدي.
ودلف بكر في ذهوله فما كاد يخطو بضع
خطى على هذا العشب الواحف حتى أشهر مؤنس خنجراً كاد يجهز به على
"ضحيته"، هناك تحرك منتصر في رشاقة جديرة بالثناء - قياساً إلى طفل صغير
- حتى أمكنه أن ينبه بكراً إلى ما وراءه، فحاشا المكلوم طعنة الغدر واشتبك مع
الخائن حتى انحل الخنجر من يده، وانقلب مؤنس إلى استجداء جديد حين حدس بهلاكه الذي
اقترن بهزيمته، وكان وجهه المكهفر (مؤنس) غارساً في العشب الواحف، وصاح بكر في
الخفراء وهو القابض على ظهرانيه بيديه يقول :
- اقتلوه..
واستجدى منتصر خاله الصفح عن مؤنس
فكان جوابه (بكر) هو لا بمد الألف، (وكان مسوغ منتصر في هذا طفولياً إذ هو ينتظر
من مؤنس أن يروي له بقية قصة اللامة التي تصعد إلى قمة الجبل، مما كان يحرص على
سرده له قبيل منامامته)، وألفى بكر من الخفراء تردداً في مطاوعة أمره على القتل -
وإن قيده منهم واحد - فخرج عن الدوار يمد السير في السبل، إنه يهتف كأنما يهدف إلى
إقرار الشرعية الشعبية التي تأتي في إثرها حوزة القوة والطاعة :
- ألا فليبلغ الحاضر غائباً لم يسمع
بهذا الحديث : لقد عاد بكر بن نوح عمدة ريف أبي تيج الجديد.
وكان في صوته قوة وبأس حتى اختلط على
من سمعه الأمر فخال الذي سمع صوته أنه صوت بهاء الدين وحسب من بصر بمشيته أنها
مشية نوح، ومضت فردوس ترشه بماء الورد في سيره وفي أعقابه، فيما يقتفي منتصر أثر
الموكب كالأخيذ يتوجه حيث يسار به، شُنق مؤنس في عشية هذا اليوم وسمعه من حضر آخر
لحظاته يقول :
- رميتموني بالنفاق وهو فيكم،.. ألا
تعساً لكم ونكساً يا زمرة المرائين والغدرة..
وتحدث الناس عن بكر الذي اكتسب - أخيراً - طبائع
القوة وملكات الحكم، وعن الداهية الأريب والبطل الشديد الذي اختمر تكوينه على
نيران الأرزاء، فيما ذهب آخرون إلى مذهب عجيب فزعموا أن العائد إنما هو امرؤ
غيره حاز ظاهر صفاته الشكلية وإن احتوى على المغاير من ميسمه الطيب، وكان بكر يغفر
لأولاء رعونتهم في الحكم دون أن يعزو تبدله إلى سبب محدد، وإنما يقول في تبصرة
:"إن الأسباب كحبات مسبحة، يسوء المحقق أن يعزلها عن تكوينها الشامل.."،
حتى إذا ذهبت السكرة وجاءت الفكرة مد الحزن في نفسه جسراً وطيداً على الراحلين، ومضى
متسائلاً في دهاليز الكفور وأزقة النجوع وقد أحاطته حاشية الوحدة : "أين
الجميع؟"، لقد قصد إلى من ينشد الموال في قريته فبكى حين سماعه المنشد يقول :
يا رايح للأحباب صب الدمع علي الأعتاب
حطيت إيدي علي قلبي لقيته داب
كان إنشاداً كالندب، وحول قاصد سرادقه (بكر) من يعقد يديه
فيشبك إصبعي اليدين ويدور حول نفسه، وهذا الذي يطوح رأسه ذات اليمين وذات الشمال،
ثم أولئكم الذين يهبطون بأيديهم ورؤوسهم في أنساق جماعية ثم يعودون إلى استقامة،
وهلم جرا،.. وتلقفت رأسه (بكر) يداه من أثر البكاء في ثوبه الذي لم يخلص للأسود تماماً ولا للأحمر،
ومال به الوجود ميلاً، ونزعت بنفسه نازعة الأسى فتألم وتلذع، ودعته فردوس إلى أن
يصفح عن نفسه وعن مشيئات الأقدار، ففتح عينان ملؤهما الحسرات وتلقفه الريفيون
بالمواساة الجديرة بالمغامر الذي تعلم وأصقلته التجربة، لقد حوى تراث الريف على
تمرده وضمنه في وجدانه : على ألحان الربابة وفي أقاصِيصُ الجدَّات، هناك ألقى
الأسيف على الأشياء محبة وعطف، وأما حين آبت بدور إلى الدوار بخفي حنين فقد وجدت
من كانت تبحث عنه في مقام ذرته وتركته، ونُكبت المرأة في زوجها فتوشحت بسواد لم
تغيره، وكانت كثيراً ما تحذر أخاها من بطانة السوء معتبرة بما وقع لزوجها، وقد خفض
لها الرجل جناح الاتعاظ، لقد ساد عشيرته وهو على شفير الأربعين، وأقام العدالة عبر
الانبراء لجماعات الفساد حتى اخضر الريف في أكناف ما فرضته الاستقامة من الدعة
والسلام، وقيل عنه بأن "كفه أخضر" لما أثقلت الأشجار في عهده بالثمار،
وبأن له أنفاً أَعَزُّ مِنْ أَنْفِ الأسَدِ لما كان ذا منعة وقوة، ثم هو أَعْدَلُ
مِن الميزانِ،.. لقد قضى بكر زمناً في أبي تيج تفادى في خلاله الحديث عن
الإسكندرية، فيما قال المبصرون من المحققين :
- إنما هو يتفادها كما يتفادى المحب
عن الحديث عن محبوبه الذي ساءه تعلقه به..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص