الفصل الثالث عشر : لا تسمحي لمنتصر أن يخالط ابنة بكر
ذلك النهار أنهى نبيل عقابه
بالإصلاحية جزاء جنحته، تحفه معايِبُ ومَخازِ الأمس، وإذ كان أبوه عز في مزاجية
الخسارة التي سببتها حادثة الأقصر لقطاع السياحة فإن الرجل لم تطاوعه رغبته على
الذهاب لاستقبال الولد الذي ارتأى أنه أسرف في تدليله على نحو نأى به عن المسؤولية
والجدية، ومكث في الغردقة التي اكتوت بظلال المذبحة المرة وذهب الروع فيها بشغف
التجوال وإرادة الزيارة أمام صورة ضحاياها السوسريين واليابانيين، وإذ كان بين
الصحة النفسانية وبين الصحة الجسدية باب غامض موصول فقد أصيب عز - جراء الحزن الذي
انتابه من ركود تجارته في البازار - بمتلازمة النفق الرسغي، هاته التي لم تكن
خطيرة بدورها ولكنه وجد بسببها صعوبة في الإمساك بالأشياء، إنه يقول وهو يجتهد في
القبض على مج خشبي أنيق :
- إنني كنت إن منعت عن نبيل المال
سحابة نهار تلوى وغضب، وواجبي اليوم أن أدخل عليه شيئاً من المشقة وأن أعنته عسى
أن تقوم الشدة ما اعوج من قوامه، وإذا نظر المترف للمترب عاد يقدر ما في يده..
تركه عز إذاً خالي الوطاب نهباً
للمصير، وقد رفع عن رأسه سحابة الرعاية اللينة، وإذ عارضت نور من طليقها هذا
المسلك فوصفته بـما جار عليه من إحسان بـ"من بنا قصراً وهدم مصراً"، فقد
استقبلت نجلها استقبالاً ذا فرح وشزور، وإذ أحس الشاب ما فقده بغياب أبيه من نعمة
جزيلة ومنة جسيمة فقد استخف بحفاوة الأم، وإذ وجد نفسه عرضة للمؤذيات فقد ارتقى في
منازل الذاتية والاعتماد فأقام وحيداً في السيالة بالإسكندرية بناءً على طلبه
(الذي كان بدوره موافقاً لإرادة الأب دون الأم)، لقد كان منبوذاً معتداً وقد أخفق
في الاستقلال، لقد ساوره شعور مضطرب بأنه جدير بالجفاء على نحو حبب إليه اقتراف
الأخطاء، والتورط في الحماقات، وإذ كان الشاب يصحو في نهاراته نشيطاً فقد حرص على
القيام باللاشيء، حتى إذا كره أن يقضي النهار بلا عمل طال به السهر وظهر على جفنه
شحاذ العين،.. شيء واحد قد جذبه في مقامه الجديد بالحي الشعبي هو عدم إقبال
المصطافين إليه وخلوه من الزحام - قياساً إلى مثله من سواه من النطاق الساحلي للمدينة - وإن كان حياً سياحياً بالأساس، ومن
المفارقات هنا أن سياحته الداخلية (أي سياحة المصريين إلى حي السيالة) آنذاك كانت
تزيد على سياحة أشهر المناطق في هذا الصدد كالغردقة وشرم الشيخ وغيرها من المدن
ذات السمعة التي انقطع عنها سَيْب الأجانب - أقول كانت تزيد عليهم تدفقاً وتعداداً،
وداوم الشاب على القصود إلى حانة متواضعة هناك، وقد بصر بامرأة حليقة الرأس
بالكامل تصب الكؤوس للرواد، وعلى أن عين المرأة هي التي كانت تصب الكؤوس بنفس
صورتها في كل الليالي، ومع حقيقة أنها صبت له هناك غير مرة وقبل اليوم، فقد تلمَّح
الجالس الغرابة في شعرها الحليق هذا اليوم فقط، وقال :
- معذرة،.. أأنت عليلة بداء خبيث؟!
وبدا سؤاله جارحاً - كنتاج لحقيقته
المستهترة - وقد شعر طارحه بعد ثانية أو ثانيتين من صمته بأنه ركل أصيص زهر بدلاً
من أن يغرس في تربته واحدة، بيد أنه ما عاتب نفسه قط ولا أصابه من التثريب أدنى
ملام،.. ومسحت المرأة يدها بقطعة حمراء من قماش وقد ضاقت عيناها تقول في ابتسام
متكلف يخفي شعوراً بالازدراء :
- داء الثعلبة،.. إنني مريضة به.
وتركته لتلبي مطلب غيره وكان في نفسها
رغبة مكتومة في إلقائه إلى الجحيم، وإذ كان رواد الحانة كثيري السؤال عن المسوغ
وراء انتفاء الشعر من رأسها، فإن نبيلاً بدا أسوأهم جميعاً في طرح سؤاله، وقال
لها:
- كنت ستبدين أفضل لو تركته بما فيه
من فراغات طبيعية..
وانفجر الجلوس في الضحك فعاد يوجه لهم
حديثاً يقول :
- وأنت ! أيهذا الضاحك البدين ! لشد
ما أنتَ سمين كالبرميل ! حتى أن بمقدور كوب الويسكي أن يستوي على هذه (أي بطنه)
استواء الاستقرار كاستوائه على المنضدة أو أفضل، سأجرب هذا، أعني إن أتحت لي فرصة،..
إنها كبطن دنجل (يشير إلى بطن محدثه المنداحة).
وإنه لكذلك في تسفيه للجلوس حتى بدا
أنه اكتسب عداوة الجميع، وكاد يقول شيئاً عن الجالس الأخير لولا أن المرأة جعلت
تقول :
- فلتصمت، أيها الأبله الصفيق.
وأيقظه حديثها من سكرة الاستهتار قليلاً، ونظر حوله إلى الجلوس
وقد ازوروا عنه، وإلى الكؤوس وقد ﺻﻔﺮت اﻷﻗﺪاح إﻻ ﻗﺪحاً واﺣﺪاً ﻫﻮ اﻟﺬي ﻛﺎن أﻣﺎمه،
قال بعدئذٍ :
- ها قد حصل المنبوذ على ابتسامة
ومسبة، إنني منبوذ بعد أن قتلت مدرساً لي بمسدس أبي، وخرجت من الإصلاحية قبل أيام
دون أن أراه..
وانفجر في الضحك حتى جعلت المرأة ترثى
له، وطالت جلسته صامتاً هذه المرة، فقالت :
- من السخف أن يسخر المرء من معاناة
الآخرين.
وقال :
- من أسف أنها نوعية الفكر التي
تتوارد على رأسي،.. لقد سخرت من معاناتي أيضاً.
- هل أنتَ صعلوك؟!
- الحانة مزار الصعاليك.
- هلا كففتْ عن الهراء؟
- سليني أجيبك، إن في لساني إِتْحَاف
السَّائِل، وإِفْحَام الجَاهِل.
ولكن المرأة ما سألته ولكن ازورت عنه
وانغمست في تلميع وضبط الطاولات التي فرغ بعضها، وانتظر الشاب حتى انتهاء يوم
العمل وإغلاق الحانة، وجعل يسألها ملازمته المسير إلى بيت أمه نور بالأزرايطة - الحي الملكي «البركيون» أثناء عصر
البطالمة - كيما يثبت لها شيئاً عن أصله المترف، وجعل يقول:
- لقد شهد الأزاريطة على تواجد أعلام
أربعة : أفلاطون وأرخميدس وهيباتيا وأمي، والأخيرة تركت المعمورة كي تتخلص من
ذكرياتها مع أبي، ولبثتْ مقيمة هناك..
ولكن الفتاة مضت عنه وقد اختفت في
حارة السيالة كأنما طواها الليل، وقد بدا أن ازدراءها له لم يزايلها بعد، وسمع
نبيل نداء شحاذة تصطنع العجز وتستنجده البذل، فطعنها بلسانه - وقد أغضبه إعراض
فتاة الحانة عنه على نحو أفقده الحكمة - يقول :
- اغربي عن وجهي.
ونهضت "العاجزة" وراءه تقول
:
- ما أجمل العالم إذا خلا من أمثالك !
وقال لها في استخفاف :
- ألا مرحى بـ"العاجزة
الراكضة" سليطة اللسان !
وساءها طبيعته الأرستقراطية المستنكفة
فألقت عليه بقبضة فيها عفارة التراب، وتلذَّع جفنه بالألم حتى عزم على أن يجيء بها
وأن يثأر لنفسه منها، ومضيا بمحاذاة الكورنيش الطويل في مطاردة والمطر يهبط كأشد
ما يكون الهطول، كانت الموجات صاعدات كأنها ذات شدق يأكل الصخر، ولكن العزم يخذلها
فتنكسر بفوراتها لدى الشطآن، كأن بين الاثنين عقد وفاق غير مكتوب، وكانت الرياح
ذات بأس لطيفة الوقع - مع ذاك - لمن أحب الصقيع والبرد، وقد تبدى أنها، وعلى نحو
مجازٍ، قد خرجت من الجعبة المزعومة، هاته المصنوعة من جلد هذا العجل الكبير،
المحكومة رباطها بسلك فضي جزيل، مما جاء في الأوديسة أن الإله قد أودع فيها
الرياح، فلا عاد يخرج منها نفس إلا بإذنه،.. وإذ كان نبيل راكضاً في خضم هاته
الأجواء يقتفي أثر المرأة فقد فكر في حقيقة أنه قد ترك عيشة مخفرجة، جانبها عزيز
ليطارد شحاذة بائسة في مناخ صعب، وقد تراجعت رغبته في الانتقام لنفسه أمام تلكم
الحقيقة، وإنه لمعتقد الآن بأنه دون الأهمية التي ينتقم الناس لأنفسهم من أجلها، حتى
توقف كلية عن العدو فغابت الأخرى في أفقه الثابت،.. وتبين له لدى وقفته أن في
جانبه زورق لرجل يجالد العباب، وإذ حقق أكثر فقد رأى من المجالد وجه عجوز، وسمع
منه صيحة استغاثة، وقد جاوز زورقه النطاق المسموح في محضر تلكم الرايات الحمر، وقد
اختفى المراقبين على أبراجهم حتى صار لخلوها منهم وقع مقبض في نفس الرائي، كان
الزورق يترنح وسط ضجيج اليم وعجيجه، وقد خيل لنبيل أن الصياد الذي قصد خداع كائنات
البحر قد صار هو الآخر طعماً لبيئة البحر عينها، لقد تطوع الفتى - الذي لم يعرف في
حياته إلا الاستهتار - فخلع قميصه متأهباً لمجالدة البحر الذي لا يُقهر، هناك سبقه
صبي أسمر ذو جسد ناحل تبرز فيه نتوء العظام إلى مأربه فتوقف المتأهب وارتقب، هبط
الصبي الأسمر إلى لجة البحر في عزم جدير بالإكبار، وإذ خاله نبيل دون قدرة المهمة
أولاً فقد جذب الصغير بعد سباحة الزورق ومضى يجدف به إلى الشاطئ حتى إذا اقترب منه
أو كاد فقد الصبي طاقته وغرق وقد ابتلعته موجة قوية، وحتى إذا صار في قرارها لم
يظهر، لقد مال الزورق أمام الموجة نفسها فانقلب وغاب العجوز عن سطح البحر، ولم يبقَ
من الزورق إلا قاعدته الطافية، لحق نبيل بالغارقين ومضى يفتش في الأعماق عن أثر
لهما، وسرعان ما خذله البحث عنهما، وإذ تحسن الطقس في مساء اليوم فقد عاود البحث
وقد وجد عين النتيجة : ما من أثر للعجوز والأسمر، وإذ انتهى بحثه الطويل عنهما
بالإخفاق فقد جلس يبكي وينتحب، إنه يستوقف العابر فيخبره بالمصيبة التي رأى فيتنصل
منه الآخر ويتحرى تجاهله، إن نبيل يقول كالنادب :
- التهمتهما جحافل التيار،.. وقذفت
بهما كتائب الموج إلى هوة النسيان!
لقد بكى في هذا اليوم طويلاً دون أن
يجد أنيساً له، وقد تطوع الصبي الأسمر فحمل عنه مصير الموت،.. لقد أنقذته الصدفة
إذاً، ونام في الموضع القريب من الحادثة وقرب هذا الزورق المنقلب على عقبيه ناضب
القوى، وقد سمع عن الواقعة التي رآها رأي عين في نشرة الأخبار، وذكر فيها المحافظ
شيئاً عن "نيته" و"عزمه" على تكثيف الغواصين وإيقاف البدالات
والسحارات،.. فلما نهض عما هو فيه من الحزن انتهج التقشف والتمس الزهد، وعاش
متقللاً من الدنيا منجمعاً على نفسه، لقد نبذ الطعام حتى شح بدنه، واكتوى بالهزال،
وعرف بالحفاء منذ يومئذٍ، وكان يحث رمل البحر على رأسه في أسى، إنه يقول:
- لقد رأيت النور من شحة الإظلام، وفي
موت هذين عبرة ذات قصد، ويستحيل على من بصر بالضياء الباهر أن يعود إلى ظلمة،..
كذلك من العصي على مجيد المشي أن يتعثر.
وكان يمضي في السيالة على قرب من
الحانة حتى انتكست مشيته فهوى من الضعف كورقة الخريف، وأما الفتاة التي بالداخل
فقد سمعت من يطرق على الباب يقول :
- ثمة من هوى أمام بابكم..
ومضى الرجل الذي نبهها إليه عنها كشأن
كثيرين في حيَّنا : يؤشرون إلى المعروف ولا يقدمون الثمن في سبيله، وفتحت المرأة
بابها وفي يدها كوب الماء فألفت "المشاغب" نبيل على عتبتها، كان رأسه مستنداً
إلى الحائط وسائر جسده مستقيم لكنه متهالك كالمسجي، وقد تعلق الجير الذي في الحائط
بمؤخرة شعره وتقذرت ثيابه من أثر التراب، وسألته وقد فتحت فمه فسقته من الماء كأساً
:
- ماذا أصابك فنزع عنك الاستهتار
والقحة وأنبت فيك الضعف والشحة؟!
وقال بعد أن أغمض عينيه :
- لقد رأيت الحقيقة على جناح الموت.
وتلمحت من حديثه الجدية ومن جسده
الوهن، ونظر إلى شعرها فألفاه قد نما كلية، إنه أشقر مذهب عامر بالحياة، فجعل يقول
:
- وكيف استرديت هذا كاملاً من غير سوء؟
وقالت وهي تلحظ مطالعة العبور لهما
بالريبة :
- لقد تركته، وقد نما، ودون مثبطات
المناعة، إنني مدينة لصفاقتك التي جعلتني أفكر في تركه.
وجرت جسده الخائر إلى الحانة ثم تعكز
عليها حتى جلس على كرسي نحاسي، حتى إذا جاء أبوها فناداها بسعاد وسألها كأنما
"يشيئه" في ازدراء وقد جاور رأسه الضخم مرساة كانت من ديكور الحانة :
- ماذا جاء بهذا إلى هنا؟!
وغفلت عينا الشاب كالمُغيَب، وقالت :
- سنحتفظ به ريثما يسترد وعيه.
وتساءل الأب :
- وما جزاؤنا؟ الحانة ليست لمن لا
يدفع.
- المعروف بلا جزاء، ولقد سقيته في
كأس الخمر ماءً.
ومد الأب يده في جيب النائم حتى تحصل
على شيء منذور مما بقى في جيبه، وقال :
- لن يبقى هنا طويلاً..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
**
في نوبة مصر..
انطوى مارتن على مرارة لم تفارقه منذ
وفاة صديقته "سوزي" في حادثة القطار المروع بماريلاند، وملأته الأحزان
بما لا يقادر قدره من الحسرة، وعاد الرجل إلى بلاده في مالي في إجازة بعد إذ اعتزل
السياسة والخطب الجماهيرية، حتى إذا انتهى عن الزيارة لم تضح عليه بوادر التحسن،
وإذ كانت إرادة المرء في أحزانه أضعف مقاومة أمام المغريات العجلى، فقد عاد
المكلوم إلى تعاطي الكوكايين حتى ساءت صحته، وآب إلى مالي في زيارة ثانية لم يظهر
له أثر بعدها، وسمع منير حين حاول اقتفاء أثره بأن "صاحبه" انضم إلى
واحدة من العصابات هناك، وقد أرسل مارتن إليه برسالة بعد انقضاء أشهر صامتة ذكر له
فيها سعادته بهذا "العمل" المجزي البعيد من الاستجداء الإنساني، بوصفه،..
ولما تأثر منير بحالة صاحبه فقد عجل بفكرة الزواج، وكان يردد بأن المرأة تصلح ما
أفسده الشيطان في صراعه المقدور مع الرجال،.. تزوج منير إذاً بآمال - التي تخرجت
أخيراً - في ليلة لم يحضرها عارف، وحضره نعيم ومريم والمربية حواء، وابتاع منير
لغرض الزيجة فيلا على نهر النيل - منفقاً جزءً كبيراً من ثروة تفيدة الذي آل إليه على
غرضه - في نوبة مصر حيث مولده، وكشأن النوبيين فإن ارتباطه القوي بالنيل حمله على
ترك الولايات المتحدة والإقامة قرب أهليه هناك، وسرعان ما أنجب المتزوجان ولدين
هما : أمنية وباهر، وقد بدت أمنية في صورة قوقازية أقرب إلى حقيقة آمال فيما بدا
باهر في سمرة رائقة كالأب وقد وُهب عينان زرقاوان،.. وجلس يرقب هذا النيل وقد شرب
من الجرة النوبية المزخرفة شيئاً من الماء يقول في شرفة بيته المطلة على النهر:
- ألا ما أجمل العاقبة ! أجمل بصفاء
النيل ! إنه على الخريطة كما هو في الحقيقة،.. ما أشبهه إلى عامود فقري لإنسان
أعلاه عريض هو الجمجمة ثم ينحني كالعصعص قبل أن يمتد للساقين المفرودتين ! هذه
كانت رؤية أجدادنا عنه : العمود الفقري للبلاد، وأوزيريس الذي يموت ويحيي كل سنة..
ونظر إلى فلوكة (ركشة النيل) تقودها
سيدة في الماء يقول :
- وددت أن ينصف القدر مارتن أيضاً،
لقد فاز مرشحه بيل كلينتون ولكن الرجل فقد عقله بعد فقدان سوزي، لقد أرسل إليَّ
برسالة رأيته على ما فرط ما أبداه فيها من سعادته المزعومة وكثرة ما أورد فيها من
معاني الأريحية المدعاة يعرب فيها ضمناً عن يأسه من الإنسانية..
وقالت الأخرى في حس لطيف لا يضغط على
مخارج الأحرف على شدة ما تنطق به من المعنى :
- من أسف أن الطرق الإجرامية تكون
أحياناً معبدة وممهدة فوق السبل القانونية في دنيا البشر..
وابتسم منير وقد لفح الهواء وجهه على
نحو أنعشه، وكان يشعر نفسه في بيئته الطبيعية منسجماً فوق تواجده بالإسكندرية أو
الولايات المتحدة، يقول :
- جميع الطرق صعبة وعرة،.. وهذه خاتمة
مثالية لقصتي.
ونظرت إلى سيدة الفلوكة هي الأخرى وقد
اشتد التيار بوسيلتها تقول:
- الخاتمة المثالية يجب أن تكون في
فيلا لوران، حدثني أبواي عنها طويلاً، وشغفي بها يزداد بطول الروايات.
ووجه بصره نحوها بين الانزعاج والدهش
يقول :
- بئس العيش في المدن الكبيرة
والحواضر العظيمة ! إنها مفاخر حضارية لا نُزل لآدميين،.. الجسور هي قبائح خرسانية
وقد رأيت بعضها في الإسكندرية، إنها اعتراف ضمني بفشل التصميم الأول، ورغبة في
الترقيع والرتق، إنني أكرهها كراهيتي للقبح، إنني أحب أن أعرب عن كراهيتي، فهؤلاء
الفاترون اللامنتمون هم المفاخرون بالعدم،.. والجسور الجميلة فقط هي ما كانت عابرة
فوق نهر أو بحر، كجسر السلسلة فوق نهر الدانوب في بودابست، أو هذا الذي في لندن
ولا أذكر اسمه (يريد جسر البرج المعلق فوق نهر التايمز).. ولا شأن لما يُقام في
بلادنا بهذا النمط من الجسور،.. المباني العملاقة وناطحات السحاب أيضاً سلبت من
المرء الحق في أن يعيش في بيت حوله خضرة، لقد صار البشر يسكنون فوق رؤوس بعضهم دون
أن يثير الأمر عجباً، وكانت هذه مقدمة لأن يتزاحموا في السبل وأن يتنافسوا تنافس
الكثرة على القليل وأن يزيدوا في النسل بلا ضابط، إذ مهما كانت الحماقة الإنجابية
عظيمة فثمة ما يستوعبها دائماً في "علب كبريتية هائلة"، ولا يُتصور أن
يقع زحام مروري في مدينة من قاطني المباني الخشبية، لقد منحت المباني الكبيرة
شرعية الكثرة إذاً،.. ألم تفكري في حماقة الأمر مسبقاً؟! إن حقيقاً بعبقرية أن
تفكر في كل شيء،.. إن يدي سمراء كهذا الطمي، هذه أشياء لا يقدرها إلا النوبي،
وبمقدوري أن أزعم أن الجميع سعداء.
وقالت :
- وماذا عن عارف؟
- ألا يزال صياد بورانو البائس يردد
أن الأخ قد تزوجه أخته؟
وابتسمت تقول :
- أجل.
وغاب الرجل إلى حجرة داخلية ثم عاد
يحضر وفي يده باهر الذي كان بدوره أصغر من أن يميز الأشياء وقد قصر وعيه عن
الاكتمال، ولكن منير رفعه في حفاوة يقول :
- إن هذه بيئتك..
واضطراب السيدة التي فوق النيل - كأثر لاضطراب
مركبتها العائمة - فقالت آمال :
- لا عجب أن تهتز على تلكم الصورة،.. كانت
الفلوكة تصنع في وقت ما قبل الثمانينيات من خشب السنط، واليوم هي من بقايا حديد
براميل الجازولين الفارغة !
وقاطعها منير متسائلاً :
- أحب أن اسميها ركشة النيل وبصرف
النظر عن المادة التي صُنعت منها،.. ولكن كيف عرفتِ البقية؟
وقالت آمال :
- عرفت من هجلة.
هناك وقف منير في عجب من هوية صاحبة
الاسم النوبي المنقرض.
1998م..
في بيت يوسف..
أقام صفوت وحورية في بيت يوسف بناءً
على طلب أبيهما بكر الذي ارتأى أن ينأى بهما عن أخطار الريف وتقلبات أيامه، وبدا
أن الزيارة العارضة قد استحالت إلى إقامة دائمة، وكان يوسف ينتوي أن يصحبهما إلى
مكان وصفه بأنه : عريق، يوناني، سحري، وتعد فيه القهوة، ثم هو واقع بين المصالح
الحكومية للمنشية وبين المباني اللاتينية لمحطة الرمل،.. واجتهد أن يحيط "سره" بالكتمان حتى تبين أن الوجهة المقصودة هي مطحن
سفيان باولو، وإذ عرف صفوت الجوال في المدينة السر- مسترشداً بالوصف الذي كان
واضحاً أكثر مما يجب - قبل أن يفصح عنه صاحبه فقد كتمه، وقد فطن (صفوت) على قصر
عشرته بيوسف إلى أن صحته النفسانية تتحسن حين يبدو في مظهر الرجل الذي يمسك بشيء
ما بأصابع مسحورة، ثم يأخذ يترقبه المترقبون بأعين السؤال، وكانت هاته النشوة ابنة
طفولته التي صاحبته حتى كبره، إنها أشبه بطفل يشد طرف ثوب أمه كي ترى صنيعه فيطرب
لثنائها عليه، وإذا كان الإنسان أطول اللبائن طفولة فقد زاد يوسف في هذا المعنى
كثيراً وانتقل به إلى مستوى آخر،.. والحق أن الرجل بدا في هذا اليوم مجاوزاً لمحنة
وفاة زوجه مغالباً الوحدة بأنس الولدين الريفيين، وقصد ثلاثتهم إلى هناك
فاستقبلتهم زكائب القهوة المصنوعة من الخيش، عجب صفوت لماكينة الطحن العتيقة، قالت
حورية التي شعرت بالدفء الذي خلقته الديكورات الخشبية :
- إذا غامرت في شرف مروم،.. فلا تطمح
بما دون النجوم، فطعم الموت في أمر حقير،.. كطعم الموت في أمر عظيم، قالها المتنبي
من قبل، كان يجب أن نبقى رفقة أبي نعضد جانبه ونقوي أزره.
وجعل صفوت يقول :
- ستظل حورية تختلق الأسباب وتقتبس
الشعر لترى صديق الطفولة في سلة الخيزران، ومهوى الفؤاد فيما بعدها من أحقاب،..
منتصر!
وتشاغبا فيما بدا يوسف صموتاً منتشياً
برائحة البن، وسألته حورية عن السر فجعل يقول طروباً مرة أخرى :
- صدقتَ، إن لكل شيء سراً، ولقد بت
أرى المستقبل، حري بالعجائز أن يرتبوا أشغالاً وأعمالاً لعمر هو فوق عمرهم المقدر،
سمعت أن رجلاً في مصر يعيش لسبعين عاماً في المتوسط، وإذ كان ذلك كذلك فقد رتبت
أعمالاً لما بعد السبعين، الأمل يولد من طول الأفق المنتظر، إنه بريق المجهول، وقد
يخلق صناعياً،.. لقد تخلصت من ألم الفقدان حين ألقيت بالشاعرية قليلاً، كنت أقول
بأنني أرى الدنيا بعيني عفاف، وأنها كنز كان يجب أن أعقد عليه الخواصر، وإن ذكرها
لهو المسك ما كررته يتضوع، لقد استبكيت طويلاً واستعبرت مراراً، وقرأت من كتب
الأدب في معاني الفراق ما نصحت لكم بقراءته وإقرائه،.. ومثل تلكم العاطفية بلا
جدوى لأنها تزيد من المرارة، إن بها شيئاً قريب الشبه، أو لعله ارتباط مماسي ضعيف
ولكنه جدير بالذكر، إلى من يؤذي نفسه لأن أيقونته الدينية قُتلت قبل قرون،
متغافلاً عن الحقيقة البدهية التي تقول بأن مسألة خذلان جماعة الماضي من صحبة
الإمام وخواصه له في معركته الخاسرة لا يمكن أن يتحمل وزرها جميع المعتنقين لمذهبه
في كل العصور، ثم إن إيذاء النفس ليس أكثر من مازوخية حمقاء، لا تنفع ولا تجر من
الخير قِطْميراً، إنها ثور منفلت من حظيرة العقل وعقال الرحمة.
وشرب من الفنجان رشفة قهوة فأحدث
صوتاً كالأطفال، ثم أزاد يقول:
- بالحديث عن الأسرار فقد سألت مرة عن
السر وراء صناعة القهوة هنا يوماً، سر التحويجة،.. وإذ زرت باريس وشربت فيها مطاعمها
ونواديها القهوة فإنني لازلت أؤثر فنجان هذا المطحن، لقد أُجبت بأن له طريقة خاصة
في تجهزيه وقد حفظتها في ذاكرتي : حبات البن تنساب من حاوية فى إناء مصنوع من
الألومنيوم، وهذا طحين البن يُوضع في كنكة نحاسية تُدس بدورها فى الرمال الساخنة
لتنضج قبل صبها فى هذا الفنجان !
ورفع الفنجان الذي هو حصيلة ما وصفه
من خطوات ثم أعاده فاضطرب كوب الماء الذي إلى جواره من أثر اهتزاز الطاولة،.. كانت
حورية تائهة عن حديث الرجل وقد نظرت إلى اللوحات الزيتية التي كانت تضم صور
المشاهير نظرة هائمة النفس، وإذ لاحظ يوسف منها تلكم الحيرة والشرود فقد قال لها
وقد أنهى لتوه فنجانه :
- إن عصياً عليكِ أن تقصدي إلى الريف
لما كان أبوكما ممانعاً،.. ولكن بوسعنا أن نجيء بمنتصر إلى المدينة !
أرسل يوسف إذاً إلى بكر في طلب رؤية
منتصر، وقد كتب في رسالته مما كتب فيها يقول :
- وقد أظهرني الولدان على حقيقة أن
منتصراً كان يعاني في صغره من تشققات أصابت كعب قدميه، وإذا رجحت أن يظل المرض
ملازماً له في عمر الحادية عشر بعد بضع سنوات انسلخت على رؤيتهما له، ومخافة أن
يتطور هذا الضرر الجلدي الطفيف إلى صدفية أو أكزيما، فإنني اقترح أن يزور الولد
الإسكندرية كي يغسل جسده بالماء المالح المفيد بدوره في إبراء العلل الجلدية.
وإذ صاغ يوسف مسوغه على هاته الصورة
الركيكة فقد تبسم لها بكر ونقلها إلى صاحب الشأن : منتصر، هذا الذي أبدى بدوره
استعداداً للسفر،.. ألبست بدور نجلها ثياباً كثياب أهل المدينة، لقد خلعت عليه
بذلة صفراء كمونية وأودعت في هاذيك الجيب منديلاً من القماش أخضر، لم تكن الثياب
مما يناسبه، وحتى لقد كان فيها أشبه إلى البرجوازيين المتأنقين في مقاربتهم غير
الموفقة لصورة طبقة النبلاء،.. وقالت له :
- لئلا تكون دون أهل الحضر زينة أو
بهرجة، ولتمض في تؤدة واعتدال ولطف كالنسمة الوانية، ولتعد سريعاً كالريح العازمة.
ووافقها الصغير ثم مضى فمكثت تترقبه
وقلبها بين لوعة تركه والبشر باستقلاله، حتى إذا عادت إلى حجرتها ألفت امرأة عجوز
تقول لها في ابتسامة أرعبتها :
- مرحباً..
كانت العجوز هي ثريا : صديقة تسنيم
التي عمرت وطعنت، لقد كانت المرأة من هذا الصنف الذي يكتسب الاحترام في محيطه وفي
بيئته ليس لما حققه في عمر حياته من مذكور الفضائل أو أنجزه من محمود المهام، ولكن
لما أوغل فيه من العمر ولما مد فيه من مسير الحياة، لقد تغاضى الجميع في أبي تيج -
وكانت أكبر العجائز فيه - عن زلاتها أيضاً لعين السبب، ولقد كان دلوفها إلى حجرة
بدور دون الاستئذان منها واحدة من هاتيك الزلات،.. وقد رحبت بها المضيفة بعد أن
تداركت وجودها على نحو أخجلها، وإذ تلوت المرأة أول العلم بوجودها كأن أحدهم ألقى
في جوفها بسائل حارق فقد تعذر عليها أن تبدي الترحاب الذي بدا - وحتى بعد النطق به
- مسلوباً من جوهره، وقد أعربت لها بدور عن هذا السرور عينه الذي كانت تبديه لدى
محضرها دائماً رغم وفاة تسنيم، كأنما تروم أن تقر بأن علاقتها بها هي ذات
استقلالية، وقد زورت شعورها هذا واختلقته، وإن لدى بعض الصادقين، شديدي الأخلاقية،
قدرة على الكذب المقنع فوق سائر الأنماط، كأنما تضع الطبيعة فيهم نعمة الفضيلة كي
تجبح فيهم تلكم الخصيصة الضارة والقدرة الفذة،.. ومدت ثريا قدميها على بساط الأرض
لما كانت لا تطيق الجلوس، وقالت :
- يجب ألا تسمحي لمنتصر أن يخالط ابنة
بكر..
وتساءلت الأخرى دون نطق
:"ولمَّ؟".