الفصل الحادي عشر : كل شيء بدأ في الكون بثورة
1996م..
في الولايات المتحدة..
كانت الانتخابات الأمريكية التي أجريت
بين بيل كلينتون، وبوب بول، وروس بيرو - قد أبدت إرهاصات تفوق المرشح الديمقراطي
(كلينتون)، وأما مارتن - المتطوع في حملته الانتخابية لكلينتون بجهد محمود الأثر
بارزه - فقد سر بما آلت إليه نتائج الاستطلاعات، وقد تحدث في هذا الميدان بخطبة
بلغية يقول :
- "هذه هي الحقيقة، يطمرها
الرمل، ويكشف عنها المطر،.. وكل شيء بدا في الكون بثورة، إن بلادنا (يريد أمريكا)
نفسها بدأت بثورة في المستعمرات الثلاث عشر على بريطانيا العظمى، وغداً يفوز
مرشحنا الديمقراطي في ماريلاند، اليوم هو ثورة، فلتهللوا ولترفعوا أيديكم، أعزائي
أبناء ماريلاند، ما كنتم يوماً أهل ذلة وصغار بل آل قدرة وقوة..".
وكان الجمهور ممن يستمعون له على حال
من حفاوة كبيرة حتى أن منهم من حمل طفله على يديه ورفعه، وعصفت بمارتن الذي كان
يستمد طاقته من محيطه الاجتماعي عاصفة من البشرى، وإنه ليجد في الخطابة وسيلته إلى
النجاة، وقد خاطب بشراً كثر فأقنعهم في تمرس وثقة، وبدا أن "الرب قد أشار إلى
الرجل" أخيراً، بوصفه، لقد بذل جهداً دعائياً أسفر عن ظفر ورواج، وأشار إلى صديقته سوزي وسألها :
- "هلا تريدين أن تضيفي شيء،..
عزيزتي؟".
وعلت عاصفة من التصفيقات، قالت
السمراء وهي تأخذ تقف إلى جوار زوجها :
- "أريد أن أقول بأنني سعيدة،..
سعيدة جداً..".
وكان الجمهور قد عاد يصفق لحديثها
الذي لم يكن "إضافة" بحال من الأحوال، ووقف منير وآمال وسط الجمهور
يرقبان سعادة صاحبهما، وانفض الجمع لدى وجه الصباح فلم يبق من زخمه وضجيجه وعجيجه
إلا أربعة أنفار (وقد كان مارتن قبل هذا مصراً على التحدث إلى آخر من بقى في هذا الميدان
وكان عجوزاً في عمر المائة، فيخطابه بلهجة شابة متحفزة عن أحوال التاريخ والثورة
!)، وقال منير لصاحبه وهو يرقب حركة العجوز ذي العكاز بعيداً من الميدان :
- "تهانينا ! وإن كان ثمة كعكعة
انتصار فلابد أن ينالك من نصيبها منال..".
وقال الآخر، وقد جرحه حديث صاحبه من
حيث لم يقصد الأول :
- "إنني حاولت نصرة العدالة التي
أراها في هذا الوجود ولم أبحث عن الكعكة..".
وقال منير كأنما يريد إصلاح ما أفسده
في حس ساخر :
- "ما أجمل أن تكون العدالة
والكعكة في جهة واحدة ! إن كلينتون نفسه مدين لكَ بنصره القريب..".
وابتسم مارتن وقد شعر لتوه - شعوراً
اقترن بفروغ ساحته من الجمهور - بالإنهاك الذي تطلبته الخطابة طوال الليل، وجعلت
سوزي تهمس في أذنه بحديث فانقبض وبسر يقول :
- "لا يمكن أن تتركيني في هاته
اللحظة الخاصة، إنني في حلم رائع، ويجب أن تكوني رفقتي..".
وقالت (سوزي) :
- "إن لدي أهلاً في النيجر
يقلقني أمرهم كما يقلقك أمر أهليك الذين هم في مالي،.. إن النيجر بلد حبيس وثورة
الطوارق مما يُهدد..".
وقاطعها يقول :
- "لقد انتهت الثورة بتسليم
الطوارق أسلحتهم في مهرجان السلام..".
وقالت :
- "لاتزال الأوضاع غير مستقرة
هناك..".
واقترب منير من صاحبه يقول :
- "لا بأس، ستعود سوزي في غضون
أيام، لا تقلق!".
ولأن الرياح تجتري بما لا تشتهي
السفن، كما جاء في أدب أبي الطيب المتنبي، ولأن لا محيص عن يوم خُط بالقلم، كما
ورد على لسان الحسين، فقد وقع هذا التصادم المروع في سكة حديد ماريلاند في يوم
وافق السادس عشر من فبراير من هذا العام،
وتجهم وجه القدر حتى اصطفى سوزي من بين ضحاياه الأحدى عشر، وشاهد منير
الخبر : "دمار يقدر بسبعة نصف مليون دولار، وموتى ومصابين في قطار
الموت،.." بعينين واجمتين فشل الذهول جوارحه، وانطوى على أسف عزيز المثال،
زار صاحبه (مارتن) يقول :
- "لا أكاد أصدق
الأنباء..".
وطرده مارتن من بيته في غضب فزاد
الشاب أسى على أسى، ومكث منير في داره يلعب لعبة السهام المريشة (Darts) ورمى بواحدة
في غضب يقول لصديقته لآمال :
- "يظن مارتن بأنني كنت سبباً في
وفاة سوزي، إلهي، وكأنني كنت أقرأ ما يدور في رأس القدر، صحيح أنني أذكر أنني
اقتربت منه في هذا الميدان الفارغ الذي يحفل عادة بالآميين، وفي لحظة من عمر
الصباح، وقلت في سفاهة (وهنا يأخذ يقلد نفسه في حمق) : لا بأس، ستعود سوزي في غضون
أيام، لا تقلق..".
وتنهد يقول وهو ينظر إلى صاحبته :
- وصحيح أن سوزي لم تعد إذ هي ماتت
قبل أن تذهب، وإنني إذ قلت ما قلت فذلك لأنني أحمق، وإن من المزاج الجيد ما قد
يدفع المرء إلى تقبل الهراء وحتى النطق به، وقد كان مزاجي يومئذٍ رائقاً،.. ولكنني
ما كنت لاستحق منه هذا الجفاء، كنت أود أن أقول له - في زيارتي التي ابتسرت قبل أن
ألج من الباب - بأن الشر غير موجود، هو محض غياب للخير، لقد كانت تبصرة ستفيده في
رؤية الأمور برؤية جديدة، ولكنه طردني قبل أن يسمع مني حرفاً..
ونهضت آمال فجمعت الأسهم التي بدا
أنها أخطأت جميعاً هدفها تقول فتبدو وافرة العقل وهي ترمي بواحد فتصيب المركز في
براعة :
- بل ما من أحمق يجهر بما فيه من
الحمق ! ولاتنتظر من المكلوم حسن استقبال، لقد كانت فاجعة بحق، الموت في عمر
الشباب كانتزاع زهرة يانعة من حوض،.. يقولون بأنهم سيجهزون قواعد فيدرالية شاملة
للمسافرين، وعقب كل كارثة نقل تحدث في البر أو البحر أو الجو يبدأون في سرد أمثال
هذا الحديث عن إصلاح القواعد، وقد تفيد الأكثرية القادمة مما يضاف من قواعد
جديدة،.. وإنني إذ كنت لا أسفه من هذ الجهد، فإنني أتساءل : ماذا عن الموتى؟!
الأمر يبدو كمن يقول : لا بأس لقد مات هؤلاء وهو ثمن لنحسن النظر في الأمور
بالمستقبل،.. أين الرؤية المسبقة؟
وقال لها :
- من أسف أن الإنسان لا يتعلم إلا
بالألم في هذا الوجود ! إن التجارب المرة كانت معلمه دائماً، لم ينتهِ إلى إقرار
السلام إلا بعد خمس وخمسين مليون من الضحايا في الحرب العظمى، ولم يدرك خطورة
المفاعلات النووية إلا حين طرأ هذا الزلزال في محيط هذا المفاعل ووقع التسرب
الإشعاعي، ثم هو لم يفكر في إعادة النظر في احترازات الأمان على الأسلحة البكتيرية
إلا حين يحدث ويتسرب هذا الفيروس من "المعمل إلى العالم"، وهلم جرا،..
إن بوسعه أن يتقي الخسارة بالاستشراف والحدس والرؤية ولكنه ديدنه أن يفكر بأن
المصيبة بعيدة منه ما دامت هي لم تقع، وكثير من الناس يعملون بعقلية : كل شيء على
ما يرام ما دامت الأمور على بلاطة البورسلين التي أقف عليها بخير.
في السيوف..
كانت عائشة قد داومت لفترة على حضور
مجالس الشيخة نبوية ملتمسة في "أسحارها" مأرباها في التوفيق بين أبويها،
وهذه الصغيرة سالكة عين المسار الضيق بين العقارين أيام الخميس والاثنين، منتهية
إلى الباب الخشبي فإلى المشعوذة ذات الحديث المسجوع، وقالت لها الصغيرة كأنها تبدي اعتراضاً مهذباً :
- معذرة،.. انقضى وقت طويل دون أن
تنجحي في إثناء أمي عن مرادها في ترك أبي.
وقالت الأخرى :
- رويدك أيتها العجلى، أرأيتِ قطرة من
المطر تستبق الهطول قبل انعقاد السحائب في الأفق؟ وإن في الحضور ههنا لفوائد
نافعة، وعوائد ماتعة،.. رويدك أيتها العجلى !
وقالت الأخرى :
- معذرة، لقد طال ترددي إلى هنا حتى
صرت من الحضور في فتور، هلا عجلتي بسحرك إن أنتِ ملكت ناصيته؟
وألقت نبوية في النار بشيء أزاد
شعلتها، ثم تساءلت في سجع مفروض يهبط بالمعنى إلى نطاق قلق :
- أجئتيني ببيض النسر كي أسبر به كل
سر؟
ووهبتها عائشة بيضة ما لبثت أن
أخرجتها من جيب سترتها تقول مألومة :
- أخشى أنها الثالثة، وقد اعتذرت لنخبيت
غير مرة حتى ساءني الخجل منه في المرة الأخيرة..
وضعت الشيخة البيضة في هاته النار ثم
أخذ بها الشطط مأخذاً بعيداً فراحت تتمتم، وجمحت تجليات الظلال على هذا الحائط في
إثر حركاتها المريبة، وهناك قاطعت عائشة ثورتها تقول في غضب وقد أزعجها أن تلتهم
النيران بيضة الطائر:
- ما عدت مصدقة لكِ، ولتكفِ عن السجع
الرخيص تخفين وراءه معانٍ تتعمدين إغماضها وتلغيزها،.. لقاء أن أرى منك الفعل وحده،
(ثم وهي تكاد تتولى عنها) ما نطقت منذ ساقتني إليك الخطى الضالة إلا بكذب صراح،..
ألا قبح الله الإفك والتمحل !
وخبرت بها نبوية وهي في قرب الباب
الخشبي، فمضت عنها الصغيرة ثم عادت إليها بعد فترة، فقالت الشيخة وهي تلاطفها
بحركة أناملها على وجنتيها بعد أن بصرت بها في عودتها :
- تهانينا، لقد اجتزت الامتحان بصبرك
على التفريط فيما تحبين (تريد بيض النسر)، ثم عودتك بعد الغضب،.. وسيصحبك بلبول
إلى حيث يجب أن تكوني.
كان "بلبول" قزماً حذقاً
وقد خرج من العتمة، هكذا كالسحر، ثم راح يخرج في حركة رشيقة سريعة - لم تكن لتنبؤ
بها أقدامه القصيرة - عن الباب، هناك قالت نبوية لها وهي تحرك أصابعها الرفيعة ذات
الأظافر الطويلة الشائخة حول كرة بلور هي من البلازما :
- اتبعيه على الدرب حيثما يسير، ولو
دخل جحر الضب الخرب، ولو أنكِ فقدت ظله فلتستفتِ قلبك، سيصحبك إلى مقام هو إرث
المدينة الذي سيُهدم، إذ أن العاقبة ههنا - وياللأسف - للإسمنت ! وستجدين في جواره
فيلا كل ما فيها حسن، فلتطأيها بنعليك، صغيرتي، ولا تعودي إليَّ إذ أني في سبيل
التوفيق بين الجن في شغل، (وقالت هامسة..) لقد افتضحوا (أي الجن) فاصطلحلوا !
جعلت عائشة تركض في إثر القزم منذ
الظهيرة وحتى العصر، وكانت تستحثه على التريث دون جدوى فيما ترمق عيون العابرين في
شوارع وادي الملوك ذي الفلل الجميلات، وحلمي شلبي ذي مدرسة المعالي، وجميلة بوحريد
ذي المسار الفسيح - ترمق العيون في هذا كله "قزمين" يطاردان بعضهما في
عجب، وانتهى سعي الاثنين إلى فيلا عثمان محرم باشا بسيدي بشر على كورنيش الثغر أمام ملهى "كوت
دازور"، كان عثمان محرم شيخ المهندسين في مصر واشتهر بوفديته وإنجازاته
الحكومية، وتبين لها (عائشة) أن القزم قد غاب عن محيط رؤيتها بغتة فمكثت تستطلع ما
يتراءى لها من صورة الفيلا التراثية، وطال بها التأمل مستغرقة في رونق المعمار حتى
استعادت حديث نبوية :"وستجدين في جواره غير بعيد فيلا كل ما فيها حسن.."
كالمتنبهة إلى ما شُغلت عنه، حتى إذا حارت أي الجهات تسير فشكَل عليها الأمرُ
راودها عين الصوت يقول :"ولو أنكِ فقدت ظله فلتستفتِ قلبك.."، هناك
أغمضت عيناها ثم قررت المضي إلى جهة اليمين قراراً مصحوباً بانفتاح جفنيها، في
عزم.
كانت تخب خطواتها على مهل لكن بثبات، ووجدت
نفسها إزاء فيلا ذات حديقة ينبت فيها شجر نضيد من التفاح والبرتقال، وولجت متحسبة
ومقايسة بين الوصف : كل ما فيها حسن، وبين ما ترى، فما أن انطبق في تقديرها الوصف
على الموصوف حتى زادت عزماً، وارتقت قصداً، وجدت في الأمر،.. كانت الفيلا تبدو
مهجورة محيرة وقد عبرت عائشة حديقتها مأخوذة الخاطر، وبهرت بما تتدلى من أشجار
الحديقة من جواهر الحمضيات على مثال : البرتقال، والليمون الأصفر، والزنباغ (جريب
فروت)، واجتازت الوَصِيدُ على وجل وتحسب، حتى إذا انتهت يداها إلى الباب طرقته
طرقات ثلاثة، بينهن - أي الطرقات الثلاثة - أزمان مماثلة، فلما انفتح تكشف منه وجه
عجوز هو موغل في شيخوخة نادرة وفي يده منشة من العاج يقول :
- بشراك أيتها الصغيرة وبشرانا،
تماماً كما وُصف لي : وضاءة المحيا كأنه شمس الضحى،.. هلا قبلتِ الجلوس إلى
مائدتي؟
وجلست مترددة إلى المائدة التي كان
لها مفرش مخطط بالأحمر والأبيض فاتر اللونين، أما الكرسي الخشبي فذو قاعدة عالية، وتصلقته
فلم يعد لساقيها بعد قعودها إلى الأرض اتصال، حتى إذا استوت قدم إليها الرجل فطائر
الكرز والتفاح، وكأساً فيه شراب من العنب الأسود البارد،.. وتساءلت ولم ينقضِ
عجبها مما هي فيه :
- لقد اقتفيت نذر الأسحار عسى أن أربأ
صدعاً بين والديَّ،.. والآن، إنني ما أدري لمَ جئت إلى هنا، هلا أخبرتني؟
وإذا كان الطبع يعدي فقد انتقلت إلى
العجوز دهشة مماثلة، يقول :
- لقد طلبت إلى ساحرة السيوف أن
تأتيني بطفلة ضائعة الأصل أكون منها محل الأب، وتكون مني مقام الابن.
وسألته :
- وما أوصلك إليها؟
- لقد قصدت إليها أولاً لما كنت
عقيماً فوصفت لي وصفاً هو من أخلاط العسل وحبة البركة لم يسعف ما بي من عجز..
- ولماذا اختارتني؟
وأجابها يقول :
- لأنك ستكونين على شتات أسري بعد
طلاق والديك، لقد ذكرت لتوك شيئاً عن "الصدع"، وإن الصدوع على أنواع
وبعضها هو بلا رأب.
وساءلته كأنما لتستجدي ألا يقع خوفها
:
- هل سينتهيان (أي أبويها) حتماً إلى
الطلاق؟
وأجابها العجوز بعد أن شرب كأس العنب
في مرة، في غضب معزو في أصله إلى فقدانه ما يريد منها، وظاهره السأم من تكرار
السؤال :
- ما كانت نبوية لتفعل لو أنهما
سينتهيان إلى طريق آخر! رباَّه، إن حالتي لتبعث على الأسى والضحك إذ أناجي طفلة ثم
أراني مفسر حديث ساحرة.
هناك قالت عائشة في غضب متحفز :
- بل هي مشعوذة كاذبة، ساترة اجترامها
بمخبئها الخفي، ومزيفة مقصدها وراء لَحَن لسانها، لقد اشترت ببيض نخبيت ثمناً
قليلاً، ودلتني إلى الوهم بعد العناء،.. تماماً مثلما دلتكَ !
وشرعت الصغيرة تمد يمناها إلى الفطائر
وقد اعتورتها شهية الطعام من طول جهدها الذي بذلته في مطاردة القزم، فأمسك بها
العجوز يقول كأنما هو يقر بضابطة :
- ما كنتِ لتأكلي من طعامي إذا أنتِ تأبين الانتساب إليَّ.
وحدست بأنها المطرودة تورية فهبطت من
هذا الكرسي الضخم - نسبة إلى تكوينها - مثلما صعدت ثم تركت مضيفها وقد أمسك رأسه
في خيبة، وعبرت الحديقة فأسقطت من ثمار أشجارها واحدة من البرتقال يانعة، ثم مكثت
تأكلها فتطفئ بها غائلة الجوع فيما كان بلبول يرقبها في ظل شجرة دانية،.. حتى إذا
عادت إلى نبوية ألفيت بابها الخشبي موصداً، وإنه لذو مقاومة هذه المرة، فلما
اجتازته زاحفة ألفيت وراءه آخر هو أشد وأمتن، ولم تذكر أن له وجوداً قبل اليوم،..
هناك جمعت الصغيرة حصوات الأرض فمكثت تضرب بها هذا الحائل هاتفة :
- فلتفتحي، يا سارقة البيض، فلتفتحي !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
**
لم ينقضِ إصرار عائشة على رَشَق الباب
بالحصوات الصغار، ولم ينتهِ هتافها الناقم على مشعوذة السيوف، حتى إذا استيأست
الجواب مكثت تدبدب برجليها الصغيرتين على هاتيك الأرض ثم ما تلبث تعاود، وسألت
نبوية القزم :
- ما العمل إذاً؟ أخشى أن ينشكف سرنا
على يدها، ولن يزحزحها عن هناك إلا عزيز مهم.
وأجابها بلبول فيما يأخذ يحرك رأسه
وقعبته ذات الأذنين كقبعات أعياد الميلاد، المألفة من الأحمر والأخضر :
- إنها ليست أول سارٍ غره قمر ورائد
أعجبته خضرة الدمن،.. اتركيها حتى إذا تملكها اليأس انصرفت عنَّا، أرأيت إلى أن
الأطفال في شُغُفهم قليلو الصبر والاحتمال، نزاعون إلى تبدل وتحور، وفي كل ساعة هم
في حال.
ولكن عائشة لم تفتر منها عزائهما
مصداقاً لحديث الأخير، وحتى لقد نامت الصغيرة ليلتها قبالة الباب الوصيد، وتطلعت
نبوية إلى هاته النائمة عبر العين المسحورة ثم عادت تقول لقزمها :
- الصغار بلا عزم ولا عزيمة، لقد سمعت
منكَ مثل هذا الحديث وما فيه من تبخيس،.. والآن انظر إلى هاته،.. ما العمل؟
- فلترفعيني إلى مستوى العين
المسحورة، عسى أن أرى ما ترين، سيدتي.
ونظر القزم إلى ما نظرت إليه نبوية
محمولاً على يديها : النائمة ذات الجفنين الموادعين، وقد كثر على جسدها أوراق
الشجر كالغطاء الذي خصفته يد مجهولة، وفي محيطها حصوات جمة تكاد لو أنها جُمعت أن
تصنع تلاً صغيراً،.. فلما استرد القزم اتصاله إلى الأرض خلع قبعته وقال :
- إن عزمها مما يُدرس حقاً، وإن
طاقتها لجديرة بالثناء، أعني لو لم نكن خصمائها،.. ولابد لنا أن نستخدمها في مأرب
آخر.
واستحسنت نبوية من حديثه شطره الثاني
فقالت فيما تحرك أصابعها الرفيعة أمام البلورة، تقول كأنها تغربل ما في رأسها من سيِّئ
الصنائع وقبيح التصورات :
- إن تجارة الأعضاء مستحيلة لأن
الأطفال غير مكتملي النمو، واستخدامها في التسول عصي أو متعذر لما كانت ذات تمرد
وشغب، ولم يبقِ لي إلا حل واحد، وخليق بي أن أدبر له وأمكر.
في صبيحة الغد ألفيت عائشة بعد يقظتها
الباب وقد فتح وعلى مسار الأرض قطع من الحلوى، اقتفت الصغيرة أثرها وكانت تأخذ تضرب
بها في سترتها فتزيل غبارها، تأكل بعضها، وتحتفظ ببعضها، وغلبها النوم - الذي كانت
مادته موضوعة في غور الحلوى - وقد ساورها خيال القزم والعجوز ذا منشة العاج ونبوية
والبلور في نسيج مضطرب كالأضغاث،.. فلما فتحت جفنيها ألفيت نفسها مكتفة في حجرة
شبه مظلمة، وميزت - مما ميزت في شقاء وعسر - أنها في محيط ثري بالعصيان والقبعات
والقواويق كأنما هي في مصنع لتوليف العجائب، وأنها - إلى الأولى - رفقة بلبول الذي
كان منزوياً في ركن فيطول ظله على الحائط وينقسم على الأرض، وحتى لقد تبدو حقيقة
القزم بسبب من ذاك فارعة، وساءلته :
- لماذا أنا هنا؟
وأجابها يقول :
- لقد فشلتِ في امتحان الانتساب إلى
العجوز، وقد استغرقت يومي في تنظيف ما صنعتِه من فوضى الحصوات أمام الباب، كان هذا
وزرك، وأما سيدتي فتروم أن تأخذ من أهليك فدية لقاء إعادتك،.. وإن هذا عقابكِ.
وجعلت الصغيرة تسعل من أثر ما أشعله
القزم من نار ذات دخان، وقالت له :
- ألا ترى أن نبوية تشق عليك بالكثير
وتدخر لكَ القليل؟ ألا يسوءك أن تعمل في ظلها؟
وابتسم يقول :
- لا تحاولي أيتها الماكرة، (ثم وهو
يتبسم مرة أخرى) كلا، لا تحاولي، إن بيني وبين سيدتي وثاق لا ينفصم عراه، علاوة
على أن الساحرات مؤسوف عليهنن منذ قدم إذ صورن بأنهن أهل بدع وشرور، وتحليق بالليل
على مكنسة من خشب، هل أتاك حديث السحر بمفهوم الويتشكرافت (Witchcraft)؟
واقترب منها يقول :
- كان يجري محاكمتهن في أوروبا
بالعصور الوسطى وحرقهن حتى إبان الثورة الفرنسية، ثم يقتفي أثرهن صياد الساحرات،
وتلصق بهن نقائص المجتمع وعثرات العوام، إن محاكمات ساحرت سالم في أمريكا ذكرى
أخرى مؤلمة شنعَاء، وفي مصر لازلوا ينسبون كل خطيئة يقترفها عابث بمقابر الموتى
إلى لعنة الأجداد، واليوم يطاردن في الخفاياَ كمدعي النبوات،.. إنهن مؤسوف عليهن
إذاً ولست بمطاوعك في مرادك لأن العادل لا يزيد في إضرار ذي المظلمة، وإن سيدتي
لذات عطاء وبذل مما توفره لها الأيام على شحته.
وخفضت عائشة رأسها - وكانت دون سائر
جسدها حرة الحركة - تقول :
- هل توزع عليكَ المرأة شيئاً مما
تدخره في حجرة الحلواء؟
ولسعته النار التي في يده، فوضعها في
قدر من الماء الفاتر خشبي يشيع فيه السوس لعِتْقُه وقدمه، ثم التفت إليها ولا يزال
ألمه لم يسكن كل السكون، يسألها :
- أي حجرة تقصدين؟
وذكرت له شيئاً عن الحلواء التي في
جيبها مما اقتنته من الحجرة المزعومة، وقالت :
- منحتني إياها نبوية من هاته الحجرة
المذهلة لقاء بيضر النسر..
- إنك تكذبين، والبينة على من زعم.
وقالت :
- إذا أنت حررت يدي أولاً، أقمت عليك
الحجة وجهرت لك بالتبيان..
حرر القزم يديها إذاً وأخرجت الصغيرة
بدورها من جيبها تلكم الحلواء التي جمعتها قبل أن يغافلها الكرى، هناك غضب القزم
الذي انطلى عليه الحديث المنسوج في حيلة وبراعة، وقالت له وهي تواسيه بيدها :
- بلبول، فلتجرب منها شيئاً، إنها فوق
غيرها مذاقاً، فما أطيبها وما أهنأ مستمرئها !
ووقع القزم في الفخ المتقن فأكل من الحلواء
المنومة حتى ناله ما نال من عائشة من غيبة الوعي وفقدان الحس، هناك استخدمت
الصغيرة يديها المحررتين في فك الأحبال عن قدميها، وجعلت تركض حتى خرجت من الباب
الأول فالآخر الخشبي على مرأى من نبوية وأمام ذهولها، وجعلت المشعوذة تطارد الطفلة
في غضب أعمى، لقد أبرز الغضب قبائحها في شَوه منكر، فجحظت منها العينان وساءت
النبرة وضاع السجع، حتى إذا انتهت عائشة إلى أبيها رؤوف ألفته في عزمه على أن يجمع
شيئاً من المال لإصلاح مسجد الشوربجي، وكان ثمة من يسأله من محتشدي مقصده من أمام
داره :
- إني متبرع لكَ لو أنك نزهت نفسك عن
الهرطقية،.. كيف تزعم أنك رأيتَ الله؟
وكان مراد يقول :
- إن آفة المسلمين اليوم أنهم حرفيون
أكثر مما يجب، ثم هم يخلطون بين حماية الإيمان وبين تنزيه التاريخ، وهم في هذا المسلك
العجيب نسيج وحدهم بين الأمم،.. وقد قصدت رؤية الله على معناه المتنور الملهم
العظيم، المتمظهر في مصاديقه وتجلياته، والمتبدي في أسمائه وصفاته، لا مطالعة
صورته، جل سناه وتعالت صفاته،.. وإني لزعيم أنك رائيه بهذا المفهوم إن أنتَ ارتقيت
بما يكفي في معارج التفكر ودقائق التدبر !
وأعاد الرجل سؤاله الأول في تسفيه
كأنه لم يفقه من الحديث الآنف شيئاً، وكان على مزاجية الكبر الذي يستحيل معها
التحصيل فعاد يسأله مستهتراً :"وكيف كان؟"، فأجابه الآخر :
- لعلي إذاً مجيبك بما أجاب به مالك
(يريد الإمام مالكاً) سائله عن مسألة الاستواء على العرش :"الاستواء معلوم،
والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة،.. وإنك رجل بدعي !".
وأعاد الرجل المال إلى جيبه يقول :
- لست واهبك شيئاً.
- من تزكى فإنما تزكى لنفسه، وإني من
عطائك وأمثالكِ في حل.
ولم ينتبه الأب في خضم انزعاجه من هذا
الذي أوقفه يسأله - أقول لم ينتبه إلى نداء طفلته المستجيرة به، وصعدت الطفلة إلى سطح
البيت وفي أعقابها المشعوذة التي تأبطت المكنسة وفي نفسها نذر العداء والعدوان
كأنها تأبط شراً، وقد بدا لعائشة لما انتهت إلى عشة الطين والخوص أن "البحر
خلفها والموت أمامها"، هنالك وقفت أمام نبوية متسمرة كالمجمدة لا تجد مهرباً،
وجعلت الأخرى تقول وهي تتقدم نحوها:
- ها قد انتهت مشاغبتك،.. ألا بئس المآل وساء المصير!
أغمضت عائشة عيناها كالمسلمة وذرت
ارتعاشها حافلة بطمأنينة، فما أن مدت الساحرة يدها الشائخة نحوها حتى هجم عليها
الطائر الجارح، وقد بدا أنه انتفض للدفاع عن مطعمته في حس صِنْدِيد معجب، وكسته
المغارب بحمرة عجائبية، استلهمت من المشيئات مظهرها، وبثت في الأحياء أسحارها،..
وجعلت الصغيرة تشجعه وهي تعاود النظر إلى محيطها بقولها :
- هلم، نخبيت، فلتنتقم لسارقة بيضك،
ولي، هلم.
ولا يزال الطائر في هجومه على
المعتدية حتى طردها عن السطح شر الطردة،.. وراحت عائشة تمضي في أعقابه مشجعة له
ومحفزة، حتى عادت تمر بأبيها الذي يقول :
- إنني منتظر هذا اليوم الذي يلقي فيه
الله الأمنة حتى يرعى الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب
الصبيان مع الحيات، لا يضر بعضهم بعضاً،.. لقد أخبرنا النبي بشبيه هذا الحديث الذي
لا أذكره على الدقة، ولعلي أحسنت سرده - على ضعف تذكري للمرويات في العموم -
لقناعتي به وأملي فيه، أجل، إنني أحلم أن يسود الوئام وأن تنسحب الخصومة من الوجود
انسحاباً كريماً منزهاً، إنني أرفض القبول بالتنازع في ملكوت له عين الأصل.
وقاطعه واحد يقول :
- أحسب أن هاته هي أمارات القيامة،
مما لا يتحقق إلا بوقوعها المقترن برجوع المسيح..
وقال رؤوف في حس مثالي :
- بل هو رجائي الذي أريد في دنياي.
وانفض عنه القوم يقولون : "مخبول
أفاك.."،"يجترح الفرية مئة مرة ثم تكون في المرة التي بعد المئة
حقيقة.."، "إلا الحماقة أعيت من يداويها"،"إنه
من المناطقة الفلاسفة..". ونطق رابعهم المتعلم يقول : "إن الطرق
الملتوية ميل جيني فوق أن تكون قناعة فكرية.."، وإنهم كذلك في تسفيه له وقدح
وازورار حتى أظلهم ظل هذا النسر المحلق يطارد العجوز المشعوذة، فلما انتهى الطائر
الجارح عن طردها إلى ناصية ذلكم السبيل، عاد إلى عائشة يدور حولها وتدور حوله، مما
كان داني المعنى إلى قول رؤوف : "يلعب الصبيان مع الحيات"، الدال على
استتباب الأمنة، ووقوع السلام بين المتنازعين،.. ومكث رؤوف مزهواً مفاخراً بما
يدور حوله، كان جوهر زهوه تواضعاً وسماحة، إنه لا يتفاخر إلا على المكابرين في
مخيلته، ولا يتسامى عليهم إلا بما هو قيم في خاطره، وما هذا بالغرور السفيه الأحمق،
لقد تحققت مثاليته في دنياه وأسقطت الوقائع مزاعم من حوله، إن نشوته عجيبة كالذي
وقع على الحقيقة، وكل شيء في نطاقه عجيب حتى نفسه، وتكدست المعاني في رأسه وأرهقه
من الخواطر تزاحمها، وعلاه النسر العائد بعد لهوه إلى عشة الخوص والطين فطالعه في
ترهب إذ هو سامق كشعوره، إنه لحر جليل وقد حلق نحو الشمس، لقد رأى الوجود بنظرة
طائر، وأحس نفسه مكتفياً وعارضاً عن سفاهة من فيه واختلال رؤاهم، وأحيط من العلم
شيئاً اضمحل في جانبه تسفيه المسفهين، وكل ما في الوجود - ما خلا سفاهة أولاء -
منضبط راسخ الركائن، لطيف المعاني،.. إنه يقول أمام من انفضوا لتوهم عنه فيعجل
لسانه :
- أرأيتم حديثي كيف أصاب؟ وحدسي كيف
تحقق؟ النسور مفضلة على الطيور تفضيل السَّفَرَة الكرام البررة على الخلائق، مثلما
أخبرنا النبي محمد.
وعاد نفر منهم يتمسحون به ويتبركون -
وإن منهم من يشده بقوة يقول في غوغائية تنافي روحانية ما يفوه به : "ماذا
بينك وبين الله؟!" - فاستنكف عن أن
يجاريهم قائلاً وهو يشير بإصبعه إلى السماء :
- بل تبركوا به واطلبوا غفرانه، ومن
أكون؟! لا عائدة تُرجى مني ولا غَنَاء يُستَغنى بي،.. وليس لي خصيصة ولا فضيلة إلا
ما يجود به عليَّ من عرفانيات، وأحوال لي معه !
لم يكن في جعبة الرجل المتوله حين
انتهى هذا الليل ما يكفي لإصلاح مسجد الشوربجي، كانت طريقته الغريبة في أنظار
مريديه - الهرطقية في أذهان معارضيه - في
التعبير عن إيمانه تنفر منه قصاده، وتحملهم على التردد من التزكي له، علاوة على أن
المال نفيس عزيز في وعي أبناء حيّنا، وقد كان لهذا المثل :"عض قلبي ولا تعض
رغيفي.." أصل في الوجدان الشعبي يبرر رواجه، وما انبثق إلا من غلبة إمساك
اليد على البذل، والحيطة التي تأخذ صورة البخل،.. وكان لرؤوف عزم على التفريط في
أمواله الخاصة - بعد فشله في جمع التبرعات اللازمة - أدى بالرجل في الأخير إلى
الطلاق من زوجه صالحة التي عارضت منه هذا المسلك معارضة لا تسوية فيها، وقد أشعل هزاع
جذوتها (أي المعارضة التي أفضت إلى الطلاق) حتى صار - بعد أن أفلح مراده في إحداث
الشقاق - ناشداً تزويجها بحسن الصائغ قبل انقضاء الثلاث قروء، ولولا أن المرأة
أصرت على التربص بنفسها حتى "براءة الرحم" لفعل،.. صعدت عائشة ذلكم
اليوم إلى سطح البيت آسفة الوجدان تحدث طائرها تقول وهي تهبه طعامه من السموك
النيئة :
- لقد صدق حديث عجوز سيدي بشر حين قال
: "إن الصدع على أنواع وبعضها بلا رأب.".
هناك حرك الطائر الجارح رأسه كالرافض
فعادت تقول كأنما تؤول حركته غير القاصدة بما ينازعها بالأساس في خاطر نفسها :
- أصبت، نخبيت، أصبت،.. بل كانت محض
مصادفة..