الفصل الثاني: ليلة سارة
تزوج عزت بسميحة في ليلة تزين فيها
حنطوره الجديد بالإضاءات الملونة والستائر البيضاء والزهور، كان جسم الحنطور
المصنوع من الحديد والملون بالأبيض يطوف شوارع الإسكندرية وطريق الكورنيش في مساء
ساهر زاهر الأنجم، فيرمي بالبشرى متى نزل، ويبث المسرة أينما ارتحل، وجلسا فيها
جلسة نجمين حدودهما البهاء والصفاء، وقالت سميحة لعزت وفي عينيها ألق مكبوح
بالتساؤل ومسحة من الأسف :
- لم يحضر أبوك (تريد الجواهرجي)..
وقال الآخر فيما يشرئب عنقه في بذلته
الرمادية ذات المنديل الأحمر رامياً بالتحية على من يعرفهم ومن لا يعرفهم :
- لم أنتظر منه الحضور ولا أريده..
ونهضت عن جلستها وراحت ترمي ببصرها
هنا وهناك، فتقول :
- يوسف أيضاً لا أكاد أراه، رغم
إلحاحي المستمر عليه بالمجيء، سيظل غياب الأبوين كالعكارة في كوب ماء (كانت الفتاة
تعد يوسف بمثابة الأب لها لما انتشلها من حياة اليتم دون صلة نسب).
وأجلسها عزت يقول :
- ومن ذا يحتاج إلى عجوزين في ليلة
كتلك؟ فكري بالأمر الرائع ولتستمتعي بحقيقته : إننا في عربة الحنطور المزين كهودج
الجمل المخملي الذي كان يمضي به أثرياء البشر في زيجاتهم الباذِخة فيما مضى من
أعصار.
وكان يوسف يرقب حركة الحنطور من شرفته
فوهب الواقفة نظرة، ومضغ مرارة الأسى الذي استحال تدريجياً إلى ابتسامة رثاء
خافتة، وردد طرفه في هذا المشهد الحافل فأحس نفسه واقعاً على هامش موكب الحياة، وعاد
إلى مكتبه وفي يده صحن من الكريم كراميل(Crème caramel) ، وكان الرجل
الذي يحب أشكال القطط وتصرفات الكلاب قد اقتنى هراً إسكتلندياً مطوي الأذن كيما
يستعد لـ"حياة الوحدة الكاملة" بوصفه، وكان يحدثه فيقول فيما يلا يزيد
الحيوان عن أن يهبه نظرة موادعة كأنما يشفق من أن يكون موضوع انفعال صاحبه غير
المبرر :
- لقد ولدت مستقيم الأذن، وقد انطوت
أذناك بعد إحدى عشر أسبوعاً، هناك يجعلك البائع عرضة للطالبين مثلما أخبرني بنفسه،
أتعرف لماذا؟ لأنك تبدو أكثر لطفاً حين تنثني أذناك، إنها لطفرة جينية تلك التي تؤثر
على غضروف الأذن وقد أورثتك الطبيعية تلكم الهبة النافعة مثلما تهب الرجل طولاً
فارعاً يصيره مُهاباً متفوقاً، أو المرأة جسداً متناسقاً،.. وإذ كنت لا أصدق في أن
الطبيعة عمياء فإن لها ولا ريب "مفضلون مؤثرون"،.. إن البشر - أو قل
سوادهم الأكبر ممن لم تنتكس فيهم الفطرة السوية - يقدرون الجمال والوداعة إذاً
والبائع يستمثر هذا لصالحه،.. ولكن ماذا عن القبح؟ إنه جدير بالرثاء والعطف أيضاً،
إنني أشفق على الحشرات وخنفساء الروث وأصحاب الظهور المحدودبة والعميان والشائهات
من النساء،.. ألا إنني أشفق على الجميع !
وما أن جلس حتى راوده شعور بأنه لم
يهب المشهد ما يستحقه من المتابعة فنهض مجدداً هذه المرة دون الصحن الذي في يده،
وهناك ألفى السبيل خلواً من العربة ومن سميحة، وجعل يحك يده في عصبية حتى أضر
السَحَجَ ببشرته فاحمرت، وعاد يلتفت هذه المرة محفوفاً بهذا الغضب اليائس الذي ألم
بنفسه المهيضة كأنما أزعجه أن يقصر حتى عن أن يكون عنصراً هامشياً من المشهد
الاحتفالي، بالنظر من بعيد إلى ما لم يعد هناك، وهناك - أي حين التفاتته عن مشهد
السبيل بعد خلوه من أهم عناصره - ألفى زوجه عفاف تقول له :
- مَرْحَى بيوسف الحزين..
وانتفض في رعب، كانت صورة المرأة
عرضاً لإصابته بالاضطراب الوهامي الذي بدا أن الوحدة قد أزكت هلاوسه، وبدت المرأة
في عمر أصغر من حالتها يوم وفاتها كيوم رآها لأول كرة في مقهى الفنانين، بملامحها
الفرعونية ورونق الشباب، وقالت :
- غريب جداً أن تفزع لرؤيتي.
وقال وهو يأخذ يتمالك نفسه :
- غريب ألا أفزع لرؤيتك..
وجلست المرأة على كرسي المكتب تقول :
- تبدو عجوزاً.
وابتسم وهو يتطلع إلى صورة المرأة
التي بدت في العشرينيات :
- ذلك أن روحي فارغة ولا علاقة للعمر
بالأمر، وقد رأيت من الشباب من هم كالعجائز في عمر العشرين، وعهدت آخرين هم عجائز
بروح الشباب..
ودست المرأة سبابتها في قلب صحن
الكراميل فاهتز تكوينه اللدن تقول:
- ألا هل تركت مكتبك الكئيب ولحقت
بموكب الحنطور المزين؟
وقال في انزعاج طفولي وهو يرفع إصبعها
المطلي بالمناكير الأحمر عن الصحن :
- لقد أفسدتِ الطعام،.. وإجابتي هي لا..
وعادت تقف ثم تحركت إلى الشرفة فكان
لا يزال يظهر منها ذيول الموكب الاحتفالي، وها هناك نفر من العذارى المائسات
غانجات الكحل ممن تأخرن عن العربة، وفي أعقابهن فرقة من النوبيين ذوي المزامير
والبذلات البيضاء وشاب يمتاز عن بذلاتهم بالجلابية يحمل الزار، قالت (عفاف) وهي
تتابع ما يتراءى لها بعينين لامعتين :
- فلتصدقني القول أيا ذا الوجه الشاحب
والقلب اليافع : أتحب سميحة؟
وارتبك الرجل يقول كأنما يدفع عن نفسه
تهمة :
- إنني أحب الجميع، أجل، لم أستثنِ
حتى خنفساء الروث، ثم أنني شيخ عجوز وهي صغيرة يافعة، صحيح أنني لم أقنع يوماً
بعجزي ولكنني رأيت أصدقائي ومعارفي، أعني حين كانوا لا يزالون يعودونني على عهد
أسبق من اليوم، يضيفون الشموع في أعياد ميلادي، هاته التي كانت تدل الواحدة منها
على عام واحد من سنوات عمري، حتى استبدلوا بها شمعة هي على هيئة الرقم حين عدم
أديم الكعكة من موضع للشَمْع فوقه، لقد سررت آنذاك لتقدمي في العمر دون أنتبه إلى حقيقة
الزمان الذي يعصف بكل شيء.
وقالت في انفعال فاتن عامر بالحياة :
- ما أجمل أن تبارك لمحبوبتك الصغيرة
إذاً !
وقال كأنما يستطلع أمراً غريباً عنه :
- عجيب،.. كنتِ أشد المعارضات لسميحة
الكارهات لوجودها في حياتي.
وقالت وهي تطلع إلى صورتها في مرآة
الزجاج :
- عزيزي، إن التغير هو الثابت الوحيد،
لقد تغيرت قناعتي حين استعدت شبابي، مثلما ترى.
ومضت تتجول في الغرفة ثم عادت تقول له
:
- ألا زلت هنا؟
وتبدد خيالها عن ناظريه فجلس إلى
مكتبه رفقة القط الإسكتلندي، لم يقبل الرجل على ما بقى من صحن الكراميل - لما كانت
عفاف قد وضعت فيه إصبعها في خياله - كأنما قد صدق ما رأى من طيف نفسه،.. وفي موقع
آخر، موازٍ، كان عزت يقول لسميحة في حماسة من يتطلع إلى مستقبل وقد وضع أولى
لبناته :
- ساستخدم مخزناً في إحدى العزب
العشوائية لركن الحنطور والحصان، لقد سميته (أي أنثى الحصان) بسندريلا، صحيح أنها
لن تعوض دنجل، ولكنها أمينة مخلصة، أريد التحلل من الاعتماد على أبي كلية، صحيح أن
الجوسقي (يريد المحافظ إسماعيل الجوسقي) يروم إزالة العزبة دون بديل، ولكنني موقن
بأنني سأجد حلاً دون الاضطرار إلى الاعتماد على أبي، أجل، إن حدسي يدلني على أني
سأقفز بأرباحي من العشرات إلى المئات حين أتملص من عباءته الجشعة، سننتقل حيننئذٍ
إلى الطبقة المتوسطة الأكثر طموحاً والأوسع تأثيراً !
وبدت الفتاة شاردة عما يتناهى إلى أسماعها
من حديث، وقد كان وعيها لا يزال محصوراً في غياب يوسف عن اليوم الأهم، قبل أن تسمع
من ينادي فيخترق العذراوات والفرقة النوبية بخطواته العجلى المهرولة يقول:
- ألا هل أفسحتم السبيل لعجوز مثلي
وفيكم طاقة الشباب كالجمر؟ ألم يأتكم خبر ما بين العجائز والأطفال من جسر الوهن؟ (ثم
وقدمه تطأ قدم صاحب الزار) عذراً، وأنتَ أيضاً، أخ ! سأعتذر من الجميع قبل أن أصل
إلى الحنطور ذي الستائر!
هناك ابتسمت سميحة وهي تلحظ تخبطه من
موقعها الممتاز، تقول في نفسها :"ها قد حضر !".
في زيزينيا..
جدد حسين حانوته الموسيقي بعد حصوله
على التسهيلات الضريبية التي أرادها في أعقاب صداقته الجديدة بحسن طُلَيْمات،
وتجاورت في جنباته العامرة بالنباتات الجالبة لحسن الطوالع والشجيرات اليابانية
المنسقة - أقول تجاورت فيها الأعواد الشرقية مع الباص جيتار، والطبول ذات الزخارف رفقة
الأورج، والأنون صحبة آلات النفخ الخشبية، استوعب الحانوت إذاً نسيج الشرق والغرب
في تجانس لطيف، ورضي حسين بالأمر حتى عد المقام مملكته التي انتهت إليها مساعيه
وأفضت إليها خطاه، وجلس يعزف على هذا الأورج مقطوعة أنت عمري حين جاءه طُلَيْمات
رافلاً في لباس دَارج /كاجوال (Casual wear) متحرراً - ولأول
مرة - من رسمية البذلة ذات الكرافت، إنه ليبدو ذا بنطال قصير وقميص مشجر وسيع لا
يعمد الرجل إلى إدخاله في سرواله بل يفتح أزراره العلوية فيلوح منها شعره النابت
الكثيف لدى أعلى صدره، وفي يده ساعة مطلية بماء الذهب وخاتم ذو حبة من الفضة
كبيرة، وقد بدا (طُلَيْمات) - مع ذاك - غريباً في ثيابه الشبابية الرشيقة كالذي
يمر بأزمة منتصف العمر، يقول وهو يدلف إلى الحانوت بخطى لا تستجلب الاهتمام :
- سمعتها (يريد مقطوعة أنت عمري) لأول
مرة بالإذاعة في فبراير 1964م، كان هذا لقاء السحاب الأول بين عملاقين وبقرار
جمهوري (يريد بالعملاقين أم كلثوم وعبد الوهاب، وقرار جمهوري لأنها كانت نزولاً
لدى طلب شخصي من الرئيس عبد الناصر)، وقد كان استخدام الأورج آنذاك حدثاً جديداً
على موسيقى التخت والعود، كثيرون لا يعرفون أن الأغنية لحنها عبد الوهاب لنفسه،
أولاً.
وانتقل الرجل إلى الحديث عن نفسه يقول
:
- احتفظت بأمل قصير في احتراف
الموسيقى قبل أن تجذبني السياسة، وقد طردتني مدرسة الموسيقى حين حاولت أن أغني
مقام الحجاز بصوتي الأجش، وأوصتني في غير عطف بأن أسلك سبيلاً آخر.
وأوقف حسين العزف وقد بوغت بحضور
الرجل، ولكنه سرعان ما سعد لظهور صاحب الفضل فيما استجد من أحوال الحانوت وذكر له
شيئاً عن مدرسته الفرنسية القاسية بيرت عن قصد أن يهون عليه بعض ما بنفسه من أثر
تجربته المؤلمة، وكان يولي (حسين) الباب ظهره في جلسته على الآلة، فاستدار نحوه
يقول مبتسماً :
- كنت حينئذٍ (أي حين صدرت المقطوعة)
طفلاً في السابعة في باريس، لا يربطني بثقافة العرب رابط إلا أبواي المصريان.
وضرب طُلَيْمات بسبابته على حرف الصول
فأحدثت الآلة رنيناً، وقد بدا الرجل متأثراً - من جهة نفسانية وشعورية - بصورته الجديدة
المتخففة فبات نزاعاً إلى مثل هاته التصرفات التي لم يكن يتصور حسين أن يقدم عليها
مثله من الساسة ذوي الميسم الجاد والخطب الفوارة، وقد جاور طُلَيْمات نبات وردالين
تانجو الأحمر، يسأله :
- وكيف غدت الأحوال،.. هنا؟
وأجابه حسين في بشر من يتحدث عن أمر
يمضي على منوال حسن، كوالد يتحدث عن نجله النابه :
- الزبائن من الهواة والمحترفين
يسألون عن مقسوم حميد. (يريد مقسوم حميد الشاعري الذي راج في أغنيات التسعينيات)
والربع تون لا يزال يقف حائلاً أمام صهر الاختلافات بين الموسيقى الغربية وبين
الشرقية،.. ولكن سعادتي هنا لا توصف بين الآلات والنباتات.
وجلس طُلَيْمات على كرسي من الخوص
أنيق واضعاً قدمه اليمنى على اليسرى ثم أشعل سيجاراً يقول :
- السياسة أيضاً عزف من نوع آخر.
واستوحش حسين - الذي تحول بجلسته عن
كرسي العزف إلى كرسي الخوص حيث يجلس محدثه - هذه النقلة غير المتوقعة في مجرى
الحديث وجعل يقول :
- فلتبعدني عن هذا الصنف من العزف،
رجاءً، إنني أحب المبادئ مما لا يتوافق والسياسة.
وقال الآخر له :
- فليكن حبك مبصراً إذاً، إن بنفسك
خوافاً هو غير مبرر كرهاب الكهرباء أو فوبيا الأناناس،.. دعني أفصح لكَ عن أمر
ولتهبني من لدنك عقلاً مستعداً للتغيير : فلنصور مجتمعنا بعليل يربض لدى ناصية
سبيل وأمامه طبيبان، إحداهما مصري حديث التخرج والخبرة ويعمل بالاستقبال في مشفى
مهمل، والآخر عالمي له سيرة ذاتية حافلة هي مما يملأ الصفحات، وقد استنكف هذا
العالمي عن أن يساعد العليل مخافة أن تتلوث يداه من ثيابه المضرجة بالدماء، وبشرته
الملوثة بعفارة الأرض، فيما يشرع يحاول الآخر حديث التخرج جهده إنقاذ المريض بما
له من قدرة محدودة،.. أيهما تحب أن تكون؟! وأيهما أشرف مسلكاً وأعظم تواضعاً؟!
المعارضة تضع الشرائط المستحيلة كمقدمة للعمل والسلطة تقبل بالأمر الواقع وتتصرف
في ضوئه،.. إنني لم أذكر المعارضة التي تفتقر إلى الحلول العملية وتهرف
بالغوغائية، لقد كان في تشبيهي إكرام للمعارضة إذاً،.. هكذا هو الأمر في رؤيتي، وأكثر
من هم على الهرم الاجتماعي غير راضين بمواقهم فيه، إنهم شكاؤون بكاؤون، وليس في
ذاك أقل عجب بل هي طبائع الأحوال، وهؤلاء ينجذبون إلى كل عزف مغاير يصدر من الجهة
المناوئة للنهر.
وأجابه حسين يقول :
- أراك تختزل الأمور على النحو الذي
يقيك مغبة المراجعة، والتعقيد بلا ضرورة كالاختزال المسفه لتشابكات الأمور مما
يضران بالحقيقة.
- بل الحقيقة بسيطة، الله أرادها
كذلك.
وتلقف حسين عوداً هو من خشب الورد
(البادوك) كان يجاور عودين إحداهما من السيسم والآخر من الجوز، وجعل يصل ما بدأه
من عزف المقدمة الطويلة للمقطوعة الأثيلة يقول وقد بدا أنه لم يفهم ما بالمثال من
مجازية ولكنه - في الحق - كان يجيب في ضوء التشبيه بما له ظل واقعي ذو دلالة :
- ما أنا بطبيب عالمي،.. وخبرتي في
هذا المجال مما يداني الصفر، ومن قال لا أدري فقد أفتى.
ومضى العزف إذاً في مضيه لولا أن
طُلَيْمات قاطعه في صوت كان أعلى من كل الأنغام بعد أن زفر دخاناً انعقدت تموجاته
حتى مست خشب الورد :
- حسين،.. ألا تريد أن ترى الرئيس؟