الفصل السابع: إنه مراد الذي صنعته في خيالك..
في السيوف..
قضى مراد نحبه في ليلة لم تسعفه فيها
كل محاولات عائشة في إسعافه ببيض النسور، وأبدت أميرة تجلداً في استقبال خبر وفاة
زوجها حتى ثارت الأسئلة مجدداً حول ما كانت تكنه بحق تجاه الرجل من محبة، وقيل في
أمرها مما قيل : إنها لم تحب إلا الضابط أباظة، وأن عشرتها به رفعته إلى مقام
المحبوب مما عجزت عنه (العشرة) في حالة مراد، وانكفأت المرأة منذ يومذاك على نفسها
انكفاء النبت المنحني الذي تلامس أوراقه جذعه، وعكفت على حفظ القرآن ومتابعة
الدروس الدينية رفقة تهاني، وحتى لقد شاع في صفحة مصحفها الأخير النقط التي كانت
الواحدة منها معادلة لخاتمة كاملة، واستجدت - رغم ذاك - في حياتها عادة المراهنات
على سباقات الخيل في نادي أصحاب الجياد الذي كانت تحضر مسابقاته رغم محاولات تهاني
المستمرة إقناعها بأن كل ما جاء من المراهنة وكما ورد في الأحاديث يسارٌ موقوتٌ لا
خير فيه ولا دوام له، وقد دلتها تهاني على تلكم العادة قبل انسحابها عنها،.. وألقت
المحنة بظلالها الكئيبة على رؤوف حتى فقد الرجل توازنه وتخلف عن العمل وموسم الصيد،
كان يجلس على كنبة حجرته المذهبة رافلاً في ثياب الصوف في بيته في ذروة حر أغسطس،
بعد أن يتوضأ ثم هو يصف نفسه بالمريد،
ورأى في هذا المذهب الغريب تطهراً وتقشفاً، وكانت صالحة تجزع لرؤيته على هذه الحال
فتقول وهي ترى العرق يتصبب من جبينه :
- وماذا يفيد المائت مما أنتَ فيه من
عقاب الذات؟ ثلاث وسبعين فرقة انقسمت عليها الأمة وواحدة منها ناجية، ولا أكاد
أراك منتسباً إليها.
وقال في ثقة تشتعل على نار المكابرة :
- بل أراني في قلب الفرقة الناجية
والطائفة المنصورة، لا تقولي عن أبي بأنه مائت، بل قولي عنه أنه حي يرزق،.. وقد
جاءني في المنام ليلة أمس.
- وهل طاوعك فيما أنتَ فيه؟
- أجل، لقد همس في أذني يقول : الصوف
حلال، لأن صوف وشعر الميتة طاهر عند الجمهور وهو مذهب الحنفية والمالكية
والحنابلة.
وقالت :
- لم يكن هذا خيال مراد حقاً، لقد نبذ
الرجل مثل هذه التخرصات في خواتيم عمره.
ونزع عن رأسه الصوف الثقيل متسائلاً :
- وماذا يكون إذاً؟
- إنه مراد الذي صنعته في خيالك..
وعاد إلى حالته الأولى يقول :
- الخيال وصاحبه كلاهما واحد في
نظري..
وعادت الأم إلى ابنتها عائشة تهمس في
أذنها تقول :"لقد فسد عقله وأرجو أن ينصلح حاله ولو قليلاً بمحضرك،
صغيرتي.."، وسمع الرجل همسها فانفجر يقول :
- فلتسعمي لي : اتخذ الصوفية منذ قدم
من لبس الصوف والخِرَق والمرقَّعات شعاراً لهم، أجل، إنها أعذر على دفع التكلُّف،
وأذهب للكبر، وأقرب للحق،.. هل أتاك حديث الهجويري؟ : "إن لبس المرقعة شعار
المتصوف، ولبس المرقعات سنة"،.. ما الغريب في مسلكي وما الجديد فيه؟ والصوم
تقشف يذهب عن النفس التعلق، والزكاة تقشف يطهر المال من أرجاسه وأدناسه،.. ألا إن
الإيمان كله تقشف، وقميص يوسف إذا ألقي على وجه يعقود ارتد بصيراً كما في
التأويلات النجمية، وخرقة الصوف إن ألبسها الشيخ للمريد ذهب عنه العمى بالتعلق
بالملذات،.. لقد رأيت الله، إنه يتجلى في الأشياء وفي بواطننا، وكل ما على صفحة
الوجود منسوب إليه، ولولا ميادين النفوس، ما تحقَّق سير السائرين، كما في الحكم
العطائية،.. جدير بكِ أن تقدري تجربتي هذه.
وقالت :
- تبدو كالمجنون في ملكوت إيمان أو
كالمخبول في معبد يقين.
وأجابها ببيت البحتري يقول متصايحاً
ومشتداً :
- إذا محاسني اللائي أُدلُّ بها.. كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذرُ
وكانت صالحة قد فرت من تصايحه وانفرج
الباب حتى دلفت عائشة، ونقرت الصغيرة بسبابتها على كتفه فيما كان الرجل مغمض
العينين يلتقط أنفاسه ويستأنف جلسته، قالت الصغيرة حين بصر بها :
- هذه بقايا قشر بيض نخبيت، لعلها
تصلح لكَ..
وكان في عينيه دمعة فجعل يبتسم في
رثاء يقول :
- لقد اختزلت الطب في قشور بيض نسر
إذاً توزعينه على كل ذي سقام..
وعاد يغمض عينيه فطفقت الصغيرة تجلس
القرفصاء قبالته كأنما تتأمل حالته، وزحفت على أربع حتى لبدت بين ظهره ومسند
الكنبة المذهبة مما كان الصوف يملأه حتى ساورها السأم فتركته،.. وسمعته لدى حافة
الباب يهتف يقول من القصيدة العينية المنسوبة إلى الكيلاني ففزعت :
- تجلى حبيبـي في مرائي جماله.. ففي
كل مرأى للحبيب طلائع
ومرة أخرى يهتف يقول :
-
فأوصافه والاسم والأثر الذي.. هو
الكون عين الذات واللّه جامع
ومضت أحواله على هذا النحو حتى نذر الرجل نفسه لتنظيف
مساجد المدينة وأراضيها، وأهمل سائر أحواله، هناك شق على هزاع الصمت وقال لابنته :
- حسن الصائغ خير من يعوضك عن زوجك..
- لازلت مصرة على أن رؤوفاً سيسترد
رشده حين يخفت أثر الصدمة..
- لقد أخذته النداهة ولن يعود..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
وجاءها رؤوف ذات يوم يقول في حماسة
فيما تجهز المرأة الكرشة بالحمص والصلصة في برام من الفخار :
- يجب أن ننفق الأموال على ترميم مسجد
الشوربجي العثماني، أجل، إنه أقدم مساجد الإسكندرية.
وجلس الرجل يفاتحها في عزمه يقول
مجتراً ما يعرفه في شغف :
- بناه (أي المسجد) المغربي عبد
الباقي الشوربجي بن بزقوقج، ماذا أقول في زينته وكل ما فيه حسن؟ بائكة من ثمانية
أعمدة رخامية تقوم عليها تسعة عقود مدببة ممتدة يصل بينهما أعمدة ربط خشبية،
والحجر الأبلق يزخرف حواف العقود، وفتح في خواصرها نجمة سداسية، ويتقدم الشرفة من
أعلاها مظلة خشبية ينتهى طرفها الخارجي بشرفات خشبية صغيرة وزخرف سقفها بنقوش
زيتية مذهلة،.. إن أعمال الترميم متوقفة لشحة المال، المسلمون ذوو قلوب يستهويها
الإيمان، وقد يبكون لسماع القرآن في تراويح رمضان، بيد أنهم ومن أسف أمام المال
حريصون وبلا استعداد للبذل،.. والصدقة برهان كما يقول النبي محمد.
وحاولت المرأة أن تقول شيئاً لولا أن
الآخر قاطعها يقول :
- إنها تجارة مع الله،.. ألا تكون
رابحة رابية؟ كنت يوماً ثملاً وسكيراً، وقد أمسكت عن عادة السوء هذه حين تطلعت إلى
أنهار الخمر الأخروية.
ووجدت المرأة فرصة للحديث أخيراً
فتساءلت :
- وكم تود أن تهب لتبرعك هذا؟
وأجابها يقول في بساطة عجيبة :
- المال كله.
جن جنون المرأة حتى طلبت لنفسها
الطلاق هرباً مما شهدت عليه من مرارة الخبل وسفه الدروشة (بوصفها)، وسمعت في
الإذاعة الآية التي وثقت رغبتها هذه : "وإن يتفرقا يغن الله كلاً من
سعته.."، وتحفز هزاع الذي رأى في تصرف رؤوف القشة التي كان ينتظرها دوماً
لتقصم ظهر البعير، وجعلت عائشة تحدث طائر العقاب فتقول وهي في جانب عشة الطين
والخوص جالسة :
- ألا هل نظرت في أمري وأمر أسرتي،
أعني هذه التي هي على وشك الانفصام بلا مغيث، نخبيت ! أيا طائر الفراعنة المسحور
وإله مصر العليا ذو التاج المزدوج؟
ووهبها العقاب نظرة غير واعية بمنقاره
المعقوف حتى تحطمت لدى صخرتها كل محاولاتها في استجدائه نحو غرضها، وبدا اهتمامه متمحوراً حول طبق
السُمُوك النيئة، وكان الطائر يبدو واقعاً برأسه ذي الريش الأبيض أقرب إلى حقيقة
صلعاء منه إلى لبس التاج مما نسبته إليه الصغيرة، ومضت الأمور على نحو عابث ومر جداً،
غير أن الطفلة لم تفقد أملها في تحريض طائرها - الذي صدقت ما قيل عنه من قواه
المسحورة - فشرعت تزيد تقول :
- فإن كنت غير آبه بمحنتي، فلا مناص
من أقصد إلى ساحرة من ساحرات المدينة.
ولم يزد العقاب عن أن هبط بمنقاره إلى
الصحن الذي أمامه، فحجبته عنه وجعلت تخرج لسانها له - على نحو هبط بصدقية ما أبدته
في البدء من آي الاحترام الزائد له - تقول
:
- لا طعام لمن استنكف عن مساعدتي.
وأشاح عنها البصر فرقت قلبها تقول وهي
تعيد إليه الصحن :
- لا بأس،.. لعل قواك المسحورة تقصر
عن أداء مثل هاته التوافه دون أن تعجز عن غيرها مما يرقى عنها من مسائل.
وهبطت عائشة درج السطوح الواطئ - ولم
يكن ليشكل لها أدنى مشكلة لصغر تكوينها - بعد أن وهبت طائرها نظرة فألفته في
استغراق التزود بالطعام، لقد سمعت الصغيرة من أبيها رؤوف عن الشيخة نادية هذه التي
ذاع صيتها بالمدينة - على إقامتها واقعاً في أبيس بين الإسكندرية والبحيرة - عبر
ما كان ينقل عنها من إبراء مرضى السرطان، وقد ذكر الأب شيئاً عن أمرها وعن قناعته
بالكرامات والخوارق في خضم دفاعه عن موقفه المتوله المتصوف مما علق في عقل عائشة
التي كانت حاضرة - رفقة أختها أروى - في خلال فصول الجدال بين الزوجين كـ"أقوى
الحجج الباقية لإدامة الزيجة، وأبلغ الذرائع لجبر الاختلاف"،.. اقتفت الصغيرة
إذاً أوصاف أبناء حيّها بالسيوف فأرشدوها - بعد الإشفاق عليها - إلى شيخة أخرى،
ومرت الصغيرة بسبيل جانبي بين عقارين فكانت النوافذ فيه تأخذ تصطك في رواحها
وغدوها على نحو جمد في عروقها الدماء، ولعلها فكرت غير مرة أن تعود إلى دنيا
السبيل لولا أنها ألفت الباب الذي ولجت منه كالذي يصغر من موقعها فلا يبدو منه إلا
فتحة هي كومضة بائنة في نهاية نفق، واعتصمت بحبال العزم فواصلت مدفوعة بالشغف الذي
غلب كفة الخوف، وانتهى الممر الضيق إلى باب خشبي لم يكن يوحي تكوينه المترهل بأن
وراءه أمراً ذا بال، كان بوسع البالغ أن يعبره زاحفاً أو أن يقفز من فوقه إذ هو لا
يسد إلا جزءًا ضئيلاً من تجويف أكبر - هذا فضلاً عن أن يدفعه (العابر)، ودفعته
الصغيرة بعد أن بلعت ريقها وقد أوحى لها الباب - لحالته التي وصفناها - بألفة ما،
إذ لا يمكن أن يحتمي أو يختبئ امرؤ هو على أي درجة من درجات الخطورة بباب هو على
هذا المستوى من الوهن، ووجدت من استقبلتها وأمامها طاقة النار التي تأكل الحطب وسط
ظلمة خافتة لا تزال تلوح فيها الظلال تقول :
- أهلاً بعائشة ابنة رؤوف..
هناك ذهلت الصغيرة - وإن كان في عقلها
الرحب فسحة لاستقبال مثل هذه الخوارق - من هذه التي استقبت العلم بهويتها، وتساءلت
:
- كيف تعرفين اسمي؟
وقالت الأخرى فيما تضع المُصْطَكاء في
النار، وقشور من لحاء الشجر، وخبز مكسيكي، فتفور النار وتسود الأبخرة (وقد بدا أن
جعبتها عامرة بعائلة الفُستقيّات) :
- أعرفه مثلما أعرف جذورك، وإذ كنت أعرف
جذورك فإنني أدرك مصيرك.
وتقدمت الصغيرة في إقدام جدير بالثناء
وسط الأجواء الغريبة، إنها تتساءل في براءة جسورة من هاته التي تقتلها الأيام في
نفوس الكبار :
- وما مصيري؟
ونطقت الأخرى قولاً مسجوعاً :
- لقد مات الجد بداء بلا دواء، واكتوى
الأب بسحر الوهم بغير انقضاء، وحين يتشقق الجذع وتنكسر الغصون، ماذا تفعل الأوراق
الصغار؟ (ثم جعلت تصيح فتتجاوب النيران لتصايحها..) وارحتماه ! وارحتماه !
وانتظرت عائشة - التي جعلت تسعل بمجرد
أن خالط الدخان أنفها - انتهاء انفعال التي أمامها تقول في هدوء :
-
هلا أوجدتي لي حل من لدنك فأكون شاكرة لمعروفك؟
وقالت الشيخة في هدوء هبط بانفعالها
الأخير دون تمهيدات :
- أيتها الصغيرة، أيتها الورقة
الندية،.. لقد أسرتني بلطفك، ولمن لزم التأدب أمنية عندي لا ترد، شريطة ثمن هو
واجب الدفع، ومن رام المنال دون بذل أرهق نفسه في ضنك.
وقالت عائشة التي بدا أنها قد ألفت
الدخان فما عاد يضطرها إلى سعال، وكانت قد حارت في بواطنها من الوقوف على كنه هذا
الثمن الذي بوسعها أن تقدمه :
- وماذا تريدين من أثمان؟
- تجيئني ههنا في كل يوم هو خميس أو اثنان،
فأعلمك السحر الذي يفك عن أبيك ما به من دروشة واختلال،.. والساعة انصرفي، صغيرتي،
فزيادة الحضور تذهب المحبة وتمتص رحيق زهرة الأشواق !
ولكن عائشة لبثت تقول وهي تأخذ تقترب
من الباب الخشبي في خطاها المتراجعة :
- ولكنني لم أعرف اسمك..
وارتبكت الشيخة إذ بدا أن الصغيرة
تفسد هذا التصور الذي ترسمه لضيوفها بكثرة سؤالاتها، فقالت (الشيخة) مجتهدة ألا
تهبط بأجواء الإثارة في ارتجال موفق :
- نبوية، ستحفظيه اليوم، وستناديني به
غداً.