روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/04

بات يطلب لنفسه العزلة

                  الفصل الثاني عشر: بات يطلب لنفسه العزلة



في السيوف..

ورث رؤوف عن أبيه مراد شغفه بالطيور، كان الرجل بين مربٍ لها وهاوٍ لاصطيادها، فأما التربية فقد اقتنى نسر الرخماء المصري وأصر على رعايته رغم ما سمعه مراراً من "استحالة تربية النسور أو آكلة الجيف" فتخير له موقعاً هو سطح العقار يطعمه فيه البيض، والفاكهة،.. وأما فيما يخص الصيد فقد انتقل به الهوى من اصطياد العصافير بأرض الجيش إلى السفر إلى شمال سيناء حيث اصطياد السمان والبط الشرشير في الموسم الذي يبدأ أول سبتمبر، وكان هزاع كثير النقمة على الرجل فيقول وهو يطأ بقدمه بساطاً من اللِّبْدُ في انفعال :

- لقد ترك بيته وزوجه وابنتيه من أجل سمان وبط.. ما أخف عقله !

وكانت صالحة تأخذ تقول لأبيها وهي تأخذ تأكل السُجُق في جلستها معه حول الخُوان :

- سيعود في منتصف نوفمبر، حين ينتهي الموسم.

ومد هزاع يده في طاجين الفخار الذي حوى على النقانق (السجق) المتبلة يقول والطعام يملأ فيه :

- موسم الصيد أهم من بيته؟.. كان يجب أن تتزوجي بحسن الصائغ (جليسه على مقهى الشيخ عبد النبي) بعد انتكاسة الشيخ فوزي.

وكانت عائشة تستمع لحديث الاثنين، وقد تركتهما فانسلت إلى السطح وكان نسر الرخماء في انتظارها، وإنه لذي رأس صغير مدبب ومنقار دقيق، في أطراف أجنحته سواد، وفي رأسه وذيله بياض، وقالت الصغيرة ذات الأعوام الأربعة :

- لقد جئت لكَ بهذا..

وكانت الصغيرة قد أخفت صحناً من السُجُق في إيشارب ذهبي اللون، فمكثت تكشف هديتها له، ومكث الطائر يأكل من هذا الصحن بمنقاره الدقيق، وترامى إلى أسماع الطفلة صوت أبيها يقول لها في يوم قبل اليوم:

- لقد وجد الكهنة في العقاب المصري طائراً مقدساً، وبعد تثبيت الملك مينا لحكمه على أرض مصر الموحدة ألبسوه التاج الملكي المزدوج الجديد! وصار العقاب المصري منذاك اليوم إله مصر العليا، وسموه بنخبيت، وسنسميه بنخبيت أيضاً.

وفرغ الطائر من غذاء السُجُق في الصحن أو كاد، فجعلت الفتاة تهتف في حماسة ذات براءة :

- أحسنت نخبيت ! أحسنت !

وكان هزاع يقول لابنته في موقع آخر :

- عزيزتي، لقد ربى زوجك النسور واصطاد العصافير، إن هذا لبرهان على غبائه وجنونه، لقد اتفقت مع حسن الصائغ على الحضور، وقد وهبني خاتماً من الفضة كان قد سبكه بنفسه..

وغضبت صالحة غضباً شديداً، قالت :

- لن تستقبل المتزوجة في دارها رجلاً غريباً.

ونهض الأب ثم جعل ينادي على زائره المنتظر كأنما لم يعبأ بحديث ابنته في قليل أو كثير، ولاح حسن الصائغ فسلم عليه هزاع دون صالحة، وقال (الصائغ) :

- ما أكرم السيد هزاع ! وما أحسن خلقه !

وذكر حسن الصائغ - بعد إيعاز من مستقبله هزاع بالحديث - شيئاً عن استخدامه للنار في تطويع الذهب في جسارة وأهبة، وعما يتطلبه صَوْغ المعدن وصناعة الحلي من صبر وكد، عن قصد أن يحمل المرأة على الإعجاب به، وأما حين سأله هزاع :

- وأنى لكَ أن تطمئن إلى نقاء الفضة وسلامة المَصاغ إذاً؟

فقد أجابه يقول في زهو أحمق :

- إذا عكست صورتي.

 هنالك نهضت صالحة وعادت بخمار أخفى منها كل شيء تقول لأبيها :

- هل أبدو في الخمار جميلة؟ (ثم وهي تلتفت إلى حسن الصائغ فتهدف إلى إخافته وتحبيب السلامة في البعد منها إليه بقولها..) أريد أن أريك النسور التي يربيها زوجي.

وأبدى الصائغ اضطراباً عظيماً، وكان بنفسه نزعة إلى الجبن، ولكن المرأة أصرت على الأمر الذي أرادت أن تختبر به شكيمته حتى طاوعها مكرهاً لئلا يتنزل عن مثابة الصورة التي كان يريد أن يرسمها لنفسه،.. وكانت عائشة لا تزال رفقة الطائر الذي بدا أن نهمه ما انطفأ بعد أن أكل السُجُق، وما هدأت غائلة جوعه، فالتفت إلى الطفلة واقترب منها كأنه يطلب المزيد، وقالت له (عائشة) :

- فلتتجلد ولتصبر، نخبيت، سأعود إليك بالمزيد.

ولكن النسر عاد يزلف إليها كأنه يروم افتراسها، وفرد جناحاه السوداوان، وحجب بتكوينه عنها القرص الشمسي في لحظة طغيان، حتى جعلت عائشة تصرخ مستنجدة،.. ولاحت على أرض السطوح ظلال لثلاثة صاعدين : هزاع، صالحة، وحسن الصائغ، وسرعان ما تبينت لهم ملامح المشهد المفزع : نسر يتأهب للهجوم على طفلة، فر حسن الصائغ حين رؤيته للعقاب المخيف، أمسكت صالحة بعصا من الخشب ومكثت تضرب بها الطائر المفترس الذي فر بدوره فراراً ذليلاً مستخزياً، وبدا أن صالحة قد تكشف عنها خمارها في غمرة تصرفها، وسألت عائشة غاضبة :

- ما دفعك إلى أن تختلي بالعقاب دون أذن؟

- كنت أطعمه..

- بل كدتِ تكونين طعامه..

- تصورته خامصاً ولم أتوقع منه الأذى.

وتطلعت صالحة إلى قطعة أخيرة من السُجُق في هذا الصحن، قالت :

- السُجُق مما لا يناسب النسور، بحق السماء،.. هل كنت تهربين إليه طعامنا؟!

- إنني آسفة..

وطال الصمت فترة، صعد حسن الصائغ مجدداً إلى السطح يقول كأنه يتخبط في تيه :

- هل أصيب أحد بمكروه؟

ومكثت صالحة تستيعد خمارها من الأرض فتلبسه وتقول لأبيها :

- حقاً،.. ما أشجع صاحبك ! يدَّعي الجسارة وهو كأبي حية النميري.

ونظر هزاع إلى صاحبه نظرة عتاب وهو يضبط خاتمه الفضي في يده،.. ووقع أن منعت صالحة عن عائشة مصروفها وحلواها حتى منتصف نوفمبر حتى يعود أبوها من أسفاره بشمال سيناء التي يقتفي فيها هاتف هوايته الغريبة وقد ادخرت له غضباً شديداً، وعتاباً مراً.

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص



في موقع آخر..

وصلت سميحة رفقة عزت بعد تعثرات المسير إلى بيت هدى، وضرب عزت بالسوط على ظهر بغله فتوقف الحيوان، ووضع الحوذي بعد هبوطه أمامه شيئاً من الشعير يتغذى عليها، كانت هدى - على عجزها - لا تزال مهتمة بزينتها فتحني رأسها كابنة العشرين، وتلبس الزينات كأجمل العرائس، ثم هي تستخدم أوراق التوت كي تتخلص من بقع وجهها الداكنة، فما أورثها الكبر صدوفاً عن العناية بمسائل الشباب حتى أوحى مظهرها بصغر ونضارة،.. واستقبلتهما - سميحة وعزت - دون أن تعرف أي منهما وإن كانت في شك من هوية سميحة التي سمعت عن وصفها من يوسف دون أن تراها تقول :

- هلا أمكنني أن أساعدكما؟!

وسألتها سميحة :

- معذرة،.. هل تزورين يوسف؟!

- قليل ما أفعل، بات يطلب لنفسه العزلة، وما عدت في طاقة الحركة، لقد بات غاضباً، غاضباً من الجميع وحتى من نفسه.

وقالت سميحة :

- سأصحبكِ إليه..

وتفحصتها هدى ملياً، تساءلت :

- ومن تكونين؟

- فتاة الملجأ.

وقالت هدى :

- ليس اليوم، سيعود فؤاد من أسفاره الطوال في المغيب ويجب أن أستقبله.

وقالت سميحة :

- لا تقلقي، سنعود قبل المغيب.. 

- وما وسيلتكما؟

هناك تدخل عزت يقول :

- عربة كارو، إنني حوذي أباً عن جد.

ونظرت هدى عبر نافذة السلم على هذا البغل الذي كان في انهماك الإقبال على الشعير، وقالت وهي تتذكر ذكرى قديمة :

- هلا أمكنه أن يصل بي إلى مكان قبل زيارة يوسف؟

استقلت هدى عربة الكارو رفقة زائريها إلى حي الإبراهيمية، هناك كان عمل المرأة يوماً،.. ماذا بقى من حقيقته؟ من أناسه؟ من مبانيه القصيرة؟ حارته الضيقة؟ وترامه الزرقاء؟ وجالياته النازحة؟ ألا هل تأنى الزمان هنيهة؟ ألا هل أبقى على أنقى أحواله وخير أطواره؟ لقد كان الحنطور يوماً وسيلتها إلى هناك مثل اليوم،.. ولكن ماذا تغير؟ ماذا بقى من ريح الإسكندرية؟ ونقاء النفوس؟ وبهاء التجلي؟ وأبهة المعمار؟ وقالت المرأة منفعلة :

- ليس هذا هو الحي..

وقالت سميحة التي كانت توجه العربة في أسف :

- بل هو..

وجعلت هدى تنطق ببعض الأسماء اليونانية لشوارع ومحلات كبرى ومبانٍ تاريخية : «لاجيتيه.. فينو.. فورنوس.. خاموس.. بانا جوس» فيما كانت سميحة تجهل بهم جميعاً كأنهم الألغاز الغوامض، وغضبت المرأة غضباً شديداً حتى قالت سميحة لها كأنما وجدت في نفي هوية الحي جملة يسراً فوق اقتفاء أثر الأسماء الغريبة الكثيرة :

- فإن كان لا محالة،.. فليس هو !

سارت العربة في شارع البطالسة الممتد من الإستاد إلى حديقة الشلالات، وهناك هدأ روع المرأة التي طفقت تميز هناك بعض الذكريات الوالية، وفي نفسها هائج الأخبار المندثرة، وانتهى مسير العربة إلى بيت يوسف، طرقت سميحة باب الرجل تقول :

- هلا فتحت؟                 

ولم يستجب الرجل حتى سمع صوت أخته الكبرى، كان في يد الرجل مسبحة وقد رفل في بلوفر ملون، وقال لها وهو يأخذ يفتح بابه :

- لقد أتت بكِ المشاغبة إذاً..

كان الرجل يُعلق لوحة كتب عليها بخط كوفي حسن أربعة أبيات لشوقي من قصيدته ذكرى كانارفون (في الموت ما أعيا وفي أسبابه)، وتخير منها بيتين :

- النَفسُ حَربُ المَوتِ إِلّا أَنَّها.. أَتَتِ الحَياةَ وَشُغلَها مِن بابِهِ

تَسَعُ الحَياةَ عَلى طَويلِ بَلائِها.. وَتَضيقُ عَنهُ عَلى قَصيرِ عَذابِهِ

وسألته هدى وهي تأخذ تقرأ ما فيها :

- هل تعلمت كتابة الخط؟

- أجل، يبدو ذلك.

والتفت يوسف إلى عزت يسأله :

 - ولماذا لم تخلع نظارتك السوداء؟ هل كان المال دون المطلوب؟ أم ترى أخفقت العملية؟

وتدخلت سميحة فأظهرت يوسف على حقيقة الأمر، وقالت موجزة حين لاحظت ضعف انتباهه :"آثر أبوه عجلتي حنطور على شفاء حبيبتيه.."، وقالت هدى معلقة :

- لم أكد أعرف حي الإبراهيمية، لقد فسدت السرائر، وفسد في إثر ذاك صورة الأشياء، وإن هذا إلا مثال آخر.

وقال يوسف وكأن في نفسه رعشة برد :

- سأموت قريباً..

ومر حديث الرجل مرور الكرام، وتدخل عزت يقول :

- سأقوم بالعملية بريع الحنطور الجديد، كل ما هنالك أن أبي ينتمي إلى مدرسة علي عوض، شيخ الصنعة في الثلاثينيات التي علمها بدوره لجدي، من حيث هو عدواني صعب المراس، ولكن قلبه كنبتة خضراء في جحيم الحياة، تدخر الخير وتتقي لذة المكسب العاجل.

وقالت سميحة :

- إنني أشك في هذا ملياً.

وعاد يوسف يقول وهو يضغط على مسبحته وقد بدا في إعياء ثقيل :

- سأموت قريباً،.. أقسم أنه (الموت) يتربص بي..

هناك دعت هدى أخاها أن يتوقف عن ترديد فأل السوء، ولكن الرجل أصر يقول :

- مثلما مات كفافيس يوماً بسرطان الحنجرة..

وكان يزفر وهو كظيم، ووضع يده على حنجرته كأنما يختنق، فقالت سميحة :

- مهلاً،.. مهلاً،.. ما أنت إلا واهم..

وطوقت هدى أخاها بذراعيها فطفقت ترقيه،.. كان دنجل قد أنهى شعيره ومضى متحركاً كأنما قد استجاب لمنادٍ يدعوه، وسمع الجلوس حمحمته وحركته، وخرجت سميحة وعزت كيما يتابعانه فبصر الأخير بأبيه الجواهرجي في منتصف هذا السبيل يناديه يقول :

- لقد تأخرتما ملياً، ساعة الرزق لها قانونها الذي لا يتخلف عنه السُعاة، وإني في حاجة إلى دنجل.

والتفت عزت إلى سميحة يقول :

- أرأيتِ؟ أبي حريص كل الحرص على عمله، ولا ريب أنه أرسل من اقتفى أثرنا،.. ألم أقل لكِ : سأقوم بالعملية من ريع الحنطور الجديد.

ومكثت سميحة تتابع ناظريه المتضرريين وراء نظارته في هدوء ثم طفقت تهب الحوذي الذي راح يضرب بغلته ضربة سوط هي أشد مما يستدعيه تنبيه الحركة فتعود تقول قولتها الأولى :

- إنني أشك في هذا ملياً. 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة