روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/05

لا أريد أن أتحدث عما يؤلمني ذكره

                   الفصل الثالث عشر: لا أريد أن أتحدث عما يؤلمني ذكره



ذلك اليوم عادت هدى إلى دارها بعد مغيب الشمس، ترجلت المرأة رفقة سميحة التي حاولت الاعتذار لها عن إخلاف وعدها لها بالعودة التي تسبق المغيب، وظلت (سميحة) على حالها من مصاحبة هدى عسى أن تظفر منها بصفح أو أمر يتعلق بيوسف وتفيد منه كأنما تحاول أن تستقطب بحركتها الدؤوبة اهتمام المرأة التي كانت بدورها تأخذ تهرول كيما يتسنى لها أن تستقبل نجلها فؤاداً، هذا العائد من أسفاره بالكويت لا عودة الإجازة المؤقتة المهيئة لما بعدها من أسفار ولكنها عودة الاستقرار المقيم الدائم لأول مرة منذ اغترابه، قالت سميحة لها وقد كانت هدى - لرغبتها في استقبال نجلها فؤاد - مدفوعة بباعث أنشط إلى الحركة على فارق العمر بين الاثنين فتسبقها ببضغ خطى :

- عذراً، لم أتوقع حضور الأب أو حاجته إلى بغلته،.. ومحفظتي كعاداتها خاوية!

وسألتها هدى :

- لماذا لم تطلبي حاجتنا من يوسف؟

وركلت سميحة حصوة تقول :

- لقد فعلتها مرة لضرورة ولن أكررها، أذكر أنني أسقطت وقتئذٍ صحن الخشب فوق رأسه، أعني حين كنا نستخلص النقود من خزانة الأكواب المرمرية، وقد انتابتني لأجل ذاك مرارة ساخرة !

ونظرت سميحة إلى هدى حين وصول الاثنين إلى البيت تسألها :

- وأنتِ، سيدتي؟ ما منعك أن تطلبي منه؟

- إنني أخته الكبرى،.. ألا يثير الخجل أن يطلب الأكبر من الأصغر شيئاً ولو صغر؟ ثم أنني زرته كيما أخفف من أثقاله النفسانية لا كي أطلب منه المال.

وسألتها سميحة التي بقت لدى باب العقار فيما يغيب ظل الأخرى في قلب البيت في لحظة صدق وعاطفة :

- مهلاً، سيدتي،.. هل تتصورين أن يؤذي يوسف نفسه؟

هناك توقفت هدى بعد أن خطت على درج الصعود خطوة أو اثنتين، قالت في رفق :

- فلتعوديه ولتزوريه، صغيرتي، وما دام وجد حوله من يهتم به فلن يفعل..

- وسرطان الحنجرة؟ بحق السماء،.. لقد أمسك بحنجرته حتى كاد ينزعها من جوفه كمثل الذي يروم أن يقتلع تفاحة من شجرة.

- إنه يهذي، عزيزتي الصغيرة، لقد كان يوسف غريب الأطوار منذ كان في مثل عمرك، وفي أيما آونة من الدهر عرفته فيها لم تتبدل سماته، وإنني أتفهم الدواعي التي حملته على التوهم : الوحدة، وفاة زوجه.. إلخ، أعني أنني أقدر هذيانه بحق،.. لقد وهب صاحبك (أي عزت) جعراناً وهو يقول : ما دمت موظفاً فيجب أن تحتفظ بأقدم أختام الموظفين : الجعارين المصرية، لابد أنكِ قد شهدتِ هذا مثلما شهدته، وقد عجبت له مثلما عجبت أنا، إنه يهذي، عزيزتي،.. ولتتركيني فضلاً فلدي زائر عزيز لم أره منذ فترة.

صعدت هدى الدرج إذاً فيما طفقت تغمغم :"فتاة مخلصة،.. آمل أن يخلف فؤاد وعده بالعودة في وقت المغيب.. (وارتبكت في نجواها فأزادت تقول) دون أن تتعثر أسفاره.."، وكانت المرأة تأمل أن يسعفها الوقت فتجهز للعائد أرز الصيادية ذا البصل المقرمش البني اللون، وسمك البربون المذهب أو المرجان الذي يحبه،.. ورفعت رأسها فألفت بابها نصف مفتوح وحاولت أن تحرك مصراعه الموصد فألفت بعض مقاومة ما لبثت أن انتهت بزيادة دفعها، وكان فؤاد قد ترك حقيبة النقود لدى الباب قبل أن يدلف إلى دورة المياه، وهبطت المرأة إلى الحقيبة فجعلت تهمس راضية :"إنه حصاد كثير، وفي طيه عناء أكبر.."، وخرج يوسف من حمامه فألفى أمه على الأرض تكاد تجثو على ركبتيها قرب حقيبة النقود، وتكشف له امتنانها ورضاها فلم يشأ أن يذكر لها حقيقة أن الحقيبة إنما حوت على نصف ما قد جمع واقعاً في سنواته السبعة عشر بالكويت، وهنأته على صنيعه - الذي فاق كل توقعات القوم عنه - فلم يبح لها بما في نفسه من مرارة خسارة اليوم الأخير، وذكرت له شيئاً عن رؤيتها له في منامها الأخير وقد أبصرته في أرض كالجنان وعليه سندس ذو اخضرار - وذهبت مذهباً فسرَّت به أن السندس الأخضر إنما هو المال لما كان أكثر المال في الحقيبة من الدولار الأخضر - فابتسم، ورأته يتجهز لغرض بدا لها أهم من حفاوته بالمال وبالمنام الذي أوردته، وسألته حائرة :

- إلى أين؟

وأجابها فؤاد فيما تخرج غادة من حجرة النوم وقد بدلت ثياب السفر بأخرى بيتية، ثم يلوح الطفلان : عماد وإسحاق ومعهما بعض الدمى التي اشتراها فؤاد لهما من حانوت ظنانة أول عودته في بهو البيت الطويل :

- إلى نادي الفيديو، معذرة، أمي..

وانزعجت الأم من تصرف نجلها وقد خالته إنما يريد رؤية الأفلام الهندية فيؤثرها على ما كانت تنتوي أن تعده له من ود الاستقبال وطعامه، حتى ذكرت شيئاً عن استهتاره بها، ووضعت غادة يدها على كتف الأم تقول :

- سيبحث عن صاحبه عبد العزيز، لقد وعد آسيل بالأمر وعداً صار يثقل عنقه كالأصفاد الغلاظ.

والتفت هدى إلى غادة في انزعاج موصول تسألها :"ومن تكون آسيل؟!". قصد فؤاد إذاً إلى نادي الفيديو بشياخة الورديان حيث التقى بصاحبه فريد، والأخير أصر على أن يشاهد معه الفيلم الهندي الذي كان قد حدثه عنه ((Chakra في وقت آنف احتفالاً بانتهاء غربته قبل أن يتحدث معه في أيما مسألة، كان قلب فؤاد فارغاً، وأما فكره فمتمحور حول صديقه عبد العزيز ووعده إلى آسيل حتى غاب بذهنه عن ذاك المعروض،.. وسأله فريد يقول :

- وما رأيك في الفيلم؟

وأجابه الشارد بسؤال بدا غريباً :

- أتدري أين عبد العزيز، اليوم؟

هناك خفض فريد رأسه يقول :

- إلهي! لا أريد أن أتحدث عما يؤلمني ذكره.

ونهض فؤاد مستبشراً على مرارة ما سمع واقعاً يقول :

- أنت تدري أين هو إذاً،.. فلتصحبني إليه،..

- صدقني، سيؤلمك أن تراه على هذا الحال، لقد ضل السبيل حتى تلبسته روح غير روحه، أبصرته وقد نذر نفسه ونفر من صحبة السوء لتصنيع عقار «الكبتاجون» المخدر بالمكس بعد أن قضى فترة هي من الحزن والاكتئاب حتى تمنيت لو أني لم أره قط، وبت أهفو في رثاء إلى الأيام الخوالي حين كان استهتاره بوزنه الزائد أكبر مثالبه، أعني حين كان منكفئاً بالضرر على نفسه.

وأجابه المنتشي (فؤاد) في عزم بدا أنه يزداد حماسة مع كل وصف يُفترض بأن يسوقه إلى فقدان الأمل :

- سأقصد إليه ولو سرت حافياً على طريق من الفحم الموقد، أجل، إنني أملك ترياق نفسه الضائعة.

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


وألهمت العبارة البيانية الأخيرة فريداً أن يصحب صاحبه إلى حي الماكس، هذا (أي الحي) الذي لا يُعرف على وجه اليقين تاريخ ظهوره إلى الحياة، كان للبيوت فيه نسق معماري هو بدائي يأخذ شكل المدرج، وقد أوحت (البيوت) بشكل لطيف إلى غضارة المعمار الإنساني وبدائية التصميم، وقد كانت - وعلى نحو يوثق الشعور السابق - موصولة الرؤية بالبحر بلا فواصل، وهاته تجمعات الصيادين هنا وهناك لحياكة الشباك وتجهيزها،.. وقد مر الاثنان بعدد من القوارب الصغيرة فعلق فريد الذي تمثل صورة المرشد للفتى الذي طالت غربته عن المدينة حتى صار كالأجنبي يقول (فريد) :

- يتوراثونها (القوارب) من جيل إلى آخر..

وقال فؤاد في تأثر :

- يتحدثون عن التركة المادية والمالية التي يخلفها الآباء للأبناء، لا أحد يتحدث عن إرث المعاناة.

وكان في نية فريد أن يزيد يقول : "سُميَ بالمكس من المكوس أي الجمارك وكانت تُحصل في هذه المنطقة للبضائع الواردة من الغرب.."، ولكنه لزم الصمت تحت وطأة المعنى الأخير : إرث المعاناة، اضطر فؤاد إلى الانتظار حتى استتباب العتمة المسائية حتى يئن وقت ظهور صاحبه، وقال فريد لصاحبه الذي سئم متابعة حياكة الصيادين لشباكهم في الفترة التي تواصلت من مغيب الشمس إلى اختفائها عن الأفق :

- الجريمة ابنة الظلام،.. سيظهر الآن وعصبته.

وما كاد يتمها حتى لاح عبد العزيز وقد نحل مُنَشط «الكبتاجون» - الذي كان يصنعه ويتعاطاه - بدنه السمين فصيره إلى حقيقة رشيقة، كانت تأثيرات العقار السلبية قد نضحت بوضوح في صورة الرجل : فكتفاه مرفوعتان كأنما هو في حالة من جنون العظمة الزائفة حتى غدا الصيادون الذين عرفوه يتقونه متى بصروا به، ووجهه مغبر بسبب من الاكتئاب، وأما عيناه فمقرحتان من طول الأرق، وكان يأخذ يبثق في هذا البحر لما كره منه مناجاته في الأمسيات دون جواب منه،.. وقد بدا ممسكاً بسيجار - لأول مرة - وهو يتحدث إلى رفيق له هو نسخة منه في صفات صورته، يقول :

- هذه السيجار تزيد من مفعول المخدر ملياً، ولكن لا تتعاطاه مع الشاي الأحمر وإلا فقدت أسنانك..

- ماذا عن الهلاوس التي أسمعها بسبب الكبتاجون؟

- لا بأس، فلتستعن بها على عبثية الحياة.. 

وانقبض فؤاد لرؤية صاحبه على هذه الصورة فكأنما دخله أمر عظيم، وذهبت نفسه عليه حسرات، ولكنه تجسر بتوصية من صاحبه فريد الذي قال له :

- فلتقصد إليه وحدك بما حضرت به من "الترياق"، إنه إن رآني ركبه العناد، وقد حاولت إصلاحه في السابق غير مرة، حتى صار تكرار التجربة تفريط وعبث ! 

تقدم فؤاد وحيداً إذاً إلى عبد العزيز فسلم عليه يقول وهو يمد إليه يداً مترددة :

- أهلاً..

وعاجله عبد العزيز - الذي كان يبدو قبل الآن ضعيف النشاط الذهني - بقول سريع الخاطر دون أن يبادله بحركة اليد :

- أهلاً بوجه الشُّؤْم.

ظلت يد فؤاد ممدودة أكثر من اللازم إلى صاحبه المستكبر، وهناك وجد فريد أن الرجل قد تجاوز على حقوق صديقه فعاد يؤزره يقول متقدماً :

- فلتلزم الأدب في حضرة من اصطفى رؤيتك على لقاء أهليه ومسامرة صاحبه بعد طول سفر، ولا تفرط مسبحة الحِلم بطيش لسانك وحمق تصرفك..

وقال عبد العزيز وهو يبثق في بحر المدينة فيتحرك صياد متمتماً :

- لقد دمرني الحب،.. قاتل الله آسيل وأخاها، دعني أفصح لكَ عن شر ما أكرهه من طبائع البشر : إنهم لا يمدون إليك يد العون إن احتجت إليها،.. ثم هم لا يقيمونك إلا بميزان النتائج !

وهبط فؤاد برأسه إلى هذا الصياد الذي كان ينسج شباكه في أناة وحرفة على ضوء لمبة جاز يقول (فؤاد) :

- ألا هل ترفعت عن  الدعاء  بالسوء على من فُجعت في أخيها، وأوصتني بالسؤال عنك؟

وقر الاضطراب محل العدوانية في نفس يائسة، ومضت سُبُحَات العطف وأنوار الإشفاق في جوف الإظلام الدفين، سأل عبد العزيز زائره في لهفة :

- هل قُتل أكرم في حرب التحرير الدائرة؟ أم تراه قد نفق في الغزو العراقي؟

وابتسم فؤاد من لا إنسانية السؤالين يقول :

- لا تزال تتابع أخبار البلد الذي تركته إذاً،.. لا هذا وذاك، لقد نذر أكرم نفسه للمقاومة الشعبية وقد طالت غيبته ولم يعثر له على أثر.

وقال عبد العزيز في تشفي :

- كانت هذه أمنيتي له : الإفناء بلا أدنى أثر.

- أخشى أن تحترق بالكراهية.

ألقى عبد العزيز بعقب السيجار في البحر يقول :

- لا بأس، سألقي بنفسي في هذا البحر عسى أن تستوعب ماؤه البَكْماءُ حرائقي.

- لن ينفعك، لقد بثقت فيه حتى لوثته وأسأت إليه حتى تبرأت منك أمواجه.

وصمت فؤاد ملياً، وكان قد سئم القبح الذي ينبثق من دواخل صاحبه المغبون، وقال كأنه ينهي نقاشاً أورثه المرارة في فمه، يقول :

- أرادتك آسيل متطوعاً في الهلال الأحمر الكويتي خلافاً لأخيها، قالت لي بأنها ستوفر لكَ وبعون من معارفها وظيفة هي صياد لؤلؤ إذا عدت وتزوجتها،.. ولكن، مهلاً، أنت تعرف ما يتطلبه صيد اللؤلؤ من مشاق ومخاطر، إن القادر نفسياً وجسدياً على مغامرة الصيد هو وحده من يصبح غواصاً، وأما أنت فضعيف أو غير مستطيع، لقد عشتِ في الكويت حيناً من الدهر ولابد أنك على علم بما أقصده.

ووضع فؤاد يده في جيب محدثه فأخرج منه أكياس ملأى بحبوب العقار  فألقى بها في البحر، وكان كأنما خدره بحديثه الأخير - الذي كان ظاهره الإزراء وباطنه التحفيز - فصار من اليسير عليه أن يشرع في خطوته التالية، إنه يقول مرغباً إياه هذه المرة :

- ها قد قمت بالخطوة الأولى نيابة عنك، فلتتخلص من البقية مما لديك،.. هلم، فلتكتب قصة رائعة هناك ولتدونها على أوراق التوت بكلمات من خُزامى، سنأهلك للحاق بفترة الغوص الكبير، هاته التي تدوم لأربعة أشهر : من مايو إلى سبتمبر، وفيها يتساوى الليل بالنهار، إننا اليوم في يناير، ستحيا حياة السرور والرفاه مع آسيل وستنعم برزق وفير ما حاز مثيله الصيادون إلا في سنة الطفحة، فإن تكن سُلبت التوفيق تارة فقد وهبت الحظ أطواراً..

نظر عبد العزيز إلى بحر الماكس نظرة متفكرة ثم إلى صديقه - شريكه في تجارة العقار الممنوع - الذي كان يستحثه على رفض مطاوعة صاحبيه، يقول :

- لقد منعوا «الكبتاجون» قبل خمس سنوات فقط، إن له منافعه غير المنكورة، وإنك بها عليم،.. لا تتركهما يخدعانك.

وخلع عبد العزيز معطفه  ثم ألقى به - بما حواه من الأكياس - في البحر يقول، كأنما يتطهر روحياً :

- سأعتبر هاته إساءتي الأخيرة لبحر الماكس..

هناك خلع شريكه قميصه وقفز في البحر وراء هذا المعطف الطافي، ومضى الأصدقاء الثلاثة يتابعون هذا الصياد الذي كان قد أتم حياكة شباكه ثم نهض يلقي بها.


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة