روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/06

لقد تغيرت كثيراً

                    الفصل الرابع عشر: لقد تغيرت كثيراً



كانت اليمامة قد فزعت لحضور سميحة التي جلست لدى طرف الحجرة، وقالت سميحة متأثرة بسهولة دلوفها إلى حجرة يوسف هذه المرة:

- من الخير أنك تبدو في حال أفضل، اليوم، سيدي..

 وتبين أن الرجل إنما يتابع ظاهرة الكسوف الحادث في الثلاثين من يونيو في هذا العام (1992م)، وقال كأنه يحدث من لم يستدر إليه أو يوليه وجهه وإن ميزه بصوته :

- في ميثولوجيا الفايكنج يطارد الذئبان "سكول" و"هاتي" القمر والشمس، حين يقبض أحد الاثنين على الآخر يحدث الكسوف،.. هنا كان يبدأ البشر في الجري والصراخ وقرع الأشياء في سبيل إخافة الذئبين وعودة الأمور إلى نصابها !

ولم تفهم الجالسة مقصده وهنا أتبع يقول :

- الكسوف يبدأ وينتهي طبيعياً ولا علاقة لأي حالتيه بالصراخ أو القرع من قريب أو بعيد، كذلك الحزن لا تصلحه ظواهر الجزع..

وشجعها حديثه واهتمامه بالظاهرة الفلكية التي كانت تعني بداية عودته إلى اندماجه في حياته القديمة، قالت :

- لقد جئت في طلب المال..

وأجابها يقول :

- لقد أُفرغت خزانة الأكواب المرمرية من النقود، لم أعد أبقي على شيء ذي بال في هذا البيت..

- فلتسمع لي، سيدي : عزت بحاجة إلى جراحة إبصار.

وقال كأنه يقرر أمراً أو يؤطِّر حقيقة بعبارة ظنية :

- أحسبكِ قد حصلتِ على المال اللازم..

وظنته قد نسي ما وقع من استيلاء الجواهرجي عليه لنفسه فعادت تقص عليه ما يعرفه :

 - ..وقد أضعته، انتهز الحوذي حسن ظني به.

وهناك نطق في وضوح ومباشرة :

- لست على قدرة كي أهبك وصاحبك، ثم أراعي سذاجتك، إنني رجل عجوز، وقد آليت وبعد وفاة زوجي أن أعيش ما بقى من عمري لنفسي.

وساد صمت واجم، خفضت الفتاة رأسها في أسف تقول :

- لقد تغيرت كثيراً، سيدي، يوسف..

ووهب يوسف الأفق المتأثر بالكسوف نظرة يقول :

- إن هذا حق، بنيتي، المال ينفذ بفرط الاستخدام - كأي شأن آخر - ولم تعد بي طاقة الكسب أو معاركة الحياة، كنت زاهداً فيه دائماً، واليوم أراني أزهد، إنه الإقرار بالأهمية من يدعوني إلى عدم التفريط فيه لا الإمساك والبخل، وإذا أنتِ فهمتِ غرضي قبلتِ عذري..

عادت سميحة إلى بيتها بالعوايد خجلانة النفس وسمعت عزت الصاعد يتخبط - هذه المرة فوق تخبطه الطبيعي - فهبطت تخدمه، كان في أنفاسه الخمر بعد عودته من بار كاليثي الواقع بمحرم بك إلى جوار القنصلية الإيطالية، وذكر شيئاً عن الصعوبة التي وجدها في طريقه من هناك وإلى العوايد، وسألها عن المال فأجابت :

- إنني آسفة، لم أتصور أن يخذلني سيدي، يوسف، لقد رأيته اليوم، ولأول مرة منذ عهدي به، في كسوفه وذاتيته..

ودلف عزت محزوناً - بعد فقدانه لبغلته دنجل ولأمله في الإبصار - إلى داره، ومكث واقفاً مدة أمام حصان البحر المحنط، وحاول أن يدير الجرامفون المترب وهناك أحس يداً تربت على كتفه، وشخصاً يقول :

- كنت أحسب أن مغنياً يربض بالداخل هو مصدر الإنشاد والغناء،.. قاتل الله سذاجتي التي أضاعت المال..

وانتبه عند أول الحديث إلى سميحة التي لحقت به فقال في شعور بالإجحاف :

- سيعود أبي اليوم صحبة واحدة من نسوة السوء اللاتي يستغلن سفهه ويعتشن على ريع الحنطور فيما يتركني ماكثاً في عتمة التخبط، ألا تعساً له ولي، لقد انتهت بيننا اليوم آصرة المحبة، بل إنني على استعداد لأقدمه قرباناً للشيطان مثلما فعل «زاهاك» مع أبيه «كوش»..

لم يكن في نفس الفتاة طاقة الغضب ولكنها قالت وقد لمع ضوء المصباح المنعكس على الجرافمون حتى ارتد في بصرها :

- سامحه الله وسامحهن..

وهمس عزت بصوت وانٍ لم تسمعه الفتاة أولاً وهو يمسك بعنق الحصان المحنط :

- لقد قتل أبي دنجل، أنهى على حيوانه بوحشيته، وكتب عليَّ الظلام باستهتاره، ولن أقف حياله مكتوف الأيدي..

وحدست بالشر الذي يدور في نفسه وأفزعها طريقته في القبض على الحصان، فقالت كأنما تعود تذكره بالحل السلمي :

- سأعود إلى بيت يوسف أطلب منه حاجتنا، غداً، ولتحضر معي..

وغضب يقول :

- لن أتسول حقوقي من الغرباء، إنني صاحب حق وحري بي أن أطلبه من مانعه، إنني صاحب حق مهزوم.

وواسته في ضعف تقول :

- قد ينهزم أهل الحق دون أن ينهزم هو..

وكان في نفسه جواب على قولها عجول :

 - بل ما من شيء هو أسوأ من حق مهانٍ..

وترامى إلى أذني سميحة بكاء جاهين - نجل ألكسندرا - وعوله، هذا الذي لا يأنس إلا في محضرها على حداثة عمرها، ولا يهنأ إلا متهالكاً بين يديها على انتفاء المصاهرة بينهما، وتركت صاحبها - تحت وطأة الهاتف الجديد - في غضبه فكان إذا مشى تخبط كدابة حَرْداء، وجلس مسلماً رأسه اليائسة إلى يديه كأنما أمسك بحبيبته قرب الجرامفون، وأسلم ناظريه إلى كفيه فانتهى إلى ما يشبه الظلمتين المتواترتين، أشفقت سميحة من أن تتركه على حاله هذه فوهبته نظرة أخيرة قبل أن تعود تستجيب لنحيب الطفل الذي بدا عاجلاً وغير مهم، ولكنه - وعلى نحو مزعج وملح - أولى من هذا الذي شخصت حالته بالمهمة غير العاجلة، إن جراحته (عزت) شاغل الأمس واليوم والغد إذاً وستعود إليه حين يستكين خاطر جاهين، وألفيت نفسها تعود إليه فتربت على كتفه وتقول:

- ستبصر النور حين تذر غضائب نفسك، وسيملأك الحب بالبصيرة..

ورآها تتدثر في طوباوية لم ترق لنفسه الثائرة، فما بال الفتاة تنطق بالمثالية الجوفاء؟ ما أشبهها إلى من يرمي بزهرة على جسد متهالك نال منه الخذلان ! فليحترق عالمه المشوش فوق ذرى القيم وقمم الأوهام،.. ورأى نفسه في حفرة سحيقة فيما تمد له صاحبته يداً واهنة، وتعثرت قدماه بجثة دنجل في قلب ظلام الأرض،.. وسمعها تقول له :

- لا تستكبر الطلب ! سأقنع سيدي، يوسف، غداً..

وألقت عليه الماء الذي أنبت حوله الأوراق الندية برضاب الهوى والقبول، وفتح عينيه وفي نفسه تواضع المشاركة وتنزل الطلب ولكن صاحبته كانت قد انصرفت عنه، وغيبت وحدته ما فيه من نور فانقلب كزهرة متيبسة، وعادت توقظ قهقهات الجواهرجي مع أنيسته ظلمات ذاته، وحدث نفسه :"ما السذاجة إلا هوان، ما الحياة إلا ميدان صراع، فلتعصف بالحوذي المتكبر ولتطأ جبروته تحت نعال الانتقام، ولتنزه نفسك من وزر الضعف.."، وما لبث أن تجسم الأب رفقة امرأة فنهض عزت إليه وتأمله في احتقار، كان للأب جبين متجعد مسفوع من أثر النظرة الضالة، وحاجبان أسودين وشارب أبيض التحم مع فودين مثله، وقد رفل في هندام قديم الطراز وأحاط وسطه بحزام أحمر، ومرر عزت بصره - في احتقار أقل - إلى المرأة التي بدت متنعمة بإنفاق الحوذي عليها حتى كان كفاها يستدفئان في قفازين من جلد الغزال، وإنها لذات ثوب مخشخش، وحاجبين متنمصين، وعطر شديد البوح،.. وبدت حقيقة مستهترة كأنها ما أخذت أمراً على محمله الجاد أبداً،.. وبادر عزت العائد يقول :

- ما عدت أسمح بالفحش في بيت جدي..

وغضب الجواهرجي ولكنه توخى السياسة يمرر بها مقاصده :

- فلتسمع لي : أريد أن أنسى مرارة اليوم، أن أرتمي في أحضان النعومة، لقد فقدت دنجل، وأنينه العاجز بشارع الخديوي سيظل مسلطاً عليَّ سوط عذاب..

وكان الخمر قد حرر عزت من عقال الأدب، فهتف يقول مستخفاً :

- وكأن لكَ ضميراً يتألم !

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


وأجابه الأب في أدب غريب عنه وتكلف ابتسامة رغم جيشان صدره بشعور آخر غير الرضا :

- سامحك الله، بني..

- لماذا تريد أن تنسى جريمتك؟ كان سوط كرباجك فوق بدنه أشد من سوط ندمك اليوم، وكفارتك أن تتألم.

وكادت المرأة السافرة تنطق بشيء فأسكتها عزت يقول :

- فلتصمتِ يا لعينة..

هناك انفجر الجواهرجي في نجله فصفعه، واشتبك الأب ونجله حتى طرح عزت أباه الذي ارتطم رأسه بالجرامفون، وانفرط حزامه الأحمر وسط فوضى حالته المجندلة، وكاد الغالب يجهز على المغلوب وسط هيسترية المرأة التي انقلبت متوسلة، وسمع المنتقم في أغوار نفسه صوتاً يتردد كزهرة في جحيم :

-"ستبصر النور حين تذر غضائب نفسك، وسيملأك الحب بالبصيرة..".

هناك ترك الغاضب طريحه كأنما ارتد إليه بصره من غير سوء.

 

في زيزينيا..

كان حسين يناقش صديقيه وجاريه في المنطقة الراقية : خالد وشريف في أحوال حانوته التجاري الذي أقامه هناك لبيع المعازف، فعلق فيه  الأَعْوَاد الشرقية ورص فيه الطبول ذات الزخارف، وبسط فيه نباتات الزينة والشجيرات اليابانية العطرية بعد أن قرأ شيئاً عن فن بونساي،  إنه يقول لهما وهو يتأمل أحوال ما انتهى إليه مقامه الجديد :

- أحتاج إلى تسهيلات جمركية وضريبية كي أنقل بعض الأدوات الموسيقية الباقية من فرنسا..

وسأله خالد :

- هل تعرف من السياسيين أحداً؟

- كلا،.. لدي انطباع سيِّئ عن السياسة العربية.

وسأل شريف صاحبه عن بعض الاتجاهات السياسية :

- ماذا عن الوفد؟

- لقد صار اسماً بلا حاضر، ويكفيه عبثاً تحالفه مع الإخوان في انتخابات مايو 1984م.

- والوطني؟ (يريد الحزب الوطني)

وأجاب حسين يقول فيما يتسلل نجله إياد إلى اجتماع الثلاثة :

- إنني أقف من أحزاب السلطة موقف الابتعاد دائماً إذ أن القريب منها كراكب الأسد،.. منذ أسسه السادات بديلاً عن الاتحاد الاشتراكي وهو بلا هوية.

وعاد شريف يسأله :

- وماذا ستأخذ من ماضيه؟ لقد تغيرت حقيقته كلية كي تتجاوب مع الوضع الجديد.

- إذا هو على كل وجه فهو بلا وجه.

وانتهى إياد إلى أبيه حسين الذي قال عنه :

- وددت أن يكون إياد مؤلفاً موسيقياً كأبي بكر خيرت أو شوبان، ولكنه يحب القيادة، ويترأس زملاءه في الإبتدائية في حس المبادر، ثم ينجذب إلى قصص البطولات الطوامح المكللة فوق ذرى الأمجاد العظام،.. إنني أرى أن التربية تقضي أن أدفعه وألا أتقدمه، وإني من أمري في حيرة الجواب : إلى أي السبيلين أوجهه؟ ذلك أن الغصن إن نمى مائلاً ما استقام إلا بكسره..

وتدخل خالد متضاحكاً يقول وهو يحل الإشكال بتوفيق حصيف :

- لعله يصلح رئيساً للأوكسترا.

وقال شريف قولاً أخجل إياداً :

- أجل، أراه يصلح للإمساك بعصا المايسترو في يده، سنتخير له واحدة تناسبه وفرقة صغيرة ثنائية duet)).

وعاد الجلوس إلى مسامرة السياسة كان فسأل شريف صاحبه :

- ومن تراه جديراً بالتأييد إذاً؟

ونهض حسين فجعل يتمشى في أروقة حانوته غير المكتمل، وكان في نشاط واهتمام بالتنسيق حتى أنه كان يضع بين كل آلة موسيقية وأخرى أصيصاً لنبات الحظ السعيد : كوردالين تانجو الأحمر، وتوقف لدى هذا الأصيص بغتة يقول :

- أبي كان يذكر لي  دور الأسرة العلوية في عصرنة البلد، رغم تهكمه من الملك في شبابه إلا أنه عاد يثمن تجربة الملكية جملة، وبات يسرد لي رأيه الإيجابي في ألمانيا القيصرية (الرايخ الثاني)، وألنمسا في مطلع القرن العشرين، وكذا مصر إبان عهد فؤاد..

وهتف خالد مستهزئاً :

- فلتقصد إلى أحمد فؤاد الثاني ولتطلب حقه في عرشه إذاً..

وعاد شريف يقول يشارك صاحبه في سخريته :

- أقسم أن هذا لن يساعده في نقل أدواته الموسيقية من باريس.. (ثم في حس أهدأ) بربك.. كان كل شيء إبان الملكية المصرية نخبوياً، الأوليغاركية Oligarchy) وتعني حكم القلة من قبل عائلات نافذة معدودة تورث النفوذ والقوة من جيل لآخر) هي خير من يوصف هاته المرحلة من أشكال الحكم، أحب حكام الأسرة العلوية مصراً وازدروا المصريين، ربما ما خلا إبراهيم باشا الذي لم يعمر على كرسيه إلا بضعة أشهر..

وتساءل حسين سؤالاً ذا وجاهة :

- هل يجدر بنا أن نقيس الحضارة بعدد المنتفعين بها ولو عنى ذلك أن نقص أجنحة كل نزعة إلى التفوق؟ أم بقمة ما تصل إليه من ذرى التقدم ولو على حساب رغبات الجموع؟

وأجاب شريف يقول :

- الاثنان، عزيزي، الاثنان، والسياسة أن تسوس الكم إلى الكيف، وجل الأسئلة التخييرية حري بها ألا أن تكون كذلك..

وأبدى حسين تخوفه من حملة المباخر الذي بدأوا يتكاثرون في بطانة الحكم في أعقاب حرب تحرير الخليج يقول :

- إنهم يهيئون المناخ لانقلاب الرئيس إلى زعيم، والأولى تعبير قانوني دستوري والثاني شعبوي عاطفي،.. لم يعد بمقدور سائل أن يسأل ناصر بعد أزمة السويس، أو السادات بعد أكتوبر عن أمر، أو أن يراجعه في مسألة، وهنا تنقلب الأمور على عقبيها (استخدم الرجل التعبير الإنجليزي  U TURNفي التعبير عن قصده)، فالسلطة المطلقة مفسدة، أي مفسدة !

وتسرب إياد يقول في براءة استدعت ذهول الجميع :

- لماذا لا تطلب حاجتك من مرشح مستقل،.. أعني مثلما كان جدي يوماً؟! 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة