الفصل الرابع: لدي شيء في صدري
في الولايات المتحدة..
كان مارتن قد قضى أشهراً في مقام
صديقه منير وتحت بصره كيما يعالج إدمانه للعقار الذي كاد يُجهز عليه، وتأبى الشاب
الذهاب إلى الطبيب حتى جعل يصف الأطباء جملة أو سوادهم في تفسير إعراضه هذا فيقول
في مبالغة زائدة :
- يصيبهم (أي الأطباء) الفتور من كثرة
ما يعرض عليهم من حالات ويفقدون التعاطف، إنهم أشهر سيكوباتيين يرفلون في ثياب
بيضاء عرفهم العالم، ولديّ فوبيا من رائحة الدواء، والتكرار ينزع من الشيء معناه
ولو كان الإنسانية !
ومر بمراحل خمسة هي : علاج الأعراض الانسحابية،
مرحلة التأهيل، مرحلة الاستشارات النفسية، العلاج المجتمعي (وهنا كانت تزوره آمال
فيتبادلان العزف بالهارمونيكا)، منع الانتكاس،.. وصارت له تجربة مثيرة في الإمساك
عن العقار المميت يرويها لزائري محطة القطار فحقق شعبية من هذا الباب، وكتب له
منير قصيدة مضى يلقيها في جهارة وعنونها بـ : "السم الذي كان في جسدي
وأحببته.."، وتلقفته القنوات الإخبارية على مثال CNNونحوها حين عرضت لظاهرته الملفتة،
وكان يتحدث عن حقيقة أن بعض الكنائس الأمريكية تحتوي المدمنين وتأويهم دون أن تنجح
في إصلاحهم أخلاقياً بما أثار حوله "غبار من القيل والقال"، وحتى لقد
وصفه واحد من المتعصبين الكاثوليك هناك "بالأسود الذي أساء إلى ديانة
الأغلبية.."، وسرعان ما برز الشاب كناشط حقوقي في المجتمع الأمريكي، وأعقب كل
أولئك بزواجه بصديقته سوزي بعد أن أقر علاقته القديمة بها في كنيسة القديس ليو
وأحاطها (أي العلاقة) بثوب رسمي مقدس، حتى إذا عاد إلى مقامه ذات يوم حدق إلى هذا
الكلاشنكوف المعلق على جدارية الحائط يقول :
- "لدي شيء في صدري : لقد نجحت
حقوقياً من بوابة غير التي أردتها (يريد بوابة سرده لرحلته العلاجية)..".
وأجابه منير وهو يمسك بالسلاح ويوجهه
نحوه يقول :
- "المهم أنك نجحت أخيراً..".
وجلس على كرسي وهو يتلقف من صاحبه
السلاح السوفيتي التصنيع يقول :
- "وددت لو ملكت هبة الحديث
الفصيح، إنني استحضر أرواح الخطيب الروماني شيشرون، والعبد الداعي إلى تحرير
العبيد : فريدريك دوغلاس، والخطيبة آنا إليزابيث ديكنسون، وأعظم الساسة في اليونان
القديمة بريكليس، إنني استحضر أرواح هؤلاء البلغاء جميعاً قبيل أن يجتمع حولي رواد
محطة القطار، وأرجو أن يكون في نفسي بعض منهم، أو أن يكون في بعضهم شيء مني، لا
تضحك مني رجاءً، إذ أن بيني وبينهم من فوارق التأثير ما هو جدير بأن يحملك على
التندر أو الابتسام فعلاً، إن مرد ذلك ليس إلى أنني مِكسال ضعيف الهمة ولكن مرده
إلى أن الرب لم يؤشر إليَّ بإصبعه بعد، آه ! هذه بسمة منك الآن تلمحتها، إنها
ابتسامة جميلة غير أنها مهينة، إنها جميلة مهينة،.. أود أن أرى من رواد محطة
القطار أمارات الإعجاب لا العطف، إنهم يشفقون على تجربتي، وصرت اليوم فزعاً من أن
ينفضوا عني حين تفتر قصتي كمقلع عن العقار..".
ونظر إليه منير ملياً يقول :
- "فلتحبث عن العدالة لا عن
الشهرة، فإن أتت الثانية كنت بها جديراً، وإذا هي أعرضت عنك كنت بما في نفسك
مكتفياً..".
وأعاد مارتن الكلاشنكوف إلى جدارية
الحائط يقول :
- "فلتفكر بالأمر : لن يحقق
العدالة إلا رجال ذوي سمعة وتأثير، لا أحد يذكر البيادق في أهم المعارك، والبارع
في مضمار هو من يظنه البشر كذلك..".
- "حسبك أن تنصر الجهة الصحيحة،
لقد ذكرت لتوك الخطيب الروماني شيشرون، لقد كان خطيب روما الانتهازي، ولست أرى فيه
مسحة من العظمة الجديرة بالاستلهام مما تنسبه إليه، وقد اعتمد الرجل التضخيم
الزائف والأساليب الممسرحة، إنني أؤثر الصدق على شهرة كتلك..".
وقاطعه مارتن في حماسة لأول مرة يصادقه
ويقول :
"لقد ذكر شيشرون بأن كاتلين كانت
ستضرم النار في روما من اثنا عشر جانباً، وتدمر كل الشرفاء، عبر رعاية قطاع
الطرق،.. انظر كيف بالغ الرجل في مزاعمه..".
وعاد الأول يقول :
- "أرأيت؟ إنني أؤثر الصدق،
فلتفكر بالأمر : إن من يشتهر اسمه يضع نفسه في وجه المدفع، ومن يتقدم للعمل العام
يتبرع بعرضه للألسنة العامة، ثم يضطر إلى دفع أبهظ الأكلاف، وأما من يستتر في ظل
الكفاية القانعة يعش في مأمن من تقلبات الدهر، والعامة بلا ذاكرة، وديدنهم هو عاش
الملك، مات الملك،.. لعله لا يخفى عليكَ أن شيشرون نفسه انتهى بأبشع نهاية ممكنة
متصورة : قبض جنود أنتوني عليه وقطعوا رأسه ويده اليمني، ثم عرضوهما في روما أمام
العامة..".
وتطلع مارتن إلى يمناه ثم - حين اطمأن
إليها - حركها إلى رأسه وقد بدا قلقاً ووجلاً بحق، ولاحظ منير ما أضفاه الحديث من
أجواء درامية أضرت بما في نفسه من أمر يبطنه، وأزاغته عن مقصده في زيارة صاحبه،
وقال له :
- "اليوم جئتك لغرض أهم من كل
أولئك، ستقع خطبتي بصديقتي السكندرية (يريد آمال)، وسنشرب كأساً احتفاليةً، أعلم
أنك لم تقلع عن الخمر بعد، رغم أنني سمعت من يزعم أن للأخيرة ضرراً على الصحة هو
فوق المواد المخدرة..".
ولكن مارتن سأله وقد غمض عليه الطقس
الثقافي ذو الأصل التوراتي (أي الخِطبة) وفي وجهه بشر وسرور :
- "وما معنى الخِطبة؟".
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
1994م..
في جليم وبرج العرب..
شارك عماد - نجل فؤاد - في تدريبات
التايكوندو الأخيرة قبل تلك المبارة المهمة في فئته (تحت 14 عام)، وكانت التدريبات
من الحدة حتى فسدت أجزاء من بذلته ذات القماش الخفيف، وكان الفتى يمر بحانوت تربض فيه
امرأة تعمل على ماكينة خياطة، ومكثت تناديه حتى إذا هو استجاب لها سألته :
- هلا تركت بذلتك هنا فأصلْحتها لكَ؟
ونظر إليها في ريبة يقول :
- وبماذا أعود إلى البيت؟
ثم مضى عنها شاكراً وفي عقله هاجس مباراته
المرتقبة، ولكنها لحقت به تقول :
- ستأتي لي بها، غداً..
- ربما.
وفي مضمار آخر، كان فؤاد قد تشارك مع
عاطف تربية الخنازير المستأنسة وابتاع لغرضه مرعى في برج العرب الجديدة (مدينة
العامرية الجديدة سابقاً)، وانسلخت الأشهر في تجارة رابحة رابية، فيما استوحشت
غادة إقدام زوجها على تربية الحيوانات المحرمة، وقالت :
- لقد أضعت جهد السنوات، وغمست في
المأثم أموالنا..
وقال لها :
- إنها تجارة مربحة وهم حيوانات
اجتماعية ذكية، أجل، على مستوى نباهة طفل في الثالثة، مثلما سمعت،.. وخلافاً لما أُلصق
بهم فهم يتغوطون بعيداً من المكان الذي يستريحون فيه.
وقالت تقتبس من الكتاب المقدس :
- فلتسمع قول الرب لا حديث نفسك
الطامعة في بريق الكسب : «والخنزير، لأنه يحتوي على الحافر المشقوق، ولكن لا يجتر،
فهو نجس لكم، يجب عليك أن لا تأكل من لحومهم ولا تلمس جثثهم».
وأظهرها الرجل على حصاد تجارته السخية
في عمر هذا التعاون المشترك القصير مع عاطف، يقول :
- أحتاج إلى المال، المواعظ لن
تطعمنا.
واستنكفت المرأة عن أن تشاركه لذة المغنم، قالت
:
- لو كان لكَ إيمان مثل حبة الخردل لنقلت به
الجبل مثلما نقل سمعان الخراز جبل المقطم في زمن المعز.
- بالتأكيد لست في تقوى أن أقلع عيني
بالمخراز، مثله.
وألفى منها صدوداً كالصخر فعاد يقول
لها في صوت خفيض : "سأستشير أمي إذاً.."، مضى الرجل إذاً على أكف الحرج
إلى هدى التي كانت في طور متقدم من الكبر، وابتاع الرجل لنفسه شيش طاووق لئلا يشق
عليها بغرامه في سمك المرجان وأرز الصيادية مما لا تطيق المرأة تحضيره اليوم،
وسألته :
- أهو (أي الخنزير) من السباع؟!
- أجل.
- كل ذي ناب من السباع هو محرم في
مذاهبنا.
- ولكن..
وقاطعته تقول :
- الحلال والحرام قبل المعاذير.
أمسك عماد - الذي كان في الثالثة عشر
- بطبق من فضة كان من زينة البيت القديمة، وعرضت عليه هدى في سخاء الجدة أن يحتفظ
به لنفسه، ثم همست في أذنه تقول :"لا تفرط فيه أبداً.."، وسألته كأنما
تشفَّع لها المنح بالسؤال :
- ماذا تفعل في دنياك،.. صغيري؟
وأجاب الأب نيابة عن نجله :
- لقد تفوق في لعبة التايكوندو وأحياناً
أشاهد معه مباريات كرة الماء ومبارزة السيف بالنادي.
- وإسحاق؟
- لا يزال صغيراً.
وجعلت تقول :
- إن هذا حسن، إن هذا حسن، من الخير
أن أياً منهما لم يرَ مدينتنا في عصرها الذهبي، ولن يتضرر من لم يعاصر الألق..
وتلقف فؤاد طبق الفضة من نجله، قال :
- أجل، لا تزال مجتماعتنا ترفض
التغيير، وهي وفقاً للنظرية النقدية (intellectual backwaters)، لا يكاد يميزها عن الهند وأفريقيا السوداء في هذا المضمار شيء،
وقد يحدث التغيير المنشود في مجتمعات الخليج - كالكويت التي عشت فيها - قبل مصر،..
الحياة تمضي وطوفان العولمة سيزحف على الجميع بمشيئة منهم أو رفض.
وقالت :
- الطوفان لن يصل إلى من تترس وراء
الحوائط وتحصن عنه.
وقال لها في ثقة :
- لا أحد بمقدوره أن يتحصن عن
الطوفان.
ولم يطل فؤاد لقاءه مع المرأة التي
سرعان ما تلبسها هاتف النوم، اتفق الرجل على لقاء عاطف في محيط المرعى الذي كان
حافلاً بخنخنة الخنازير وقُبَاعها، وكان في عزمه أن يصفي التجارة مع الآخر، ولكن
عاطفاً لم يحضر فمكث فؤاد يتحرك هنا وهناك في محيط المرعى، واقترب من خنزير هناك
فألقمه طبق الفضة الصغير كالمجرب، وسرعان ما ابتلعه الحيوان وجرى في مجرى جهازه
الهضمي، ثم عجز الرجل عن أن يستخلصه من جوفه،.. وهبط الليل دون أن يجيء عاطف حتى
انصرف المنتظر وقد تألبت عليه نفسه وماجت بالمظان، تبين لفؤاد بعد أيام أن صديقه (عاطفاً)
قد مات في عربيته المرسيدس وتفحمت جثته في الطريق الساحلي الدولي،.. أصيب فؤاد إثر
ذاك بخيبة أمل ألزمته الصمت والوحدة، بات مشروعه معلقاً وقد أعاد فيه النظر، وسأله
عماد:
- هلا حضرت مبارتي النهائية اليوم
فتشجعني وتشد أزري؟ الخصم جد قوي وحظوظي هي أقل من المعتاد.
وأعرض عليه الأب لما كان في نفسه
مرارة ضربت عليه الأسى والامتناع، خسر عماد بدوره مباراته النهائية التي افتقد
فيها لحرارة تشجيع الأب، أظلمت في وجه الفتى الأيام فلم يعد له فيها إلا شحيح
الضوء، وتولى عنه الإلهام واحتجزه الكدر، ومضى عائداً حتى سمع من يناديه في عتاب :
- لماذا لم تأتِ بالبذلة الممزقة
فأصلحها لكَ مثلما اتفقنا؟
وأدرك أنها المرأة نفسها التي
استوقفته بالأمس، وهناك أجابها غاضباً :
- لقد خسرت، وما من طاقة لي لأحدثك
اليوم، معذرة.
وكاد يتولى عنها لولا أن سمعها تقول :
- لقد خسرت لأنك لعبت ببذلة ممزقة.
وعاد إليها يقول كأنما دفعه حديثها
الذي نزهه من مسؤولية الخسارة إلى أن يناقض قناعته الأولى بالتزام الصمت وإن لم
يتجرد تماماً من شعوره بالنقمة :
- بل لأن أبي لم يحضر،.. كان عقله في
حظيرة الخنازير.
وأجلسته المرأة وقد وهبته هنداماً
يلبسه ريثما تصلح ما قد فسد من بذلته، وطفقت تدخل الخيط في ثقب (عين) الإبرة بعد
أن بلته (الخيط) بطرف لسانها حتى طوعته لغرضها، ومكثت تنسج الخيوط في براعة، وقالت
حين أتمت الحياكة مبتسمة تريه صنيع يديها :
- ستنتصر في مباراتك القادمة.
وسألها عن عمرها فأجابت وقد خضبت
الفتاةُ كفَّيْها بالخضاب كأنها تتجمل :
- أتممتُ لتوي العشرين، واسمي أنهار.
- معذرة، تبدين أكبر من هذا بكثير (ثم
كأنه لا يزال لم يستسغ الاسم الغريب)،.. أنهار.
وأحبطها جوابه فكفت عما كانت فيه،
تقول :
- المرارة تزيد العمر، وقد ذقت منها
ما لا يُتصور.
ومرر ناظريه في محيط الحانوت العامر
بالأقمشة والأزرار والصناديق، وتساءل بعد أن استقر رأسه الجوال عندها :
- وما السر وراء كل هذا الشقاء؟
ولم يكد الفتى يتم سؤاله حتى حضر الأخ
جابر فنظر إليه في شزر ثم توجه بغضبه إلى أخته يسألها :
- بحق الجحيم،.. من الذي سمح لكِ بأن تُلبسي
الغريب ثيابي؟!
واضطربت الفتاة اضطراباً عظيماً، لم
يشفق الأخ الغاضب على حالها وإنما ألحق استنكاره بصفعة قوية، ومكث عماد في ذهول
مما يجري حوله، حتى غادر نطاق الحانوت دون أن يبدل ثيابه - ثياب جابر بالأحرى - أو
أن يستعيد بذلته الرياضية، وسمع جابر يهتف بأخته في جفاء وقسوة :
- لقد بلغتِ اليوم الهوة وترديت في
قرارها ! ماذا بينكِ وبين المراهق؟