روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/22

هي أمثولة وعظة

                                     الفصل الثامن عشر:  هي أمثولة وعظة






في غبريال..

بات مهران كثير التردد إلى بيت أنهار يعرض عليها مظلوميته ويحبب إليها مطاوعته في فضح صاحبها، إنه يردد كثيراً وفي حس درامي صادق :"أين أجد الثواء بعد إذ طردت من فيلا الحي اللاتيني وفيها قضيت عمري كله خادماً صغيراً فكبير خدم؟ سأظل ما بقى لي من عمر أتردد من محط إلى محط غريباً بين غرباء أقاسي برحاء الكرب ومشقة الانعزال، الأيام تنسخ الأيام، والعمر يتفصَّى ويتقضَّى..".، ثم يأخذ ينهنه في بكاء يصعب تصوره من عجوز موقر، كان قبل اليوم رزيناً ركيناً، وقد شق عليه أن يقضي عمره في طريق يتلمس فيه حسن الأحدوثة قبل أن يقلب له الدهر ظهر المجن في رمية، لقد أطاح كل أولئكم رشده وصوابه،.. وإذا خلا له الوقت بين الأمرين، بين الشكوى وبين السؤال، فإنه يأخذ يأكل بورمة الفستق، والأوز في النبيذ، والحساء الحار، وغير هؤلاء من عجائب المطبخ الغجري،.. وإذ كانت أنهار على ولاء لعماد لم يبدده جفاء الآخر كلية وتناسيه لشاركتهما القديمة فقد ماطلت واستأخرت في طلب مهران الذي عرفت عنه بمرور الوقت أن الطعام ملهاته، وأن مذوقات أغذية الغجر مما ينسيه مصيبته ويسلمه إلى النعاس يخونه معه هاتف الكرى، إنها تدغدغ مشاعره بعد إفاقته بجوز البلوط والشاهبلوط.. وجاءت المرأة بقرد من سوق الجمعة كيما يؤنس وحشة روز واسمته بميمون، بيد أن القردة ما لبثت تفتر عن أنيابها وتبدي له نواجزها، وكان من ضحايا شجار القردين أن أصيب مهران في قدمه بعد إذ انزلق على بساط الأرض، رأت أنهار - التي أعادت ميمون بعد إخفاقها في توليفه إلى روز -  بعد كل ما تحدث به مهران في دارها وكل ما وقع له فيه أن واجبها يتلخص في أن تعيده إلى فيلا سيده من سبيل لا يضر بصاحبها عماد، وارتضى الرجل المصاب بعد كره أن يمتطي الحمار الذي كان يأنفه قبل اليوم في مسيره،.. ركب مهران الحمار إذاً رفقة أنهار وروز إلى مرعى برج العرب وكان في عزمهما أن يحدثا فؤاد في شأن نجله، وحاذى حمار مهران خنازير المرعى التي تكفلت روز بمشاغبتهم، واستقبلتهم البَهْم التي استحدثت فيه بالثغاء والرغاء والضوضاء، قبل أن يلوح فؤاد فيحدثهما حديثاً يسيء به استقبالهما :

- ماذا جاء بك أيتها الغجرية؟ والحمار ! لقد دلفتم إلى المرعى بالحمار، ودون إذن، أما أتاكم من مأثور الأمثال وغريبها أيضاً ومن المنظوم بالصيغة العامية الملحونة : أن البهيمة الغريبة من شأنها أن تكركب الزريبة؟! لقد أعدت الحياة إلى حظيرتي بعد سرقة تكبدت أكلافها مرارة، وعدت في قوة بعد تخلف إلى سوق اللحوم كالمثل الخليجي الذي سمعته يوماً في الكويت ولم أنسه : الخيل الأصيل يسبق تالي، إذ ألحقت بالخنازير أنعاماً ودواباً شتى عسى أن يبارك الإله سعيّ، ولست أريد من حفنة صعاليك أن تطأ اليوم مرعاي فتفسد ما  قد مضيت في التماسه وما قد خطوت في طلبه، (وتوجه إلى مهران الذي توسم فيه الوقار والرسمية دون صاحبيه يسأله).. وأين عماد؟

وكاد مهران يقول شيئاً وهو يترجل عن حماره فتسنده المرأة الغجرية، لولا أن فؤاد أضاف يقول :

- إن قلبي يتحرق إليه شوقاً وقد غبرت عليه الأيام دون رسالة منه أو رسول، لا تعودا إلا به..

انتهت الزيارة إذاً وقد ساء أنهار ومهران أن الأب الغاضب لم يتح لهما فرصة حديث، كانت عودة بخفي حنين وصفاً مخففاً لما شعراه به يومئذٍ، وقد اكتوت أنهار بلسانه القادح الفادح، وأحست الإهانة التي لا يعدل بها إلا مطاوعة مهران في فضحه صاحبها بعد إذ عدمت سبل التسوية، وقالت :

- سأكشف للصحن سره، ولكن عدني بألا تضر به متى صار لك التمكين..

وقال مهران وهو يعود يمتطي الحمار الذي بدا عليلاً حتى كان الرجل يرتاب أحياناً في إصابته بالعشى الليلي :

- إنني ضمين بسلامته..

كان عماد آنئذٍ يقضي مع سيده الصحن في ساعة ميمونة، وكان الفتى أخا لهو ولعب، مستأنساً باللواعب العوابث، والتوافه السفاسف، واهب محدثه زخرف القول وزبرجه، ثم هو يرى في الفيلا المترفة المعقد والمستمسك والملاذ المنعم، وقال أيضاً فيما أقبل الساقي بخمر وعسل :

- إنني هنا موفور المنة، ولا ملل لدي من الشراب أحتسيه في حبك، سيدي، أقسم باليمين العظمة وبالعروة الوثقى أن سعادتي في جوارك بلا نظير،.. (وشرب شيئاً من كأس فضية ثم أردف يقول وفي فمه بعض أثر ما قد شرب..) وبعض الخلائق يفاخرون بأكفهم الجعدة الخشنة وأظافرهم المتقضبة المتيبسة من جراء ما يرثونه في أبدانهم من شقاء أعمالهم، إنهم يفاخرون بضريبة العمل ولعنته، إن الشيطان لحاذق لعين إذ هو أقنع الورى بحتمية الأشغال وقيمة ما وراءها من أَنْكاد،.. هل تصدق هذا سيدي؟

واعتدل الصحن في جلسته فازهدى جلالاً ونعمة، وقال في غير السياق الأول :

- لقد رأيتك في المنام، أيها المنجم، ولا أريد أن أفصح لكَ عما رأيت..

وقال الآخر في حماسة :

- حدثني، بما رأيت، سيدي..

- لقد مسختك الغجرية إلى حمار يمتطيه مهران..

وسمع الجالس ضحكات الخدم وانطوى عماد على غضب وقد ساءه أن يقابل تملقه بمثل هذا الإزارء فترك "سيده" إلى الشرفة أصلاً ورأساً، وحدث نفسه هناك :"ماذا حول الصحن وبدله؟ هل فقد ثقته في تنجيمات الورق بعد هاتيك الصفقة الأخيرة التي خسر فيها بمشورة مني أم عساه الندم ساوره على مطاوعته لي في نزع التنفس عن نجله؟ أم هذا وذاك؟"، وفكر في صديقيه روز وأنهار اللتين خلفوا وراءهم النعيم ظهرياً، وقد تجنبا مصيره من السخرية والازدراء، ولكنه عاد راضياً حين تذكر تلكم الأثمان الباخسة والحياة الواطئة التي انتهيا إليها،.. كان رضوان يزلف وأنهار إلى الفيلا المترفة على ضوء الليل الآسر، لقد توقف رضوان أمام الفيلا التي شكاها مظلمته صامتاً وقد بدا بسبب من المنظور ومن زاوية ما كأنه في حجمها، لقد تشكل في ذاته شيء لا تسعه مفردة أو محددة، وما كل شعور بصالح أن تلبسه اللغة لباساً من معجمها، لقد رأى في بناء الفيلا عدالته السليبة، ومن شهد العدالة كمن بصر الحقيقة،.. وإذ تشكل في باطنه هذا الشعور فقد سمع لحديث أنهار وروز كالجنين يسمع أصوات من حوله، وإذ طَمَحَ ممتطي الحمار ببَصَرُهُ إِلَى الفيلا لفترة طالت فقد انتابه بعد النظر والتدقيق سعال شديد وحمى، وشخصت أنهار علته بالرُّعَامِ (السقاوة) الذي أصاب الحمار عبر المياه الملوثة وانتقل إليه، وارتبك مسيرهم الساعي إلى الفيلا فبدوا كأنهم لا يراوحون أماكنهم، ولبثوا في اضطرابهم بلا حراك، والتقط عماد مسيرهم المتعثر من شرفته ففزع وحدس بما اتفقا عليه ونأى به الخوف عن الاستغراق وأخرجه من شطحات الخيال المفعم، وهبط يفتح لأنهار الباب ويقول :

- هل جئتِ لتكشفي سري، أما أتفق لكِ عزم إلا على أن تخرجيني من النعيم؟!

ورأى مهران يتلوى من الألم فسألته أنهار الإتيان له بطبيب، وأبدى الامتثال أولاً ثم لم هو يفعل شيء،.. وكيف له أن يسعف فاضحه؟ ولم تجد المرأة بداً لما تأخر - أو بالأحرى تخاذل - صاحبها عن الوفاء من أن تستخدم طب الأعشاب الذي كانت به عليمة في إسعاف الرجل الذي انهار من وفرة المنة والصحة إلى شيء لصيق بالنهاية،.. قضى مهران نحبه ذلكم اليوم في حديقة الفيلا رغم محاولات أنهار وبكاء الخدم، وأقنع عماد صديقته بأن تعدل عن خطتها : أن ترافقه في معاش الفيلا المنعم دون أن تفضح سره، وقد مهدت الغجرية لنفسها في شراكته بكتمان ما حضرت لأجله وقد توخت الإلطاف به مودعة حياة الشحة والمناخل والغرابيل.

 

في السيالة..

كان نبيل قد هرع إلى حانة السيالة التي أُخبر بوقوع الشجار فيها كأنما أقبل ليخوض معمعة، وما أن دنا وصاحبته سعاد من هذا البلاط الإيطالي الممرد حتى ألفى مردة جبارية كالأغوال يتصارعون ولا يخنعون، كان من بينهم رجل عظيم الجسم كأنه هضبة، ودقق نبيل في هيئته فلم تقع عيناه على أبشع منها ولا أشد دَمامَةً، وكان يهم أن يقصم ظهر خصيمه الذي جعل يتخبط في دمه، وكان بين المتشاحنين رجال من أهل السيالة كثر يحاولون الحيلولة وفك الاشتباك فتنادوا واحتشدوا، حتى إذا نظر لهم هذا العظيم ذو الجبلة الهائلة فزعوا كأنهم رأوا أنفسهم في عينيه فرائس سائغة، كان في الشجار هُوْلة الصبية وازورار الأطفال واستياء الشيوخ وصيحات النساء،.. وقد ابتسم بعض من الحضور - خصوصاً من الأطفال والصبية - وتضاحكوا لدى رؤيتهم لمن يقع ومن يتدحرج على البلاط الأملس غير دحرجة وكانت هذه ابنة غريزة واطئة - لعلها - لا تخلو منها نفس تسعد برؤية الضرر الطريف وهو ينزل بغيرها،.. وبدا الواقف في نظر صاحبته ساهياً سادراً على غير ما تقتضيه طبيعة الموقف المتسارعة، ووعدها بأن يتقدم متى سنحت له سانحة، وإذ بدا كأنما يستروح من جهد في وقفته فقد كان على الحق يحاول أن يشخص عصباً حساساً ينهي دوارن العنف، كان مما آلم سعاد أن ترى لوحة أمها والهامور وقد كُسرت كسراً لا إصلاح له، ولم يقع بصرها الجوال على أبيها الذي سمعت من حضور الواقعة أنه اختبأ في حجرة البراميل وأغلق عليه الباب بعد إذ بعث إليها بأخيها جوهر، وقد أقسم - أي أبيها الجمبلاتي - للمتشاجرين قبلئذٍ غير مرة بأغلظ الأيمان أن بمقدوره أن يعوضهم عن خسائر رهاناتهم متى كفوا عن العنف والتخريب دون جدوى، وبدا نبيل كأنما حسم أمره أخيراً وقد امتشق سيف المبادرة، ورأى مصيره في لوح القضاء متأرجحاً، ولكن نفسه فوارة كأنها بركان فيزوف وإنه اللحظة غير هياب، وعاد يهمس في نفسه :"الاعتدال، الاعتدال، وإلا قُضي عليك.."، وفت اليأس في عضده حين أعاد البصر إلى العملاق وهو يرمي بخصمه إلى خارج الحانة - كالمرء يلقي بقشة هينة - حتى تكاد تحف رأس الملقى المتضررة بقدميه، لقد فزع من حوله حين أحسوا أن ضرراً يرقبونه هو قريب منهم فابتعدوا تاركين محيط العراك، ولم يقف نبيل لإنسي حوله على أثر، لقد وعى أن صراع الند بالند ليس مما يقدر عليه خصوصاً بعد هزال بدنه إذ كانت ساق العملاق أو ذراعه مضاهية لبدنه كاملاً، واقتبس من أذخار نفسه في لحظة الإعتام المطبق حيلة ماكرة، وتذكر الشحاذة التي ساقته إلى عجوز وصبي يوم قذفت في وجهه بالتراب وفرت راكضة فاستلهم من صنيعها أمراً، ورأته سعاد يتقدم إلى "هلاكه" في مباشرية ونبهت حركته منها غافلاً، حتى إذا دنا من العملاق قذف في عينيه التراب فاشتط وفقد صوابه، وتكالب على العملاق خصومه ضرباً وصفعاً والآخر لا يزال يرمي الركلات والضربات في ضلاله وتشوشه، وطردته أيدي الرجال الجمة عن الحانة بعد إذ أوقعت به فصفقت كفوف الأطفال متشاغبين، وزغردت النساء طروبات، وهلل الشيوخ راضين، وجرته أيدي الصبية إلى بعيد قبل أن تتركه وفيه بعض من آثار شغبهم،.. هناك خرج الجمبلاتي من مخبئه وقد غلبته حسرات نفسه وجعل يندب وسط التصفيقات والزغاريد :

- لقد حطم المخابيل حانتي، إنني اليوم كاليتيم، بل إنني اليتيم..

وحتى إذا ذهبت السكرة أبعد الجمبلاتي بينه وبين الخلائق ولزم العزلة كدراً، ولم يستثنِ من هذا ابنته سعاد التيراحت تتنزه رفقة صاحبها وفي يدها حطام لوحة الهامور تقول :

- لقد تحطمت (أي اللوحة) بغير رجعة، تماماً كالحانة، وأبي اليوم في حزن عظيم..

وكان أصحاب المحلات الصغيرة بالسيالة يتركون إذاعة القرآن الكريم بعد إذ أغلقوا حوانيتهم، وعليه سمع المتنزهان في هذا الزقاق الجانبي صوت الشيخ محمد رفعت في ظلام وهدوء الشتاء، واحتوت دكاكين مغلقة على ذكر مقدس كأنها لحظة الأسحار في غمرة الأحزان، وصمت نبيل عن جواب الأولى، حتى إذ انتهى صوت الآية بحركة السائرين المبتعدين من مصدرها : وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون، أردف يقول :

- لقد حدثتني غير مرة عن رغبتك في الانتهاء عن العمل بالحانة، وقد بعث إليك القدر بصدمة لإعادة ترتيب الأمور..

لقد ذكر لها الشاب آنئذٍ وقائع قصة العجوز والصبي التي تبدلت بسببها مسارات حياته وتحورت في أعقابها خصال نفسه، وقالت في أمرها :

- ما هي بالأقصوصة، بل هي أمثولة وعظة..

 بعد أسبوعين من ذلكم اليوم دلف إلى حانة السيالة رجل ذو مثابة، واستقبله الجمبلاتي في يأسه وجعل يصده ويقول :

- فلترجع، لقد انتهت الحانة، ما بتنا نستقبل زواراً..

وإذ كان الرجل المهم على شيء من العناد فقد راح الجمبلاتي يحلف ويؤكد في الحلف أن الحانة ما عادت صالحة لاستقبال أحد، وكاد الآخر يدلف في تصميم بعد إذ هتف :"خُربت الحانة ولم تخرب براميل الخمر فيها، أروم خمراً معتقةً من أحسن ما تعصرون.."، ولج في حديثه فدفعه الجمبلاتي عن حانته وسبه، وفي غداة اليوم عرفت سعاد أن أبيها قد لفقت إليه قضية جزاء "تطاوله غير المسموح به على الرجل ذي المثابة في دولاب الحكومة" وحبس في إثر ذاك،.. لقد حلت في نفس سعاد جفوة عميقة غائرة كأنها المنبوذة من تلطفات المقادير، لقد خسرت الفتاة حانتها ومورد رزقها فأباها، وجعلت تفكر في أنها في عالم الأخطاء الكثيرة بوصف أفلاطون، وأن الصدمات ذكرتها بانفصاليتها عن عالم المثل المتعالي المحتجب،.. حتى إذا جاءها نبيل وجدها وقد أخرجت براميل الخمر من مخبئها إلى استقبال الحانة، كان شعرها قد عاد ينبت وقد صبغته باللون الكهرماني، وقالت وهي لا تكاد تستطيع الإفلات من شعورها بالكدر:

- آن لنا أن نرمي بها (أي براميل الخمر)، إنها أرجاس جلبت الخراب..

- وأين نتخلص منها؟!

- في البحر، سنلقي بما في جوفها هناك..

حمل نبيل البراميل الثقال تباعاً إلى عين النطاق الذي شهد فيه غرق العجوز والصبي تجاوباً مع رغبة صاحبته، لقد ألقى بخمرها في البحر المالح فذاب المسكر في حقيقته اللامتناهية، وبصر نبيل بهذا البرميل الطافي على أديم الماء فتأمله متذكراً زورق الغارقين، وقالت له الفتاة :

- فلنحتفظ بها (أي البراميل)، إني أعدها لغرض..

ومُلأت البراميل بالأسماك المملحة واستحالت الحانة إلى مطعم للأسماك، صفت الموائد في "الحانة" ورتبت الكراسي، وجُعلت عساليج الصفصاف تزين النواحي، وبثت سعاد نفثات السحر المبارك بيدين مخلصتين بعد إذ نظمت الآكال والمشروبات وألقت بالعطر عن شمائل وأيامين، وجعلت مجاله مساحة لموسيقى المدرسة الرحبانية، وانتظرت يوم خروج أبيها من سجنه المجحف، واستقبلت صاحبها في حفاوة في يوم وافق شم النسيم حيث راج الطلب على "أسماك البراميل" ولكن الآخر باغتها يقول كأنما لا يرى من عمار المشهد إلا أرضاً بَلْقَع :

- إن صحة نور تتدهور..



 رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


**

2001م..

انتقل يوسف بمعاشه رفقة صفوت وحورية إلى شارع فؤاد أقدم شوارع المدينة، إنه الطريق الكانوبي الذي تأسست عليه الإسكندرية منذ عهد الأسكندر الأكبر، وقد ألصق يوسف به اسمه التاريخي مع تبدل الأسماء والأحوال قسراً : الطريق الكانوبي، وإذ هو عمد إلى نقل المهم من أثاث الدار إلى سكناه الجديد دون كثير انتقاء فقد حرص على فرز ما بخزانة الأكواب المرمرية الملأى والغاصة بالمجلات، وقد حرق المجلات الفرنسية القديمة - تاركاً الأغلفة التي تظهر عليها زوجه - في طست نحاسي، وكأنه يرى في مثل تلكم الذكريات الوالية قداسة من نوع ما لا يناسبها التخلص بالرمي، لقد جمع الرماد أيضاً في زجاجة ألقى بها في البحر المتوسط، وجعل يتفكر في حقيقة أنه كان يجب أن ينقل تلسكوبه من داره القديم،.. وجاءه الغراب الذي تخير نافذته مهبطاً لأقدامه الرفيعات فعبس وبسر كأنما مسته الضراء، وكان قد ألف زواره من اليمام في مقامه الذي ارتحل منه، ولعله تذكر من يهمس في سره بقول شاعر :

وصاح غراب فوق أعواد بانة.. بأخبار أحبابي فهيمني الفكر..

وهشه بعصا بعد إذ رأى فيه أصالة الحزن والأَنْكاد دون أن يترك لنفسه فرصة الاستغراق، وطرق بابه فخال أن الطارق حورية وألاح الخاطر في نفسه بمشعل بهجة، وألفى الطارق سميحة تستنجده وتقول :

- خبئني عندك وإلا ورطني عطوة فيما لا خروج منه أبداً.

وصدها بيده كأنما غمد في صدرها حسام كبر يقول :

- ومن ذا يكون عطوة؟!

- لقد استرد ذاكرته بعد غيبوبة دامت عاماً، لقد قذفت به في البئر يوماً، إنني أبوء بجرمي الذي لا أستحق عقابه، واليوم، إن الناجي يروم مقاضاتي ومسائلتي، لم يعد الناجي حقاً، لقد ألقى بسلة الجوز يرد بها على متجاوزيه حين استرد ذاكرته، اليوم بات يرد الصاع صاعين ذلك أن ذاكرة الشرير لعنته.

شغله ما تحدثت به فأدخلها وخبأها في خزانة حورية، ورأت على جدران حجرته جديداً من روح الحديث المستبشر الذي كان لها أن تسعد به في سياق آخر :  "قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً"،.. وسألها كأنه يسأل الخزانة التي هي فيها :

- ومن ذا الذي دلك إلى مقامي الجديد؟

وأجابته وهي تتحرك بين ثياب الخروج لحورية ومَبَاذِلُ البَيْتِ خاصتها :

- صفوت، لم تنقطع بيني وبينه أواصر الصلات.. 

- أمطاردوك قريبون؟

 - قطعت سبلاً جمة جوالة جوابة، أطوف وألوب، تفرقت بيننا السبل في محطة مصر، ولكن المارة عيون..

وصمتا صمتاً طويلاً قياساً إلى إيقاع حديثهما السابق المتعاقب، سألته :

- ولماذا أذنت لي بالدخول،.. اليوم؟!

ونظر على المخطوط حوله من كتابات الحائط يقول :

- بت أقبل بتعرجات بوصة الخط، أدركت أن الأخطاء جزء من التجربة، وربما تُطمس هوياتنا في عالم مثالي..

وكادت تقول شيئاً عن أنها شعرت بأن لديها لا يزال رصيد عنده تستطيع أن تمتح منه وتستقي ولكن داخلها حياء أسكتها، وفتحت الخزانة نصف فتحة تطلع إلى تلكم التعرجات والأخطاء في كتابة الحائط حتى دق الباب في صرامة منذرة ففزعت تقول وهي تعود تغلق ما فتحته :

- لقد حضروا.. 

وفتح يوسف الباب للطارقين كان ضابطاً ومن وراءه نفر يشبهونه وسأله عن سميحة، قال يوسف مختلقاً قصة وقد شعر بأن إنكاره الاتصال بها جملة قد يجر عليه شكوك مداراتها :

- أجل، سيدي الضابط، جاءتني منذ أيام هنا في الطريق الكانوبي وقرب بيتي المتاخم لأقدم مباني المدينة الذي بناه الإيطالي «فيليبو بيني» يوماً، ولست أخفي عنك الحقيقة، وقد كان يطفح منها نور شعشعاني، وجه كالمرايا من النور، لقد جلست وأنا أتدرع الصبر والأناة استمع ليومياتها الصعبة على ظهر حصانها، وإن له اسماً لطيفاً هو سندريلا وإنها امرأة معيلة لزوجها الذي كان يقاسي العطالة والبطالة، أجل، لقد أذوتها الحاجة وألحقت بها الوهن، ولا شيء يستدر التعاطف فوق امرأة واهنة،.. لقد تيب عليها وحسن حالها، وأخذت عليها عهداً بنبذ الشغب وميثاقاً آمل ألا تنكث به..

وقاطعه الضابط يقول :

- أي شغب؟ إنه جرم فظيع لا يستر فداحته ظلام الليل الذي وقع فيه،.. إن صاحبتك المسكينة متورطة في إلقاء رجل في بئر، وقد أنقذته المعجزة لتكشف وزرها غير المغفور،.. وأين هي الساعة؟!

هناك ضرب يوسف على رأسه بقضبة يده يقول :

- أخ ! الأبليسة قاتلتها جميع الآلهة وأذاقتها جزاء المكر والاحتيال، خدعتني بما أبدته لي من بوادر التوبة والإنابة، وأخفت عني وجهتها التالية لما كانت منطوية على خوف المريب..

ورأى الضابط صفوت خارجاً من حجرته يتثائب، وتلمح فيه شبوبية فسأله عن سميحة، ولم يترك يوسف له فرصة الجواب فقال :

- إنه ريفي جاهل، سيدي، تبنيته في داري وأخته وألبستهما فيها ثوب النعمة بعد الخَصاصة، إن معرفته كمعرفة القابعين في الكهف أمام النار يرون ظلال أشخاص يمرون من خلفهم على الجداران، وقد اعتاد على أن يمسك بمذراة القمح لا بناصية الشهادة، وما كان لك أن تتخذ منه مصدراً ولا شاهداً..

واعتكر وجه الضابط الذي أوحى ليوسف بالتزام الصمت حالما يجيب الآخر، وقال صفوت وهو ينظر إلى يوسف بعين الريبة والتساؤل كأنما لم يقع على ما بنفسه فارتأى التعبير بالصدق كأسلم القضبان يسير عليها لسانه :

- تواصلت معها غير مرة، إن بها من الحوج ما ساقني إلى أن أوسعها مبرة وإحساناً من خزانة سيدي يوسف..

وعاد يوسف يصيح ويقول :

- أرأيت سيدي الضابط؟ إنها جديرة بالعطف حتى أن ريفياً جاهلاً أوسعها مبرة، ولو لم نكن رجالاً ذوي شوارب لحق أن نبكي طويلاً على حالها، أن نعبس ونتعس،.. لقد سرقني الريفي الذي آويته وإني مسامحه في سبيل إشباع ما بنفسي من الإشفاق عليها، وأولى بكم أن تحققوا معه وقد شهد على نفسه بالاختلاس..

واقتحم الضابط الشقة أمام ثرثرة الآخر فجعل يوسف يناديه يقول :

- مهلاً، مهلاً، سيدي،.. ولا تقطعوا شجرة كي تقطفوا ثمرة !

وفي موقع آخر، على جسر ستانلي، كانت حورية تلتقي بمنتصر الذي ارتأى في الجسر الجديد شيئاً من تصاميم القصور الملكية وقد راق له، وقال الآخير وهو ينظر إلى ما في يد الأخرى من المناديل الثلاثة التي جمعتها من أعراس المدينة :

- لا أفهم لمَ تصدني أمي (أي بدور) عن التواصل معكم (يريد أهل المدينة)، وأنتِ على الخصوص،.. لقد باتت تلقني شيئاً رأيته يدينها قبل أن يدين غيرها عن أن حب الرجل هو خيري صادق، أما حب المرأة ففرداني إذ هي تحب شعورها بالحب، وحري بي أن ألزم الحذر - بناءً على ما تقدم من حديثها  ولمَّا كنت حديث التجربة بأعوام لم تزد عن خمسة عشر، لقد وصفتني بالغلام الغَرِير، وتقول أيضاً بأنني لن ألقي عصا التسيار حقاً إلا في ريف أبي تيج، وقد منعت عني رسالتك الأخيرة فأحرقتها على نيران فرن الخبيز مثلما روى لي الصبية الذين أكلوا منها الكعك..

وسألته حورية وهي تطلع إلى إضاءة الجسر الساحرة بحس خافت يعتريه يأس طفيف وقد فكرت في أن تعيد على أسماعه مضمون ما كتبت في "الخطاب المحترق" قبل أن ترتد عما بنفسها  من عزم فتقول :

- وكيف حضرت إذاً؟!

ولم يكن سؤالها ملحاً، فالمهم أنه حضر وأن الأم لا تريد له حضوراً، وسارا بضع خطى حى كف منتصر عن حركته ونظر لها يقول :

- اختلق بكر حيلة الحوج إلى عطور ومواد خاصة من المدينة بناءً على اتفاق لي معه، وأقنعت خالتي فردوس أمي بضرورة الامتثال للأمر، وودعتني وهي ترجو لي التوفيق والتبصير وفي نفسها مرارة قرأتها في عينيها، وحتى إذا عدت أنظر إليها بعد مسير بضع خطى فقد أشاحت عني وجهي كأنني احتقب الإثم وأوغل إلى المعصية..

كان اليوم في الإسكندرية سَجْسَج لا حرَّ فيه ولا بَرْد وقد نظر منتصر إلى ذلكم البحر الذي يمضي فوقه يقول :

- لقد شجعني خالي بكر على زيارتكم وقال قولاً لا أزال أسمعه في رأسي سمعاً ذي جرس : "كيف تعرف عن الريف إذا كنت لا تعرف غير الريف؟"، ولكنه أنكر عليَّ ذوق بذلتي وأهداني واحدة جديدة قديمة كان يغني بها عهد عمله في كازينو الشاطبي، وقد وصم الكمونية بوصف آلمني : "إن الصيحات تجاوزتها حتى صارت تسيء إلى رافلها..".

وبصرا بصبي لاهٍ ينسل بتكوينه الهزيل من سور الجسر ويقفز إلى البحر فأخذتهما بهجة وجعلا يركضان على الجسر بين عرباته السائرة وأعمدة إنارته ذات المصابحين كأنها دَوْح للواحدة منها ثمرتين تدفعهما ميعة الصبا حتى عبرا بتكوينين عمرانيين أشبه إلى أبراج الرماة في العصور الغابرة، وساور الوجهان شعاعة من نور فانسلك في خاطرهما ضياء بديع الحواشي لعله خلاصة تضارب الأعمدة المنيرة مع إشعاعات الشمس وضياء سرور الحرية الذي تولد منذ بصرا بالصبي الذي ألقى بنفسه إلى البحر من الجسر كالطائر يلتمس سمكة من نهر ضحل - أقول انسلك في خاطرهما هذا الضياء وتجوهرا بجوهره المسعد،.. في هاته الأثناء اقتحم الأمن حجرة يوسف وسرعان ما ألفى نفر الضباط فتاة في ثوب فلاحي بين لوحات يوسف الخطية الكتابية، وابتسمت للدخول في سذاجة ذات مغزى تقول :

-  مرحباً، إنني حورية..

وكانت سميحة التي تمثلت دور الفتاة الريفية حورية بعد إذ بدلت ثيابها بهندام الفتاة ريفية من الخزانة التي كانت فيها تختبئ، وبدا أنها أحسنت التنكر فنطقت بضع عبارات أظهرت فيها اللهجة الريفية، وهي تسقي أًصيص زرع فتقول :

- إنه حديقتي الغناء الجنائنية،.. إن نبته كالذي عهدته في دوارنا،.. غير أنه أصغر..

تدانى يوسف منها وأدار الكاسيت على أغنية قديمة لمحمد منير هي ذات طابع ريفي يناسب الصورة المصطنعة التي يجتهد في رسمها لصاحبته : "صلصلة جرس المعيز، يصهل الخيل للدريس، تضرب الأرض الحوافر، يرجع الصبح المسافر.." يقول كأنه يحدث الضباط :

- أرأيتم، سادتي؟! إنها فلاحة بسيطة لا يُقادر قدر سذاجتها إلا ساذج مثلها كأخيها المسكين،.. إلام نتمادى في عمايتنا؟ إلام تلفقون الويلات والدواهي إلى برآء القوم؟ إلى صاحبة الأصيص ذي الزرع الذابل تخاله الحديقة الغناء الجنائنية؟ ألا إن سعيكم ليس إلا هباء في هواء، إنني صادق سيدي الضابط، ولو جعلتني في جوف صخرة لنطقت بالحقيقة وما حدت عنها قيد شبر، ينسحب الأمر على ما بيني وبين نفسي أيضاً وليتني أستطيع أن أكشف لكَ عما يداخلني، إنني صادق في الخلوة والجلوة إذاً، ولعل الصدق بالأصالة هو استواء الحالتين، وكقول الكرماء : لو لم ادع الكذب تأثماً لتركته تكرماً،.. (ثم كأنه يهمس في أذن الضابط..) كان يجب أن تصدق شيخاً بعينين زرقاوين من البداية..

وقاطعه ضابط الأمن يقول :

- مهلاً، مهلاً،.. كل إنسان جاهل على قدره، ولا تفصل على تلك الشاكلة إلا لجاهل، (ثم وهو يحدث مساعديه منصرفاً) سينكشف أمرها على أي حال، هلموا، إلى قضية من اندقّت عُنْقه..

حين حضرت حورية من تنزهها في ستانلي قالت وهي تضع مناديلها الثلاث على طاولة البهو :

- لقد عدت قبل الأوان، نَدَفت السَّماء بالمطر رغم إرهاصات ما كانت تبديه من الاعتدال، وقد سمعت من الشباب من يتصافقون ويتراقعون في بحري فوجدتها فرصة للعودة..

ووجدت المتحدثة نفسها أمام توأمتها، وحل في نفسه عجب هو شبيه بعجب الملك الإيطالي أومبيرتو الأول يوم رأى شبيهه صاحب المطعم في مدينة مونزا، وقالت في ارتباك :

- أعيذ بالله منكِ،.. من تكونين؟! أأنت قرين الأنثى؟

اقترب يوسف من سميحة التي تألمت لحديث الأخرى وقال لها دون أن يفصل :

- لقد أنقذتِ اليوم سميحة التي اقتبست هويتك، ومن حسن التقدير أن لدينا فرصة الاستعارة والتبدل في عالم قاصر،.. الأخطاء، العثرات، والأغلاط تصنع هوياتنا، (ونظر إلى محيطه العامر بمخطوطات الخبر والبوص يقول)، يجب أن أدون هذه، ولكن أين المكان لها؟ سأزيل عبارة عكرمة إذاً، يجب أن أخلي لها موضعاً..

لم تبدل سميحة ملابس حورية وقد ذكر لها يوسف شيئاً عن جدوى صورتها التنكرية في إعانتها على التخفي من عساكر الأمن، وقالت سميحة وهي تأخذ تنصرف عن بيت الرجل تهم بمعاودة الهرب :

- لا بأس، إن الجميع اليوم في حفلة تنكرية، الجميع يلبس القناع الذي يناسبه كالمنومين، وصدق من قال : إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا..

ونادى عليها من شرفة البيت بعد إذ تأمل في مغازٍ حديثها الأخير يقول:

- فلتلوذي ببيتي في الطريق الكانوبي متى شئت، حورية،.. سميحة !

باعت حورية شقتها في غبريال وقد وقع عزت على شقة محافظة في برج العرب كانت من تسهيلات الإسكان التي اقترنت بتولي المحافظ الجديد
المحجوب، فانتقلا إلى المعاش إليها قسراً، وطويا إليه المقاصد رغماً، وابتاع عزت ثمنها الميسر بجزء من ميراث أبيه الجواهرجي،.. وأخفى هوية حصانه سندريلا فزينه وبدل في سبيل ذلك الرسن وحبل القيادة والسَّرْج، وقد عاد قائماً على عمله.