الفصل الرابع عشر : العدلة طائر رخ
في نوبة مصر..
تلكأ منير طويلاً في لقاء هجلى التي
عرف من زوجه آمال أنها خالته - أخت أبيه
ذهب - التي تبحث عنه، وإذ كان الشاب ناقماً على أبيه فقد انتقل سخطه إلى أخته ثم
إلى آله وذويه جملة، وكان يرى نفسه نسيجاً وحده من الاستقامة في شجرة يجتهد في أن
يتملص منها بالتناسي،.. ولكن إرادة زوجه في إحداث اللقاء طغت على رغائبه المرجئة،
وغلبت مماطلته، وزارها الزوجان في بيتها ذي المعمار النوبي القديم فدلفا دون فاتح
إذ كان الباب بلا مقاومة، كان النخل يستخدم فيه كدعامات أفقية للأسقف، وأما سعفه
فسقف للحجرات الهامشية، وجلس في الديوان فجعلت آمال - التي تجتهد في تعلم اللغة
النوبية - تقول كأنما تذكر نفسها في همس مسموع :
- أوقجن اوودا، يعني الديوان..
ونظر إليها منير فيما يشبه السأم وقد
أغضبه أن طالبة اللقاء لم تحضر بعد، وذكر شيئاً عن الخسارة التي تحيق بالضيوف حين
يجلسون بلا مضيف في حجرة كبيرة، فأجابته آمال ببساطة تقول :
- لعلها انشغلت في عمل أو مأرب، هنا
أو هناك، بمقدورنا أن نرحل إذ أن كوباً مملوءاً لن يحتمل المزيد..
غضب منير من تساهلها وكاد يقول
:"هل أتتك الحقيقة التي تقول بأن الوقت إذا انقضى لا يُسترد؟! والأخرى التي
تشير إلى أن إكرام الضيف هو إبراز الحفاوة بمقدمه؟"، لولا أن حضرت هجلى
أخيراً فسلمت عليها آمال سلام الود والصداقة، وسألتها (آمال) :
- سيدتي،.. ألا ترين الخطورة في أن
تذري باب الدار مفتوحاً دون أن تكوني فيه؟
وأجابتها هجلى تقول :
- المجتمع هنا آمن، والبشر مسالمون،..
ممن أخاف؟! إن بيننا عقد وفاق غير مكتوب.
- أصبتِ، سيدتي،.. لقد أحرزت تقدماً
في تعلم النوبية، والفضل لكِ..
وعمها (هجلى) السرور فابتسمت وكان
لأسنانها البيض ألق يزيد من التضاد على وجهها الأسمر :
- إننا آخر جيل يتحدثها، أولادي وأَنْجَال أترابي لا يتحمسون لتعلمها
ما يجعلها عرضة للاندثار، ولهذا فسعادتي بكِ وأنت الغريبة عن هنا هي ضعفين..
واعترض منير حديثهما الأنثوي المجامل
- كاعتراض الجذع لمسار من الماء - بقوله :
- فلتحدثيني عن السبب الذي دعاك إلى
البحث عني وطلب الاجتماع إليَّ..
وتطلعت هجلى إلى الواقف المعترض
تطلعاً أطول حتى كادت تسهو، وقالت :
- إنك تشببهه، تشبه أباك ذهباً..
وقال وقد حاذت قدمه جرة من الفخار ذات
أذنين :
- بل هو أخوك، إنني بلا جذر.
وساءها أن يتنصل من نسبه، فقالت :
- إنه أخي وأباك، ولو كرهت.
وقال في صوت قوي ممشوق، ولغة جسد متدافعة
حتى يكاد يضرب الجرة بقدمه المتحفزة :
- أبي هو من ينفعني ويعينني،.. لقد
ألقى بي "أبي" إلى عتبة المجهول يوم كنت بلا وعي، ومنذاك تعلمت أن أحمل
الألم وإن لم أكن سبباً فيه.
ونظرت له هجلى نظرة أخرى مطيلة فرأته
على حال من التنازع الذي يشتعل على نار الكبر والعناد، قالت في هدوء :
"فلتتبعني إذاً.."، ولحق بمسيرها وزوجه إلى واحدة من تلكم الحجر
الهامشية المسقوفة بالسعف، ووصلت الأقدام
جميعاً إلى منتهى سعيها، نظر منير حوله متفقداً أحوال البهاء والبساطة الملونة ذات
الطراز النوبي القديم : على الطاولة أطباق مستديرة ملونة مألفة من الخوص، وتلك مراوح
أرجوانية وبرتقالية، وصفائح على صورة الأهلة، وغزال محنط، وهذه خادمة تكنس الأرض
بمنكسة يدوية من ليف النخيل، أمسكت هجلى بعلم صغير مربع ذي مقبض قوي كان معلقاً
على الجدران التي كانت غنية بالتصاوير والرسوم، وجعلت تستجلب به نسائم الهواء في
الطقس الخانق الشحيح، ثم رأت في مجالها ذبابة فضربته بها، وعرضت الخالة على آمال
تمراً طيباً فقبلته وجعلت الفتاة تتلمظه وتتذوقه، وأزادت تقول بأن التمر النوبي من
نعته كذا وكذا على نحو أضجر الواقف، فتحت هجلى الخزانة وجعل (منير) يقول وقد حدس
بغرابة أطوار خالته على نحو نأى به عن التصديق في أن وارءها أمراً ذا بال :
- لا ترهقي نفسك فاللاشيء هو ما
ستحصدينه في حالتي، إن بيني وبين أبي فجوة هي غير قابلة للردم، إننا روحان قدر
لهما أن يتناكدان ويتناقضان بطول العمر، لست من أرباب القشور والظواهر، بل إن في
شخصيتي عمقاً يجعلني لا أساير ما لا أقنع به،.. وقد تقولين بأنني أحمل اسمه، وأنه
رباط لا ينفصم عراه كـ"زواج النصارى"، ولكنني أقول : منذ متى واسم الشيء
يعادل الشيء نفسه؟
لم تجبه الخالة قط وإنما وهبته
ابتسامة فاترة كأنما تدعوه إلى أن يكف، وصمت متذمراً فأخرجت الأخرى من خزانة
الحجرة صندوقاً خشبياً قديماً ذا قفل صدئ ونادت على الخادمة :
- آتيني بساطور أخي..
وجاءت الخادمة التي تركت شغلها في كنس
الأرض بهذه البلطة المربعة النصل بعد ثوانٍ من ذهول منير وزوجه، ضربت هجلى صندوق
الخشب وحطمته كخير قَصّاب، وقالت مبتسمة بعد أن مسحت جبينها بيدها ذات الحناء
المرسومة برسم قريب من الماندالا :
- أوصاني المرحوم بتحطيمه حين تصل
إليه..
وأفضى الانتظار أخيراً إلى ثمرة، وكشف
الصندوق المحطم عن مفتاح نحاسي، وقالت هجلى وهي تمسكه :
- قال لي إنه مفتاح صندوق آخر دفنه في
حديقة فيلا لوران، وأودع لكَ فيه شيئاً قيماً وعزيزاً..
تطلع منير إلى زخارف شبه غائرة كانت
تأخذ صورة الأهلة والأعمدة والنجوم من تصميم الحجرة الثرية يقول :
- لقد أخفق سعيك وأضعتِ أوقاتنا، لقد
بعت فيلا لوران..
ومضى عن خالته - كالمرء متى أهين أو
انزعج في موضع فنبذه - مغضباً، ولحقت به
آمال بعد إذ أوصتها الخالة بشيء يتعلق بضرورة اقتفائه، وأمكن لآمال أن تلحق
بالمنصرف لدى هذا الباب تقول :
- فلتهدأ، ما كان لغاضب أن يحسن
التصرف أبداً..
وقال :
- إن صاحبتك مخبولة، لقد حطمت لتوها
صندوقاً بالساطور..
وتساءلت :
- ماذا لو حوى الصندوق المدفون على
كنز ذي عقيق وجَوَاهِرُ؟
وتفادى المهرول طفلاً أسمر ذا قفطان
كاد يصدمه قال حين يدرك استحالة الحركة السريعة في الزحام :
- لو أن الخير فيه ما عافه الطير..
وساعدها توقفه على أن تباشره بالحديث
الواضح تقول :
- لازلت أرى أن الواجب يقتضي أن نمد
الخط على استقامته، لدينا مفتاح بلا مدخل، وفي حديقة لوران ما يستحق التجربة..
وقال في استخفاف وقد بديا - هو وزوجه
- في توقفهما مع حركة البشر حولها كصخرتين في نهر، وكان ثمة نفر من الأطفال يصفقون
بأيادٍ سمراء على جانب "نهر الزحام" مع إيقاعات الزار المتعددة لفرقة
شعبية وأنغام الناي:
- وكأننا في قصة السندباد ! لقد أفسد
الأنمي عقلك..
وعكف منير عن مماهاة طلب هجلى باقتفاء
لغز هذا الصندوق الغامض المحير، لولا أن رسائل طفقت من صديقه مارتن نكدت عليه
صفائه، ونزعت عنه رضاه، كان الأمريكي ذو الأصول الأفريقية يصور له مرائر حياته في
مالي، وقال له في واحدة من رسالاته :"نشأت وتربيت على أن ثمة مأساتين مرتين
مرت ببلادنا : مآساة الهنود الحمر، ومآساة الأمريكيين من أصل أفريقي، ولكن وجودي
هنا في مالي ومعايشتي لأحوال الإجرام أوعز إليَّ بأن الفقر الأفريقي هو فضيحة
عالمية تزيد على الأولتين بما لا يقارن من الزيادة،.. إن صورة الطفلة الجائعة
والنسر هي حقيقة التقطها كيفين كارتر قبل بضعة أعوام (1993م) لا تزال واقعاً
معاشاً هنا، وإن حاجتي إلى الهيروين تكاد لإلحاحها تفجر رأسي، إنه يعوزني ويعجزني،
ذلك أن جرعة منه أتعاطها تنقلني إلى آفاق اليوفوريا الساحرة المحلقة، وأخرى لا
أستطيع إليها سبيلاً تهبط بي إلى قيعان الجحيم،.. إن انضمامي إلى عصبة مجرمة يجعل
طريقي بلا عودة، من يحمل أسرار عصبة إجرام لا يحق له الخروج مخافة أن يشي بما ضربت
حوله أسوار الكتمان، إنها تقاليد مافيوية إن صح أن يكون للإجرام تقاليد، صديقي،
ثمة سبيلين : إحداهما طويل شاقٍ، والآخر هو سهل يسير، إن في الأول عسر يعقبه انفراج،
وفي الثاني انفراج ظاهري عاقبته الخسران، لقد تورطت في الثاني، ولتلتمس لنفسك ما
كان خير عاقبة، الطريق الأول، الأول ولا غيره، صديقي..".
طبق منير رسالة صاحبه وجعل منها
دابوراً، لقد ألقاه من شرفة بيته المطل على النهر فاستقر على صفحة الماء الذي
سحبه، لم يستهتر برسالته وإنما أصابه اليأس منه ومن الجميع، وإذ بلغ التأثر
العاطفي حداً لا يحتمل استحال إلى نقيضه من اليأس والقعود، وإذ تملك منير هذا
الشعور فقد نكص عن التفكر واستسلم لبيئة الطبيعة وجدَّ في استغراقه دونما مناجاة،
هناك وجد الرائي فلوكتين طافيتين تحملان هجلى وآمال فوق الهادئ من حركة المياه،
والأخيرة جعلت تناديه تقول:
- لقد بعنا هذه الدار..
- أي دار؟
وأجابته التي على جنبها (هجلى) تقول :
- التي أنتَ فيها، بعناها لثري نوبي،
وفي باكر الغد يستلم مفتاحها..
وجعل الرجل يغمغم غاضباً فيما ركبت
ركشتا النيل التيار الذي سير الدابور من قبل إلى منتهاه غير المنظور،.. ابتاع منير
فيلا لوران إذاً عائداً إلى الإسكندرية بعد تقلبه في أمريكا وجنوب مصر، استخدم
الرجل وامرأته معولا حفر بحثاً عن ذلكم الصندوق الذي بشرت به المرأة النوبية، وكانا
يظنان أن المجيء بعمال سيضيع عليهما فرصة العثور على الكنز بنفسيهما، وجعلا من
أسفل الحديقة أعلاها، ومن أعلاها أسفلها، وقال منير بعد ذاك خائباً :
- لم نعثر على ما يؤيد زعم هجلى،..
لعل الصندوق اندثر في جوف الأرض أو أن صديقتكِ النوبية تهذي، حقاً الحكمة في
الصين، والحمق في كل موضع وعلى كل لسان..
وضربت بمعولها في الأرض، تقول :
- لا أصدق أياً من الافتراضين..
ونهض يقول :
- لقد فتشنا جيداً..
ومضى خطوات وعلى هندامه آثار الطين
كأنه "خنزير لا يجيد السباحة" بوصفه، حتى نادته المرأة تقول منفعلة :
- فتشنا في كل موضع وتركنا ما تحت
التمثال..
ولم يهبها ما تستحقه ملاحظتها من
الاهتمام فطفقت تقول :
- لقد تشاجر نعيم وذهب يوماً، سقط
التمثال على جسد أباك، وإذ أصلحه الأخير ورممه فإن أياً منهما (منير والتمثال) لم
يعد كما كان، لقد قتله تمثال الملاك الذي رممه يوماً، لقد حطمه عبد القدوس بعد
ترميمه واستبدل منير به آخر يشبهه هو عاجي ذو نافورة بعد إذ صارت له الغلبة على
صاحبه، فلتنظر إليه إذ هو لا يزال هناك بمائه الفوار الدفاق، ويداه المرحبتان
دائماً، لقد روت لي مريم فصول الأقصوصة شبه كاملة لا تعوزها سوى تتمة، وقد وافق
أبي نعيم سرديتها لما كان طرفاً فيها شاهداً وفاعلاً، ولابد أن أسفله ما يكمل
فصولها، ولقد تخيره أباك لما كان ذا دلالة..
هناك بلغ السأم من منير غايته وأشفى
الضجر على منتهاه، لقد وقف قبالة التمثال الملائكي الذي بدا كأنه يستمع لحديث
الاثنين فيجيبها بخرير ماء نافورته،.. ماذا تفعل والجواب مبهم؟ لست سوى باحث حائر،
ولتسلط معولك على هذا الجمال الباهر البريء، لقد تحطم وتدكدك مرة واليوم سترى في
حطامه شيئاً من الحقيقة الغائبة، ارفع عن عينيك الحجاب، عسى أن يكون تحته ما يستحق
التقفي، العقيق؟ أم الجوهر؟ أم غير هاتين مما هو أنفس وأقيم؟ ومنير، ولا يزال شبحه
مطاردك في النواحي، وستعثر عليه تحت الأرض في صندوق مدفون، ولا شيء يحول بين الجذر
والفرع، وبين الحقيقة والتجلي، الماضي ميراث لن تهرب منه،.. إنه يقول (منير) لزوجه
بعد إذ دارت رأسه في هذا أو بعضه :
- سيكون هذا آخر ما أطاوعكِ فيه..
رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
**
في أبي تيج..
عاد منتصر إلى أبي تيج بعد زيارته
القصيرة للإسكندرية فكان إذا مر بصبية استوقفه وسألوه عما رأى في المدينة، و إذ
حسبوه سيغرف لهم من بحر التجارب الشيقة والأقاصيص المثيرة ينهل منها كل نهول فقد
أعرض عنهم الشاب تحت إدعاء الإنهاك والرهق، ومضى والهواء يعربد حوله ويشتد حتى بلغ
مقامه وسكناه، عانقته أمه بدور أول وصوله ووهبته صحناً من الغرَيبَة وآخر من
المهلبية وسألته :
- وكيف وجدت الأحوال هناك؟
- لم استمتع هناك قط ولا دخلتني
المسرة إلا خجلى، صفوت يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ بك كما يروغ الثعلب، ويوسف
لم تسعفني الأحوال أن التقي به، قيل لي بأن ركبته تضررت من مكتبه ذي الأدراج
المعدنية، وأن الألم الذي جره عليه الأمر أشد من أن يستقبل معه ضيفاً، وقصت عليَّ
حورية عذراً آخر مفاده أن الرجل الذي لا يعرف النوم إلا فوق الأرائك قد وخزه مسمار
فيها ناتئ، حتى إذا صارحتها بقصة أخيها صفوت قالت في ترقيع غير حصيف : إن الألم
الذي جره عليه المسمار هو مثيل الألم الذي تسببت فيه الأدراج، وتذكرت المثل : «كذب
مساوٍ ولا صدق مبعثر»، وشعرت أنهما (صفوت وحورية) يختلقلان فرية يصرفانني بها عن
لقاء الرجل، ولم أشأ أن أكون متطفلاً على مائدته، فلعل مهماً صرفه عن لقياي غير هذه
وهاته، وقد سمعت عن الرجل من خالي وأبي كثيراً من فضائل مروءته ومصاديق لطفه، ما
يجعل للإعذار في نفسي موضعاً نحوه،.. لقد أزعجتني عربة الرش، وتربصت بي الكلاب
الضالة عند كوبري الناموس، ولقد سُرقت هناك في حديقة محطة مصر أيضاً، وفي ميدانها الكبير،
وكان السابلة ينظرون إليَّ لسبب لم أحدده بعد نظرت محملة بالريبة والابتسام، لقد
أشعروني بغرابتي في نسيجهم (السبب هو البذلة الكمونية،.. ورأى من يوزع على فقراء
الريف المسيرين في مربط معاشهم عبر نافذة شيئاً من الكباش والنوق والشياه من لدن
كرمه ونداه فابتسم وقال متأثراً) ليس هناك خير من ديارنا.
ودهشت الأم ولكنها سرت أيضاً، وسرعان
ما اتسع طيف بهجتها حتى استنار وجهها وأصبح كالمذهب، ولكنها تصنعت العجب تقول :
- غريب كيف يسردون عن المدينة ما ليس
فيها من معارج المدنية ومراقي الفردوس، وكيف يزدلف إليها - هي والقاهرة ونحوها من
الحواضر المصرية الكبيرة - طلاب الرزق من شتيت المحافظات..
وبدل العائد بذلته الكمونية التي
أنهكت حقاً فرفل في جلباب ريفي رحيب شعر معه بالسعة يقول :
- إن من المتحدثين من يزوج الزيادة
والنقصان، علاوة على أن الخصيصة والميزة في وجه لا تقتضي التفضيل من جميع
الوجوه،.. إن أهل الإسكندرية أقرب إلى البحر أبعد من اللطف، إن لهم طبائع مقدودة
من صخر..
وسرت بدور حتى كادت تزغرد مع كل كلمة
يفوه بها نجلها إذ تنفرج شفتيها، ولكنها عادت تتساءل في صيغة من يقر بالنفي :
- لن تزوها كرة أخرى إذاً..
وقال :
- كلا، لن لا أريد رقصة أخرى مع شيطان
بهذا الحجم ! (وتطلع إلى صورة أبيه عبد المجيد وكانت آخر ما بقى من أثره في الحجرة
يقول كأنما أورثته خيبة أمله التي وجدها في الإسكندرية مزيداً من الاعتزاز بما
لديه..) أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ...
وكادت الأم تنصرف عنه لولا أن ناداها
يقول :
- أماه، لقد نسيت، ثمة حسنة واحدة
غفلت عنها هناك، في المدينة..
وخاب أملها حقاً، تساءلت :
- وما تكون؟
- حورية ابنة خالي بكر، لقد أحاطتني
بحاشية من اللطف السابغ اضطمحل في جانبها كل تلكم المنغصات والمكاره، حتى لقد
أشعرتني بأن للرحمة هناك وإلى القلوب مساغٍ، لابد أن تشكري أخاك متى بصرت به إذ هو
أحسن تربيتها..
هناك اقتربت منه تقول في حزم زائد :
- بنات الريف خير منها وأوفى فضلاً
وقربةً..
وابتسم يقول :
- أين ذهب عقلك؟
ووجدت في سؤاله ما أضاف إلى حزمها
شيئاً من الحيرة، فقالت :
- حدثني بما تعرف إذاً..
- لقد أجلستني الفتاة على شفير ترعة
المحمودية مشكورة مما يشبه ترعتنا، ما خلا أن أعمدة الإنارة هناك تنعكس على صفحتها
الآسنة،.. وقصت عليَّ قصة لا أذكر اليوم تفاصيلها عن الحديد والنار الذي حفرت به
القناة الصغيرة،.. وعن جبال الملح التي تكونت عند ردم الملاحات في منطقة اسمها
اليوم كوم الملح وتربض فوق واحدة من أكبر الجبانات الأثرية، مثلما تزعم (حورية)..
وتركته بدور وعلائم الحزم لا تفارق
وجهها فنام العائد على سريره الريفي ورأى نفسه في المنام يطارد سارقه في حديقة
محطة مصر، وعلى فمه آثار فتات الغرَيبَة،.. التقت المرأة بأخيها تستشيره في
"مصيبتها" وقال لها بكر الذي كان يكره أن تصرفه أخته عن مسؤوليات
العمودية إلى سفاسف الأمور، بوصفه :
- أما كللتِ من الحديث عما لم يقع ولن
يقع؟! لا تقلقي، إن منتصراً أخضر الأسنان (يريد منتمياً إلى حياة القرية فوق
المدينة)..
وقالت :
- لقد رأى في أخته في الرضاعة حسنة
المدينة الوحيدة، وبلسم اللطف الوحيد في حقيقة من القسوة الحضارية،.. كيف لا
يفزعني الأمر ويروعني؟
وتذكر بكر كيف وشم حلمه على كفيه في
"نزق الشباب" وسافر إلى الإسكندرية، ولعله تذكر شيئاً عن معاناته أول
نزوله هناك مما وجد فيه اعتلاقاً وارتباطاً بما سمعه من أخته، وقال لها في هدوء :
- ماذا ترين إذاً؟!
- نخبره بما وقع قبل سنوات صدقاً ودون
مورابة، ولو وضع الصدق على جرح لبرأ..
وتململ من حديث الأخرى الذي وجد فيه
مجافاة الحكمة ومخالفة الفطنة، يقول :
- وكأنك ستخبريه : إنها أختك بطريقة
ما ولكن يجب ألا تلتقي بها مجدداً،.. ألا تستشعرين تناقضاً؟ ألا ترين أنك ستلفتين
إليه النظر في الأمر من باب ما وستقررين بصنيعك المعنى الذي ترومين النهي عنه؟
اميتي الأمر بهجره ولا تخلقي باعث الفضول، في بني آدم طبع البحث عن الممنوع
المحجوب، إنه ميسم قديم جديد،.. ما كان لآدم أن يقطف تفاحة المعرفة والعناء لولا
أن عرف بها ومُنعت عنه دون سائر الفواكه المباحة، إذ لا يستقيم أن يبحث المرء عن
مجهول لديه،.. ثم أنني لست مقتنعاً حقاً بمسألة الأخوة من الرضاعة، بحق السماء،..
لقد أرضعتِ حورية مرة واحدة يتيمة، فهل يكفي هذا سبباً لخلق آصرة من المصاهرة
المستديمة؟!
وتولت تقول وكأنها لم تجد في حديثه ما
يرطب قلبها المحترق :
- سواء قنعت به أو لا، فهو حقيقة
شرعية..
وعادت بدور إلى منتصر وفي عزمها أن
تظهره على ما في نفسها، وألفته يهذي يقول :"لقد أمسكت بكِ، أيهذا سارق، تعساً
لكَ ونكساً.."، هنالك أمسكت المرأة عن الحديث وجلست ترقيه !
1999م..
في زيزينيا..
عاد ضمير حسين يتألب عليه بعد حديث
نجله إياد إليه فلم يعد وجدانه إلى استقرار قط، كان حديثه نجله يطفر إلى ذهنه
:"أنتَ سبب مشكلتي!." فيعتاص عليه السلام ويعذر عليه الوئام، وكثر
استشرافه لدنيا السبيل أمام حانوته يرقب سلوكات المارة من قاطني الحي الراقي،
وتلكم الوجوه العجلى المكتسية بمضاءة النعمة والأبدان الرافلة في كمالات المظهر،
كان يوماً دافئاً من أيام الربيع وقد وافق عيد الفصح، ورأى كلباً عَقُوراً يقبض عليه صاحبه من لدن عنقه بسلسال، يتقيه المارة
على قيده وأًصفاده، وإذ وجد رب الكلب من يعرفه واحتفى به وعانقه فقد سها عن
السلسال، كان السبيل ممر طائفة من الرياضيين المتمرنيين في ذلكم النهار، وقد انطلق
الكلب المحرر من سلساله فعض شاباً منهم، انهال أهل الحي على الكلب بالعصي فنكلوا
به تنكيلاً، وجعل الحيون يوقوق خوفاً وعذاباً، وراح حسين يقول لهم مستاءً منهم
ومتسولاً الرحمة :"مهلاً، مهلاً، ما عقاب الكلب أن يقتل بل أن يعاقب بمثل ما
اقترفه في حق الرياضي، الذنب على قدر العقوبة، الذنب على قدر العقوبة.."،
ولكن صوتاً واحداً كان أضعف من أن يسمعه سامع في خضم ما انتاب النفوس من غضائب
بدائية، أشبه إلى ثورة قبيلة معزولة على مستكشف ظنوا به الشر، والتفت الرجل عن
المشهد المؤلم فألفى طليمات أمامه يقول :
- الغوغاء قتلوا الحيوان تعسفاً وظلماً، أورثوه مرارة الْمَوْت
الزُّؤام،.. مثلما جرسوا مصطفى البشتيلي يوماً، نصير المصريين أمام الغزاة
الفرنسيين وملعونهم، وكالوا لنحاس بعد أحداث فبراير الصاع صاعين، والأخير ما أقلت
الغبراء مثله من نزهاء السياسة المصرية، ثم أعدموا ماري أنطوانيت وزوجها لويس
السادس عشر، بعد أن وصموها زوراً بمقولة الخبز والبريوش (الخبز الفرنسي الفاخر)
المزيفة وقد اعتذرت الأخيرة حين داست على قدم قاتلها قبيل أن تنتهي تحت المقصلة،..
عليهم الرحمة جميعاً إذ هم استراحوا في قبورهم من بلايا الجهلاء وصنائع من لا
يعرفون،.. بعض الناس طبعهم من طبع الذباب لا يقعون إلا على العقر! أعلم كم غصصت بالآلام حين رأيتهم وما فعلوا ! وكم صبرت
للؤم هؤلاء الوحوش وقسوتهم !
وارتبك حسين ملياً من مقدم الرجل ارتباكاً شبيهاً بالفزع، لقد
قال :
- أنتَ ! فلتخرج من هنا، ما بعثت عليَّ رقيباً..
ولكن طليمات جلس يقول
:
- مهلاً، إنهم ليسوا غوغاءً تماماً، بل هم راقون مترفون ذوو حس
غوغائي،.. من عجب كيف انقلب أولاء المتأنقون ذوو البذلات وحوشاً لا ترحم في لحظة
حين استشعروا الخوف وهو يزلف منهم.
ووافقه حسين يقول :
- أجل، في المجتمعات الراشدة حساسية العدالة، كان حقيقاً بهم -
وهم المتعلمون الموسورن - أن يحجروا على الكلب حتى ينزعوا منه هذه الوحشية، أو أن يمنعوا
منه الطعام لمدة كعقوبة مكافئة لا أن يكيلوا له من العذاب ما الله به عليم..
ووجدها طليمات فرصة للتنفيس عن بعض ما لديه وتمريره :
- لقد تجاهلوا استغاثتك بالرحمة،.. والشدة لا تقابل بغير
الشدة.
- أقسم أنهم كانوا ليرحموا الكلب العقور لو أنهم تشربوا وعياً
آخر، ثقافة أخرى،.. فلتسمع لي : ينبت الطفل في مدارسنا فيتشرب الخوف من أستاذه،
حتى إذا تخرج كواه شظف العيش وأقسى قلبه، إنه يتعبد خوفاً أيضاً، إنني لم أفهم كيف
يتبتل إنسان حقاً مدفوعاً بالخوف،.. وفي كل حقل من حقول المجتمع يربض ذاك الشبح
الذي تسير به الأمور، وينتقل في هرمية حتى ينتهي إلى كلب أو هرة، إنها ثقافة عامة
إذاً، ثقافة امتثال أجوف تجعل البشر كأنهم خشب مسندة بلا روح، والخائف لا يسأل ولا
يعرف لأنه منقاد بأردأ سبل القياد، ولا شيء يثير اشمئزاز النبهاء أكثر من طاعة بلا
فهم.
- لست بحاجة إلى الألِية والحلف ذلك أني مصدق لكَ، ولكن
حديثك يتطلب تغييراً ثقافياً جذرياً يدوم لأكثر من جيل، تغيير يحدث من أسفل إلى
أعلى، وليس العكس، أن يظهر في المجتمع المدني من يتخولهم بموعظة الإنسانية ونداء
الرحمانية الذي تستوعبه العقول وتتشربه فتبلغ منها مقنعاً.
- ربما..
ومد طليمات يده إلى صاحبه يقول :
- إننا متفقان إذاً..
وأعرض عنه حسين لما وجد في عينيه الرضاء مما لم يرتح إليه يقول
كأنه يحرص هذه النزعة القيمة في ذاته بالابتعاد :
- بل لسنا كذلك..
- سأرضى بالاتفاق المحدود، اتفاق المماس بالدائرة،.. أعرف سر
هاته النقمة، لقد همس إياد في أذنك بما حرضكَ عليَّ، لقد حمَّلك بالمَعْتَبة التي
أدارت رأسك وبددت رضاك،.. لقد جاء إليَّ كذلك في مكتبي وأخبرني بمثيل ما أخبرك به،
إن له فكراً نقياً يصلح لسويسرا أو إسكندنافيا، ولكنه ما أن يُطبق في مصر حتى تكون
كارثة،.. وقد أجلسته وأكرمته، ووهبته من الترحاب ما يعدل ماء بحر أوقيانوس، ولكن
رأسه أشد صلابة من العِرْمِسُ.
وأظهره طليمات على طائفة من أوراق المجلس التي يروم منه
الاستشارة فيها، وما كان الرجل براغب في الاستشارة حقاً أو محتاجاً إليها، وإنما
هو هادف إلى الاطمئنان إلى أن عظيماً لم يطرأ على قناعة صاحبه بشراكته، اعتذر حسين
وأجابه صاحبه يقول :
- ما لا يُدرك كله لا يترك جله، هلم !
أيها الكسول، فالراحة لا تُدرك بالراحة، وإني لقعيد عن العمل إذا أنت متخاذل عنه،
وإذا لم تستطع أن تقيم الخير فلا تمنعه..
- القضية ليست قضية الكل أو الجزء،
ولكنها الرغبة..
وقلب طليمات فيما أمامه من الورق، وإن
بها شيئاً عن مشكلات الصرف وكذا استدعاءً لوزير، يقول :
- لماذا تحمل كل هذا الأسف على كلب
مسعور فيما تتكاسل عما هو أهم من مهم التشريعات والمسائل؟
- لا أعرف شيئاً عن السياسة ولكنني
أعرف عن العدالة..
- العدالة غاية السياسة،.. أليس كذلك؟
- ولكن..
- لكن ! مرة أخرى ! هذه اللوذعية التي تجعل من المرء ناطقاً
بالشيء ونقيضه في سياق من الحديث واحد، ألا قاتل الله من دسها في معاجم اللغات، ثم
أساغها إلى الفهوم،.. إنه صراع الأجيال وقد تتجلى فصوله بين المرء الواحد وبين
نفسه في أطواره المختلفة، سيكبر إياد يوماً وسيستحيل إلى نسخة منك، وأما عندما
يشيخ..
وقاطعه حسين يقول في عزم مخلوط بعاطفة أبوية تنزيهية :
- لن يصير إياد نسخة منكَ، أو من أي أحد.
وأجابه الآخر في سخرية وقد بدا أن حديث صاحبه لم يجرحه قط
وإنما حل منه محل الهزل، وإذ هو يراه بمثابة نجله الراحل فقد كان ذلك يسهل عليه
تمرير التجاوز كثيراً :
- شهادة أعتز بها وأطرزها بماء الذهب..
سمع الجالسان هرج ومرج باعثه خارجي،
استغل طليمات
الشغب الذي استعصى معه الحديث أو العمل في إجراء مكالمة على هاتفه ذي الطراز (Nokia Banana) لصديق له مهم، كان طبيب بيطري قد شرع يحاول أن يداوي ما بقى من
صحة الكلب المتأثر بضربات "الغوغاء المترفون"، فجعل (الطبيب) ينادي في
الوقوف مستبشراً :
- لا يزال حياً..
وجيء بالإسعاف فنقل الرياضي المتضرر
على أكف نفر آخريين، وُانتزع من المشهد الجنوني سميته ووحشيته فصارت له حاشية رائعة
من التعاون والرشد، نهض حسين دون طليمات كيما يستشرف داعٍ الجلبة، فبصر بكل أولئك
وأنبت المشهد في نفس رائيه سروراً منزهاً وهمس يقول : "حقاً،.. ما من طائر رخ يحترق إلا ويعود،.. تماماً كالعدالة،.. العدالة طائر رخ
!".