رسالة مغترب في ميونخ

                                      الفصل التاسع عشر:  رسالة مغترب في ميونخ




في ألمانيا..

دون إياد إلى أبيه حسين رسالة ذكر فيها ما يلي :" بعد التحية..

فهذه رسالتي إليك بعد هبوطي في الحاضرة الأوروبية الكبيرة ميونيخ، باحثاً عما هو أسنى وأرفع، هارباً من رعونات الشرق وحماقاته، ولا أخفيك سراً أنني ألفيت نفسي وفي الأيام الأولى غارقاً في بَحْرٌ زاخِر ومحيط صعب، جائلاً، وقد أضرت بي المسبغة، وبقيت حائراً في رحم الغيب حتى وجدت عملاً سائغاً طاب بعده مطعمي، وفقهت إلى غرضك في تعليمي الكسب وقد أورثتني سياستك تجشماً وتجلداً، ووجدتني وقد سرت في خطاك - إذا أنت حضرت من باريس إلى الإسكندرية - ولكن على منوال الرحلة المضادة إذ كان للقارة العجوز المنتهى في حالتي، وعندك المبتدأ..

لا شيء خاص هنا ولكن الأمور وادعة عاقلة وبعيدة من آفات الذهنية الشرقية من الفهلوة والتعصب، وأولاء الذين يعيرون ولا يغيرون، وبعيدة من السخف،.. حتى السخف موجود هنا مقنن : أراه في مشجعي مباريات الكرة المهووسين ببايرن أو بروسيا، وفي وجوههم يطفح غضب الانتصار أو ترتسم أمارات الخيبة، إنها اللعبة الأكثر حماقة وسخفاً على هذا الكوكب، وأكبر مهدرات الأيام التي بدونها تبارك الآلهة أوقاتنا، مثلما كنت تردد، أبي،.. إن كل يوم أمضيه هنا أزيد في القناعة بأن صديقك طليمات أحد أمهر الكذبة الذين عرفتهم على الإطلاق، وما من مرة أجد فيها في ميونيخ فساد بيروقراطية أو تفاهة روح أو حماقة مواطن فيخطر ببالي لأي أولئك صداه في مجتمعنا إلا وتترسخ في باطني قناعتي هذه، لقد كنت أعيش في مصر بمادئ صاحب روح القوانين : مونتسكيو، موقن كل اليقين بأن الحرية والخير قرينان، ومن حصل هذان فهو كما قيل : جمع أللبأ وابن طاب، لقد عشت في مصر بالمبادئ الغربية الفرنسية والألمانية إذاً، وإذ كان ذلك كذلك فقد يصح الزعم أنني عشت في ميونيخ دائماً..

إن أحد أهم المشكلات في الشرق هي هجرة العقول وطرد النوابغ منه، وعبر هذه يتم تفريغ البرك الجينية من متميزيها وجرهم إلى حاضرات قوية راسخة هي دون الأولى حاجة إليهم، إن آليات تزكية المتميزين في بلاد العرب لا تزال عاطبة ذات عوار، أو هي - في أحسن الأحوال - شحيحة العاقبة ضعيفة الثمرة، تتبلور في أسف في المعاناة التي يجدها طبيب أو مهندس يبحث عن مقام له وأسرته المنتظرة بعد عقدين من التفوق المدرسي والعناء الجامعي، وبغير البدء في إصلاح هذه فلا جدوى تُرتجى، ولا نهضة تُنتظر استشرفاتها، إن هذا جوهر خلافي مع صديقك طليمات الذي يختزل الإشكال في نكوص جيني قدري عام يكاد يبدو بلا حل..

إن مفهوم الأسرة هنا - أي في الغرب - به خلل لا يخفى على بصير، بوسعي أن أرصده هنا في صيحات النسويات المغاليات التي تبدو لي جوراً على الذكور أكثر من رغبة في إقامة مجتمع ينعم نوعيه بالإنصاف والعدالة، إنني أرصده كذلك في هشاشة الآصرة بين الأبوين وبين الأبناء، وفي تدخين بعض النسوة الحاملات وغير الحاملات،.. لن أذهب هنا مذهباً بعيداً كمن يرمي الآخرين وفي بيته العطب والخلل الأكبر، ولا أريد أن أكرر خطيئة من عمدوا في ثقافتنا إلى مثل هذا المنهاج الأعور في التقييم، فسجلوا نقوضهم على الغرب من طريق الافتراء والحسد، إنها طريقة لإخفاء القومية والوطنية المتأججة تحت ستار من الموضوعية الغاضبة، ذلك أني مقتفي موضوعية ألكسيس دو توكفيل في كتابه الذي تعرفه عن أمريكا (يريد De la démocratie en Amérique الذي قرأه حسين بلغته الأم الفرنسية وأقرأه لإياد) لا تحامل سيد قطب في رسائل أمريكا التي رأيت..

لازلت أبحث عن زوج صالحة مسترشداً بما هيأت لي من النصح، إنني اجتهد في جعل أمر الملاحة والحسن عنصراً ثانوياً في التقييم، سامحاً للفطنة والأخلاقية بأن يكون لهما مجالاً أرحب، وأرجو أن أوفق في مسعاي مطمئناً في هذا إلى صغري وحداثة أعوامي.".

في السيوف وكامب شيزار..

بات شوقي كثير التردد على مجالس درس رؤوف في السيوف على اختلاف ديانته، وإنه منتظر ظهور عائشة تسقي الجلوس من قمر الدين أو التمر الهندي وتسقيه، وما خلا هذا فذهنه غائب عما يسمعه فيروح يتسوح في زخارف المسجد تارة، وتارة يتفسح في وجوه جلاس الدرس، ولكن حديث رؤوف - لفرط ما كان يقرنه بفضيلتي التواضع والخيرية - قد لامس شيئاً من شغاف قلبه فصار يألفه كما يألف المستغرق موسيقى تعينه على التفكر دون أن يحللها، إن رؤوفاً ليوسع له في المجالس ويقربه ويدعمه بما يبديه له من الحكمة والموعظة، وقد محضه المودة والنصح، وسمع منه قوله عطفاً على حديث لم ينتبه إلى أوله :

- ..ولذا وجب أن يتخفف الجميع من الأوهاق ومن قرض أديم العلماء والنبهاء، وبهذا تتحقق الخطة الهدائية الإسعادية، وبدونه يحور الوزر على مقترفه،.. إن من يحتكرون التعرف إلى الحقيقة في منهاج العلم يتناسون ظواهر الباراسيكولوجي.

ولاحت ابنة المتحدث أخيراً فأسقت الجلوس جميعاً وزلفت من شوقي أخيراً، حتى إذا هبطت بالصينية إليه سمعت من استفظع صنيعها يقول:

- كيف تسقي ابنة الإمام بهائياً زنديقاً في مسجد الله؟

واضطرت عائشة إلى الاستخفاء لما أدركها روع السؤال فيما جعل رؤوف يقول :

- إننا نجره إلى مذهبنا رويداً، رويداً، ثم تأتي أنت وتفسد كل شي،.. حقاً،.. قاتل الله العماء والغماء ! هل تريده أن يرانا في مجالسنا جمداء الكَفّ فيلعننا ويزور عنَّا؟

ثم استأنف روؤف الدرس - بعد إذ وهب ابنته المنصرفة نظرة - ومد في حبل الحديث حتى تناسى ما كان، ونهض الذي استفظع حضور البهائي منصرفاً عن مجلسه وهو يجدف عليه، فجعل رؤوف يهتف بصوت عالٍ كأنما يعمد إلى أن يسمعه :

- فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب..

واستسأله الجلوس في شكايات أحوالهم ومصائب دنياهم فأعرض عن جوابهم يقول مقتبساً من مدارك السالكين :

- وَإِذَا شَكَوتَ إلى ابنِ آدمَ إِنَّمَا.. تَشْكُو الرَّحِيمَ إلى الذي لا يَرْحَمُ

كان حديثه مشحوناً صادقاً وقد بكى له عجوز بسيط ومسح أدمعه الغزيرة في منديل محلاوي، لقد عبرت العبرات غضون وجهه كالماء الذي يخلق المسار لنفسه على جغرافيا أرض غير مستوية، وظل رؤوف يتأمل صورة هذا العجوز الأخير الذي كان آخر الجلوس انصرافاً لفترة مسروراً بما أحدثه في النفوس من أثر وقد عداه الدمع، وشعشع الوجود - بوصفه الغريب - في مقلتيه بأنوار مشكاة الصمدانية السبحانية،.. ووجد يداً تربت على كتفه فأدار رأسه حتى بدا منها عيناه الشفيقتان، وألفى شوقي يسأله :

- هل بمقدوري أن أستبين منك أمراً؟!

وانصرف العجوز الباكي فجعل رؤوف يجيبه :

- أجل ودونما أدنى حريجة..

وسأله شوقي كأنه يبحث عن طمأنة تداري ما بنفسه من اضطراب لا يزال لم ينقشع :

- هلا وعدتني بالصدق والصراحة؟

ومسح رؤوف دمعته الباقية على محياه من تأثره بأول سبابته من جهة كفه يقول وكان يظنه يريد السؤال في أمر من أمور العقيدة :

- أعدك بأن أجيبك كما لو كنت على فراش الموت..

واستروح شوقي إلى حديث الآخر فجلس القرفصاء كأنما يتأهب للإسهاب في أمر يخالجه منذ فترة :

- إن لي في القرب منكم مأرباً..

وانتفض رؤوف كأنما رأى في محيطه حية تسعى، سأله :

- أليس جديراً أن يسبق مثل هذا الطلب إشهار الإيمان بالإسلام؟

وأجابه الآخر متلهفاً :

- إنني أفكر في الأمر ملياً..

وابتسم رؤوف مستبشراً يقول :

- بارك الله فيك ولك،.. (ثم وهو يزيد في ابتسامته) ومن من نساء المسلمات تراها تناسبك بعد أن يهديك الله إلى الحق؟

- عائشة..

ووجم رؤوف ثم نهض ينصرف وقد أجابه بجواب مقتضب يقول :

- إنها صغيرة ولا تفكر في الزواج..

- ولكن..

والتفت إليه يقول كأنما يصده ضمناً :

- لقد جمعت الظهر والعصر جمع تقديم، إنني منهك..

أحس شوقي اليأس من جواب رؤوف وغلبه الأسى من ازوراره عنه، جعل يفكر في أن رؤوفاً كان إنما يعاضده ويناصره في مجلسه لغرض تحبيبه إلى دينه، لم يرَ فيه رجلاً جديراً بابنته، لقد رآه غريباً أيضاً ولو أنه دافع عنه وأبعد منه غلاة حلقته وأماط عن سبيله المترسمين برسوم وقشور الدين،.. اجتمع شوقي - بعد انصرافه عن المساجد تتخالجه هاته الفكر كلها - مع صديقه البوحي - واسمه لبيب - الذي يقيم في داره في كامب شيزار، وجاءهما الصديق المشترك القدياني - واسمه أحمد - ضيفاً، كان يجمعهم شعور بالظلامة والتهميش، شعور الأقلية المهددة بالفناء، فلنقل، وكان كل منهم يعرف الآخر بطريقته،.. وتحدث لبيب يقول وهو يسلم رأسه لكرسي من الأثاث الأرابيسك التقليدي :

- إنها (أي البوحية) دين بسيط وميسر، وهناك من اتباعه في الإسكندرية كثر هم من صفوة المجتمع، فمنهم الأطباء - مثلي - والمهندسون ومديرو شركات، وأكثرهم (تحدث عنهم بالغائب كأنما كان يتخفف من شعور ما بالعسف الذي يساوره عبر رؤية خارجية غير منحازة وكان حرياً به أن يقول وأكثرنا وينسج على هذا..) يقيمون في مناطق فاخرة مثل محطة الرمل وكامب شيزار وسيدي بشر، ولكن دون اعتراف..

وقاطعه الآخر (أحمد) يقول :

- القديانية دين جديد ظهر أواخر القرن التاسع عشر الميلادي بقديان، إحدي قري البنجاب الهندية..

وجاء الدور على شوقي فطفق يقول متأثراً بما أعطاه لرؤوف من وعد في مسجده ثم بما قوبل به من جفاء في ختام لقائه به :

- دعونا من من التهامس، ومبادلة الحديث الذي لا يسمعه إلانا، يجب أن نحظى باعتراف المجتمع أولاً.

وتدخل لبيب يقول :

- المجتمعات الراشدة قادرة على أن تنظم العلاقة بين آلاف المذاهب والعقائد والنحل والفرق كما في الهند والولايات المتحدة، ولكن يجب أن تترسخ ضابطة تحكم العلاقات بين الأفراد : إنها قضية العلمانية والمادة الثانية، لقد شاهدت فيلم أيام السادات اليوم في السينما عند حفلة المساء من هذا اليوم، لقد أورد الفيلم محاسنه وتغافل عن هذه التي أودعها في دستور 1971م كي يمرر بها مأربه في أبدية الحكم..

وأجابه أحمد الأخير يقول :

- أنت تطمح إلى مستوى بعيد، فلنبدأ بخانة الدين في البطاقة..

وقاطعه لبيب يقول :

- الإصلاح السياسي سيجر معه إصلاحاً فكرياً، حين ينكشف غطاء القدر سيفصح الجميع عما يحملونه من فكر، وسيتأقلم المجتمع مع حقيقة الاختلاف بكرور الوقت حتى يستسيغوه واقعاً..

وتحفظ أحمد يقول في لكنة استخفاف :

- حين ينكشف الغطاء حقاً سنكون لقمة سائغة في فم الأكثرية.

وعاد لبيب يقول :

- لابد من مواجهة محتومة، إن إرجاءها هو الخطأ والخطر، لا يمكن أن نعيش بمبادئ القرون الوسطى في القرن الواحد والعشرين، إننا نحترم عقائد المسلمين والأقباط ويجب أن نحظى بمعاملة المثل في بلادنا.

وشهق شوقي بنفس طويل وكانت هذه عادته متى وصل إلى قناعة في نفسه بعد تحير، ولكنه اليوم صامت واجم،.. وسأله لبيب في شيء من غضب وشغب :

- ولماذا لا تشاركنا،.. أيهذا السادر الساهي؟

وجال في طائف نفسه صورة عائشة وهي تسقي الجلوس فجعل يقول بعد إذ تبخر بحديث صاحبه :

- إنه أمر عضال، سادتي، يجب أن نجمع له ميرزا غلام أحمد القدياني، والميرزا حسين على النورى المازندراني، ويوسف شميس البوحي، وبغير اجتماع هؤلاء الثلاثة اجتماع المعجزة على نصرتنا سنظل في حلقة مفرغة،.. الأيسر أن ندخل في ديانة الأغلبية !

وضحكا من سلبيته فيما بادلهم الجالس نظرة تفاعل فاترة..

رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص

**

في السيالة..

فجع نبيل في وفاة أمه نور "المتطوبة" ورمته الأقدار بضربة اختبار، وصاحب المكلوم صاحبته سعاد إلى نطاق البحر حيث شهد غرق العجوز والصبي، وفيه أفرغت براميل الخمر، ورأى في الأمواج آماله المخذولة، وملحمة الحياة،.. يقول فيقتص عليها تصرف أبيه عز شاكياً :

- لقد غادر سرادق العزاء في مسجد العمري معللاً ذلك بوفاة صديقه عبد المطلب التي علم بها هناك، ومعللاً مرة أخرى بشعوره بالكهرباء في يده اليمنى التي هي من أعراض إصابته بمتلازمة النفق الرسغي، ووقفت أرقبه غاضباً لدرجة الاحتراق، إنه مستهتر مفرط..

وقالت الأخرى كأنما تزجره :

- صَهْ ! لقد بكى بحرقة وأحسبه لم يقدر على المكوث في الأجواء المحزونة حتى إتمام ربع القرآن..

وألقى على الموج نظرة وشرع يقول في إخبات وخشوع :

- غسلت جسدها في مائه دون أن يجدي الأمر نفعاً، حقاً، صدق من قال (يريد أبا العلاء المعري) : تَقِفونَ وَالفُلكُ المُسَخَّرُ دائِر،.. وَتُقَدِّرونَ فَتَضحَكُ الأَقدارُ، وفي أيامها الأخيرة وبعد علمها بطبيعة المرض كانت تسارع إلى قبول كل الأعمال التي تقدم إليها، والعمل أكبر وأنجع إلهاء عن الموت أخترعه الإنسان،.. لقد أوصت أبي بترك جثمانها أياماً ثلاثة قبل دفنه عسى أن تتخلى أسرتها عن كبريائها الأحمق فتقبل بدفنها في المقابر الصعيدية، وترسل في ذاك الغرض رسولاً، ولكن هيهات ! مرت الأيام فلا لان لهم قلب، ولا خنعت لهم مهجة،.. لا عجب أن يكون انغلاق الصعايدة وتصلبهم مضرب الأمثال وموضوعة النكات إذاً،.. أرجو أن انتهى إلى أرض نائية خالية من أيما نشاط أو أثر لآدمي، حتى أكاد أسمع صفيراً في أذني من عمق الهدوء، بت أطمح إلى حياة المراقب لا عيشة المتداخل..

وحاولت أن تواسيه بقولها :

- الموتى لا يُنسون ولا يتيهون، لقد شاركوا بجهدهم في تحريك دورة الحياة ولو نُسيت أسماؤهم.

وسألها متملصاً من حسه المعتدل بتأثير الحزن الذي يعتوره :

- بحق العبارات الجميلة : ماذا يبقى من الموتى إذا نُسيت أسماؤهم واندثرت أجسادهم؟! لقد دفعوا ضريبة بلا ثمن.

وعاد ينظر لها فألفيها على حال من الرضاء يبعد كثيراً مما يعتوره من النقمة، فسألها عن باعث ما في نفسها كأنما يستقطر شيئاً مما لديها من حكمة الصبر والقبول، وأجابته مبتسمة فيتجاور شعرها الكهرماني مع الرمال الزعفرانية من زاوية ما :

- سيخرج أبي اليوم من محبسه..

- هل كنت تنتظرين خروج سيِّئ الذكر من محبسه حقاً؟! عقاب الظالم عبادة كنومه..

ونظرت له كأنما جرحها حديثه الذي أشفى على المجاوزة والتسفل تقول :

- أجل، أنتظرته في ليلي ونهاري وحلي وقراري..

- أخشى أن يغضب حين يرى في براميل خمره المحببة أسماكاً مملحة يسعى في أكلها معدمو السيالة وفقراؤها..

وقالت :

- بات أبي يكره الرجال المهمون، منذ حبسه واحد منهم، لقد تغير، ولكن الخمر لا يزال آفته، إنه يزعم أنه حلال ما دام ذا نفع عميم يحسه على نفسيته،.. حلال بمذهب بمذهب جوبيتر أو دين باخوس..!

ونهضت عنه حين شعرت أن إطالة الجلوس إليه ستبدد سرورها بلقاء أبيها، خرج الجمبلاتي من محبسه في ثوب جديد من الإيثار، لم يكف الرجل عن الشراب لكنه رضي بما طرأ على حانته من تحديث وتغيير، وكان قد كره بيع الخمر دون أن يفقد اللذة في شرابه منذ حُبس بسببه، بل لعله زاد في نهمه على المسكرات بعدما ناء به من إجحاف الحبس،.. وجمع السكيرين والمعوزين والفقراء والمعدمين ليطعموا فيها، وكانت تأتيه نوبات إيمانية فيجعل يهتف باسم الله والأنبياء بصوته المبحوح الثمل، جاءته ابنته في مساء يوم تنكر عليه شرابه تقول :

- أليس حقيقاً بمن جمع الفقراء والأغراب في حانوته أن يمسك عن الخمر فيه؟!

وكان في يده زجاجة منها فجعل يهتف :

- بين الإيثار والأثرة شعرة، لا أعرف هل أطعمهم لأني خير أم لأني أريد أن أرضي باعثاً ذاتياً في..

ولم يكمل عبارته فجعل يسعل، وقالت له :

- لقد أضر إسراف الخمر بأحبالك الصوتية أيضاً،.. هل ننتظر حتى تفقد صوتك؟

ودفعها عنه في غضب يقول وهو الممسك بالمقص :

- لا بأس، ليس لدي ما أقوله،.. فلتنصرفي وإلا ضربت به شرياني (يشير إلى رقبته ويريد شريانه السباتي)..

وهدأت فورته ملياً فجعل يقول في صوت مبحوح يعطي انطباعاً بتضرر صاحبه :

- حبست لأني كرهت أن أسقي رجلاً مهماً من الخمر، الظلامة شعور مرعب، الخير والخمر يبددان شعوري بالعيث والفساد،.. اتركيني..

وتقهقر تكوينه فاستند إلى برميل وإلى يد ابنته دون أن ينتبه، ولكنه سرعان ما هتف بها يقول :"اتركيني، اتركيني..".

وفي موقع آخر، في حي بحري، جعل نبيل يجلس وحيداً - بعد انصراف صاحبته عن مجالسته ووفاة أمه - فيرنو كثيراً إلى البحر، ذاك القاتل العظيم، وتلكم البيئة الناقلة للمواخر والزوارق والأعلام، وجعل يهمس، يريد البحر :"إنه مكشوف كأنه يتلذذ بافتضاحيته كالمصاب بالاستعرائية"، وفكر في أن الحياة ستمضي لو أنه تدلى إلى الحضيض أو تسامى إلى الأفق، ثمة خط واحد يفصل بين جهنم والفراديس، بين الديستوبيا واليوتوبيا، بين الخيرية والشرية،.. ماذا جنت أمه كي تقصف المقادير عمرها؟! لقد انتهت مثلما سينتهي، وعاد يستحضر آخر من أضحكه من حديثها الأخير على فراش الخاتمة :"ثمة فيلمان حققا نجاحاً تجارياً هائلاً كلاهما أتفه من الآخر : خلي بالك من زوزو، وأبي فوق الشجرة، وإذا أرادت الجموع التفاهة فيجب أن يعمل صناع السينما في فلك رغائبهم.." فابتسم،.. وجعل يذكر نفسه بمحصل تجاربه فيرتقي عن مباذل الانحطاط :"الاعتدال، الاعتدال، لا تنزلق إلى الشيطانية ولا تطمح إلى الملائكية، وليتك ولدت حيواناً خالصاً فما عانيت التأرجح بين نقيضين بهذه الحدة.."، وبغتة صار يحسد السعادين والقردة على حيادهم القيمي والفضائلي، وتنفس أنفاساً حارة بحرارة بيئته وما بنفسه كالشواظ، وفوقه سحابتين متشاكستين كأنهما ظبيان متصارعان، لقد رأى في طرف أفقه الفسيح عجوزاً يصطاد في قاربه فأخذته رهبة، ومال برقبته محققاً كأنه عباد شمس ينجذب إلى ضوء، وقفز من سور الكورنيش إلى صخرة كبيرة مكعبة صلدة، وسار يقفز من صخرة إلى أخرى حتى أمكنه الهبوط، واقترب فألفى في مركب العجوز شاباً أسمر يعاونه على الصيد، واحتوى المشهد العجائبي - بعد الثلاثة - على قلعة قايتباي العتيقة في نقطة التقائه، هناك هتف نبيل منبهراً وخاشعاً تحت شمس ذات وهج :


- لم يموتا، لم يموتا..

في فيلا الحي اللاتيني..

كثر اجتماع الخدم في فيلا الحي اللاتيني بعد وفاة مهران جراء أصابته بالالرُّعَامُ، يتحدثون عما رأوه ولم يزايل بقسوته صفحات وجداناتهم، وقال أولهم :

- ما قتله الداء، ولكن قتلته الغجرية بحمارها ثم صاحبها بتقاعسه عن إسعافه.

وقال ثانيهم وهو يمسك بشوكة المطبخ متحفزاً :

- إن لهم مضغاً أقسى من الجلامد، ومهجاً أشد من الصخر ! كلاهما منقطع من قبيله وعشيرته : المنجم مبتور الصلة إلى أسرته، والغجرية متمردة على أعراف قومها.

وقال الثالث، وكان أكبرهم :

- الغجرية ليست كالمنجم، إنها أحن نفساً وأطهر سريرة،.. احتفظت ببذلة سيدي مهران التي لم تهترئ إلى اليوم، حقاً ثياب الصالحين لا تُبلى، كان سيدي عليه سحائب الرحمة وعلى صرامته في أحوال كالملائكة تمشي في مساليخ البشر !

وعاد الأول يقول :

- بات سيدي الصحن كثير الندم على مطاوعته للمنجم في رفع أجهزة الحياة الاصطناعية عن نجله هذه الأيام، لقد تزايد الحزن عليه فلم ترقأ له دمعة، وسمعته يبكي في سجوده بصوت تحس منه لذع النيران وفورة الدم، حتى إذا نهض صار له لدى موضع رأسه ما يشبه ماء الإبريق المنسكب،.. آمل أن يكون الحزن بوابته إلى الإنصاف بعد الضلال وإلى الاستقامة بعد الزيغ ! لقد غاب طويلاً الأسبوع الفائت عن مجالسة زواره وملاطفتنا نحن الخدم، وإن المرض وحده يفسر اعتكافه.

واسترد الثاني عزمه على الحديث يقول :

- المنجم يرى في الفيلا فرصته التي يعض عليها بالنواجز كأنها جنته ذات الخمائل والعيون، وسيبذل في سبيل ما يلقاه اليوم من الإكرام والأفضال بعد حياة الصعلكة والتشريد الغالي والنفيس،.. لا أخلاق،.. لا إنسانية،.. لقد قتل اللعين وصاحبته كبيرنا مهران، وإذا استخفوا برأس الخدم فما من خادم واحد بعده في مأمن من الهلاك..

وتردد حديث الخادم الأخير كالأصداء في حضرة الفجر وبدا أن ما تصوره عماد من الأريحية التي ستحصل له بعد الخلاص من مهران كان لا يزيد عن وهم، لقد انتقلت المشكلة بقلاقلها من كبير الخدم إلى الخدم إذاً،.. وكانت روز تسترق السمع إلى حديث الخدم وقد فقهت أن وراء احتشادهم ساعة السحر أمراً مريباً، بالقطع لم تميز الحيوانة شيئاً من حديثهم ولكن غريزة البقاء أورثتها القلق، وسعت في إيقاظ عماد من سريره وشدت بجامته وقد بدا ثقيل النوم والجفنين وقد استحوذ عليه وَسِنَ، حتى إذا شاغلته بذيلها في عينيه أومأ إليها بإشارة دلت على رغبته في استكمال ما يتراءى له من تصاوير هذا المنام اللذيذ، ويقظت أنهار - شريكة الأول على مخدعه - متأثرة بمشاغبات روز للغافل واقتفت أثر الحيوانة إلى مضاءة البهو في خطى يعوزها النشاط، وهناك رسمت القردة ممسكة بذيلها على الطبشور صورة على البلاط هي تمثيل الاجتماع الذي شهدته في تجريد أضاع التفاصيل وأشقى طالب الفهم، ولم تفقه أنهار مرادها فعادت تقول :

- تريدين فول السوداني؟!

وعادت الفتاة الغجرية - مستجيبة لما استقر في خاطرها من اسْتِيهام الفهم الخاطئ - إلى جوار النائم حيث الكومودينو الذي تودع فيه حبات الفول السوداني، وفتحت الدرج الأول فيقظ عماد وجعلت تقول له وكان لا يزال كأنه العالق في أضغاث منامه البديع :

- إنها روز، تريد أن تأكل..

ووهبتها أنهار حبات الفول فقذفت بها القردة نافرة وعادت ساعية إلى ما رسمته في مضاءة البهو، ولحق بها عماد وصاحبته فوقف الأول أمام رسم الطبشور يقول وقد فطن سريعاً إلى مغزاه :

- الخدم يحيكون علينا المؤامرة..

وفزعت روز إلى كتفه مسرورة وإن كان الشاب - خلافاً لما انتابها من الشعور السار بانكشاف رسالتها له - في وجوم الاستغراق،.. وفي غداة الغد تطوع من الخدم أكبرهم للحديث إلى حسنين الصحن في ساعة النهار حيث يخلو له البال، وقد بدا أن جماعة الخدم قد اجتازت الإطار التدبيري إلى المجال العملي، وقدم إليه الخادم فطوره الملوكي المنعم : من الموسلي ومشروب اللبن ‫المخلوط بالموز مروراً ورقائق الشوفان وحتى صحنين من الزبد واللحم ‫البارد،.. وتسمر الخادم أكثر من اللازم أمام الصحن الذي فسر وقوفه على غير وجهه الصحيح فقال كأنه يتحسس حاجة من أمامه وقد حسا من مشرب اللبن والموز حسوة لم يتمها :

- تروم شيئاً من الطعام؟! هاك رقائق الشوفان، هي لكَ..

واعتذر الخادم من عطية سيده وألقى على سائر الخدم نظرة فجعلوا يشجعونه على الحديث وراء حجاب الحائط، وقال :

- سيدي، لقد جئت إليك اليوم كي أفصح لكَ عن حقيقة المنجم والغجرية، إنهما محتالان، وقد حضرا إلى الفيلا بثياب صعلوكين وهيئة منبوذين، ومن لم ينفعك لحظه لم ينفعك لفظه..

وساء الصحن حديث الخدام فهتف يقول وهو يبدأ يشرب من الشراب في هدوء :

- كان آخر من جعل يهرف بهذا الحديث هو مهران قبل أن يُطرد، وقد خال أن بوسعه أن يعود إلى الفيلا على ظهر حمار قبل أن تقتله دابته،.. إنهما يساعدانني : المنجم يعينني على اتخاذ القرار الصائب، والغجرية شرط المنجم للاستمرار..

وأجابه الخادم في نبرة وعظية كأنها لعجوز حكيم أو والد ينصح نجله العابث :

- قَد ضَلَّ مَن كانَتِ العُميانُ تَهديهِ..

ونهض الصحن عن طعامه مغضباً يقول :

- أترميني بالضلال وأنت في داري.. أيهذا الخادم وقد وهبتك لتوي رقائق الشوفان عن طيب خاطر لئلا يكون في نفسك غائلة من حسد؟ لقد أردت دائماً ألا يكون ههنا، في فيلا الحي اللاتيني، وفي جواري، ملك وخدم، راعٍ ورعية، وأما أنتَ فتضيع أوقاتي وتهدر طاقاتي، فلتسمع لي : لقد احتوشتني الأمراض ولم يتركني داء من أدْوَاء الضغط أو السكري أو القلب إلا ووجد في جسدي له موطئاً، وإذ كنت غير مشتكٍ فليس مدعاة ذلك أني قويم، وإن دماءي من نبع القلق اُستقت ومن طينة الريبة جُبلت، ثمة صعائب العمل العسير التي لا تخلو سماء أياماي من سحائبها إلا في وقتنا هذا، ولست أريد أن أعكر صفو صبائحي بترهاتك..

وأعاد الخادم صحن الشوفان إلى طاولة الفطور يقول :

- حاشا الله من أن أبدد ساعة صفائك أو أن أعمد إلى ما فيه تعكير سلامك، سيدي،.. بل إني لكَ ناصح أمين..

هناك دلف عماد إلى اجتماع الاثنين وكان يتأهب لوقوع مثل هذه البلبلة منذ رأى رسم روز في فجر اليوم على بلاط البهو، وقال :

- أتغتابني بالسوء لدى سيدي،.. أيهذا الخادم الضال الوَقَّاع؟! ألا ترى كيف يضر هذا بصحتي النفسانية ثم بتجارة تدر علينا نعائمنا في مقامنا هذا، إذ ليس التنجيم إلا شعور مُلهم هو عجب من العجب يترسب على صفحة بيضاء خالية.

أجابه الخادم يقول :

- بم تزدهي وتختال ولست إلا دجالاً خبيثاً لا يخفى على عاقل حقيقته؟ كان مهران المعاون الحقيقي لسيدي الصحن، ذراعه الأمين وظله الركين، لقد فرض النظام هنا طويلاً قبل أن تستبيح قردة مجال الفيلا التي استحالت بحضوركم إلى فوضى مؤسفة، وما كان لإنسي أو حيوان أن يستبيح النظام في معاشه، حقاً : وعادةُ النصلِ أن يُزْهَى بجوهرِه،.. وليس يعملُ إلّا في يدَيْ بَطَلِ..

وتدخل عماد يقول :

- سيكون مصيرك كمآل كبيرك إذاً : مطروداً يتلوى على الأرض دون أن تسعفه يد قبل أن تبرأ روحه من جسده..

وغضب مهران من مصادرة عماد على اختصاصه بالطرد والاستبقاء فقال ملوحاً بطرد عماد لأول مرة، مثله في هذا كمثل الأب الغاضب حين يستنجده أحد أبنائه من جور أخيه فينهض عازماً على الفتك بالاثنين :

- فلتغربا عن وجهي وإلا طردتكما سوياً..