روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/11

رسالة نور إلى الأهل

                         الفصل الأول: رسالة نور إلى الأهل




راسلت نور أهليها بالصعيد بخطاب هو واجب الذكر قيم المحتوى تقول فيه:

"إلى الأهل بالجنوب.. تحية طيبة وبعد..

في البدء أود أن أورد أشواقي إليكم وأذكر شغفي بلقياكم، وقد حفتني حياتي القصيرة بالغردقة بشعور الاغتراب وسط الأجانب، على طيب العيش هنا وبلهنة الحال، وإنني أصادق في هذا قول الأبله البغدادي إذ هو يقول :

لا يَعرِف الشَوق إِلّا مَن يُكابِدُه .. ولا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها

وقد آلمني ما وصلني من رسالتكم الأخيرة التي وصفتم فيها بعض أفلامي السينمائية بـ"وثائق عار لا تزول"، وقد شخض بعضها - أي الأفلام - مشكلات حراثة الأرض، وتعرض بعضها الآخر لأزمة القهر الذي تعانيه بعض النساء في مجتمعاتنا الذكورية، فحملت من قيم المعاني ما يسوءه أن يقرن بالعار أو أن يوصم بالفساد ويختزل فيه، ولا أخفيكم سراً إذ أقول بأنني استقبلت الوصف بالغضب، وطاف بنفسي طائف الاتقاد والتَلَظَّى، وإنني إذ صرت اليوم أقل حماسة بقضية الفن فلا عدت على استعداد كي "أموت على تلته"، فإنني أقول بأن من ينسب الجمال - والفن في جوهره إلهام وحسن - إلى الوزر الأخلاقي رأى مادته بعين معتلة، وألبسه التحيز ثوب الالتباس،.. وغير خافٍ عنكم أنني انتهيت عن أداء التمثيل مضطرة وأمسكت عن رقص الباليه مختارة، فلا أعود - بعد هاتين - أفهم شغفكم الحريص على الطنطنة بمسألة العري، هذا الذي كانت تبديه شفوف فستان لم أعد ألبسه.

 

وقد أوردتم في رسالتكم سبباً آخر - لا يقل غرابة عن الأول بل لعله يزيد عليه - يحول دون إتمام الصلح بيننا : وهو مسألة تبني الطفلة نجلاء، وإنه - أي السبب - لينهل من معين التحامل والتكلف ولا أكاد أرى فيه ذرة من الوجاهة أو فسحة من الاعتبار، لقد تبنى عز نجلاء - ابنة عشوب الذي طرحها خشية الفقر ومات في قلب البحر - وقضت محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة بقبول دعوته بتغيير اسم الطفلة بالتبني، كيما يكون اسمه مدرجاً أمام اسمها، وقد عبرتم في رسالتكم عن اعتراضكم على الأمر من باب حرمانية إضافة نسب "اللقيط" إلى من تبناه (وقد ساءني أن توصف الطفلة باللقيط)، وأعجب العجب أن الكاتب ذكر في رسالته أن هذا مما يضر بنسبكم الممتد إلى الرسول، ويسيء إلى حقيقة كوننا عائلة من الأشراف، منتهين النسب إلى الإمام الحسن، وليت شعري ! كأننا سلالةَ الأمجاد أولى الأحساب الوضاءة والأنساب الوضاحة (بتعبير شكسبير في يوليس قيصر)، وقد كنت لأعطي بعض التقدير لاعتراضكم فأنزهه عن اختلاق أسباب الصدود لو أنكم أوردتم سبباً أكثر موضوعية : كتغيير مجرى المواريث ونحوه من الأسباب المفهومة، ومن المتعذر أن يقف الدين - أي دين - الذي هو شريعة أخلاقية بالمرصاد أمام أنبل التصرفات البشرية وهو التبني، وإني أتفهم أنكم تحاولون الدخول إلى حالة من التسوية مع الداخلية تسمح لكم بالعودة إلى مدينتكم الأم بعد سنوات الاغتراب الطوال، وأن إلحاق الطفلة - ابنة مهرب الآثار المعروف - بالعائلة قد تضر بسعيكم هذا، من حيث هي تعيد بث الشكوك حول نواياكم في العمل تحت المظلة القانونية.

 

لقد علمتني وحدتي هنا أموراً جمة - بعد التفريق بين الشبت والبقدونس والكريز والنعاع والكرفس ! - كأن أقدر قيمة الأهل كملاذ للمرء لا تنال منه العواصف، وحصن يتترس وراءه وسط أدعياء الصداقة من قصاد المصلحة، ثم أن أنظر إلى الأمور بعين الزوال والتبدل، إن ما يريده المرء اليوم سيعود لا يكترث به غداً، لازلت أنتظر مقدمكم في فندق شيراتون بالغردقة.".

وكانت المرأة تلقي على أسماع زوجها هذا الخطاب فجعل يقول لدى منتهاه في استهتار وهو قاعد في بزاره :

- قد أسمعت لو ناديت حياً، الأحرى أن تتناسِي جحودهم وتمضي في طريقك، فلتنظري إلى الصغيرة نجلاء، لقد تناست أباها المهرب واندمجت في حياتها الجديدة مع نبيل وعطية الله.

وقالت دون انتباه جدي إلى نصيحته :

- إنهم (أي أهلها) يسعون إلى توفيق أوضاعهم والعودة إلى الإسكندرية.

وقال وهو يمرر أصابعه في شعر الصغيرة نجلاء :

- بت أرى الجنوب يناسبهم أكثر، ثمة أكثر من مصر اليوم، أجل، بت أرى الأمر على هاته الشاكلة، محافظات الدلتا، الصعيد، المحافظات ذات الفرص والزحام على مثال : الإسكندرية والقاهرة، المحافظات السياحية، وهلم جرا،.. التعليم أيضاً في بلادنا تشتت بين مدني، أزهري ديني، ومدارس دولية.. إلخ، لقد أضر الأمر الآنف كثيراً بقوام الأمة الواحدة، آمل أن يعود النسيج إلى تصاهره ولكن الحظ الذي يتطلبه الأمر يوازي ما يحتاجه تحقق معجزة كظهور المهدي !

وقالت تعيد الحديث إلى سابق سيرته، كأنما تجيب هاتف ما في نفسها من لوعة :

- إنني أتضرع إلى الله في صلواتي أن تقبل الداخلية طلبهم، ستصهرهم المدينة بسماحة القبول، حين يمد أغلظهم فؤاداً بصره ويرى بحراً هو نفسه ما يراه الأوروبي من الجهة المناوئة - أقول حين يحدث هذا ستلين حميته وتهدأ غلواء نفسه.

وقال في حس شرطي سابق :

- بات الإرهاب اليوم وفي التسعينيات بارزاً على السطح، وحساسية الموقف ستدفع الأمور إلى الإخفاق، الأدباء والمثقفون باتوا يلتموسون الحراسات، لقد أصيب قطاع غير يسير من المجتمع المصري بالخبل حتى صار عدواً لنفسه.

وأزعجها أن الرجل يسد في وجهها المنافذ فشخصت إليه تقول :

- هل تظن أن الشقاق سيدوم بيني وبينهم إلى آخر العمر؟

ونهض عنها الرجل فجعل يرتب تحف البازار كأنما أشفق على أن يجيبها بالإقرار.

     اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص



1994م..

ابتاع فؤاد بشيء مما جمعه من حصاد مغامرته في الكويت شقة رحبة في حي جليم، هذا الحي المنسوب إلى جليمو نوبول، فيما ألفى عماد وإسحاق مشقة في الاندماج في الحياة المدرسية إذ كانت لهجتهما الخليجية مثار تندر الطلاب والأساتذة قبل أن ينصهر لسانهما تدريجياً في لهجة المدينة التي تأثرت بوجود الأجانب - من الإيطاليين واليونانيين - فيها، وسرعان ما بات عماد - وإسحاق بنحو أقل - يستخدم الجمع في مقام التعبير عن المفرد، ويقسم بالمرسي أبي العباس،.. ويُقدِم في طبيعة وبداهة على غير هاتين من قرائن الإلمام - ومواطن التندر - باللهجة الساحلية المعروفة.. وأما غادة فسرت بنزلها الجديد كل السرور حتى لقد غدت تصف حياتها بعد الاستقرار في الإسكندرية بـ"بستان الزيتون" متأثرة بثقافتها المسيحية، وحين قصد فؤاد إلى عم حسني العجلاتي - بعد قطيعة الأعوام الطوال - ألفى الدراجات قد توارت وقد استحال الحانوت إلى صالة بليارد، يتجمع فيه صبية يؤجرون الطاولات، ويتصايحون ويلهون، وقد التهم الزحام هاته الشخصيات الكلاسيكية للحارة الشعبية واستبدل ببعض الأصول كثيراً من الضجيج، وتلقى فؤاد خبر وفاة الرجل (عم حسني) من نجله الذي بات يشرف على المكان - أقول تلقاها بالكدر، لقد قصد إلى هناك بدافع هذا الفضول الذي ينبت في النفس عادة بالعودة إلى رفاق مرحلة فائتة بعد أن يكون المرء قد تجاوزها إلى غيرها، هذا الفضول الذي لا يمكن تنزيهه تماماً من رغبة غير نقية في الاطمئنان إلى عجز الرفاق القدماء عن الانسلاخ من هاتيك المرحلة الوالية، والاستوثاق من أن مُهماً لم يفت،.. وقد ساءه أن يجد الرجل ميتاً، ولعله فكر بعد إذ تحقق كيف لم يخطر بباله أن يموت عجوز مثله بعد كل هاته السنوات الطوال،.. ومضى الشاب المتأثر بين هاته الطاولات في خطى هادئة رصينة، ورمقه اللاعبون بالفضول الذي يوليه صِبية لرجل بلغ أشده، وسألهم:

- من منكم يلاعبني؟

وتقدم منهم واحد ذا ثياب مصفرة الحواشي، له صوت خشن فيه أثر البلوغ المبكر، وجسد هزيل يافع، يسأله :

- كم عمرك،.. سيدي؟

وأجابه فؤاد وهو يتقدم نحوه :

- الثالثة والأربعين.

واستوحش الشاب عمره المتقدم بما يرادف اضمحلال فرصته في الفوز، ولكنه عاد يسأله وقد عدَّ الأمر تحدياً شيقاً :

- وما رهانك؟

هناك تلمَّح فؤاد بائع عصير جوال من فتحة باب الحانوت يعبر عبور الصدفة، إنه (البائع) يحمل على كتفه إبريقاً لامعاً من النحاس والنيكل، مزين جسده بقماشات ملونة ومصبوغة يدوياً، ويرفل في سروال تقليدي فضفاض، وعلى رأسه طربوش أحمر، تزينه الورود الصناعية «وزرة النحاس» التي يستخدمها في وضع الأكواب والكاسات النحاسية - تلمح فؤاد إذاً البائع الذي كان على هاته الصورة فيما كان لا يزال في غمرة البحث عن الرهان المناسب، وقال يجيب سائله :

- يظفر الفائز بشراب من البائع الجوال..

ومسح الصبي فمه بظهر يده، يسأله :

- وماذا عن الخاسر؟

ولم يفكر فؤاد طويلاً إذ هو أجاب بعد نظرة إلى منضدة البليارد :

- يحبو الخاسر تحت المنضدة على الأربع.

تواتر الصبية على منافسة الرجل الذي أنسته الانتصارات الصغيرة حزنه على وفاة حسني العجلاتي، وصارت حركة الصبي الخاسر تحت الطاولة مما يستجدي التهليل والتفاعل من سائر الصبية كاستعراض البهلوان، ومكث البائع الجوال - الذي  أسعده أن يتركز رزقه في موضع واحد - يسكب عصير الليمون والعرق سوس من الإبريق إلى كؤوس النحاس لفؤاد الذي امتلأ بالشراب حتى أُتخِم، ورضي بفوزه المضمون حتى هان أمر اللعب في عينيه، وقال فيما يعرض عليه صبي آخر التحدي باللعب :

- إن هذا يكفي..

وهدأت الفورة الحماسية التي صنعها الرجل بحضوره، وتجهز البائع الجوال لاستئناف تجواله حين انتفى الغرض من وجوده، وهناك سُمع صوت حذاء لرجل خمسيني يتقدم في بطء نحو الواقفين الكثر، إن في فمه غليوناً، وإن في مظهره أناقة، وقد رفل في صديري جلدي، وهو ذو شعر أصَلعُ له حِفاف (شَعر مُستدير حول صلعَتِه)، فلما اقترب بما يكفي جعل يصفق ويقول بين التصفيقات :

- لشد ما أنتَ بارع،.. فؤاد.

ومد يده يطلب أن يصافحه فمد فؤاد بدوره يده على قلق، فأزاد الرجل يقول:

- اسمي هو عاطف،.. هلا لعبنا بالكرات سوياً؟

لم يستخف فؤاد طرب الثناء ولم يستهوه المديح إذ كان الارتياب - لا يزال - باعثه الشعوري المهيمن ومحركه، أسقط عاطف الكرات في براعة فتم له النصر الذي بهر به الآخر (فؤاد)، وقال عاطف وقد تلمح الاضطراب الذي غمر فؤاداً إذ هو يخشى تطبيق ما ألزم به الخاسر في رهانه :

- ما كنت لأجعل منك حابياً تحت منضدة،.. ألا حباً أيها الأفندي وكرامة ! إن سيماءك يند عن نبل وسَمْتك ينبئ عن رفعة،.. وإنما أنا أروم أن أتحدث إليك في مشروع رابح.

وجلس الرجلان على كرسيين خشبيين أمام صالة البليارد الصغيرة، يطلان على هذا السبيل ويتابعان حركة مشاته، وبوغت فؤاد بعاطف يقول له بعد أن ألقى بورقة بالِية كانت في جيبه جهة مكب القمامة الذي في الجهة المناوئة البعيدة :

- ما أتعس أن يبدد المرء حصاد الاغتراب فيما لا ينفع !

وأدهشه أن الرجل على علم باغترابه ثم هو على دراية بأن له من اغترابه حصاد، وكاد فؤاد يسأل جليسه عن مراده لولا أن ريبته منه حملته على الصمت، فيما أزاد الآخر (عاطف) :

- لدي مشروع جدير بأن يشاركني فيه صاحب رأس المال النابه.

وأعاد عاطف نظره إلى الصبية اللاهين - بدت وكأنها حركة بلا سبب - ثم ركز عينيه في ناظري جليسه يقول :

- وأما المشروع فعجيب مقلق في ظاهره، مربح مجدٍ في باطنه : إنه حظيرة من الخنازير المستأنسة، نبيع لحومها ونتكسب من جلودها، سنتشارك في كل شيء : المكان والعلف،.. لقد تسبب جنون البقر في انهيار سوقها والمستقبل لتربية الخَنْزُوَان.

وانزعج فؤاد من الاقتراح ملياً حتى لقد عدَّ الأمر مزحة سخيفة منكرة، وقال في انفعال كتمه طويلاً :

- بربك.. ألهذا أردت الاجتماع إليَّ؟! بالقطع لا أريد أن أربي حيواناً محرماً.

- سنبيعه لمن يحللونه ولا يجد فيه وزراً، المسيحيون كزوجك غادة، هل نسيتهم؟ إنهم يشكلون زهاء أحد أعشار السكان، وبعض المسلمين المتساهلين ممن لا يجدون فيه حراجة.

ونظر إليه في دهش يبلغ أوجه وقد عجب لمعرفة محدثه باسم زوجه وديانتها، يسأله :

 - أنى لكَ بمعرفة هذه الأمور؟

- لقد تحريت عنك فلم أجد إلا طيباً ولم أسمع إلا خيراً.

ووارى فؤاد عجبه تحت ضرورة التحدث وكان يتحرى المعاذير التي تمنعه من القبول بالأمر يقول :

- أظهرتني غادة على حقيقة أن الكنيسة الأرثوذكسية تنقسم حول هذا الموضوع (أي مسألة تناول لحم الخنزير).

هناك أخرج عاطف غليونه من فمه يقول :

- كذب من زعم هذا الزعم وخالفه التوفيق، سمعت من صديق لي قبطي يردد من كتابه : "إسمعوا وافهموا : ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجسه.".

وقال فؤاد في حس هادئ لأول مرة منذ رأى الرجل :

- تبدو كمن حضّر الجوابات مسبقاً.

وأجابه الآخر يقول وهو يحك صديريه الجلدي :

- حري بصاحب رأس المال أن يفعل..