الفصل الخامس عشر: لن يفتح كنز الأب سوى نجله
في منطقة الفراعنة بالحي اللاتيني..
تردد عماد طويلاً قبل أن يدلي بدلوه
في مسألة نجل صاحب الفيلا المترفة، وإذ هو عليم بجهله في تفسير أوراق التاروت
وحداثته في التنجيم فقد أثقله ضميره وأبهظه وخشى أن يُخزى بالذنب، لقد كانت روح
الشاب الهائمة بين ملكوتين أسيرة لتشغيباته القدرية، وتأخر موعده الثاني في فيلا
الحي اللاتيني إثر ذاك إذاً،.. حتى كان يوم انعقد عنده اليقين فقصد إلى صاحب
الفيلا، واسمه حسنين الصحن، هذا الذي ينتظر منه المشورة فيما أضناه وشق عليه، حتى
صار مهران يتحدث عن مواعيده المتأخرة دائماً وساعته ذات الميقات المتكاسل، ثم يشبه
مواعيده بمواعيد عرقوب، ولعل الأمر أورثه (مهران) شكاً أكبر من طفيف في قدرة الآخر
على التنجيم لما كان الرجل الصارم موقناً بالرأي الذي يزعم أن رجلاً لا يلتزم
بميعاده لا يُوثق فيه،.. وسلم عماد على حسنين الصحن في حفاوة كأنما يتألفه بهذا،
وكانت المفارقة أن الرجل بعد حفاوة السلام جعل يقول :
-
سيدي، الصحن، لقد ناجيت الخلاء والملاء، واستشرت أوراق التاروت، وصديقتي
الغجرية ذات العرفانيات السماوية في استقراء مسارات النجوم، وحتى قردتي روز صاحبة
البهلوانيات العجيبة، وقد أجمعوا جميعاً على نحو يعز مثاله في دنيا التنجيم
والكهانة على أن لا أقل أمل في أن يرتد إلى نجلكم المبجل المعاش..
وخفض الصحن رأسه متأثراً وبدا ضعيف
العقدة راخي العزائم، ولكن وجهه بعد التأثر ما لبث أن تشفى من وجومه، والغريب أنه
جعل ينادي على كبير خدمه مهران قائلاً في حيوية مذهلة أعقبت هذا العارض من تأثره :
- لقد قُضي الأمر، أكد رسول الغيب ما
كان دائراً في عقلي دون قلبي دائماً..
هناك انهار مهران منتحباً، ولكنه جعل
يتساءل وهو يرمم ما بنفسه من الكدر وقد بدا كأنما أظهره سيده على جنون يجتهد في
التحقق منه :
- هل نرفع عن جسده المغلوب أجهزة
التنفس؟!
وتدخل عماد يقول :
- ألا إن حديث سيدكِ لواضح مبين،..
ففيم التردد؟ ولو أنه عرَّض بمأربه دون تصريح فلأن لسانه العطوف يأسى أن يبثك
خبراً على هذه القسوة، ولدى العقلاء فالتعريض الواضح كالتصريح..
والتفت مهران إلى حسنين الصحن الذي
بدا كأنه تنكب عن سماع المزيد فنأى في ركن من الصالة الفسيحة عن المتحدثان، وناداه
يقول :
- سيدي، لقد رُفعت عنك يد التوفيق،..
لماذا لا تترك له فرصة عام أو بعض عام؟
ورفع الصحن رأسه المنكس على أريكة
مذهبة يقول :
- فلتنفذ ما أمر به قارئ التاروت، ولا
تزد من الألم بطول الانتظار والسؤال..
ونفذ مهران الأمر مكرهاً فنقله إلى
الخدم الذين بكوا "أميرهم الذي بلا حول"، وذكروا في مآثره لطفه معهم
وتواضعه،.. وفي مساء اليوم اجتمع حسنين الصحن مع عماد وأنهار وروز في بهو مترامٍ،
وكذا إلى نخبة من المعزين ممن استغل وجودهم في مناقشتهم في مسائل تجارية، وفي
مسلكه ما يشبه النكتة القديمة "كوهين ينعي ولده ويصلح ساعات"،.. وباغت
المضيف ضيفانه بقوله :
- إنني أشكرك اليوم لأنك أعنتني على
نفسي، لقد فكرت في إنهاء هذا "العذاب المعلق" طويلاً قبل اليوم، ولكنني
ما عزمت على الأمر مرة إلا وكان وعيي يحقر همتي ويقذرها، إذ أراني وقد أزهقت روحاً
بريئة -ولو أن فرصتها في الحياة هي أقل من فرصة المراهن المباشر في الروليت
الأمريكي - آتياً عظيماً من الكبائر، إنني مسرور بكَ لأنك دعمتني وأقلت عثرتي،
وستلازمني ههنا في تلكم الدار الفسيحة جزاء ما قدمت إليَّ من معروف، إذ أنني بلغت
شأواً بعيد المدى في أعمالي دون أن أحيط نفسي بالمخلصين أو العارفين،.. إن حزني
اليوم عظيم فلا ينبيك عن خلق الليالي كمن فقد الأحبة والصحابا، ولكن وراء الأحزان
الكبيرة حرية من نوع ما..
وكان مهران ينصت إلى حديث الاثنين
فجعل يحدث الخدام المحزونون في ذلكم المطبخ يقول :
- أعانه الدجال على وضاعات نفسه،..
أين ذهب عقل الرجل؟!
ودلف مهران ومعه نفرين من الخدم إلى اجتماع الثلاثة يخفي امتعاضه في
ستار من الرسمية وكان يعرف الطعام إلى
سيده فيقول :
- البطيخ الدينسوكي بقشرته السوداء
النادرة، الكافيار، فطائر الكمأ الأبيض، حساء عش الطائر الأحمر الذي تحبه..
وذهل مهران حين وجد الصحن يقول لعماد
:
- فلتجربه (أي حساء عش الطائر)..
ووجد من الجالس تردداً لولا أن الصحن
حثه وحفزه، وكذا أنهار فسائر الملأ، إن المضيف يقول :
- إن آية العظيم بحق تتجلى في كيف
يعامل ويكرم من يمت إليه بصلة أكثر مما تظهر في إنجازاته الخاصة،.. إنني حريص على
إسعادك اليوم ولتشرب من الحساء الذي أحب بمثل ما تحب أنتَ، ومع أن من غير اللازم
أن يخبر صاحب الهبة مستقبلها بثمنها مخافة أن يحف الإبلاغ بالمن، فإنني مبلغك أن
وعاء مما تشرب هو بثمن عشرة آلاف دولار عسى أن تقدر كل رشفة وحسوة حق قدرها،
فلتجربه فإذا هو لم يسغ لكَ أولاً قبلته ثانياً وتلمظته ثالثاً، والتجربة خير مقوم..
وشرب منه عماد وجعل يقول مستسيغاً :
- إنه حسن، إنه حسن..
هناك تدخل مهران يقول معلقاً :
- يقدمها المطبخ الصيني منذ أربعمائة
عام، وهي من عُشُوش طائر السمان،
(ثم وهو يتقدم أكثر نحو عماد..) والتي تقوم ببناء العش بواسطة لعابها..
هناك تقيأ الآكل ما قد ابتلع وهرع إلى
دورة المياه وسط ضحكات الصحن - التي لم تكن لتناسب مكلوماً لم يمر على فقدان نجله
سوى ساعات قصار أبداً، وجعل يقول :
- لماذا أخبرته،.. مهران؟ إنك فخ لا
يخبره إلا من عايشك وتأمل في صفاتك، حقاً، تبدو موقراً محترماً ولكنك تنطوي على
مشاغبة وكيد.
ولحقت أنهار بصاحبها تسأل عنه فيما
بقت القردة روز في ذلكم البهو العظيم ترمق الجالسين بنظرات مستريبة، وانفض السامر
فتولى عن البهو سادة المعزين وبقى عماد وأنهار وروز، وعاد مهران يوشوش أذن سيده ثم
ينصرف، وجهر الصحن بما أسر به الآخر إليه يقول :
- معذرة،.. ولكن مهران لن يطيق وجود
القردة هنا، إنه يقدس النظام الذي لا يستطيع أن يتخيله في وجودها متحققاً.
هناك تطوعت أنهار بالقول :
- إذا رحلت روز فإني في أعقابها راحلة..
وانتظرت الفتاة من صاحبها عماد موقفاً
مماثلاً يجعل الصحن في حراجة تضطره إلى الرضاء بوجود القردة بين جنبات فيلته، كانت
تمني نفسها بموقف كهذا في باطنها وفي نظراتها إليه وهمزها له ولكن الأخير صمت،
غادرت أنهار الفيلا المترفة إذاً رفقة روز، لقد عادت الغجرية يومئذٍ تسامر
النُّجومَ وتمطي الحمار وتلعن الحظ، وفي الليلة التي رأت فيها أثمن الأطعمة على
وليمة الرجل الثري تعشت بسلطة البطاطس
والمخلل مع روز، وقالت لروز (تريد حسنين الصحن) :
- إنه أصلع الشعر والعقل إذ طاوع كبير
خدمه وفكر في طردكِ، روز، أيتها الجميلة الأنيسة المشاغبة،.. ولكن الأسف لموقف
عماد يزيد عن أي أسف، لقد قارن بينك وبين الترف الذي زغلل عيناه وأغرى نفسه،
وتناسى حقيقة أن الموقف الأخلاقي يصنع أفضل القصص..
وزقحت القردة بشيء فجعلت أنهار تقول
وهي تمد يدها إلى آخر ما بقى في الصحن من البطاطس في شهية فاترة :
- أجل، أرجى شيء أن يفتضح أمره كقارئ
مزيف للغيب ومنجم كاذب، وحينئذٍ يعود إلينا..
صار الصحن منذئذٍ مشرك عماد على طاولة
اجتماعه مع رجال الأعمال وأصحاب الصفقات، وإذ نضح تصرفه الأكثر عبثية وسريالية
بالخبل فقد سر به عماد كثيراً، وكان يسمع رجلاً يقبع على طرف تلكم الطاولة
الممدودة يقول :
- من حسنات الرأسمالية أنها تقلع
شوكها بيدها، ولكن تضخم الدولار مثار قلق عالمي منذ عقود.
ويجيبه الآخر المغرم بالتفسيرات
المثيرة يقول :
- إنها ثلة من تدير العالم واسمهم
"الحكومة الخفية"، سينهار العالم الاقتصادي، يجب أن تتعلم الشعوب أن
اقتصاداً مع حرية خير من رفاه مؤقت مع عبودية، صدق جورج واشنطون حين قال : لا يحق
لأي جيل أن يوقع ديوناً أكثر مما يمكنه أن يسده في فترة حياته..
ويعود الأول يقول :
- التضخم سرقة مقنعة لجهدك وجهد
الجميع بعيداً من فكرة الحكومة الخفية، وبعض أصحاب الفكر الجيدة يسيئون إليها
بإقحام الإثارة والمؤامرة على سياقها قسراً..
- المؤامرة موجودة حتماً ما دام بقى
للمصالح تضارب وتشاكس ولو أنها غير مشهودة، بيد أن احتكار تفسير الحوادث بها هو
الخطأ.
هنا يتدخل حسنين الصحن فيقول :
- يجب أن نزيد خزائن حصائلنا من
موجودات الذهب إذاً، أن نستعيض عن احتياطتنا الدولارية في الأبناك به.. (ثم وهو
يلتفت إلى عماد الذي يلعب بالأوراق فيفتعل شيئاً يملأ به الفراغ مجتهداً ألا يبدو
في صورة الجاهل وسط المتحدثين..) ماذا ترى؟
يقلب عماد في أوراقه، ويقول :
- الذهب ! ما أبهاه ! نتاج انفجارات
السوبر نوفا وصنيع المستعرات العظمى، لا يُضاهى ولا يُقلد، وقد خاب سعي السيماويين
ساعة جروبوا تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، ومنذاك أدرك الجميع سحره وامتثلوا له،
لقد أصبت إذ قررت الاستثمار في معدنه العزيز، سيدي، مثلما يخبرني الورق.
ويعود الصحن يقول لزمرته :
- فلنشترِ منه إذاً (أي من الذهب) قبل
أن ترتفع حمى الطلب عليه..
وانفض السامر فجعل الصحن يسأل مستشاره
الساحر :
- هل سينهار الاقتصاد الكوني، حقاً؟
- أسأل الله ألا يكون، سيدي.
ويتنهد الصحن كمن يهوى من شاهق فتتلقفته
قماشة ذات متانة يمسك بأطرافها رجال، إنه يقول :
- رائع أنت، بحق، لقد تضاعفت مرابحي
وخفت أوجاعي منذ محضرك.
- العفو ما يُجاب به على نفسك السخية
المنانة، سيدي.
وعلى ذلكم النحو انتشى عماد بما خوله
له الآخر من نعمة وبما خلف عليه من الخير، وإذ هو لا يقوم بالكثير ما خلا موافقته
وقراءة طالعه اليومي فقد حظي بالكثير المنعش في حياة الفيلا التي كانت إلى دنيا
القصر أشبه، وأسكرته النعمة وغرته الأماني وعرف الامتثال سبيلاً إلى ديمومة
النعيم، وجرب البطيخ الدينسوكي والكافيار وخواص الطعام القيم بعد ما ساوره من
احتقار معرفة حقيقة حساء عش الطائر فاستمرأهم ورضي بهم،.. وأيقظه مهران في جناحه
ذات صباح يقول في حنق لا ينضبط تماماً بالرسمية :
- ثمة من يسأل عنك ويمتطي حماراً، إنها آدمية وقردة من يمتطيانه
أمام أسوار الفيلا العالية ولقد أراهما يسيئان بحق إلى صورتها المنعمة بحقيقتهما الزهيدة،
ولتصرفهما سريعاً..
ونهض النائم فغمغم وفي فمه أثر النوم
: "أنهار، وروز !" كأنما ومضت في ذهنه ومضة هي ابنة ما سمع من أوصاف،
وخرج إلى صاحبيه حتى إذا انتهى إلى الباب أتياه، فقالت له الغجرية :
- سيكتشف أمرك وستتعمم الحقيقة،
وحينئذٍ لن تجد إلا ظهر الحمار، ورعاية غجرية، ومشاغبة روز، فلتعجل بالقدر إذاً،
وطوبى لمن يعرف إيان يخرج !
وأزعجه أن تتحدث أنهار في نهار تشيع
فيه الهمسات بصوت أعلى مما يجب، ثم إنها تنطق من الحديث الخطر بما قد يخرجه مجدداً
من رفاه النعيم إلى حفرة الشقاء، نظر حوله ذات اليمين والشمال يريد أن يستوثق من
أن أحداً لا يسمع نقاشهما، قال بعد إذ لم يجد غير الجنايني العجوز الذي يأخذ ينشد
شيئاً من أغنيات منيرة المهدية وهو يرش الخضرة، يشذب الأغصان، ويقتلع الأعشاب
الطفيلية :
- لقد وضعت الأقدار في طريقي أبلهاً
ثرياً، أهدتني معتوهاً كريم اليد، لقد زوجت بين إرادته وإرادة الغيب، وكان هذا كل ما
يحتاجه، إنها حيلة ذات ديمومة ما دام حمقه مستمراً، إنني أحيط حديثي بحاشية من
التعقيد المحير إذ يصعب نقد المعقد أو كشف عواره فوق البسيط دائماً..
وقفزت روز من ظهر الحصان إلى كتف
الغجرية التي قالت بدورها :
- عاد جابر يتحرش بنا بعد أن عدم
جانبنا من ظهير، لسنا غباراً بشرياً كي تتجاهلنا فنعيش في حمأة الأرض وأنت على
خيال الأحلام.
ونظر إليها يقول :
- كان بمقدورك أن تكوني شريكتي في
النعيم، لولا أنكِ آثرت عليه قردة ولعلك
اليوم نادمة، لا تنسِ أنني هجرت أسرتي بسببك.
وقالت وهي تساعد القردة على هبوط
الأرض :
- ما جئتك نادمة على شيء ولكن آسفة،..
فلتنصت إليَّ ولا تحجبن كثرة الآلاء عن أذنيك حديث الحق والقسط، وإن النور ليهدي
وشدة الضياء تعمي وتضل : ما كان لكَ أن تستقل استقلال القطيعة عن صاحبيك اللذين
تسببا في كل ما طرأ عليك من بحبوحة، وقد كانت لنا شراكة كشراكة الراكبين على زورق
واحد..
وقال بعد إذ خفض بصره عن شمس تحجبها
الأسوار عن الداخل، وقد كانت وقفته أمام الباب بين بين فيُظله السور بمثل ما يُسلط
عليه الضوء:
- في حياة عسيرة كبحر ذي عباب : من
استطاع أن ينجو بذاته فلينجُ، وليبدأ الواحد بخاصة نفسه.
وسمع الواقفون سعال الصحن المقرون
باستيقاظه فأنهى عماد اجتماعه إلى صاحبيه مرتبكاً، وقد لفته (عماد) متأخراً بعد
حركته في حديقة الفيلا أن مهران يمثل غير بعيد في ظل الجنايني المترنم فسأله في
غضب يشارف على الشزر بعد إذ صارت له حظوة عند سيده هي فوق ما له:
- لماذا تقف هنا أيا كبير الخدم؟
رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
**
في السيالة..
امتهن نبيل الصيد بعد إذ أرشدته ساقية الحانة (سعاد) إلى سبيل الاعتدال في الحياة، لقد ترك داعية الهوى وودع لذة الفرصة والنزهة والمخالسة والروغان وأحاطته حاشية من الطهرانية، وصار للشاب حضور أكثر وثاقة في أسرة مرشدته بعد إذ أوعز إلى أبيها بخمس كؤوس من الخمر تروي ظمأه منها كمقدمة مأمولة للإمساك التام، لقد تعرف إلى أخيها الصغير جوهر واستقبله رفقتها أمام باب مدرسته الإبتدائية بالسيالة ساعة خروجه منها وحيث تربض عربة زلابية (مكث نبيل يحدث صاحب العربة عن الاعتدال وجدوى العصمة من النزغات والاستقامة في التجارة قبل أن تقبض البلدية على مورد رزقه في نفس اليوم)، وصحبته الفتاة بدورها في جولات صيده التي يتخير لها الخريف وبعض الشتاء قرب رمال الشواطئ حيث يستخرج منها أسماك الدنيس أو في المناطق الصخرية حيث ترتع القواقع كالجاندفلى والكابوريا، وجرب الصيد في القلعة ومخابئها وفي جزيرة ميامي وحول الأمرجان الصناعية، لقد استحدث أداة الصيد الخليجية : القرقور (الصخاوي) التي سمع عنها من أبيه عز - الذي خفض له جناح النصح والوصل بعد إذ رأى فيه استعداد التغير والبذل - وصنعها ومن البوص، وتأمل في صورتها النهائية التي كانت قفصاً على شكل نصف بيضة له مدخل قمعي الشكل، وبدت القرقور جميلة مبتكرة حتى لقد كان في قرارته لوهلة رغبة في ألا يستخدمها للصيد وفي حاق ذهنه مشيئة ألا يفسدها بالاستعمال، ولكنه ألقى بها يقول :
- آمل أن تجدي هاته نفعاً هنا..
وأجابته الأخرى تقول وهي تعينه عليها :
- ستفلح،.. الميناء الشرقي بوجه عام مستعمرة البطاطا، وما دام نجح (القرقور) في الخليج فسيعمل في الإسكندرية..
واستخرجت الأيدي القرقور من البحر بما حواه من السموك، وألقى نبيل رأسه إلى قاربه كالمستريح يقول :
- هذه ثمرة الاعتدال..
ونظرت الفتاة وهي تستخرج ما أعدته من فطور البيض المدحرج - وقد أدركت قبل اليوم "الجريمة" التي تقترفها بخلط الفول بالبيض بوصف صاحبها فأمسكت عنها - من حقيبتها إلى تلكم الأسماك النشطة الكثيرة على ظهر القارب، فقالت :
- بل هي ثمرة تزيد عن الاعتدال، الطبيعة إغداق ووهب..
واسترعاه أن تخبر عنها (الطبيعة) بالمصدر مما يكون له وقع بياني ولغوي فوق الإخبار عنها بغيرها، ولعله تذكر مدرسه الذي قتله فورث منه هذه الملاحظة ثم اعتورته صورة العجوز والأسمر الغارقين حتى جف في فمه الماء الذي يمضغ به البيض المدحرج، وقالت الأخرى وهي تمسك بكوب من السوبيا، خمر الفقير بوصفها، فتشرب منه :
- أخشى أن أبي (عرف نبيل منها أن اسمه الجمبلاتي) لا يلتزم بنصيحتك له بالتزام الكؤوس الخمسة، إنه يعارضها ويشغب عليها، لقد أخفى الخمر في براميل خشبية وجدتها في حجرة من حجرات الحانة التي يصر على أن يكون المالك الوحيد لمفتاحها، وقد تسللت ذات يوم فملأتها بالماء، إنه يجتهد في إخفاء أثر شربه للخمر بمضع النعناع وأكل الثوم والبصل، ولكن للوزر أثر ملازم للنفس قبل ظاهريات البدن..
وسألها وقد استأنف المضغ كأنما شغله وزر غيره عن وزر نفسه :
- وما رأيه فيَّ؟
- يقول بأنك نصحته دون أن يستنصحك..
وصمت ومضى يأكل ويتابع حركة السموك التي انتزعت لتوها من بيئتها فتقاسي العذاب القريب من النهاية في قرقور البوص على مرأى الاثنين غير المكترثين، ومن عجب أنها (الأسماك) وعلى ما تقدم من وصف كانت ذات حياة منعشة في وعي من يراها،.. وقالت سعاد وقد أنهت لتوها كوب السوبيا وكانت أعجل منه في إنهاء الطعام لما كان ذهنها أكثر خواءً من الآخر :
- إنني أفكر في ترك عملي بالحانة كساقية للخمر، ولولا خوفي من أن يستفحل الخمر بأبي حين يعدم من رقيب لفعلت اليوم قبل الغد.
وابتسم متكلفاً وتساءل في رغبة الحديث في موضوع آخر لمَّا كانت المشكلات ذات التعقيد تضر بما يريده لنفسه من محيط البسائط الذي يسهِّل بدوره التزامه بمنهاجه الرشيد في الاعتدال :
- وما رأيك في القرقور؟
- وجودي هنا يذكرني برحلاتي مع أمي، لقد كانت صيادة ماهرة ولكنها لم تستخدم أداة كهذه قط.
وخرج اثناهما من القارب فحيز الماء واحتمت الفتاة به من صعاليك البحر، وكانت تمتنع عن المصافحة أو جواب الحديث غير مبالية بحرج من أمامها منهم،.. وأبصرا سنانير (قطط) على طوار السبيل تهرع إلى القطة الأم، وأوحى المشهد لنبيل بأن يقول لصاحبته :
- يجب أن نزور أمي بالأزاريطة وأن أعرفك إليها، إن مقامها اليوم في شارع شامبليون الرائع، إنها تجهز في يوم الخميس الذي أزورها فيه الرز البخاري والمحاشي والرقاق.
كانت سعاد على دراية بـ"الممثلة المعروفة التي اعتزلت الوسط واقتصر عملها على مسرحيات الدولة." وقد شغفها الأمر بلقاء المرأة فوق ما ذكره من أطعمة، ووقعت الزيارة فبادرت نور تتحدث عن أخيه عطية الله الذي كان أنموذجاً حقيقاً بالغيرة والحسد، إذ هو أصاب في ثانويته مجموع طب الأسنان (تشرف كلية طب الأسنان على شارع شامبليون وقد أغرى هذا عطية الله بحضور كل محاضراته هناك، ولم يوجد في البيت إبان الزيارة لمثوله في مدرجات محاضرة الأناتومي/التشريح المهمة..)، إنه عين العام - عام الثانوية - الذي قتل فيه نبيل مدرسه، ومكث الأخير (نبيل) يشاغب أمه في ثقل فيقول :
- لماذا لا تعودين إلى أبي؟ سيقول الخلائق إنك فشلت زوجياً وتمثيلياً، وقد يسيغ أن تبرري واحدة بحيالها لو عدتِ إليه..
وقالت في جدية :
- ما أسوأ أن يعيش المرأة حياته القصيرة من أجل أن يُقال أو لا يُقال، الحكمة الصينية تقول بأنك لن تستطيع إسكات الجميع ولكن بمقدورك أن تضع سدادتين في أذنيك، ولجحا قصة مماثلة القصد طريفة في هذا الصدد.
ولم يسألها عن القصة التي هي من "الجحويات" ولكن اهتمامه تعلق بأمر آخر وقد اكتفى بما سمع منها، فتساءل :
- وكيف أخبار أبي؟
- لا يزال يتحث عن فرق الموت التي ستعيد الاستقرار إلى السياحة عبر استهداف المخربين، يذكرني بأبطال الأفلام الذين يقتلون العشرات من المسالمين ويخلقون أعظم الاضطراب في سبيل تحرير رهينة واحدة..
لم تتحدث سعاد كثيراً في حضور نور مثلما توقعت إذ أحاطتها حاشية الخجل من المرأة الغريبة من جهة، ومن جهة أخرى فقد زاد الأمور سوءً ما أبدته نور يومئذٍ من وجوم لم يرَ عز مثله على صفحتها، ولعله قدر أن وراءه أمراً ذا بال وخطر، ولكنه استمسك بوجه بشوش يتحرى الوصل بين الغريبتين عن بعضهما القريبتين إليه، وحتى لقد كرر التعريف بصاحبته مرات ثلاث تخللت الحديث : "سعاد الجمبلاتي، مرشدتي إلى الاعتدال، وأكبر النباريس في وحلة دنياي المتقلبة ذات الشجون.." دون أن تفاتحها نور في أيما موضوع إذ هي مكثت تتابع بعض المسلسلات المكسيسكية فالجنوب أمريكية والتركية التي كانت مستحوذة على شرائطها التسجيلية من صديقها المصور، وإذ كان لسعاد هوى في الاطلاع على الفلسفة وسير الوعاظ فقد ذكرت شيئاً عن سقراط الذي جمع بين المعرفة والفضيلة وساوى بينهما، ولكن نور ما فتئت تصدها أيضاً بقولها :
- ما عدت اهتم بمثل هذه الأمور (تريد آراء ونقاشات الفلسفة) لما أيقنت عبر تجربتي القصيرة في السينما وفي الحياة بأن سوق التفاهة رائج على نحو مستعصي،.. وإذا كان ذلك كذلك فما يملك صاحب البضاعة القيمة إلا أن الانزواء أو الصمت؟ وماذا ينتظره من مصير حتمي إلا التجاهل المؤسف؟! واليوم أنا شريكتهم في ذاك السخف بمسرحيات القطاع العام، وقد حضرني هاتف باطني ضحكت له واستجبت لندائه يقول : إذا لم تستطع أن تقف في وجه الموجة العالية فلتمتطيها..
وانتظرت المضيفة حتى انصرفت سعاد عن دارها فنادت على نجلها الذي لا يزال يقف قرب الباب تقول :
- فلتنتنظر..
وعاد نبيل دون سعاد إلى الأم المنادية التي أسرت إليه بما نقل الوجوم إلى صفحته، وكان في عزمه أن يصحب صديقته (سعاد) كيما يأكلان في كبدة العربي الواقع في جوار سيدي المرسي أبي العباس على الترام، وأن يشاركها مسار العودة الليلي إلى السيالة لما كان حبل الأمن مضطرب هناك - أقول كان في عزمه هذين الأمرين قبل أن يستمع للخبر الذي دعاه إلى نبذهما من جدوله، ولكنه طلب إليها أن تنتظره في خليج أبي قير كي يجربا الصيد في جزيرة نيسلون/ جريشة ( (Nelson Island في غداة الغد،.. عادت سعاد إلى حانة أبيها وحدها إذاً في ظلام الليل، حتى إذا جست أديم الحانة فلم تجد أباها أحست القلق، وكانت تطأ بلاطها الإيطالي الذي يتشرب برودة الليل - بمثل ما يحتفظ بقيظ النهار، ومع أنها كانت منتعلة فقد أحست البرد يتسرب من قدميها إلى سائر جسدها، وجعلت تنفخ في يدها هواءً يدفئها، وأدركت بعد إذ هدأ روعها - كومضة حدس لمعت في خاطرها - أن أباها في حجرته الخاصة ذات البراميل المخمرة وقد عاد إلى سابق عهده في زيادة الحد المسموح عن الكؤوس الخمسة والاستكثار من الكحول، وتحركت وقد دخلتها مغاضبة متحفزة النفس هذه المرة بعد القلق، وألفته أمام واحد من تلكم البراميل الملأنة بالخمر يقول كأنما هو يراها بعينين خلفيتين:
- أردتِ أن تفسدي الخمر بالماء..
وارتبكت فيما كان جرذ يختبأ خلف برميل من الاثنين، ولكن الجمبلاتي أزاد يقول متفكهاً في قبح :
- عزيزتي، لشد ما أنتِ ساذجة، إذ أن إضافة الماء إلى الويسكي يجعل من مذاقه أفضل،.. لابد أنها نصيحة صاحبك الذي صعد نجمه في دنياك سريعاً فسلمت له مقادة عقلك، وإذ أمكنه أن ينسج حولك خيوطه بتلكم البراعة فجدير أن تُرفع له القبعات..
وازدجرت الفتاة أباها وقد سئمت من بوائقه وفضائحه السأم كله، واحتقرته من واقع استهتاره، وهرعت كيما تخطف من يده زجاجة الخمر فلما وجدت منه مقاومة استعصى عليها الأمر، ولكنها أزادت حتى هوت الزجاجة وانكسرت، وثارت ثائرة الرجل الثمل، ولم يحسب الجمبلاتي عاقبة تصرفه حين دفع بنيته حتى تدهورت وأوقعت برميلاً كاملاً من الخمر الذي ما لبث أن انسكب ما فيه حتى تعدى الحجرة المخبوءة إلى سواها من حجرات الحانة فوق هذا البلاط الإيطالي الأملس الممرد،.. وفي غداة الغد لم يجد نبيل صاحبته في خليج أبي قير مثلما جرى بين الاثنين الاتفاق، وقصد إلى الحانة، مقام عملها، فألفاها وقد حلقت شعرها كاملاً، ودخله روع وفزع فسألها :
- هل عاد داء الثعلبة إلى إلحاق الضرر به؟
وقالت :
- كلا،.. (ثم وهي تمسح يديها بخرقة حمراء) لقد سمعت إلى همس نور إليك بالأمس (وكانت نور قد أفصحت له بحقيقة إصابتها بسرطان الثدي، الأمر الذي عكر صفوها وصفوه)، أردت أن أشاركها في محنتها..
وكاد يقول شيئاً فبادرته تقول :
- لا توجد أسرة لم يصبها هذا الداء الخبيث ولم ينل من عضو منها، ثم إنني اعتدت عليه (أي شعرها) حليقاً حتى صرت في عجب من نموه..
وضحكت من نفسها وقد أظلتها سحابة من الغرابة في صورتها الجديدة القديمة، وخفض كتفيه كأنما انكشف ما كان يدعوه إلى التجشم وكتم العناء الداخلي، وسألها في حس فاتر :
- ولماذا لم تحضري في أبي قير؟!
- قضيت جزءً من الليل غير يسير أنظف ما جرته على الحانة عواقب شجاري مع أبي بالأمس، لقد دفعني أبي إلى برميل خمر في غشاوة الثمول وملأ ما في جوف البرميل الأرضيات الملساء،.. إننا (تريد هي وأباها) أعدقاء، بل إن عداوته في نفسي تزيد حتى تكاد تغلب على محبته..
ونظر حوله فلم يجد متردداً واحداً على الحانة فقال :
- ماذا تفعلين هنا؟ هلم، إلى جزيرة جريشة..
وتركت الحانة وقد أوصت أخاها الأصغر جوهر بالنيابة عنها في خدمة "روادها" غير الموجودين، فوقف الصغير على سطح الكرسي وتمثل بالغاً، وشارف برأسه لوحة سمكة الهامور التي نقلتها سعاد إلى استقبال الحانة بعد إذ ضربت رأس أبيها في شجارهما القديم،.. وركبا - نبيل وسعاد - هذا القارب في سعيهما إلى نيسلون فجعل الشاب يقول، يريد الجزيرة :
- سميت باسم القائد الإنجليزي، هوراتيو نيلسون، أعظم قواد البحر عند البريطانيين، والأخير انتصر على أسطول نابليون في معركة النيل، كانت مصر آنئذٍ موضوع تنازع القطبين الأكبر في العالم (يريد فرنسا وبريطانيا)،.. وأما الجزيرة فمحض رأس نتوء طويل يتصل باليابسة عبر لسان ضيق، والساعة غدت مقصد هواة الصيد والغطس..
ولم تحفل كثيراً بحديث التاريخ وقد كان في نفسها ألم على أمه عكر صفوها، فقالت :
- بمقدور نور أن تطوب..
وكان التطويب عادة أهل المدينة الغريبة إذ هم يعتقدون بأن غسل الجسم بماء البحر في خلال يوم من شهر طوبة يشفي البدن ويبرأ الأسقام في خلال العام كله، وقال مكدوراً :
- إنها خرافة، الجميع يعرف هذا..
ولكن الأخرى أصرت تقول :
- بربك،.. لماذا فعلتها الأسر، الأصحاب والجيران، والنساء في تجمعات الفجيرة إذاً؟
وقال وهو يسلم على صياد يعبر إلى جواره بقاربه، مواصلاً وعلى وجهه انطباع صامت كأنه يقول:"وهل يعد هذا دليلاً؟" :
- لم أعد أثق في هذا البحر منذ رأيته يبتلع صبياً وعجوزاً، وإنني الساعة إذ أحس تأرجح هذا القارب على مائه الرزين فإنني لا أعدم من إحساس الخوف،.. إنها رزانة زائفة خادعة إذاً، لا فارق بين مائه وبين حرباء أو ثعلب،.. كيف يُلتمس الشفاء من قاتل مثله؟!
وبدا سؤاله الذي يشخص فيه كياناً كالبحر - ومن قبل تشبيهه بالحيوان - غريباً ولكن حدسه الذي يتعلق بمائه لم يجافِ الصواب كلية، ورأيا الأفق وقد اعتوره سحاب كالضباب، هناك زاد الماء في عجيجه واضطرب بناء قاربهما الهزيل على سطح البحر العظيم، وبصر نبيل بصاحبته وهي تستغيث به خلف جدار من الزجاج الكاتم، وانتهى الشاب إلى مزيد من الخوف كأنما شلت منه حواسه وهو يأخذ يستعيد مشهد العجوز والصبي في صورة واقعه القريب، غير مصدق !