روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/07

شخصيتنا والقدر

                      الفصل السابع عشر: شخصيتنا والقدر

في بورانو..

كان منير قد صحب آمال إلى الجزيرة الإيطالية بورانو، هاته الواقعة شمال بحيرة البندقية، بحثاً عن أخيها عارف الذي خرج على مسيرة الأسرة الطبية وأقام هناك كصياد متجول، ووقفت الفتاة أمام المباني الملونة تقول لصديقها هناك :

- مبارك وجودنا في أكثر البقاع زهواً بالألوان في إيطاليا وفي العالم !

ألفى عارف في بورانو شبهاً بمانارولا من جهة الثراء والبهاء، وأعادت صورة البنايات الملونة ذكرى الأمس،.. هذه المرة نظر منير إلى ماضيه، جذوره، أسرة نعيم، أبيه ذهب، تفيدة، تجربة تَعَرُّفه إلى جماعة بلال المحافظة بالإسكندرية - نظر إلى كل أولئك على نحو أكثر عطفاً وتسامحاً، إنه ما ضرب صفحاً عن كلومه، ولكنه صار أقدر على أن يضع خسائره في مساره غير المعبد كحقائق مستقرة، وقالت له الفتاة وهي تقترب من نفر من الصيادين الذين كانوا لهدوئهم أشبه إلى عناصر خلفية في لعبة محاكاة :

- يزعمون أن من لوَّن البيوت وصبغها هنا هم الصيادون، إنهم ما أن عادوا من رحلاتهم إلى البحر حتى حال الضباب بينهم وبين التعرف إلى منازلهم، وقد لونوها لغرض أن يميزوها.

وربتت يد على كتف الفتاة فسمعت من يقول :

- هذه أقصوصة متداولة هنا بلا سند..

وألفت أخاها عارف - صاحب اليد - فسُرت به سروراً حملها على معانقته، ولكن الصياد الجديد انزعج لمحضر منير حتى انقبض وبسر، وسألها :

- ما حملكِ على أن تأتي به؟

- أردت أن..

ولم يذر لها أخوها فرصة الحديث فقاطعها يقول :

- هل سيعلمني متعاطي المخدر كيف أنهض بمسؤوليتي؟ فلتسمع لي : إنني على قناعة بما ذكره هيراقليطس يوماً، ولو كانت قناعتي هاته على نحو مجازي تعبيري : إن المرء هو لهب كثير التغير كثير التقلب، إنه يشتعل ثم ينطفئ شأنه شأن الضوء في الليل، إن شخصيتنا هي القدر، والروح لسان عابر من لهب الحياة المتغير،.. هلا تركت اللهب حتى يعبر بأطواره ويجتاز مراحله؟ الحياة والموت شيء واحد، كذلك اليقظة والنوم، الشباب والشيخوخة، الحقيقة توتر الأضداد ووحدتها،.. شد ما هو عسير أن يُبَدِّل المرء من عادات نفسه، وليتذكر الناصح هذه الحقيقة في ذاته قبل أن يسدي بمشورة إلى غيره أو توجيه.

ومسح المتكلم الماء بطرف قميصه عن خده ثم عاد يدلي بدلوه يقول :

- لقد لقنني أبي نعيم محبة الطب، كان يناديني في صغري بـ"حسي رع" أول طبيب في العالم المعروف، أحب نعيم أباه طه ورأي في نجله (يريد نفسه) خلفاً له، أرادني نَطاسيّاً، وقد دلني على سيرة «إيزيس وسخمت وإيمحوتب»، آلهة الطب الفراعنة القدماء، لقد قرأ أبي عن الفرعونية بعد هزيمة بلاده العسكرية في يونيو، حين التبس عليه كل شيء،.. ومن المعاصرين الذين سمع عنهم أو عرفهم في الإسكندرية دلني على : صموئيل إسكندر وعيادته القديمة الكائنة تحت بائع الفحم، وسيزوستريس وعيادته الماثلة فوق مطحن البن، وكذا صبحي عوض في شارع إيزيس،.. ومهما يكن، اليوم أنا حقيقة أخرى، ولقد أأسف إذ خذلت تطلعه بقدر ما أرضى بأن أكون ذاتي.

ونظر منير إلى أولاء الصيادين نظرة وقد بدا غير مندهش من هذا "الاستقبال الفاتر"، وقال :

- إنني ما جئت ناصحاً ولا موجهاً، فلتفكر بالأمر ملياً : إننا خصمان، إني شانئك وأنت لي مبغض، وإن خصومتنا لتمنعني من أن أنصح لكَ بما فيه الخير، ومن بين أحابيل المكر بين الألداء أن يُترك الضال في ضلاله، ولكنني أذكر لكَ كم سررت بهزيمتك إذ أنني لا أرى انزواءك في هاته الجزيرة الملونة إلا هزيمة مغلفة في ثوب العزوف والتطهرية.

وأجابه عارف يقول :

- هنيئاً لكَ صراحتك وصفاقتك..

- سأعدك بأن التزم بهاتين دائماً وفي حديثي هذا : ألا تريد أن توجه لي ضربة؟ أن تعود إلى مانارولا.

- سأعنى بشأنك إن كنت على شيء.

- أوصاني جدي (يريد طه) بكَ على سرير مرضه الأخير.

وأجابه عارف في جفاء يقول :

- أمازلت تظن في انتسابك إلى عائلتنا؟

أعطى منير محدثه كتفه ورفع رأسه كأنما يتجهز لـ"أخذ اللقطة" :

- سأتكفل بمصروفات آمال في كلية الأمير جورج،.. إنني على شيء ولا ريب.

هناك غضبت آمال من إفشاء صاحبها للسر الذي أرادت له الكتمان، نظر عارف إلى أخته نظرة الاستنطاق والتحقق، خفضت الفتاة رأسها كأنما تنوء بذكر الحقيقة، ألقى عارف صنارته في هذا البحر الهادئ، انفردت آمال بمنير وعاتبته وكان الآخر يقول لها :

- ما وجدت وسيلة أفضل لتحفيزه،.. سيعود إلى مانارولا كي يجد العمل الذي يكفيك مني الطلب.

في هذا اليوم كشف منير عن قصيدته وقرأها على أسماع صديقته وقد نقحها بما جد من أحوال :

"الثلج ملح الأرض يكسوها بتيجان بيض..

 صياد الليل يرمي بصنارة عمره..

 وسط بيوت بورانو الزاهية..

 يبحث بين الضباب عن نفسه..

 الغيرة حصان جامح..

 والحب دليل جارح..

 وشاب بلا جذور..

 في وجهه طمي أسمر..

 وقبالته عرائس البندقية..

 في برد الشرفة وصرصرها يقف ليرى ويرصد وينتظر..

 أن يتبدل لسان عابر للهيب الحياة الأبدية..

 وفتاة تأمل تتمنى..

 أن يعود الغائب..

 إلى مانارولا..".

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


في السيوف..

ذلك الفجر استيقظت عائشة على صوت مؤذن المسجد يهتف بأبيات الإمام الشافعي :

- "الشمس والبدر من أنوار حكمته.. والبر والبحر فيض من عطاياه

الطير سبَّحه والوحش مجده.. والموج كبره والحوت ناجاه

والنمل تحت الصخورالصم قدَّسه.. والنحل يهتف حمداً في خلاياه".

ونفثت الصغيرة عن شمالها ثلاثاً، ثم استعاذت من الشيطان الرجيم ومما رأت، وانقلبت على جنبها الآخر، حتى استرعى تصرفها اهتمام الأم صالحة، وأشفقت عليها شفقة حملتها على سؤالها :

- هل ثمة خطب ما،.. بنيتي؟

كانت الطفلة قد بصرت بكابوس مزعج رأت فيه طائر العقاب يقول لها :

- لقد خذلتني وأضعتِ فراخي.

وجعلت الطفلة تخطو نحوه فيما يأخذ الطائر يبتعد محلقاً بجناحيه تقول :

- كلا،.. نخبيت ! بل هم في أمان في جيوب سترتي، وإني عليهم لحفيظة أمينة !

وبغتة تغيم الرؤية وتضعف قوة اليدين ثم تفقد الطفلة شعورها بالرعاية والحماية،.. روت عائشة لصالحة إذاً وقائع ذاك الكابوس الآنف الذي حملها على الفزع وهي تأخذ تعتدل في جلستها على سريرها، ثم أتبعت تقول وهي تضع يدها في جيب سترتها :

- من حسن الحظ أن البيض ههنا في أمان..

وفزعت الطفلة مجدداً حين ألفت فراغاً في هاته الجيوب، فقالت الأم مبادرة :

- كان يجب أن أستخلصها منكِ، وفي منامك، هزاع أرادها لصديقته المصابة بالجُذام..

وغضبت الصغيرة تقول وهي تأخذ تدبدب على الأرض :

- لقد فقدت هِبَاتي في المنام لتصرفك، سأبحث عنها حتى أجدها، وما أنتِ بمعجزة لي.

ولم تفهم صالحة الشطر الأول من حديث الطفلة بيد أنها حركت رأسها في تندر من استمع لما لا يليق، تأهبت البنتِ لحركة حتى سمعت أباها ينادي عليها نداءً كالهمس المسموع يقول :

- عائشة، صغيرتي،.. البيض على رخامة المطبخ الجرانيتية !

وهرعت الصغيرة إليه ثم عادت تخفيه في جيوب سترتها، وعاد الأب يقول لها :

- الجيوب مخبأ معروف، يجب أن نبحث عن موضع آخر !

وطرق الباب فأبدى رؤوف انزعاجاً من زائر الفجر، إنه هزاع الذي لم ينتظر حتى يقظة النيام كيما يحوز ترياق الجذام، وهمس رؤوف في أذن عائشة يقول :

- فلتقصدي إلى أبي مراد ومعكِ بيض النسر، إنه الساعة على فراش مرضه، ولتخفِ البيض تحت وسادة سريره ذي الخشب الأبيض !

 قصدت الصغيرة من فورها إلى جدها الذي كان على حال من السقم وارتفاع الحرارة وجعل يقول كأنه يهذي :

- "اللهم إني سجين قبر بدني،.. هلم يا إسرافيل وانفخ في صوري،.. من أجلي حتى توقظني !".

أودعت الصغيرة بيض العقاب تحت وسادة الرجل المريض، وتسحبت وفي قلبها دهشة ووجل، وقبلت رأسه الدافئ فيما واصل النائم هذيانه يقول :"هلم يا إسرافيل، هلم !"، وجعلت زوجه أميرة تجالسه فتخفف عنه، حتى إذا بصر بها عاوده شيء من الرشد وذكر لها شيئاً عن رضاه بأحلامه التي تحققت في خضم حياته الحافلة، ويورد وعد العرافة بزواجه من "ابنة الذين أُخرج من ديارهم" بعين منكرة للتنجيم، فيقول :

- لعلي سعيت إلى تحقيق النبوءة لعلمي بها، كان لاوعيي محركي إلى ما اعتقدت فيه النفاذ الحتمي والقدري..

ثم تأخذه من النوم سِنة، فتمكث أميرة تضبط رأسه فوق الوسادة حتى يتكشف لها المخبوء من البيض فتذهل وترتاب،.. وآبت عائشة إلى بيتها في ظهيرة مشمسة وفي نفسها سرور وغبطة، ستعود لها هبات النسر في مناماتها، ذلك حتى سمعت ضجيجاً وعجيجاً لدى هذا البهو، واستوقفها هزاع يقول :

- لا بارك الله في سارقة البيض ! أين أضعتِه؟

واستقامت قناتها الضئيلة تقول في جسارة أقرب إلى التهور :

- ترميني بالوزر وأنتَ مقترفه،.. بل أنت سارق البيض من نخبيت.

وفصل رؤوف بين الصغيرة وبين هزاع، يقول :

- لقد نفذت عائشة ما أمرتها به.

وقال هزاع في سخرية :

- مَرْحَى بمحرض الطفلة وحاميها،.. هل تعرف أن البيض كان ليبرأ عجوزاً نال منها الجذام؟

- تقصد العجوز الحيزبون؟!

- كف عن الاستهزاء بعذابات الآخرين.

وحاولت صالحة أن تصفِّي الأجواء بين المتخاصمين فجهزت المرأة طاجن من البط الشرشير، وكان هزاع يقول وهو يأخذ يمضغ ويمطق :

- أرأيتِ؟ إننا نأكل الطير ومن العدل أن نفيد من بيضه كذلك، لا كراهة..

 في مساء اليوم حضرت العجوز المصاب إلى سطح البيت، وإن المرأة لتجتهد في صعودها وقد بدا سقف السلم الصاعد واطئاً حتى أن من العصي أن يصعد صاعد بالغ دون أن يصدم به رأسه، وكان السقف في محاذاته المستمرة للسلم الصاعد باعثاً على الشعور السخيف بحرص مصممه على إدامة هذا الضرر،.. ولم يكن من شريك للمرأة ذات الجذام خلا عائشة التي تقدمت بدورها نحو العقاب تقول خفيضة الرأس :

- إنني معتذرة، نخبيت،.. سنجور على بيضك كي نعين به صديقتنا المريضة.

ووقف رؤوف يرقب المشهد على درج السلم الصاعد يقول لصالحة :

- بعض المخلوقات هي على درجة من الوعي محدودة قاصرة، ولا أعرف هل يعطي هذا البشر مسوغاً أخلاقياً كي يستخدموهم ؟! المحنة لا تكون دون وعي بها، فهل يعاني من لا يعي؟

وقالت زوجه في لحظة تنوير فيما ترقب عودة المرأة المصابة والصغيرة ومعهما البيض :

- الوعي درجات ومنازل،.. وبقدر وعي الحي تكون محنته، وحتى أوراق النبات فيما خبرنا تعرف متى قطعت وتستجيب لما لحق بها من ضرر فتنكمش مغلقة، وفي الحشرات أولى التجليات الساذجة للحيوات المعقدة.

في هذا اليوم قرأ رؤوف في جريدة المساء صدفة عن "فيلا الطيور" بكوم الدكة، إنها أجدد الاكتشافات الأثرية الرومانية بالإسكندرية، ووعد الأب عائشة بزيارة المكان عسى أن يعالج حزنها على ما فقدته، إنه يقرأ لها هذا المدون بالجريدة عن معلم المدينة الأثري فيقول :

- فيلا الطيور هي أول متحف لأرضيات من الفسيفساء فى مصر، إنها تصور سبع لوحات فسيفساء «موزاييك» مزينة بمجموعة من الطيور وأبرزها الببغاء ! 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة