روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/03

العودة إلى الإسكندرية

               الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية





في الولايات المتحدة..

كان عارف قد أظهر أخته آمال على حقيقة ما قد رآه في هاته الليلية الاحتفالية من آي المجون، وصدَّقت الفتاة أخاها حتى انكفأت على تحصيلها الدراسي في أسف وحسرة، وترددت أصداء حديثه في خاطرها في تَقْطيب وإِكْفَهْرار: "أبصرت الكوكايين وكؤوس الخمر ومنيراً وشاب أسمر وتمثالين لفيلين صغيرين يحملان شمعتان ينيران وحسناوتين يبتسمان في دلال وغنج في نسيج من اللأخلاقية الكريهة.."، وأتبع عارف وصفه بحركة رأسه المستنكرة مبدياً حسرة زائفة على الحال الذي آل إليه "أخوه القديم"، وكان منير قد أصيب بخيبة من الأمل عظيمة فحمل على صديقه مارتن الذي دفعه دفعاً إلى ما كان منه في تحرج وتنزه، وتحين يوماً رآها فيه (آمال) فلحق بها في ليل مبسوط السدال يقول :

- معذرة..

ومرت به الفتاة غضوبة فجعل يهتف بها :

- لقد بالغ أخوك في وصفه لما كان شانئاً لي مبغضاً.

والتفتت إليه تقول :

- بربك،.. ما حاجته إلى المبالغة إن كانت الوقائع تكفي لإدانتك وأكثر؟ الكوكايين والحسناء القوقازية وكؤوس الثمول.. وهلم جرا، فلتنكر منهم واحداً إن كان لكَ قدم صدق.

وسبقها بخطوتين يقول :

- كانت ليلة احتفالية ألح عليَّ صديقي مارتن، الشحاذ، عازف الهارمونيكا، بالوجود فيها على كره مني.

والتفتت إليه قبل أن تدلف إلى مبنى المُربِّية حواء تقول :

- لقد ألح عليكَ وأحسبه لم يسلبك إرادة القرار.

وأغلقت الفتاة باب المبنى الذي اختفت فيه في شدة جوفاء فاجتاحه يأس غاضب، ومكث ثوانٍ وهو يسند ظهره إلى الباب فيهبط تكوينه خائب الرجاء حتى لاحت إرهاصة ضوء في هذا الظلام، وكان مبعث الضياء هو سيارة المُربِّية حواء ذات الطراز Acura Integra)) التي انتهت إلى ركن وسيلتها - كدأبها - قرب مبنى البيت الكبير ثم هبطت منها فبدا معطفها المخملي وقبعة تلبسها هي من فراء القندس، وابتسم منير لحضورها في جَذَل وبشرى، إذ هو على علم بحقيقتها الكريمة الرحبة، ثم طفق يقول كأنه يستوقفها :

-  معذرة، سيدتي..

ولكن المُربِّية مرت به - كما مرت الأولى -  وهناك صرخ بها يقول وهي منه على مسافة بضعة أمتار :

- هل تعتقدين بكوني خيالاً؟

والتفتت إليه تقول كأنما المرأة تعرض بما تبدى من تصرفه الأخير وتواجده بالحفلة العربيدية :

- بل أنتَ أسوأ من هذا..

- أنى لي أن أصلح ما أفسدته؟

والتفتت إليه تقول :

- أرأيت إن انهار البناء، وثارت في الأجواء عفارته،.. هل يُتوقع من عاقل أن يصلحه؟ إن ركاماً هو لا يصلح لإعادة بناء.

- وكيف عساي أن أشيد بناءً آخر؟

- لا أعرف..

وتركته المرأة في حيرة أشد وأنكى وأوصدت الباب في هدوء متأهبة لمشاهدة فيلم الأنمي الجديد Kiki's Delivery Service للمخرج Hayao Miyazaki، واسترق منير السمع لما يدور في داخل البيت الكبير وقد أعانه صمت الليل على مبتغاه، وسمع المُربِّية حواء تقول لآمال بعد أن وضعت قبعة الفراء القندسي على مفرش طاولة هو من الدانتيل الأبيض:

- وارحمتاه! استوقفني صديقك الأسمر في قرب الباب، حاولت صده مثلما اتفقنا ولكنه ما لبث أن حل مني محل الرثاء،.. ألا بئس الوزر الذي يزري بصاحبه فيخلع عليه لباس التسول والندم !

وترامى إلى منير صوت أكثر حدة هو صوت آمال يقول :

- ما عدت أطيق حضوره، ولو أنهم خيروني بين حساء الفاصولياء السوداء الذي أكرهه وبين رؤياه فسأجتبي الأولى لنفسي، فليقصد إلى الحسناء القوقازية إن هو رام الحب، إنني سعيدة راضية بمعرفة حقيقته بمثل ما أنا آسفة محزونة لطول ما انطلى عليَّ من وهم،.. (ثم في فضول يقترن برؤيتها لما في يد حورية..) وما هذا؟

- إنه الفيلم الجديد..

وصدرت صيحة ابتهاج عارمة سرعان ما قوبلت بصوت هو أكثر رشاداً وتؤدة يقول :

- إن الأولوية لاختبار جمعية منسا الدولية  Mensa لأصحاب الذكاء المرتفع، يجب أن نتدرب على بعض التمارين هي على مثال ما يطرح في امتحانها.

وأجابتها البنت تقول :

- لا يجب التمرن على اختبارات الذكاء كيما تكون نتيجتها صادقة معبرة.

- عزيزتي، إنك لعبقرية وإنني لأقطع لكِ بهذا، ولكن الانضمام للجمعية الدولية سيكون خطوة للأمام كبيرة تضاف إلى رصيد ما أنجزتيه على حداثتك، الجميع يتمرنون وتتأثر حصائلهم بالإيجاب وللآسيويين في هذا المضمار باع غير خفي، ولا أريد لكِ مصير الرجل الذي التزم بالإشارة في سبيل لا ضابط مرور فيه فتقادم عن غيره من المستهترين.

هناك انقطع التيار الكهربائي وقد كثر انقطاعه في ناشئة الليل بالأيام الفائتات، وعلا من يستنكر الأمر من تلامذة المبنى بصيحات استهجان، فبرق في عقل المتلصص (منير) خاطر نابه، وهرع - ملبياً هاتفه - إلى بيت مارتن يوقظه ويقول :

- هلم، سنحتاج إلى مولد كهربائي..

 

في الكويت..

حَزَمَ فؤاد حقائبه متهيئاً لسفره إلى الإسكندرية في ليلة مشحونة من أغسطس، كان الرجل قد استخرج الرجل لنفسه لوحة سيارة جديدة كيما يتسنى له الخروج من حدود البلد المحتل، وقد أفزعته شائعة أن الكويت ستكون مقاماً للأكراد بعد ترحيل الكويتين إلى مكان قريب من البصرة، ورأى خصيمه رمزي يطارده هنا وهناك، جمع الرجل مكاسبه من فترة اغترابه : حقيبتان كبيرتان من المال، وخبرة أصقلته فعبرت به الجسر بين طيش المراهق وبين رزانة الشباب، ومن قبل أولئك نجليه : عماد وإسحاق، وأما خسائره فقليلة منذورة، إذ خف شعره لدى الوسط ووثبت لدى جوانبه شيبة غريبة، وفقد من سنوات العمر سبعة عشر عاماً من الاغتراب ! وألقى الرجل على حانوته نظرة مودع في حضور مشتريه الكويتي الجديد فِرَاس، وفكر في أنه سافر إلى البلد عندما كان في بشائر صعوده واليوم يسعى في مغادرته محتلاً، وقد عاش فيه قرب ما عاش بالإسكندرية، وتقدم إلى محيط الدمى بالحانوت واضعاً حقيبته لدى هذا الباب فخال أن منهم من يحدثه، كان يمر هامساً بأسمائها (الدمى) التي يحفظها :" Cabbage Patch Kids، Care Bears، Transformers، My Little Pony.." وقد خُيَّل إليه أن منهم من يودعه أو أنه يمضي على بساط تكريمي أخير جُمعت له الدمى، ووُهبت لأجله الروح، وانتهى إلى سورة الفلق المعلقة بخط كوفي فوق الخزانة المواجهة لمدخل الباب، وأمسك بمكعب الروبيك  (Rubik's Cube) المسحور فقال للمالك الجديد (فِرَاس) الذي كان يرقبه مبتسماً :

- عذراً، سأحتفظ بهذا لنفسي..

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص

وخفض فِرَاس رأسه كأنما أخذ باندماج الرجل يقول :

- على الرحب والسعة..

وأودع فؤاد المكعب في جيبه في حركة اقترنت بمَحْضَر زوجه غادة التي طفقت تستعجله وفي يدها الحقيبة الثانية للنقود تقول :

- هلا خففت عن آسيل ألمها فحضرتُ تودعها؟

وكان أخوها أكرم لم يعد منذ رآه فؤاد في ديوانية بيته، ومر في خاطره هواجس جمة، قال :

- سيكون لقاءً محفوفاً بالعواطف الجياشة، وقلبي الساعة هو واهن هش،.. لا أريد أن أفقع البثرة المؤلمة.

- فلتقل لها شيئاً عن احتمالية عودة المفقود (أكرم) عساك أن تحيي في نفسها رجاء الأمل الذي تنبذ معه الجزع.

وتقدم نحوها حتى فارق نطاق الحانوت عملياً عن قصد أن يخصها بالحديث الشخصي دونما مشارك، يقول وهو يأخذ يقلب أوجه مكعب الروبيك الذي أخرجه من جيبه :

- لا أروم أن أحدثها بما لا أصدق فيه.  

واستوحشت حديثه، قالت :

- ويحك ! أتعتقد بمقتل أكرم؟

وأجابها في صوت رصين موغل في عقلانية جافة :

- بربكِ،.. لقد كان يحدثنا عن المقاومة والكمائن والدبابات والحرب،.. وقد غاب لأسابيع بعد هذا الحديث ولم يعد، بودي أن أكون خيَّراً مستبشراً على الدوام، ولكني أكره السذاجة، لقد كان أكرم جسوراً أكثر مما يحتمله هذا العالم.

وأمسكت يده التي ما تفتئ تلعب في مكعب الروبيك تقول في عاطفة نقية حاسمة :

- ما دام لم يُعثر على جثمان له فالقطع بمماته مجاوزة ومصادرة،.. فارق بين المفقود وبين الفقيد.

ونظر لها نظرة عميقة محايدة ثم صحبها - في أعقاب ما تراءى له من عزمها - إلى توديع جارتها وصديقتها المكلومة، وترك حقيبته المالية لدى فِرَاس الذي أبدى دماثة جديرة بالثقة ريثما يعود، فيما تظل زوجه حاملة الحقيبة الأخرى، مبرراً ذلك بقوله :

- أحتاج إلى كل طاقتي في لقائي بها وقد بلغ مني اللُغُوب مبلغه، وحتى قبل السفر..

 كان نحيب آسيل يسبق صورتها وقد فكر الرجل ملياً في الاختباء حين سمعه، وأبصرها أول دخوله تلبس الأسود مستربعة القدمين على فرش من الحصير، وقد هبط الحزن بأنوثتها ملياً، ودفعته غادة إلى النطق بما اتفقا عليه بحركة يدها التي أربكته كطائر يدفع فرخه الصغير إلى الطيران قبل الاقتدار عليه، لقد كان لسانه ثقيلاً، أثقل من أي يوم مضى، ووجد نفسه يقول:

- سأعثر على عبد العزيز، وسأعود به إليكِ، وسيعوضك عن شيء من حزنكِ على الفقيد، أعني إن هو مات فعلاً.

ومدَّ يده إليها هابطاً فنظرت المحزونة إلى عينيه، ومدت بدورها يدها كأنما هي قبلت بعرضه، وهَدَأَ روعها (آسيل) ملياً ثم مكثت في صمت، ووجدت في حديثه صدقية - فوق حديث غادة المغرق في التفاؤلية - حملتها على الصبر والتجلد، وأجلسها على مقعد مطعم بالصدف كأنما أشفق على وجودها على الأرض بعد ما قد تبدى منها من شواهد التجاوب له،.. عاد فؤاد إلى حانوت الدمى كيما يسترد حقيبته وقبل وصوله حدس الرجل بحركة غريبة، واستشرف نشاطاً مريباً بدا معه الأمر أعمق وأغمق، وألغز وأغمض، كان فِرَاس غير ظاهر، وسرعان ما أبصر ملثماً يستشرف السابلة، وكشف وجهه فلاحت حسنته، أمارة السوء، وكانت الطامة الكبرى حين لاح رمزي في أفق رؤياه، ما عاد خيالاً مفزعاً ولكن حضوراً أكثر إفزاعاً، وسمعه يقول له بصوت قديم جديد :

- "سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ، إن لي حقاً ههنا هو بعمر سنوات ثمانية..".

 هناك بدل الرجل مساره في عجلة فيما طفق يقول لزوجه هلوعاً :

- اتبعيني، هلم..

وقالت وهي تحمل حقيبتها :

- وحقيبة النقود؟!

- ليس الآن وقتها..

وبدلت غادة حركتها دون أن تفقه مبرراً فسار الطفلان في إثرها كأنهما تابعي المتبوع، ومضى الرجل إذاً على أكف العجلة إلى سيارته التي فر بها وأسرته من البلد، لقد خسر في آخر أيامه في الكويت شطر ما جمعه فيها، ولكن قلبه كان مثقلاً بواجب آخر، سيعثر على صديقه السكندري عبد العزيز عسى أن يطيب كَلْمُ جارته ويسكن جرحها الغائر على أخيها، ولشد ما أثقله الأمر المعنوي فوق شعوره بالخسران المادي، لقد تسلل بعربته إلى العراق ومنه آب إلى الإسكندرية في أحوال قلقة خرج في خضمها بلد من خرائط الجغرافيا ودخل إلى سجل التاريخ،.. ومكث في ترحاله عاكفاً على حل لغز الروبيك حتى أتمه،.. قالت له زوجه في حسرة خسران النقود :

- ليتني ما نصحتك بزيارة آسيل.

وقال وهو يتذكر يده الممدودة إليها (آسيل) على جلستها فوق الحصير وعينيها :

- لا بأس، إن الأمر يستحق، ما كل ما يتمناه المرء يدركه، وما من معروف يبور.

ويقظ إسحاق من منامه يقظة مقرونة بالعودة إلى الإسكندرية فجعلت الأم تغني له من الأهازيج الشعبية الكويتية  :

صباحك صباحك

لولو البحر مسباحك

والبين ما يندل لك

ولا يسمع صياحك

عاد المغترب إلى حقيقة نفسه في الإسكندرية، كان الجوع قد بلغ من فؤاد منتهاه فبادر وأسرته - بعد سؤال زوجه - إلى مسمط أولاد يونس كأول مقاصده، وملأ بطنه بحساء الكوارع ولحمة الرأس والمومبار، لقد كان نهمه عظيماً، نهم الألفة والأنس، وبسط يداه - بعد مخاض الأسفار - كجناحين أمام بحرها المِمْراح، هذا الذي كان منه المبتدأ وإليه المنتهى، ووطأ ترابها الزعفراني بقلب راضٍ منيب ! 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة