روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/09

أسطورة بئر مسعود

                      أسطورة بئر مسعود



اجتمعت ألكسندرا مع يوسف في فراندا بيته تحدثه في مسألة إمساكه عن مساعدة عزت بعين العتاب، وجلسا في هذا الامتداد الخارجي الشبيه بالحديقة الشتوية، ذي الهياكل المعدنية والواجهات الزجاجية التي تقوم مقام الجدران، المغطى بالبلاط، العامر بالورود البيضاء والحمراء والوردية،.. قالت بعد أن نشقت عبير هاته الوردة الحمراء :

- ستبتلع الظلمة عين عزت ويحتويه الغمر، لقد اعتدى الشاب المغبون على أبيه الكريه، حرر الأب - زير النساء وحاجب المال - في حق نجله محضراً، وغدا عزت الذي انقطع عن عمله الوظيفي من رواد بارات الإسكندرية على مثال كاب دور، سبيت فاير، كاليثيا،.. وهلم جرا، يبث كؤوس الخمر شكواه، ويناجي المخمورين الذين يهبونه نظرات العطف والتندر،.. لقد روت لي سميحة عن صاحبها المكلوم فصولاً آسفة !

تبدد الدفء عن جوانح الرجل رغم رُفُوله في بلوفر من الصوف، قال في حزن غير مصطنع وغير صادق تماماً :

- حقاً.. ما أتعس قصته ! أردت مساعدته ولكن حصائل النقود التي جمعتها ستنفذ إن بدأت أهبها لكل طالب في..

وقاطعته المرأة الفرنسية تقول في صرامة :

- معذرة، إنني لا أصدق بهذا، فلتظهرني على مسوغك الآخر الذي تواريه.

هناك أوقف الرجل لسانه الذي ألف اصطناع  هاته الحجة يتذرع بها كأنها سبيل معبد يمضي عليه وتنهد، قال في صدق بعد صمت :

- خشيت إن ساعدته أن أصير إلى عزلة، أعني إن تزوجت سميحة به بعد اكتمال شفائه فقدتُ سائلتي الوحيدة المخلصة التي تعودني في كبري،.. أحياناً تراودني هواجس الموت المبكر، وقد تقولين بأني عجوز، وأن رجلاً بلغ مثل هذا العمر لا يصح أن يوصف بموته بـ"المبكر" أبداً، ولكنني أرى نفسي طفلاً ضل طريقه إلى الشيخوخة، وما أضعف مقاومتي لمثل هذه الفكر إن فقدت زواري على شحتهم،.. وفي رأسهم سميحة !

وتمزَّعت ألكسندرا غضباً، تقول :

- لقد أجرمت في حقه إذاً كأبيه الجواهرجي.

كان الصدق قد حرره وقال في هدوء وبصره صوب البلاط :  

- لا تبالغي.

وفي موقع آخر كانت سميحة تتمشى رفقة عزت في سيدي بشر في كثب من شاطئ ميامي، ولم تكن الفتاة على علم بالأسباب التي دعت صاحبها إلى أن يزوها هذا النهار طالباً منها أن تشاركه هاته النزهة الطارئة، ذات الغرض غير المعروف، قبل أن يصل الرجل إلى بئر الأمنيات هناك، هذا الذي يقصده كل صاحب رجاء (على غرار نافورة تريفي الشهيرة في إيطاليا)، كانت رؤية الرجل مشوشة وسألها :

- هل وصلنا إليه؟!

وأبدت عجباً، تساءلت في انفعال من لم يحط علماً :

- وصلنا إلى ماذا؟

- البئر،.. بئر مسعود.

وتلمحت سميحة هاته المقبرة القديمة المشيدة في العصر اليوناني التي في نطاقها، كانت بصورتها الحالية أشبه إلى بئر منحوتة بأيدي الطبيعة وفي منتهاه ماء البحر، أخرج عزت من جيبه عملة فضية ووضعها بين قبضة يديه وجعل يقول بصوت مسموع وهو يطوح بها ملقياً إياها في جوف البئر :

- أتمنى أن أعود أرى محيطي بوضوح..

ووهبها الشاب عملة مماثلة طالباً منها أن تأتي بالأمر نفسه، أن تبوح إلى البئر بأمنية أخرى، وهمست بما في نفسها ثم ألقت بالعملة التي ابتلعتها البئر كالأولى، قالت في يأس أعقب نشوة عارضة كأنما هي تعي أن لا شيء تغير :

- بحق السماء،.. هل يجدي ذاك نفعاً؟

ولم يجب عزت على سؤالها وإنما قال :

- الأساطير تحوم حول حقيقة هذه البئر كما تحوم الطيور فوق أفق هذا البحر، أجل،.. ذهب المؤلفون وأصحاب الخيال في تفسير الاسم :"مسعود" كل مذهب، إن منهم من قال أن ثَرياً في عصر الدولة الفاطمية كان يعذب عبداً حبشياً يملكه، ومن فرط هذا التعذيب هرب صاحبنا المُعذَب ونام في جوف هذه البئر الذي توفى فيه في اليوم التالي، إنها بئر مسعود إذاً لأنه أراح صاحبه من العذاب،.. يذكرني هذا بدنجل وأبي، ومهما يكن،.. وقصة ثانية شبيهة بالأولى ملأى بالمرارة سمعتها من عجوز ولم أسمعها من غيره : كان ثمة طفل تزوج والده بسيدة أخرى بعد وفاة والدته، وقد عذبته المرأة فاستقر به المقام ههنا حتى وجد غريقاً فيه، وأما السردية الثاثة المحتملة هي عن شيخ تقي اسمه مسعود وقد توفي إلى جانب البئر (يشير بيده إلى موضع قريب منه) وأغرقت البئر يومئذٍ المنطقة المحيطة بها فزعم الزاعمون أن البئر قد غضبت لصاحبها، وثأر لإهمال الناس له، أيضاً وهو الأصدق : إنه مقبرة يونانية، (ثم وهو يقترب منها كأنما يسر إليها بسر) لقد اشتهر اليونانيون بإقامة مقابرهم قرب البحر !

سأل عزت سميحة عن أمنيتها التي باحت بها لبئر مسعود، وهبت الفتاة صبياً كان يأخذ يهبط إلى قلب البئر جامعاً العملات التي في باطنه ثم يتسابق في المرور حتى يخرج من الجهة الأخرى وسط الماء عبر ممر ضيق في براعة - أقول وهبت الصبي نظرة، ولم تجبه،.. في عين الأثناء كان يوسف قد طفق يفتح مع ألكسندرا خزانة الأكواب المرمرية يستخرج منها غرض عزت من المال - مستجيباً لحديثها اللائم - فيما تقول له المرأة الفرنسية مثنية ومطرية :

- ربما تضنيك الوحدة بيد أن قلبك سيمتلئ بالمعاني.

وكان كأنما لبت البئر أمنية صاحبنا الذي في سيدي بشر !

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


في زيزينيا..

كان حسين يمارس عادته الصباحية الغريبة في شرب الكاكاو بالبندق مستخدماً عصا الشرب/الشاليمو (تذكر له غادة شيئاً عن ضرره في توتر المعدة ولكنه لا يبالي بحديثها)، حين سمع من ينادي في الميكروفون بصوت جهير :

- أهالي زيزينيا الكرام، عودة الطيور المهاجرة من النمسا، الأستاذ حسن طُلَيْمات مرشح الحزب الوطني ينتظركم لدى مائدة الرحمن عند مسجد أحمد يحيى باشا،.. في أول أيام شهر رمضان الفضيل !

هذا ثم يأخذ المنادي في تكراره : "أهالي زيزينيا.. إلخ" كأنه العالق في حلقة (loop)، وأخذ حسين ملياً بما سمع وعزم الرجل على الحضور رفقة جاريه شريف وخالد عسى أن يتعرفوا إلى الرجل وبرنامجه، وبلغ ثلاثتهم مسجد أحمد يحيي باشا في مغرب اليوم الأول من رمضان، كان المسجد المنسوب إلى زمن فؤاد الأول تحفة معمارية، ذا واجهة مزينة بزخارف جصية ذات ألوان هادئة قريبة من ألوان الباستيل، تقوم من فوقه قبة ترتكز على عدة أعمدة من الرخام المصري نحتت على غرار قصر الحمراء في غرناطة،.. وقد جلس الثلاثة على مائدة الرحمن التي نصبت على قرب منه فتموضوعوا بكراسيهم على هيئة حرف الـL  عند رأسها، ومكث حسين يتأمل زخرفة واجهة المسجد وتكوين القبة صامتاً، ثم ينتقل بالرؤية في حس خجول إلى المائدة الطويلة التي كانت عامرة بأطباق العدس والمقبلات وبلح الشام، هذه التي يلفها من ثلاث جهات صوان ذو أقمشة مزخرفة، فيما يفسح الهواء الطلق للقعود عليها فرصة النظرة الحرة من الجهة الرابعة،.. وقال شريف وهو جلوس على المائدة التي حفلت بقاصديها :

- لا أفهم ما شأن السياسة بالعمل الخدمي؟ منوط بالنائب أن يشرع ويراقب لا أن يسفلت الطرق أو أن يولم الفقراء.

وأجابه الآخر (خالد) :

- موائد الرحمن تقليد بدأه الرسول محمد في المدينة ونقله أحمد بن طولون، إنها "سماط الخليفة" بمسمى الفاطميين لها،.. ما الضير في أن يُكرم الجائع؟

- المشكل أنك تستثمر العوز العام لأغراض السياسة، وتجرد الخدمة من نزاهة المساعدة والإنسانية.

كان حسين قد أخذ يحل هذه الكرافتة المنقوشة بمربعات منقطة عن عنقه، وسأله شريف وقد لاحظ عدم ارتياح صاحبه في مقعده المتوسط:

- هل ثمة خطب ما؟

- إنها (أي الكرافتة) تسبب لي الحساسية والالتهاب هنا، (يشير إلى عنقه ثم وهو يبتسم) علاوة على أنها دون فائدة !

وسر شريف بابتسامة صاحبه فوق عنايته بالجواب نفسه، وتزامن إضراب مدفع الإفطار مع ظهور حسن طُلَيْمات وسط درزن من الرجال الذين أخذوا يفسحون له، إنه الأمر الذي أربك الجلوس بين إقدام على الطعام وبين متابعة له، وكان الرجل متمثلاً صورة الممتن الشكور لحفاوة الاستقبال دون أن يكون لتصرفه ما يدعمه واقعاً إذ حدث وانصرف جل الجلوس عنه إلى طعامهم انصرافاً مقروناً بـ "إباحة ضربة المدفع" بعد طول الإمساك الموصول من السَحَر إلى المغيب، وبدا أن الرجل - أو القائمين على حدث المائدة من طاقمه - قد اصطفى - أو اصطفوا - شر توقيت يظهر فيه،.. وأشاح حسين النظر عنه (طُلَيْمات) دون أن يأكل، وقد بدا الرجل متفرداً بمسلكه هذا بين جميع الجلوس الذين انقسموا - مثلما سبق وبيَّنا - بين متطلع إلى طُلَيْمات وبين مقبل على الطعام، الأمر الذي استرعى من شريف أن يقول وقد قرأ ما بنفسه :

- صدقني، بالمعارضة عيوب السلطة وأكثر ولكنها مخبوءة تحت ستار عدم التجربة، وقد صدق السوري سعد الله ونوس حين أشر إلى هذا المعنى في مسرحيته «الملك هو الملك»،.. لا وجود في بلداننا لليسار السياسي ذي الأصول المتجذرة أو اليمين ذي القواعد، إنها اتجاهات تحتاج إلى مدد وأطوار كيما تتبلور في الوجدان الشعبي، وقد عدمت جعبتنا البشرية من منظرين سياسين معتبرين،.. لقد مرت التجربة الأوروبية بمساعٍ ومَوَاخِضُ وسُعُر مما تفتقد إليه التجربة في مجتماعتنا،.. ثمة دولة مركزية عمرها آلاف الأعوام تدبر الأمر ويعمل في ظلها الموظف والفلاح في علاقة تراضي وقد قبل الجميع هاته القسمة، وما الحزب الوطني بحزب عقائدي على مثال البعث (يريد حزب البعث العرب الاشتراكي) في سوريا، أو كولاية الفقيه في إيران، إنه تجمع أرباب المصالح،.. يحفل الفقراء بحديث التغيير لأن أوضاعهم سيئة وفقاً للأوضاع القائمة ببساطة، وأما نحن فلا يجب أن نلتقط الطعم الزائف..

هنا تدخل خالد يقول :

- لا تنسَ أن الفقراء متبعو الأنبياء أيضاً.

وعاد شريف يقول كأنه يضع حديث صاحبه تحت ضابطة حديثه الأول:

- هذا لأن الأنبياء هم مفجرو ثورات أخلاقية !

وقال حسين  وهو يبدأ يأكل:

- أشعر أنني لا يجب أن أجلس إلى مائدة الفقراء، أنتم كذلك،.. حري بكم ألا تفعلوا، فلنذر ذاك الإثم الذي يحيك في صدري وصدركم.

وقال خالد وقد ملأ ملعقته بالعدس فيما ينزلق الطعام إلى جوفه في سلاسة ولدونة ونهم :

- بربك.. لقد غدا الأمر تقليداً يشارك فيه المترفون أيضاً، وقد جئنا نستشرف خارطة السياسة، ومن طبائع الأمور أن يتعرف حائز المال على مالك القوة.

وقال شريف يصادقه في نهم أقل :

- أجل،.. إننا طبقة برجوازية كهاته التي نشأت في أوروبا بالقرنين الخامس والسادس عشر الميلادي !

وعاد خالد يقول في انفعال حمل هذا الجالس الفقير إلى النظر إليه :

- بل نحن إلى الأرستقراطية أقرب،.. ما أشهاه ! هلم، إلى بلح الشام !

مكث حسين يلهو بالملعقة دون شغف حقيقي كأنما يبحث عن أمر لا يلبث يتوه عنه، وفكر الرجل الشريد ملياً في أن يترك مقعده لخامص جائع معدم، إنه يهب طُلَيْمات نظرة فيعجب لقصر قامته مما تخفيه الصور الدعائية، وقال كأنما يندب حظه في مناجاة يسمعها صاحبيه :

- رمت بعض التسهيلات في نقل أدواتي الموسيقية من باريس ولم أشأ التقرب إلى الساسة أو خوض معترك السياسة !

فما أن أتمها حتى أحس (حسين) يداً تربت على كتفه فانتفض لها، وما لبث أن توجهت إليه الأعين ونهض صاحباه، كان حسن طُلَيْمات قد أخذ يقول له :

- أهلاً بحفيد النائب بهاء الدين، صديق أبي طُلَيْمات الحفني، لشد ما سُررت بلقائك..

وحاول حسين أن يستر ردة فعله الفزعة بما يشبه ابتسامة الشكر، ونهض في ارتباك وقد غدا بين طرفة عين وانتباهتها مركز الانتباه العام من الجميع بوقوعه في دائرة الرجل المهم يقول وهو يحاول أن يستر ذهوله تحت ستار من الودية والتظاهر بالاعتيادية :
- أهلاً بالسيد طُلَيْمات ! 



 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة